الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقضاءُ إنما هو بأمر جديد على المختار، وهو اختيار السيوري وعياض وغيرهما.
وقد نظمت هذه الأقوال، فقيل فيها:
ومن لم يجد ماء ولا متيمما
…
فأربعة أقوال يحكين مذهبا
يصلي ويقضي عكس ما قال مالك
…
وأصبغ يقضي والأداء لأشهبا
وجعل المازري سبب الخلاف كون الطهارة شرط في الوجوب، أو في الأداء، وأنكره ابن العربي، وقال: الطهارة شرط في الأداء باتفاق؛ بدليل خطاب المحدث بالصلاة إجماعاً.
وَفِيهَا: وَمَنْ تَحْتَ الْهَدْمِ لا يَسْتَطِيعُ الصَّلاةَ يَقْضِي
لعله أَتى بها استشهاداً لقول أصبغ، ويحتمل كلامه في المدونة أن يكون على طهارة، ولا يقدر على التَّحَرُّكِ بشيء من جسده، وترك الصلاة على هذه الحالة، فيقضي، ويحتمل أن يكون مذهبه في المريض الذي لا يستطيع الحركة القضاء، إذا لم يقصد الصلاة بقلبه، وسيأتي إن شاء الله.
الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ
رُخْصَةٌ عَلَى الأَصَحُّ لِلرَّجُلِ والْمَرْأَةِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: لا يَمْسَحُ الْمُقِيمُ ....
الرخصة - بإسكان الخاء - عبارة عما شرع من الأحكام لعذر مع قيام المانع لولا العذر، والعزيمة بخلاف. وأما بفتح الخاء فهو الرجل المتبع للرخص.
ومقابل الأصح ما وقع في مختصر ابن الطلاع أنه مطلوب، قيل بالندب، وقيل بالوجوب. وكان شيخنا رحمه الله يحمل الوجوب على ما إذا كان لابساً، فأراد خلعه لغير عذر، لا أنه يجب عليه أن يلبس ليمسح، ولا يريد - كما قيل - بمقابله أنه غير مشروع مطلقاً لا لمسافر ولا لمقيم، وإن كان بعض الأصحاب نقله عن مالك، وقال: لعله رأى المسح منسوخاً لوجهين: أحدهما: لو كان مراده كذلك لقال: مشروع رخصة على
الأصح، لأن مقابل الرخصة العزيمة. ثانيهما: أن هذا القول ليس بثابت في المذهب، أنكره الحفاظ. فقد قال المازري: إنما الرواية الثابتة أنه قال: لا أمسح لا في الحضر ولا في السفر. وكأنه كرهه، وإنما حكم على نفسه بما يؤثر فعله، وقد يكون الفعل جائزاً عند الفقيه ويؤثر تركه، وكيف يظن به إنكار المسح أصلاً وقد قال الحسن البصري: روى المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعون صحابياً.
قال في الإكمال: وكذا نقلها في النوادر: إني لا أمسح. قال: وقد تأول أحمد بن حنبل قول مالك هنا على أنه آثر الغسل، قال: ويؤيد هذا التأويل قوله في البسط لابن نافع عند موته: المسح على الخفين في الحضر والسفر صحيح بيقين ثابت لا شك فيه، إلا أني كنت آخذ في خاصة نفسي بالطهور، ولا أرى من مسح مقصراً فيما يجب عليه. انتهى.
ونص ابن القصار على أن إنكاره فسق. وفي النوادر: قال ابن حبيب: قال مطرف وابن الماجشون: لم يختلف فيه أهل السنة، ولا علمنا مالكاً ولا غيره من علمائنا أنكر ذلك في الحضر والسفر. قال ابن حبيب: لا يرتاب فيه إلا مخذول. انتهى.
والمعروف من المذهب قولان: قول بجوازه للمقيم والمسافر، والثاني جوازه للمسافر فقط.
وقوله: (لِلرَّجُلِ والْمَرْأَةِ) زيادة بيان لاحتمال أن يتوهم قصر الرخصة على الرجل، لكونه هو الذي يضطر غالباً إلى الأسباب المقتضية للبسه.
وقوله: (وَرَجَعَ إِلَيْهِ) أي عن قصره على السفر.
ثم قال: (لا يَمْسَحُ الْمُقِيمُ) فيه نظر؛ فقد قال ابن وهب: آخر ما فارقته عليه المسح مطلقاً. الباجي: وهو الصحيح، وإليه رجع مالك، ويؤيده ما تقدم من رواية ابن نافع عنه في المبسوط.
تنبيه:
مقتضى كلامِ المصنفِ أن مالكاً كان أوّلاً يقول بمَسْحِ المسافرِ فقط، ثم رجع إلى أن المسافرَ والمقيمَ يمسحان بقوله:(وَرَجَعَ إِلَيْهِ) ثم رجع فقال: (لا يَمْسَحُ الْمُقِيمُ) وإنما المنقولُ في المدونةِ أنه كان أوَّلاً يقول: يمسحُ المسافرُ والمقيمُ. ثم قال: لا يَمسح المقيمُ. ثم رَجَعَ إلى التعميمِ على ما نقلَه ابنُ نافعٍ وابنُ وهب والباجيُّ. والله أعلم.
وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ خُفّاً سَاتِراً لِمَحَلِّ الْوُضُوء صَحِيحاً بطَهَارَةٍ بالْمَاء كَامِلَةٍ لِلأمْرِ الْمُعْتَادِ الْمُبَاحِ ......
الضميرُ المضافُ إليه (شَرْطٌ) عائدٌ على الممسوحِ.
قال غيرُ واحدٍ: للمسحِ شروطٌ: خمسةٌ في الماسح، وخمسةٌ في الممسوحِ؛ فالتي في الماسِحِ: أَنْ يَلْبَسَهُما على طهارةٍ بالماءِ كاملةٍ غيرَ عاصٍ ولا مُتَرَفِّهِ.
والتي في الممسوحِ: أن يكون الخفُّ جِلْداً طاهِراً مَحْروزاً سائِراً لمحلِّ الفَرْضِ، تُمْكِنُ متابعةُ المَشْيِ عَلَيْهِ.
فَلا يَمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبِ وشَبِهْهِ وَلا عَلَى الْجُرْمُوِقِ إِلا أَنْ يَكُونَ مِنْ فَوْقِهُ وَمِنْ تَحْتِهِ جِلْدٍّ مَخْرُوزٌ ثُمَّ قَالَ: لا يَمْسَحُ عَلَيْهِ. وَاختْاَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ الأَوَّلَ، وَهُوَ جَوْرَبٌ مُجَلَّدٌ، وَقِيلَ: خُفٌّ غَلِيظٌ ذُو سَاقَيْنِ. وَقِيلَ: يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا مطلقاً .....
هذا راجعٌ إلى قولِه: (خُفّا).
و (الْجَوْرَبِ) ما كان على شَكْلِ الخُفِّ مِن كَتَّانٍ أو صوفٍ، أو غيرِ ذلكَ.
(وشَبِهْهِ) الخِرَقُ تُلَفُّ على الرِّجْلِ. و (الْجُرْمُوقِ) بضمِّ الجيمِ والميمِ بينهما راءٌ ساكنةٌ، فَسَّرَهُ مالكٌ في روايةِ ابنِ القاسمِ بأنه جوربٌ مُجَلَّدٌ، مِن فوقِه ومِن تحتِه جلدٌ مَخْرُوزٌ. وعلى هذا فإطلاقُ الجرموقِ عليه قَبْلَ التجليدِ مجازٌ.
قال في النوادر: وقال ابن حبيب: الجُرْمُوقانِ: الخُفَّانِ الغليظان لا سَاقَ لهما. وهكذا قال [35/ ب] الباجي واللخمي والمازري، وهو عكسُ ما قاله المصنف (ذُو سَاقَيْنِ) ولكن المصنفَ تَبعَ ابنَ شاسٍ، ولم نَعْلَمْ لهما موافقاً إلا أن ابن عطاء الله حكى في ذلك قولين، فقال: هما خُفان غليظان ذوا ساقين غليظين يَستعملهما المسافرون مُشَاةً. وقيل: هما خفان غليظان لا ساقَ لهما. انتهى. على أنه يمكن أن يكونَ ابنُ عطاء الله تَبعَ ابنَ شاسٍ.
وقيل: هو خُفٌّ على خُفٍّ. وضعَّفَه عياضٌ بأنه ذَكَرَ في المدونةِ المسألتين، فلو كانتا مَعاً بمعنى واحدٍ لما كَرَّرَهما.
وفي جوازِ المسحِ عليه لمالكٍ قولان: قال أولاً: يمسحُ عليهما إذا كان مِن فوقِهما أو مِن تحتِهما جِلْدٌ مَخْرُوزٌ، ثم رجع إلى أنه لا يَمْسَحُ لأن الرخصةَ لم تَرِدْ فيهما.
واختار ابنُ القاسمِ الأَوَّلَ؛ لأ، هـ خُفٌّ يُمْكِنُ متابعةُ المشي عليه.
وقوله: (وَقِيلَ: يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا مطلقاً) الظاهرُ أنه راجعٌ إلى الجرموقِ، ومعنى (مطلقاً) سواءٌ قيل إنه جوربٌ مُجَلَّدٌ أو خُفٌّ غليظٌ، هكذا ظَهَرَ لي في هذا المحلِّ، والله أعلم.
وقال الشراحُ الثلاثةُ: هذا يَقتضي جوازَ الْمسْحِ على الجوربِ وإن كان غيرَ مُجَلَّدٍ.
ابن راشد وابن هارون: ولا نَعلمُه في المذهب. وهذا إنما يُفْهَمُ إذا جعلنا الإطلاقَ عائداً على الجوربِ.
وَيَمْسَحُ عَلَى الخُفِّ فوق الخف على الْمَشْهُورِ، فلو نزع الأعليين على الأسفلين كالخف مع الرجلين
…
زَعَمَ اللخمي أَنَّ الخلافَ إنما هو إذا لَبِسَ الأعليين قَبْلَ أن يَمسحَ على الأسفلين، وأما لو مسح على الأسفلين جَازَ له المسحُ على الأعليين اتفاقاً. ورَأَى غيرُه أن الخلافَ عامٌّ، ومنشأُ الخلافِ الخلافُ في القياسِ على الرُّخْصَةِ.
وقوله: (فَلَوْ نزعَ الأَعْلييْنِ) أي على الْمَشْهُورِ، نَزَّلَ الأسفلين منزلةَ الرِّجْلَيْنِ مع الخُفَّيْنِ. ابن عبد السلام: أما لو نَزَعَ أَحَدَ الأعليين فهل يُؤمر بنزعِ الأعلى مِن الرِّجْلِ الأُخرى أم لا؟ قولان حكاهما المازري وسببُهما هل الأعليان بَدَلٌ عن الأسفَلَيْنِ أو عن الرِّجلين؟ فإن قلنا بالأَوَّلِ نَزَعَ الآَخَرَ لظُهورِ الأَصْلِ في أحِدهما، وإلا فلا.
وَلا يَمْسَحُ عَلَى غَيْرِ سَاتِرٍ عَلَى الأَصَحِّ
أي: لا يمسح على خُفِّ غيرِ ساترٍ على الأصَحِّ، ومقابلُ الأصحِّ روايةُ الوليد بن مسلم: يمسحُه، وَيغْسِلُ ما ظَهَرَ مِن الرِّجْلَيْنِ.
وكلامُ المصنفِ يَقتضي تصحيحَ هذا القولِ مِن جهةِ النَّقْلِ، وتَوْهِيمُ الباجيِّ للوليدِ بأنَّ هذا إنما يُعْرَفُ للأوزاعي، وهو كثيرُ النَّقْلِ عنه- ليس بظاهِر؛ لأن الوليد مُخَرَّجٌ له في الصحيحِ، ولم يَنْسِبْهُ أَحَدٌ إلى الوَهْمِ.
وَلا يَمْسَحُ عَلَى ذِي الْخَرْقِ الْكَثِيرِ، وَهُوَ أَنْ يَظْهَرَ جُلُّ الْقَدَمِ عَلَى الْمَنْصُوصِ. الْعِرَاقِيُّونَ: إِذَا تَعَذَّرَتْ مُدَاوَمَةُ الْمَشْيِ عَلَيْه، فَلَوْ شَكٌ فِي أَمْرِه لَمْ يَمْسَحْ .....
يعني: أنه يجوز المسحُ على ذي الخرق اليسيرِ، إِذْ لو كان اليسيرُ مانعاً مع عَدَمِ الانفكاكِ عنه غالباً لأَدَّى إلى الحَرَجِ بخلافِ الخْرقِ الكثيرِ، فلا يَمْسَحُ عليه.
والكثيرُ أن يَظهر جُلُّ القَدَمِ- على المنصوصِ لابن القاسم في المدونة- ومقابِلُه قولُ العراقيين. وقولُ العراقيين مُقَيَّدٌ بذوي المروءات، وأما غيرُهم فيُمْكِنُ أن يمشيَ بكلِّ شيءٍ.
وقوله: (فَلَوْ شَكَّ فِي أَمْرِهِ) يعني هل هو مِن حَيِّزِ اليسيرِ أو الكثيرِ؟ لم يَمسحْ؛ لأنَّ الأصلَ الغَسْلُ، وقد شكَّ في محلِّ الرخصةِ. قال في البيان: لم يَقع في الأمهات ما فيه شفاءٌ وجلاءٌ لحَدِّ الخَرْقِ الذي يَجوز المسحُ عليه مِن الذي لا يَجوز؛ لأنه في المدونة قال: إن كان كثيراً فاحشاً يَظهر منه جُلُّ القَدَمِ فلا يَمْسَحُ، وإن كان يسيراً لا يَظهر منه القَدَمُ فَلْيَمْسَحْ.
وقال في الواضحة: إن كان فاحشاً لا يُعَدُّ به الخُفُّ خُفّاً لِتَفَاحُشِ خَرْقِهِ وقِلَّةِ نَفْعِهِ- فلا يَمْسَحُ، وإن لم يكن متفاحشاً مَسَحَ، وإِنْ أَشْكَلَ عليه الأمرُ خَلَعَ.
وروى ابنُ غانم عن مالك أنه يَمسح عليه ما لم تَذهب عامَّتُهُ، وقال في آخر الرواية: إن كان الخرقُ خفيفاً لم أرَ بالمَسْحِ بَأساً.
فاسْتَقْرَانَا مِن مجموعِ هذه الرواياتِ أنه يَمْسَحُ على الخَرْقِ اليسيرِ، ولا يَمْسَحُ على الخرقِ الكثيرِ. وإذا كان كذلك بإجماع وقامت الأدلةُ من الكتابِ والسُّنَّةِ على أن الثُّلُثَ آخرُ حَدِّ اليسيرِ، وأَوَّلُ حَدِّ الكثيرِ- وَجَبَ أَنْ يَمْسَحَ على ما كان الخرقُ فيه دُون الثلثِ، ولا يَمْسَحَ على ما كان الثلثَ فأكثرَ؛ أعني ثُلُثَ القَدَمِ مِنَ الخُفِّ لا ثُلُثَ جميعِ الخُفِّ. وإنما يمسحُ على الخرقِ الذي يكون أقلَّ مِن الثلثِ إذا كان ملتصقاً بعضُه ببعضٍ كالشَّقِّ.
وتحصيلُها أنه إذا كان الخَرْقُ في الخفِّ الثلثَ فأكثرَ- فلا يَمْسَحُ عليه- ظهرتْ منه القَدَمُ أولم تَظْهَرْ- وإن كان أقلَّ مِن الثلثِ فإنه يَمْسَحُ عليه ما لم يَتَّسِعَ ويَنفتحَ حتى تظهرَ منه القَدَمُ، فإن عَرُضَ الخَرْقُ حتى تظهرَ منه القَدَمُ فلا يمسحُ عليه إلا أن يكون يسيراً كالثُّقْبِ الذي لا يُمكنه أن يَغْسِلَ منه ما ظَهَرَ مِنْ قَدَمِه؛ لأنه إذا ظَهَرَ مِن ذلك ما يُمكنُه الغَسْلُ- لم يَصِحَّ له المسحُ مِنْ أَجْلِ أنه لا يجتمع مَسْحٌ وغَسْلٌ. فعلى هذا يجب أن تُخَرَّجُ الرواياتُ الْمَشْهُورِاتُ. انتهى.
فرع:
فإن مَسَحَ على خُفه ثم صَلَّى، ثم انْخَرَقَ خُفُّه خرقاً لا يَمْسَحُ على مثلِه فليَنْزِعْه مكانَه، وليَغْسِلْ رجليه. قاله ابن القاسم في العتبية. وعليه فلو انْخَرَقَ في الصلاة لقَطَعَ، والله أعلم.
تنبيه:
لم يتكلم المصنفُ- رحمه الله على ما يتعلق بقوله: (بطهارة) ولعله- والله أعلم- تَرَكَه لعدمِ الخلافِ فيه، وهو كذلك. ولا يُعلم فيه خلافٌ إلا ما وَقَعَ في العتبية فيمن غَسَلَ رجليه خاصَّة ولَبِسَ خُفَّيْهِ، ونَامَ قَبْلَ أن تَكْمُلَ طهارتهُ، فإنه يُجزئه المسحُ عليهما.
قال المازري: وهذا إذا تَرَكَ الطهارةَ المعهودةَ، واكتفى بتطهيرِ القدمينِ خاصةً- ألا ترى أنه قال: يَمْسَحُ ولو نَامَ. والنومُ يُبْطِلُ الطهارةَ- وإن كان غسل رجليه بنية الوضوء المنكس، إلا أنَّ قوله:[36/أ] قبل أن يكمل وضوءَه؛ فيه إشارةٌ إلى قَصْْدِ الوضوءِ المنكسِ.
وقال ابن عطاء الله: لعله بنى هذه المقالةَ على أن المتوضئَ لو نَكَّسَ وضوءَه فغَسَلَ رجليه- اِرْتَفَعَ الحَدثُ عنهما، بناءً على أن ارتفاعَ حدثِ كلِّ عضوٍ بالفراغِ منه.
وَلا يَمْسَحُ عَلَى لُبْسٍ بِتَيَمُّمٍ، وَقَالَ أَصْبَغُ: يَمْسَحُ
هذا راجعٌ إلى قوله: (بالماء) والخلافُ على ما قاله الشيوخُ إذا لَبِسَه قَبْلَ الصلاةِ، وأمَّا إذا لَبِسَه بَعْدَ الصلاةِ فلا يُخالِفُ في ذلك أصبغُ لانقضاءِ الطهارةِ المشترطةِ حِسّاً وحُكْماً. فإن قيل: يَلزم على هذا صحةُ المسحِ بعدَ الصلاةِ لمن أراد أن يَتنقل، قيل هذا صحيحٌ لولا ما عارضَه مِن مخالفةِ الأصلِ، وهو أن الوضوءَ للنافلةِ يَجوزُ به إيقاعُ الفريضةِ.
وأَجرى بعضُهم الخلافَ على أن التيممَ هل يَرفع الحدثَ أم لا؟ ويمكن أن يُقال: بناءً على أن البَدَلَ هل يَقومُ مَقامَ المُبْدَلِ منه أم لا؟
فرع:
قال في المدونة: وتمسحُ المرأةُ المستحاضةُ على خُفَّيها.
قال ابن عطاء الله: ومذهبُنا أنها كغيرِها.
وَلا يَمْسَحُ إِذَا لَبِسَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ غَسَلَ الأُخْرَى، وَلَيسَ الآخَرَ حَتَّى يَخْلَعَ الأَوَّلَ وَيَلْبَسَهُ، وَقَالَ مُطَرِّفٌ: يَمْسَحُ
…
هذا راجعٌ إلى قوله: (كاملة) وتَصَوُّرُ كلامِه واضحٌ، وقد تقدم الكلام عليها في أَوَّلِ الوضوءِ.
وقوله: (حَتَّى يَخْلَعَ الأَوْلَ وَيَلْبَسهُ) أي: ليكون لبسه للخفين بعد كمالِ الطهارة.
ابن عبد السلام: وهذا كافٍ في جوازِ المسحِ، لكن يفوتُ معه فضيلةُ الابتداءِ بالميامِن، فالأحسنُ أن يَخْلَعَهُمَا. انتهى.
وفيه نظرٌ؛ لأنه قَدْ لبس اليُمْنَى قبل اليُسرى أَوّلاً، وإنما هذا النزعُ لأجلِ الضرورةِ، فأَشْبَهَ ما لو نَزَع الخفَّ اليمنى لأَجْلِ عُودٍ وَقَعَ فيه ونحوِه. ومن هذا لو نكَّسَ فغَسَلَ رجليه، ثم غَسَلَ بقيةَ أعضائِه. قال الباجي: والْمَشْهُورِ عن مالكٍ المنعُ.
وَلا يَمْسَحُ لابسٌ لِمُجَرَّدِ الْمَسْحِ كَالْحِنَّاءِ أَوْ لِيَنَامَ. وَفِيهَا: يُكْرَهُ. وَقَالَ أَصْبَغُ: يُجْزِئُهُ
هذا راجعٌ إلى قوله: (للأمرِ المعتادِ).
يعني: في اشتراط هذا الشرط لا يَمْسَحُ من لبس الخفين ليمسحَ عليهما مِن غيرِ ضرورةٍ داعيةٍ إليهما، كمَن جَعَلَ حناءً في رِجْلَيْهِ ولَبِسَ الخفين ليَمْسَحَ عليهما أو لَبِسَهُما لينامَ. وقال ابن عطاء الله: والْمَشْهُورِ أن هؤلاء لا يَمْسَحُونَ.
ابن راشد وابن هارون: وإِنْ مَسَحُوا لَمْ يُجِزِهِم على الْمَشْهُورِ.
وأصبغُ يحتملُ أَنْ يجيزَ الإقدامَ على ذلك ابتداءً كما في بعض النُّسَخِ، وحكاه بعضَ الشيوخِ، ويحتمل أن يكون مذهبهُ الكراهةَ كما نقله عنه ابنُ شاس.
وما نقله المصنفُ عن المدونةِ مِن الكراهةِ- هو كذلك في التهذيب.
قال في البيان في باب الصلاة: وقد اختُلِفَ في المرأةِ إذا لبست الخفين لتَمْسَحَ على الخضابِ، فروى مطرف عن مالك أنه لا يَجوز لها أن تَمسح عليهما، وقد قيل أيضاً أنه يَجوز لها المسحُ عليهما، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي.
وقال مالك في المدونة: لا يُعجبني. فهذه ثلاثةُ أقوالٍ: المنعُ، والإباحةُ، والكراهةُ. انتهى.
ومقتضى كلامِه أن الْمَشْهُورِ الكراهةُ خلافَ ما شَهَّرَه ابنُ راشدٍ وغيرُه.
وَلا يَمْسَحُ الْمُحْرِمُ الْعَاصِي بِلُبْسِهِ عَلَى الأَصَحِّ. سَحْنُونٌ: وَيَمْسَحُ عَلَى الْمَهَامِيزِ
أخرج بـ (الْعَاصِي) مَنْ لَبِسَهما لضرورةٍ، فإنه يَجوزُ له المسحُ، والمرأةَ على أنها ليستْ بعاصيةٍ، على أنها تخرج بلفظة (المُحْرِمِ).
وظاهرُ كلامِه على أن مقابلَ الأصحِّ منصوصٌ. وفي المازري: مَنَعَ بَعْضُ أصحابِنا المُحْرِمَ مِنَ المَسْحِ؛ لأنه منهيُّ عن اللبس، فلا يُرَخَّصُ له في المسح عليه، وعندي أنه قد يَتَخَرَّجُ على القولين في جوازِ القَصْرِ لمن سَفَرُه معصيةٌ. انتهى.
وهل يَمْسَحُ على الخُفِّ المغصوبِ؟
ابنُ عطاء الله: واحْتَرَزْنَا بقولِنا أن يكون اللبسُ مباحاً مما لو لبس المُحْرِمُ الخفين مِن غيرِ عُذْرٍ، أو لبس الإنسانُ خفين مغصوبين- لم يَجُزِ المسحُ في المسألتين؛ لأنَّ المسحَ رخصةٌ، وحكمةُ الشرعِ تَقتضي أَلَاّ يُوَسَّعَ على العاصِي.
وقال في الذخبرة: سؤالٌ: إن قيل: كيف صَحَّتْ صلاةُ الغاصبِ إذا مَسَحَ بخلافِ المُحْرِمِ، وكلاهما عاصٍ؟ فجوابُه أن الغاصبَ مأذون له في الصلاةِ بالمسحِ على الخفين في الجملةِ، وإنما أدركه التحريمُ مِن جهةِ الغصبِ، فأَشْبَهَ المتوضئَ بالماءِ المغصوبِ والذابحَ بالسكينِ المغصوبةِ فيَاثَمَانِ، وتَصِحُّ أفعالُهما.
وأما المُحْرِمُ فلا يُشرع له المسحُ ألبتةَ. وكذلك نَصَّ في قواعِدِه على أنَّ الغاصبَ يَمْسَحُ عندنا.
وقوله: (وَيَمْسَحُ عَلَى الْمَهَامِيزِ) نصه في النوادر: قال سحنون: ولا بأسَ بالركوبِ بالمهاميزِ، وللمسافرِ أن يمسحَ عليهما، ولا ينزعَهما، وهذا خفيفٌ.
ونقل الباجي وغيرُه عن مالك أنه قال: لا بأسَ بسرعةِ السَّيْرِ في الحجِّ على الدوابِّ، وأَكره المهاميزَ، ولا يصلحُ الفسادُ، وإذا كَثُرَ ذلك خَرَّقَها. وقد قال: ولا بأسَ أَنْ يَنْخَسَها حتى يُدْمِيَها.
وَصِفَتُهُ فيهَا: أَرَانَا مَالِكٌ فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَاهِر أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ وَالْيُسْرَى مِنْ تَحْتِهَا مِنْ بَاطِنِ خُفِّهِ فَأَمَرَّهُمَا إِلَى حَذْوِ الْكَعْبَيْنِ. فَقَالَ ابْنُ شَبْلُوَن بِظَاهِرِهِ: الْيُسْرَى كَالْيُمْنَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْيُسْرَى عَلَى الْعَكْسِ. وَقِيلَ: يَبْدَأ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فِيهِمَا. وَقِيلَ: الْيُمْنَى كَالأُولَى، وَالْيُسْرَى كَالثَّانِيَةِ .....
حاصلُ ما ذَكَرَه ثلاثُ صفاتٍ:
الصفةُ الأولى: ما نَسَبَه إلى المدونةِ على الوصفِ الذي ذَكَرَه.
وقوله: (أَصَابعِهِ) يُريد أصابعَ رجلِه اليمنى، كذا في التهذيب، وأطلق المصنفُ تبعاً لابن شاس.
واختلف الشيوخُ على هذه في صِفَةِ اليُسْرَى، فقال ابن شبلون: يَمْسَحُ اليسرى كاليمنى، فيضَعُ يدَه اليمنى على ظاهِرِ أطرافِ أصابعِ رجلِه اليسرى، ويدَه اليسرى مِن تحتِها. وأَخَذَ ذلك مِن اقتصارِ [36/ ب] ابنِ القاسمِ على الرِّجْلِ اليُمْنَى، فظاهرُه أن اليسرى كذلك؛ إِذْ لو كانت مخالفةً لنبه على ذلك، وإلى هذا أشار بقوله:(فَقَالَ ابْنُ شَبْلُوَن بِظَاهِرِهِ).
وقال ابنُ أبي زيد وغيرهُ: يَجعل يدَه اليسرى على ظَهْرِ رجلِه اليسرى؛ لأنه أَمْكَنُ، وهذا معنى قوله:(وَقَالَ غَيْرُهُ: الْيُسْرَى عَلَى الْعَكْسِ).
ونقل ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون، قال وذَكَرَ أن مالكاً أَراهما المسحَ هكذا، وأن ابنَ شهابٍ وَصَفَ لهما المسحَ وهكذا، وهذا مما يرجحُ هذه الطريقةَ.
الصفة الثانية: أن يبدأ بيَدَيْهِ مِن الكعبين مارّاً إلى القَدَمِ. والضمير المجرور في (فيهما) عائدٌ على الرِّجلين.
وانظر: هل يأتي الخلافُ المتقدمُ في كونِ اليمنى على الرِّجلين، أو اليمنى على اليمنى، واليسرى على اليسرى؟
الصفة الثالثة: أن يجعل اليَدَ اليمنى كالصفةِ الأولى، واليدَ اليسرى مِنْ عِنْدِ العَقِبِ كالصفةِ الثانيةِ، ويُمِرُّهما مختلفتين.
وهذه الصفةُ لابنِ عبدِ الحَكَمِ، وهي منقولةٌ هكذا كما ذكرتُ لك، وليس المرادُ ما يُعطيه ظاهرُ اللفظين مِن أنه يَمسح الرِّجْلَ اليمنى كالصِّفَةِ الأُولَى، والرجل اليسرى كالصِّفَةِ الثانيةِ لِعَدَمِ وُجُودِ ذلك. وإن كان ابنُ عطاء الله أَخَذَها مِن ظاهرِ كلامِ اللخمي، ولعله وَهِمَ.
ومنشأُ الخلافِ: هل يُرَاعَى في الخفين ما يُراعى في الرِّجلين مِن البدايةِ مِن القَدَمِ مع تكرمِة اليَد اليُمنى عن الوصولِ إلى محلِّ الأقذارِ، وهو أسفلُ الخُفِّ؟ أو تقديمُ إزالةِ الأقذارِ، فيبدأُ بالعَقِبِ خَوْفاً مِن أن ينعطف شيءٌ مِن الأقذارِ إلى العَقِبِ؟
والتعليلُ الأولُ أَوْلَى لما فيه مِن مشابهةِ الفرعِ للأصلِ، وما رُوعِيَ في الثاني يُمكن الاحترازُ منه بالنظرِ إلى الخِفِّ قَبْلَ المَسْحِ.
وهذا الكلامُ كلُّه إنما هو في الأفضلِ، وإلا فيكفي التعميمُ على أيِّ صِفَةٍ كانت.
وَيُزِيلُ عَنْهُمَا الطّينَ وَلا يَتْبَعُ الْغُضُونَ
لأن الطين حائل. و (الْغُضُونَ): التَّكاسِيرُ التي في الجِلْدِ، ولم يُؤْمَر باتباعه؛ لأن المسحَ مبنيُّ على التخفيف.
قال سند: وخالف ابنُ شعبان في غضونِ الخفينِ، والجبهةِ في التيمم.
وَلَوْ خَصَّ أَعْلاهُ أَجْزَأَهُ، وَيُعيد فِي الْوَقْتِ وَأَسْفَلَهُ لَمْ يُجْزِه. أَشْهَبُ: يُجْزِئُهُ فِيهِمَا. ابْنُ نَافِعٍ: لا يُجْزِئُهُ فِيهِمَا
…
وجهُ الْمَشْهُورِ ما رواه أبو داود وصححه عن علي رضي الله عنه: لو كان الدِّينُ يُؤْخَذُ بالقياسِ لكان مَسْحُ أَسْفَلِ الخُفِّ أَوْلَى مِنْ أعلاه، وقد رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مَسَحَ على ظاهرِ خُفَّيْهِ. وكلامُه ظاهرٌ.
وَالْغَسْلُ وَالتَّكْرَارُ مَكْرُوهٌ
ابن هارون وابن عبد السلام: لا يَبْعُدُ تخريجُ الخلافِ الذي في غَسْلِ الرأسِ في الوضوء بدلاً مِن مسحِه في غسلِ الخفين، وفي كلامهِ حذفُ خبرٍ؛ أي: والغسل مكروهٌ، والتكرار مكروه، على حَدِّ قولِه:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والرأيُ مختلفٌ
وقول ابن هارون: والصوابُ أن يقول: مكروهان. ليس بجَيِّدٍ.
وَلا تَحْدِيدَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ: لِلْمُقِيمِ مِنْ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ. وَرَوَى أَشْهَبُ: لِلْمُسَافِرِ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، وَاقْتَصَرَ. وَفِي كِتابِ السِّرِّ: وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ
روايةُ ابنِ نافعِ محمولةٌ على الاستحبابِ، وهي موافقةٌ للمذهبِ لأجْلِ غُسْلِ الجمعةِ. قاله عبد الوهاب والمازري. وتوجيهُ الأقوال معلومٌ.
وكتابُ السِّرِّ يُنسب لمالكٍ أنه كتبه إلى هارون الرشيد، رَخَّصَ له فيه أشياءَ.
عبدُ الوهاب: وكان أبو بكر الأبهري وغيرُه يُنْكِرُه. ويقول: كان مالكٌ أتقى الناس لله أن يُسامِحَ بدينه أحداً أو يُرَاعِيَه، وقد نظرتُ في هذا الكتابِ فوجدتُه يَنْقُضُ بعضُه بعضُاً، ولو سمع مالكٌ مَن يتكلمُ بما فيه لأوجَعَه ضَرْباً. وقد سُئِلَ ابن القاسم عنه فقال: لا يُعْرَفُ لمالكٍ كتابُ سِرٍّ.
فَلَوْ نَزَعَ الْخُفَّيْنِ فَأَخَّرَ الْغَسْلَ ابْتَدَأَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَوْ نَزَعَ إَحْدَاهُمَا وَجَبَ غَسْلُ الأُخْرَى ....
قوله: (فَأَخَّرَ الْغَسْلَ) أي بقدرِ ما يجفُّ فيه أعضاءُ الوضوءِ. ومقابلُ الْمَشْهُورِ يأتي على أن الموالاةَ ليست بواجبةٍ.
وقوله: (فَأَخَّرَ) يريد عامداً، وأما الناسي فيبني طال أو لم يَطُلْ.
وبالجملةِ فهذا مِن لزومِ الموالاةِ، ومفهومُه أنه لو غَسَلَ في الحالِ أجزَأه، وهو كذلك. ورُوي عن مالكٍ في مختَصر ما ليس في المختصر قولٌ بعدمِ الإجزاءِ لبُعْدِ ما بينَ أولِ الطهارةِ وتمامِها. وهو بعيدٌ، إِذِ الطهارةُ قد تَمَّتْ بدليلِ صحةِ ما وقع مِن العبادة بها قَبْلُ، وإنما غَسَلَ الآن جَبْراً لما وَقَعَ فيها مِن الخلل بسببِ النَّزْعِ، وأما وجوبُ غسلِ الرِّجلين إذا نَزَع أحدَهما، فإنهما كعضوٍ واحدٍ، بدليلِ أَنَّ مَن أوجبَ الترتيبَ لم يُوجبه فيما بينهما، وأجاز أصبغُ أَنْ يَغسل إحداهما، ويمسح الأخرى.
وأشار المازري إلى أن هذا الخلافَ يجري على الخلاف في المكفِّرِ إذا أَطْعَمَ خمسةَ مساكين، وكسى خمسةً.
وحَصَّلَ ابنُ رشد في هذه المسألة وفي نزعِ أحدِ الأعليين ثلاثةَ أقوالٍ: جوازُ المسح على الرِّجلِ الواحدةِ والخفِّ الأعلى الواحدِ، وهو قوله في العتبية. والثاني لابن حبيب: لا
بُدَّ له مِنْ خَلْعِ صاحبِه في المسألتين جميعاً. ومذهبُ ابنِ القاسمِ الفرقُ، فيجوزُ المسحُ على أحدِ الأعليين، ولا يَجوز في خلعِ أحدِ الخفين إلا غَسْلُ الرِّجلين جميعاً، والله أعلم.
فَإِنْ عَسُرَ وَخَشِيَ الْفَوَاتَ فَكَالْجَبِيرَةِ. وَقِيلَ: يَتَيَمَّمُ. وَقِيلَ: يُمَزِّقُهُ
يعني: (فَإِنْ عَسُرَ) نزعُ الخفِّ الآخرِ بعد أن نَزَعَ واحداً، وخشي فواتَ [37/ أ] الوقتِ، فقيل: يَغسل التي نَزَعَ منها الخفَّ، ويَمسح الأخرى قياساً على الجبيرةِ بجامِعِ تَعَذُّرِ الغُسْلِ على ما تَحْتِ الحائلِ، قاله أبو العباس الإِبِّيَانِيّ.
(وَقِيلَ: يَتَيَمَّمُ) إعطاءَ لسائِرِ الأعضاءِ حُكْمَ ما تَحْتَ الخُفِّ؛ لأن الحقيقةَ المُرَكَّبَةَ إذا بطل جزؤها بطلتْ كلُّها. (وَقِيلَ: يُمَزِّقُهُ) احتياطاً للعبادةِ.
ابن يونس: واستحسنَ بعضُ فقهائِنا إن كان قليلَ الثَّمَنِ يمزقُه، وإن كان لغيرِه فيغرمُ قيمتَه، وإن كان كثيرَ الثَّمَنِ فيمسحُ عليه كالجبيرةِ. انتهى. وهو الأظهرُ.
وَيَمْسَحُ عَلَى جِرَاحِهِ إِنْ قَدَرَ فَإِنْ خَشِيَ مَسَّ الْمَاءِ فَعَلَى الْجَبَائِرِ وَشِبْهِهَا كَالْمَرَارَةِ وَالْقِرْطَاسِ عَلَى الْجَبِينِ لِلْمَرِيضِ، وَعَلَى عِصَابَةِ الْجَبَائِر إِنِ احْتَاجَتْ وَلَوِ انْتَشَرَتْ، وَعَلَى عِصَابَةِ الْفِصَادَةِ إِنْ خَافَهَا فِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ، وَإِنْ شُدَّتْ بغَيْرِ طَهَارَةٍ .......
يعني- والله أعلم- إنما يُخشى في هذا الباب مثلُ ما يُخشى مِن الضررِ الناقلِ إلى التيمم وِفاقاً وخِلَافاً، وقد تقدم.
وقوله: (وَعَلَى عِصَابَةِ الْجَبَائِر) لأنها لا تَثْبُتُ الجبيرةُ إلا بها. ثم فَسَّرَ شِبْهَ الجبائرِ بالمرارَةِ تُجْعَلُ على الظُّفْرِ، والقرطاس يُجْعَلُ على الصُّدْغِ.
وقوله: (وَإِنْ شُدَّتْ بغَيْرِ طَهَارَةٍ) لأن سببَها ضروريٌّ بخلافِ الخُفِّ.
ابن عبد السلام: ومِن هنا يُؤْخَذُ الحُكْمُ في مَن برأسِهِ عِلَّةٌ لا يَستطيعُ معها غسلُه بالماء في الطهارةِ الكبرى أنه يَنْتَقِلُ إلى المَسْحِ، خلافَ ما في أسئلة ابن رشد أنه يَنْتَقِلُ إلى التيمم. وبالأوَّلِ كان يُفتي أكثرُ مَن لقيناه.
فَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِمَسِّهَا أَوْ لا تَثْبُتُ أَوْ لا يُمْكِنُ، وَهِيَ فِي أَعْضَاء التَّيَمُّمِ تَرَكَهَا وَغَسَلَ مَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِهَا فَثَالِثُهَا: يَتَيَمَّمُ إِنْ كَانَ كَثِيراً، وَرَابعُهَا: يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَاء وَالتَّيَمُّمِ .....
الضمير في (مَسِّهَا) عائدٌ على الجراحِ، وفي (تَثْبُتُ) عائدٌ على الجبائرِ.
وقوله: (أَوْ لا تَثْبُتُ) صوابه: ولا تَثْبُتُ على الجَمْعِ، وإن كان الواقعُ فيما رأيتُ إثباتَ الأَلِفِ؛ لأنه إذا كان لا يَقْدِرُ على مَسِّ الجِرَاحِ لا يَكفيه ذلك في جوازِ تَرْكِ المَسْحِ، بل لا بُدَّ مع ذلك مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إما أن تكون الجبيرةُ لا تَثْبُتُ كما لو كانت تحت المَارِنِ، أو كانت لا تُمكنُ أَصْلاً كما لو كانت في أَشْفَارِ العَيْنِ.
فقوله: (لا يُمْكِنُ) عطفٌ على قوله: (لا تَثْبُتُ) وأَحَدُهما- لا بِعَيْنِه- قَيْدٌ في قوله: (يَتَضَرَّرُ).
وحاصلُ كلامِه صورتان: إحداهما: لا يُمكنه مَسُّ الجراحِ، ولا تَثْبُتُ عليها جبيرةٌ أصلاً. والثانية: لا يُمكنه غَسْلُها ولا يُمكن أن تكون فيه جبيرةٌ أَصْلاً. ويُؤيد هذا كلامُ صاحبِ الجواهرِ قال: إن كان الموضعُ لا يُمكنه وضعُ شيءٍ عليه ولا ملاقاته بالماءِ فإِنْ كان في موضعِ التيممِ- ولم يُمكن مسحهُ بالتراب- فليس له إلا الوضوءُ وتَرْكُه بلا مَسْحٍ، ولا غُسْلٍ. انتهى.
فإن قلتَ: فعلى هذا قول المصنف (ولا يمكن) أي: المسحُ بالتراب ليكون موافقاً لصاحب الجواهر- قيل: الظاهرُ أنه لا يُريد هذا، إِذْ هو حَذْفُ مالا دليل عليه، وهو غيرُ
جائزٍ. وعلى هذا فالظاهرُ أنه لم يَتْبَعَ ابنَ شاسٍ هنا، وأن الضمير في (مسها) عائدٌ على الجبائر، لا على الجراح، ويكون كلامهُ باقياً على ظاهرِه، ويكون محتوياً على ثلاثِ صُوَرٍ، والله أعلم.
وقولُ ابن شاس: فليس إلا الوضوء. هو كقول المصنف: (تَرَكَهَا وَغَسَلَ مَا سِوَاهَا) يريد أنه لو تَيمم تَرَكَها أيضاً، فالوضوءُ الناقصُ أَوْلَى مِن التيممِ الناقصِ.
وإِنْ كانت في غيرِ أعضاءِ التيمم كالرأسِ والرجلين فأربعةُ أقوالٍ: قيل يَتيمم ليأتي بطهارةٍ كاملةٍ. وقيل: يَغسل ما صَحَّ، ويَسقط موضعُ الجبيرةِ؛ لأن التيممَ إنما يكون مع عَدَمِ الماءِ. والقولُ بالتفرقةِ مبنيٌّ على أن الأقلَّ تابعٌ للأكثرِ. والرابعُ مبنيٌّ على الاحتياط. ولم أَرَ هذه الأقوالَ مَعْزُوَّةً، ولم يَحْكِ ابنُ شاسٍ الثالثَ.
فإِنْ قُلْتُ: قد تَقَدَّمَ في باب التيمم أنه لا يَنقلُ مِن الجِراحِ أو الشِّجاجِ إليه إلا ما كَثُرَ مِثْلُ أَنْ يَبْقَى له يَدٌ أو رِجْلٌ، والخلافُ هنا مطلَقٌ بدليلِ القولِ الثالثِ.
فالجوابُ أَنَّهُ إِنما قَيَّدَ هنالك المتألمَ بأن يكون أكثرَ؛ لأن المسحَ ممكنٌ، وأَطلقَ هنا لأنه لا يُمْكِنُ فيه، فلا يَبْعُدُ أن يكون اليسيرُ هنا كالكثيرِ هناك، والله أعلم.
فَإِذَا صَحَّ غَسَلَ وَمَسَحَ الرَّاسَ فِي الْوُضُوء
قوله: (غَسَلَ) أي: ما مَسَحَه مما هو في الأصلِ مغسولٌ.
وقوله: (وَمَسَحَ الرَّاسَ فِي الْوُضُوء) ينبغي أن تكون الأذنان كذلك، وكأنه إنما اقتصر على الرأسِ لكونِه فرضاً، وحاصلُه أنه يَبْنِي كما في المَسْحِ على الخفين.
ابن عبد السلام: ولا خلافَ أَعلمُه فيه.
وَإِنْ سَقَطَتِ الْجَبِيرَةُ قَطَعَ الصَّلاةَ وَرَدَّهَا وَمَسَحَ
أمَّا قَطْعُ الصلاةِ فلأَنَّ الجبيرةَ لمَّا سقطتْ تَعَلَّقَ بذلك المحلِ الحدثُ، فلَمْ يَبْقَ شَرْطُ الصلاةِ بالنسبةِ إلى ما بَقِىَ مِن الصلاةِ.
وَلَوْ صَحَّ وَنَسِيَ غَسْلَهَا وَكَانَ عَنْ جَنَابَةٍ، فَفِيهَا: إِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لا يُصِيبُهُ الْوُضُوءُ أَعَادَ كُلْمَا صَلَّى. يُرِيدُ غَسْلَ الْوُضُوءِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي مَغْسُولِ الْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ، وَأَعَادَ مَا قَبْلَهُ ....
كان يَنبغي أَنْ يَجعلَ هذا الفرعَ بإِثْرِ قولِه: (فَإِذَا صَحَّ غَسَلَ وَمَسَحَ) لأنه مُفَرَّعٌ عليه، وإدخالُه مسألةَ سقوطِ الجبيرة بينهما ليس بجَيِّد، وكأنه تَبعَ في ذلك ابنَ شاس.
والضمير في (غَسْلَهَا) عائدٌ على الجِرَاحِ، واسم كان يحتمل أن يكون عائداً على الغسلِ، ويحتمل أن يَعود على الحَدَثِ المفهومِ مِن السياقِ. وينتهي لفظ المدونة عند قوله:(كُلْمَا صَلَّى).
وقوله: (يُرِيدُ غَسْلَ الْوُضُوءِ) يعني أن مالكاً يُريد بقولِه: (لا يُصِيبُهُ الْوُضُوءُ) غَسْلَ الوضوءِ، إذا لو كانت [37/ب] في الرأسِ- ومَسَحَ عليها- صَدَقَ أن الوضوءَ أصابها، وليس هو المراد. وإنما أَجزأ غَسْلَ الوضوءِ عن غَسْلِ محلِّه للجنابةِ- وإن كانت موانعُ الجنابةِ أكثرَ- لأن الفِعْلَ فيهما واحدٌ، وهما فرضان، فنَابَ أحدُهما عن الآخَرِ.
وانظرْ هل يَجْرِي في هذه المسألة خلافٌ مِن مسألةِ ما إذا نَوَتِ الجَنَابَةَ دُونَ الحَيْضِ؟ وخالفَ الباجيُّ في هذه المسألةِ، ورآها كمسألةِ التيممِ التي تأتي.
ومما يَنْخَرِطُ في هذا المسلكِ ما حُكِيَ عن الشيخين الجليلين أبي علي ابنِ القَدَّاحِ وأبي الحسنِ المنتصرِ فيمن بقيت عليه لمُعَةٌ، فلما غَسَلَها بنيةِ الوضوءِ أَحْدَثَ قَبْلَ كَمالِ الطهارةِ. فقال أبو علي: إِنْ قلنا: إِنَّ الحدثَ لا يَرتفع إلا بالإكمالِ. لم تَطْهُرِ اللمعةُ مِن الجنابةِ، وإن قلنا: يَرتفع حدثُ كلِّ عُضْوٍ بالفراغِ منه. ارتَفَعَتْ جنابةُ اللمعةِ.
وقال أبو الحسن: تَطْهُرُ لمعةُ الجنابةِ مطلقاً؛ لأنها غُسِلَتْ بنيةِ الفرضِ، وكذلك أيضاً إذا لَزِمَه مَسْحُ الرأسِ في الغسلِ لضررٍ به فَنَسِيَه، ثم مَسَحَه في الوضوء. فأفتى أبو الحسن بعدمِ الإجزاءِ، وأفتى أبو علي بالإجزاءِ. وبه قال ابنُ عبد السلام.
وَاعْتُرِضَ بمَسْأَلَةِ التَّيَمُّمِ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بأَنَّ تَيَمُّمَ الْوُضُوءِ كَالْوُضُوءِ وَبأَنَّهُ بَدَلٌ
يعني: إذا تيمم لاستجابةِ الصلاةِ مِن الحدثِ الأصغرِ ناسياً للحدثِ الأكبرِ، وقد تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَشْهُورِ عدمُ الإجزاءِ، فيُقالُ عليه: إِنَّ نيةَ الحدثِ الأصغرِ إما أن تَنُوَب عن الحدثِ الأكبرِ أَوْ لا. والأولُ يُوجب الاكتفاءَ بالتيمم في المسألة المذكورة، والثاني يوجب عدمَ الاكتفاءِ بغسلِ الوضوءِ. وفُرِّقَ بوجهين: الأولُ: أن تيممَ الوضوءِ كالوضوءِ، وهو لو تَوَضَّأَ ينوي الجنابةَ لَمْ يُجْزِهِ، فأَحْرَى البَدَلُ، وأما مسألةُ الجبيرةِ فالمطلوبُ في الوضوءِ والغسلِ إنما هو غَسْلُ محلِّها، والفرضُ أنه غَسَلَه بنيةِ رَفْعِ الحَدَثِ، فصحَّ الاكتفاءُ بغَسْلِها في الوضوءِ عن غَسلِها في الجنابة. والثاني: أنه بدل، والضمير في (أنه) عائدٌ على تيممِ الوضوء، وهو كلام يحتمل أن يُوجه على معنيين:
الأول- وهو الأظهر: أن التيممَ بَدَلٌ، والجنابةَ أصلٌ، فلا يَنُوبُ عن أصلٍ بخلافٍ غسلِ الوضوء، فإنه أَصْلٌ يَنُوبُ عن أصلٍ.
والثاني- وهو الذي قاله ابن عبد السلام: أن البدلَ لا بُدَّ أن يُذكر عند الإتيان بالأصل الذي هو بَدَلٌ عنه، فَشَرْطُ صِحَّةِ التيممِ في المسألةِ المفروضةِ، أنْ ينوي أنَّ هذا التيممَ بَدَلٌ عن الحدثِ الأكبرِ، وقد فاتَه، ولا بَدَليَّةَ في مسألةِ الجبائرِ، بل كلُّ واحدٍ مِن الغَسْلَيْنِ أَصْلٌ.
ثم قال: وقد بَقِيَ هنا شيءٌ، وهو: إِنْ َصَحَّ هذا الفرقُ لَزِمَ طَرْدُه في كلِّ بَدَلٍ مع أصلِه، فيَلزم المكفِّرَ في الظهار بالصوم أن يَنويَ بَدَليَّتَه عَن العتقِ، وفي الإطعامِ بدليتهَ عن