المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الصومِ، وكذلك سائرُ الكفاراتِ المُرَتَّبِة، والصومُ مع الهَدْيِ، إِلا أَنْ - التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ١

[خليل بن إسحاق الجندي]

الفصل: الصومِ، وكذلك سائرُ الكفاراتِ المُرَتَّبِة، والصومُ مع الهَدْيِ، إِلا أَنْ

الصومِ، وكذلك سائرُ الكفاراتِ المُرَتَّبِة، والصومُ مع الهَدْيِ، إِلا أَنْ يُقال: الموجِبُ لهذا في التيممِ كونُه لا يَرْفَعُ الحَدَثَ، كما أشار إليه بعضُهم. وفيه مع ذلك نظرٌ؛ إِذْ لا مناسبةَ تُوجِبُ هذا في هذا الموضعِ دونَ غيرِه.

خليل: وقد يُقال أيضاً في الفَرْقِ أنَّ غَسْلَ اللُّمْعَةِ في الجنابةِ استَنَدَ إلى شيءٍ قد تمَّ بدليلِ صحةِ ما وقع مِن العباداتِ قَبْلَ النَّزْعِ فيبقَى معنا أَصْلُ مُتَقَدِّمٌ ناسَبَ أن يُبْنَى عليه، بخلاف تيممِ الوضوءِ، فإنه لم يتقدم قَبْلَه شيءٌ، والله اعلم.

‌الْحَيْضُ

الدَّمُ الْخَارِجُ بِنَفْسِهِ مِنْ فَرْجِ الْمُمْكِنِ حَمْلُهَا عَادَةً غَيْرُ زَائِدٍ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً مِنْ غَيْرِ وِلادَةٍ ....

(الْحَيْضُ): لغةً: السَّيَلَانُ. قيل: أصلُه مأخوذٌ مِن قولِ العربِ: حاضَتِ السَّمُرَةُ، إذا خَرَجَ منها ماءٌ أحمرُ، فكأنه مِنَ الحُمْرَةِ.

عياض: ولعل السمرة إنما شُبِّهَتْ بالمرأةِ لهذا.

وقيل: الحيضُ والمحيضُ اجتماعُ الدَّمِ هناك، ومنه سُمِّيَ الحوضُ حوضاً لاجتماعِ الماءِ فيه. انتهى.

ورُدَّ الأخيرُ بأنَّ الحوضَ مِن ذوات الواو، والحيضَ مِن ذوات الياءِ، فهما متباينان. وقد جَعَلَهما صاحبُ الصِّحَاحِ في بابين.

وحدُّه شرعاً ما ذكره؛ فالدمُ الخارجُ كالجِنْسِ، ويُخْرَجُ به غيرُ الدّمِ.

وأَخْرَجَ بقوله: (بِنَفْسِهِ) الخارجَ في النِّفَاسِ؛ لأنه بسببِ الولادةِ، أو بشيءٍ كَدَم العُذْرَةِ.

ومن ثَمَّ أجاب شيخُنا- رحمه الله لما سُئِلَ عن امرأةٍ عالجتْ دمَ الحيضِ: هل تَبْرَأُ مِن العِدَّةِ؟ فأجاب: بأن الظاهرَ أنها لا تَحِلُّ. وتَوَقَّفَ- رحمه الله عن تَرْكِ الصلاةِ

ص: 237

والصيامِ. والظاهرُ على بَحْثِه أن لا يُتْرَكا، وإنما قال: الظاهرُ؛ لاحتمالِ أن استعجالَه لا يُخرجه عن دمِ الحيضِ كإسهالِ البَطْنِ.

وقوله: (مِنْ فَرْجِ) يُخرج الخارجَ لا مِن الفرج كالدُّبُرِ ونحوِه؛ لأن مرادَه القُبْلَ. والأحسنُ أن لو قال: مِنْ قُبُلٍ. لِصِدْقِ الفَرْجِ على الدُّبُرِ.

وقوله: (الْمُمْكِنِ حَمْلُهَا عَادَةً) يُخرج اليائسةَ والصغيرةَ؛ لأنَّ ما يَخرج منهما لا يُسَمَّى حيضاً.

وقوله: (غَيْرُ زَائِدٍ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً) أي على الْمَشْهُورِ، يُخرج دمَ الاستحاضة وهذا- والله أعلم- حدُّ الغالب، وإلا فحيضُ الحَمْلِ أكثرُ، كما سيأتي.

وقوله: (مِنْ غَيْرِ وِلادَةٍ) زيادةُ بيانٍ، وإلا فهو خارجٌ بقوله:(بِنَفْسِهِ).

وأُورِدَ عليه أنه غيرُ مانعٍ لدخولِ نوعٍ مِنْ دَمِ الاستحاضةِ، وهو ما زاد على دمِ العادةِ، والاستظهارِ إذا كان أقلَّ مِنْ خمسةَ عشرَ يوماً. وأُجيب بأن ذلك نادرٌ فلا يَرِدُ.

واعتُرِضَ عليه في استعمال لفظة (بنَفْسِهِ) في غيرِ محلِّها؛ لأن النفسَ والعينَ إنما يُستعملان في التأكيد، أو حالاً مؤكدة، كقوله: هذا وجَدَّكُمُ الصَّغَارُ بِعَيْنِهِ.

ابن هارون: وقد يُجاب عنه بأن هذه النفسَ والعينَ ليست المذكورةَ [38/ أ] في التأكيدِ؛ لأن التي في التأكيدِ بمعنى الحقيقةِ إِذْ أَنها إِنما يُؤتى بها لرفعِ تَوَهُّمِ الَمجازِ، بخلافِ هذه.

فَدَمُ بِنْتِ سِتٍّ وَنَحْوِهَا، وَاليَائِسَةِ كَبِنْتِ السَّبْعِينَ- وَقِيلَ: الْخَمْسِينَ- لَيْسَ بِحَيْضٍ

لأن كُلاًّ منهما لا يُمكنُ حَمْلُها في العادةِ.

وقوله: (السَّبْعِينَ) قال ابن رشد: والستين. والقولُ بالخمسين لابنِ شعبانَ. ووَجْهُه قولُ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه: ابنةُ الخمسينَ عجوزٌ في الغابرينَ. وقولُ عائشةَ: قَلَّ امرأةٌ تُجَاوِزُ الخمسين فتحيضُ إلا أن تكونَ قُرَشِيَّةً.

ص: 238

وما ذكره المصنف من قوله: (لَيْسَ بِحَيْضٍ) هو متفقٌ عليه في الصغيرةِ، وأما الآيِسَةُ فكذلك أيضاً بالنسبة إلى العِدَّةِ، لأن اللهَ تعالى جَعَلَ عَدَّتَها ثلاثةَ أشهرٍ.

واختُلِفَ في العبادةِ، فالْمَشْهُورِ كما قال المصنفُ، وكذلك قال ابن القاسم: إذا انْقَطَعَ هذا الدمُ لا غُسْلَ عليها.

وروى ابنُ المواز عن مالك أنها تَتْرُكُ الصلاةَ والصومَ، وعليه فيجب عليها الغُسْلُ عند انقطاعِه، وبذلك صرحَ ابنُ حبيبٍ.

وَأَقَلُّ مُدَّتِهِ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرُ مَحْدُودٍ فَالدَّفْعَةُ حَيْضٌ، وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ حَيْضٌ: وَحْدَهُ، أَوْ فِي أَيَّامِ حَيْضَتِهَا

الفاء في قوله (فَالدَّفْعَةُ) للسببية، أي بسبب أن أَقَلَّه غيرُ محدود، كانت الدَّفْعَةُ حيضاً. ويحتمل أن يقال- على بُعْدٍ- لما كان قوله:(غير زائد على خمسة عشر يوماً) يُوجب أن يَكون ما قَصُرَ عن ذلك حيضاً، فالدفعةُ داخلةٌ في ذلك. ولا يقال: إذا كانت الدفعةُ حيضاً، ولا أقلَّ مِن ذلك، فالدفعةُ حَدٌّ لأَقَلِّه، لأنا نقول: إنما يُريد أنَّ أَقَلَّه لا حَدَّ له بالزمانِ، واحترز بالعبادةِ مِن العِدَّةِ، وسيأتي.

وقوله: (وَالصُّفْرَةُ) إلى آخرِه ظاهرُ التصورِ.

ابن بزيزة: والْمَشْهُورِ أن الصفرةَ والكدرةَ حيضٌ اعتماداً على حديثِ عائشةَ رضي الله عنها الذي رواه مالكٌ في موطئِه.

وقد قيل: إنها لَغْوٌ؛ اعتماداً على حديثِ أمِّ عطيةَ في الصحيح، قالت: كنا لا نَعُدُّ الصُّفْرَةَ والكُدْرَةَ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم شيئاً.

وقد قيل: إنها إِنْ كانت في أيامِ الحَيْضِ فهي حَيْضٌ، وإلا فهي استحاضةٌ. انتهى.

ص: 239

وقال ابن راشد: لا خلافَ عندنا في أن الصفرةَ والكدرةَ حيضٌ ما لم تَرهُ عَقِبَ طُهْرِها. فإِنْ لم يَمْضِ مِن الزمان ما يكون طهراً، فقد قال ابن الماجشون: إن رأت عَقِبَ طهرِها قطرةً مِن دَم كالغُسَالَةِ- لم يَجِبْ عليها غُسْلٌ، وإنما يَجِبُ عليها الوضوءُ لقولِ أمِّ عطيةَ: كنا لا نَعُدُّ الصفرةَ والكدرةَ بَعْدَ الطُّهْرِ حيضاً. انتهى. فانْظُرْه مع كلام ابن بزيزة.

وقوله: (وَحْدَهُ، أَوْ فِي أَيَّامِ حَيْضَتِهَا) أي: سواءٌ كانت الصفرةُ والكدرةُ وَحْدَها لم يَتَقَدَّمْها دَمٌ، أو كانت في أيامِ الدمِ كذلك.

وعلى هذا فتذكيرُ الضميرِ مُشْكِلٌ، وإنما كان ينبغي أن يقول: وَحْدَهما. ولعله أعاده على المفهومِ، أي سواءٌ كان المذكورُ وحدَه، على حَدِّ قوله تعالى:{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} (النحل: 67).

وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً عَلَى الْمَشْهُورِ، وَخُرِّجَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ نَافِعٍ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَأَكْثَرُ الطُّهْرِ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَأَقَلُّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً عَلَى الْمَشْهُورِ، ابْنُ حَبيبٍ: عَشَرَةٌ. سَحْنُونٌ: ثَمَانِيَةٌ. ابْنُ الْمَاجِشُونِ: خَمْسَةٌ. وَقِيلَ: تُسْأَلُ النِّسَاءُ

قوله: (وَأَكْثَرُهُ) إلى آخره، أي: من حيث الجملة، وإلا فالْمَشْهُورِ التفرقةُ بين المبتدأةِ والمعتادةِ كما سيأتي، ويَرِدُ عليه الحاملُ، وسيتضحُ لك التخريجُ مِن قولِ ابنِ نافعٍ، على أَنَّ في نَقْلِه تَرَدُّداً سيأتي.

وأما الطهرُ فلا حَدَّ لأكثرِه؛ لجوازِ عَدَمِ الحيضِ، وأقلُّه خمسةَ عشرَ يوماً. ونقل المصنفُ وغيرُه أنه الْمَشْهُورِ، وحكاه في الجلاب عن ابنِ مسلمة، وأكثرِ أصحاب مالك المتأخرين، قال في التلقين: وهو الظاهرُ مِن المذهبِ.

ابن عبد السلام: وأكثرُ النصوص في الكتب الْمَشْهُورِةِ إنما هو القولُ الأخيرُ، ورجحه ابنُ عطاء الله. ومنشأُ الخلافِ اختلافُ العوائدِ، فكلٌّ أفتى بما عنده مِن العادةِ.

ص: 240

تنبيه:

اعلم أن بابَ العبادةِ وباب العِدَدِ إنما يختلفان في مقدارِ الحيضِ، وأما في الطهرِ فلا، ولذلك قال المصنف في أقل الحيض:(وأقلُّ مدتِه في العبادة غيرُ محدودٍ) ولم يقُلْ ذلك في الطُّهْرِ.

قال في باب العِدَدِ بعد أن ذَكَرَ حُكم الحيضِ بالنسبة إلى العِدَدِ والاستبراِء: (وقد تقدم الطهر في الحيض) تنبيهاً منه- رحمه الله على مساواةِ البابين في الطُّهْرِ. فمَنْ يَقولُ: إن الطهرَ أقلُّه خمسةَ عشرَ يوماً، أو عشرةٌ، أو ثمانيةٌ لا يُفَرِّقُ في ذلك بَيْنَ البابين.

فإن قلتَ: هذا لا يَظهر له معنى، بل الذي يَظهر أن الطهرَ في بابِ العبادةِ لا حَدَّ له، إِذْ لا خِلافَ أنها لو طَهُرَتْ يوماً صَلَّتْ فيه.

فالجوابُ أن الفائدةَ في ذلك تَظْهَرُ في المنقَطِعِ حيضُها إذا بلغتْ أكثرَ الحيضِ، فإنها حينئذٍ تُصَلِّي في يومِ دَمِها، وفي يومِ طهرِها. ولو كان كما توهمتَ مِنْ أَنَّ أقلَّ الطهرِ في العبادةِ غيرُ محدودٍ لما كانتْ تُصلي في يومِ دمِها؛ لأنه أَتَى بعد طهرٍ على ما توهمتَ، ولا خفاءَ في فسادِه.

نعم أَوْرَدَ بعضُ الأشياخِ سؤالاً، فقال: إذا قلتم: تُصلي في يومِ طهرِها، فلا يَخْلُو أن تَحْكُموا لها فيه بالطهرِ أو بالحيضِ، وضدان لا يَجتمعان، ولا جَائِزَ إلى الأولِ؛ لأنَّ أقلَّ الطهرِ خمسة عشرَ يوماً على الْمَشْهُورِ، ولا إلى الثاني، وإلا لَزِمَ أن تَقضي الصلاة. ويُجابُ عنه باختيارِ القسمِ الأولِ، ويَكون طهراً بانضمامِه إلى ما بَعْدَه إِذِ الجميعُ طهرٌ واحدٌ، والله أعلم.

وَالنِّسَاءُ: مُبْتَدَأَةٌ، وَمُعْتَادَةٌ [38/ب] وَحَامِلٌ. فَالْمُبَتَدَأَةُ إِنْ تَمَادَى فَفيها خَمْسَةَ عَشَرَ. وَرَوَى ابْنُ زِيَادٍ: تَطْهُرُ لِعَادَة لِدَاتِهَا. وَرَوَى ابْنُ وَهْبِ: وَثَلاثَةُ أَيَّامٍ اسْتِظْهَاراً

قَدَّم المبتدأةَ لتَقَدُّمِ أمرِها على المعتادة، وأَخَّرَ الحاملَ لندورِ أمرِها، والْمَشْهُورِ مذهبُ المدونةِ: أن المبتدأة إذا تَمَادَى بها الدمُ تمكثُ خمسةَ عشرَ يوماً. ورَأَى في روايةِ ابنِ زيادٍ أن الطباعَ

ص: 241

لا تَختلف كاستوائِهن في النومِ واليقظةِ، والألمِ واللذةِ، ويَغْلِبُ على الظن أن الدمَ الزائدَ دَمُ عِلَّةٍ وفسادٍ. واللِّدَاتُ هن الأَتَرابُ، وهن ذواتُ أسنانِها. ابن الجلاب: مِن أهلِها، وغيرِهن.

وقال اللخمي: لو قيل: ينظر إلى ما كان عليه أمهاتُها وأخواتُها وعماتُها لكان حَسَناً.

والاستظهارُ استفعالٌ، مِن الظَّهِيرِ: وهو البرهانُ. فكأنَّ أيامَ الاستظهارِ برهانٌ على تمامِ الحيضِ. وفي التنزيل: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [لتحريم: 4]

والاستظهارُ- على رواية ابن وهب- مشروطٌ بأن لا يزيدَ على خمسة عشر يوماً.

والْمُعْتَادَةُ إِنْ تَمَادَى فَخَمْسَةٌ، فِيهَا رِوَايَتَانِ: خَمْسَةَ عَشَرَ، ورَجَعَ إِلَى عَادَتِهَا مَعَ الاسْتِظْهَارِ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ مَا لَمْ تَزِدْ عَلَى خَمْسَةُ عَشَرَ يَوْماً فَقِيلَ: عَلَى أَكْثَرِ عَادَتِهَا. وقِيلَ: عَلَى أَقَلِّهَا. وأَيَّامُ الاسْتِظْهَارِ عِنْدَ قَائِلِهِ حَيْضٌ، ومَا بَيْنَهَا وبَيْنَ خَمْسَةَ عَشَرَ قِيلَ: طَاهِرٌ. وقِيلَ: تَحْتَاطُ فَتَصُومُ وتَقْضِي وتُصَلِّي وتَمْنَعُ الزَّوْجَ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ ثَانِياً

يعني: أن في المعتادة إذا تمادى بها الدمُ خمسةَ أقوالٍ، فيها- أي في دولة المدونة- من الخمسةِ روايتان: الأُوَلى: تَمكث خمسة عشر يوماً. والثانية: رجع إليها، وهي الْمَشْهُورِةُ، تمكثُ عادتَها مع الاستظهارِ بثلاثةِ أيامٍ ما لم يَزْدَدْ على خمسةَ عشرَ يوماً، وهو الْمَشْهُورِ، فتَسْتَظْهِرُ بثلاثةِ أيامٍ إذا كانت العادةُ اثني عشرَ فأقلَّ. وإن كانت ثلاثة عشر استَظْهَرَتْ بيومين، وإن كانت أربعة عشر فبيومٍ واحدٍ. وإلى هذا أشار بقوله:(مَعَ الاسْتِظْهَارِ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ مَا لَمْ تَزِدْ عَلَى خَمْسَةُ عَشَرَ يَوْماً).

واستَضْعَفَ التونسيُّ الاستظهارَ على أقلِّ العادةِ؛ لأنه قد يكون بينَ الأقلِّ والأكثرِ أكثرُ مِن مُدَّةِ الاستظهارِ، فإذا بَنَتْ على القليلِ احتمل أن يكون هذا الدمُ مِن العادةِ الكثيرةِ، فتَفْعَلُ أفعالَ الطاهرِ وهي حائضٌ. وأُجيب بأنَّ معنى المسألة: مَنْ تَخْتَلِفُ عادتُها في الفصولِ فتحيضُ في الصيف مثلاً عشرةً، وفي الشتاءِ ثمانيةً، فإن تَمادى بها الدمُ في الشتاءِ فاختُلف على ما ذُكِرَ، وأما إن تمادى بها في فصلِ الأكثرِ فلا خلافَ أنها تَبْنِي على الأكثرِ.

ص: 242

وعلى هذا فقولُه: (فَقِيلَ: عَلَى أَكْثَرِ عَادَتِهَا. وقِيلَ: عَلَى أَقَلِّهَا) فَرْعٌ على الْمَشْهُورِ، أي: إذا بَنَيْنَا على الْمَشْهُورِ مِن الاستظهارِ على عادتِها، فاختُلِفَ إذا اختلفتْ عادتُها في الفُصُولِ على أيِّ العادَتَيْنِ تَبْنِي، والقولُ بالأكثرِ مذهبُ المدونةِ، وبالأقلِّ مذهبُ ابن حبيب.

قال ابن رشد: وذهب ابنُ لبابة إلى أنها تَغتسل عند أقلِّ أيامِها مِنْ غيرِ استظهارٍ، وهو خطأٌ، صَرَّحَ به ابنُ هارون.

واتُّفِقَ على أَنَّ أيامَ الاستظهارِ حيضٌ عِنْدَ مَنْ قال به.

وقوله: (وما بينه وبين خمسة عشر يومًا) إلى آخره، يعني أنه اختُلف – على الْمَشْهُورِ – إذا قلنا بالاستظهارِ على العادةِ فيما بين العادة وتمامِ خمسة عشر يومًا، فقيل: حكمُها حكمُ الطاهِر في تَوَجُّهِ الصلاةِ والصومِ وعدمِ القضاءِ وإتيانِ الزوجِ، وهو مذهبُ المدونة في الطهارة، ونصُّ قولِ ابنِ القاسم في الموازية، وظاهرُ المدونة في الحجِّ لقولِه: إذا حاضت قَبْلَ طوافِ الإفاضةِ أَنَّ كَرِيَّهَا يُحْبَسُ عليها قَدْرَ أيامِها والاستظهارِ، ثم تَطُوفُ. وقيل: تحتاطُ: فتصومُ لاحتمالِ الطهارةِ، وتقضي لاحتمال الحيضِ، وتصلي لاحتمالِ الطهارةِ، ولا تقضي لأنها إِنْ كانت طاهرًا فقد صَلَّتْ، وإن كانت حائضًا فلا أداءَ ولا قضاءَ. وتَمْنَعُ الزوجَ لاحتمالِ الحيضِ، وتغتسلُ عند انقطاعِه لاحتمالِ الحيضِ. وفَهِمَ الأبهريُّ وابنُ الجهم واللخمي وغيرُهم روايةَ ابنِ وهب التي في المدونةِ على هذا القولِ، وعَبَّرَ المازري عن هذين القولينِ بأنه اختُلِفَ في الزائدِ هل هو استحاضةٌ قَطْعاَ أو احتياطًا.

وذَكَرَ مِن ثمرتِه ما ذَكَرَ المصنفُ، ثم قال: ومِن ثمرتِه قضاءُ الصومِ والصلاةِ، فإن منهم مَن أَمَرَ بقضائِها كما حكيناه، ومنهم مَنْ عَدَّها استحاضةً قطعًا فلم يَأَمُرْها بالقضاءِ.

ومِنْ ثمرتِه: هل تغتسلُ؟ قال ابنُ الجهم: تغتسلُ عند الخمسةَ عشرَ يومًا غسلاً هو الواجبُ عليها بناءً على أنها مستحاضةٌ احتياطًا.

ص: 243

وقد عَبَّرَ بعضُهم عن هذه الطريقة بأن الغسلَ عند انقطاعِ أيامِ اللَّداتِ مستحبٌّ، وعند الخمسةَ عشر واجبٌ. قال المارزي: وهذه العبارةُ يجب– عندي– أن تُحَقَّقَ لئلا يغلطُ مَن لا دِرَايَةَ له بالحقائقِ، فيتوهمُ أن الغُسْلَ مستحبٌّ، فلا تَاثَمُ إن صلتْ بغير غُسْلٍ، وهي متى صَلَّتْ مِنْ غيرِ غُسْلٍ أَثِمَتْ بإجماعٍ؛ لأنها حائضٌ صَلَّتْ بغيرِ غُسْلٍ بإجماعٍ، والصلاةُ وإن كانت عند هؤلاء غيرَ واجبةٍ، فالطهارةُ لها واجبةٌ على مَن أراد الشروعَ فيها. ولعل معنى قولِ هؤلاء: الغُسْلُ مُسْتَحَبٌّ: أنها لو تَرَكَتْهُ لِتَرْكِها الصلاةَ لم تَاثَمْ، فهذا الإطلاقُ يجب أن يُحَقَّقَ هكذا.

وأمَّا مَنْ حَكَمَ بأنها مستحاضةٌ قطعًا فلا ريبَ عنده في وجوبِ الغسلِ؛ لاعتقادِه وجوبَ الصلاةِ عليها.

ومن ثمرةِ الخلاف أيضاً: إذا وجبت عليها عِدَّةٌ– كان مبتدأُ الطهر الذي هو عدتُها عند انقضاءِ أيامِ لِدَاتِها عِنْدَ مَنْ رآها مستحاضةً قطعًا، وبعد ذَهابِ [39/ أ] الخمسة عشر يومًا عند مَن رآها مستحاضةً احتياطًا.

قال: ومِن ثمرته أيضاً– عندي– طلاقُها حينئذٍ، هل يُجبر الزوجُ فيه على الرجعةِ؟ فعلى الاستحاضةِ المحققةِ لا يُجْبَرُ. وهذا كلُّه– وإن ذكره المازري في المبتدأةِ– فلا فرقَ بينها وبين المعتادةِ في ذلك، والله أعلم.

والثَّالِثُ: عَادَتُهَا خَاصَّةً، وفِيمَا بَيْنَهَا وبَيْنَ الخَمْسَةَ عَشَرَ القَوْلانِ. والرَّابعُ: خَمْسَةَ عَشَرَ واسْتِظْهَارُ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ. والْخَامِسُ: قَالَ ابْنُ نَافِعٍ: واسْتِظْهَارُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ. وأَنْكَرَهُ سَحْنُونٌ ....

نَسَبَ اللخمي القولَ الثالثَ لابن عبد الحكم.

ص: 244

وقوله: (القَوْلانِ) أي: المتقدمان، الجزمُ بالطُّهْرِ والاحتياطُ. والضمير المجرور في (بينها) عائدٌ على العادةِ. والرابعُ قول مالكٍ في كتاب الحج من الموازية.

وقوله: (يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ) أي: لا تَزيدُ عليهما ولا تَنقص مِن اليومين، وتُخَيَّرُ فيهما.

ودلت الواو من قوله: (واسْتِظْهَارُ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ) أن هذا الاستظهارَ بَعْدَ الخمسةَ عشرَ يومًا، وكذلك قال ابنُ نافع. والتخييرُ مُشْكِلٌ، ولعل ذلك بحَسَبِ رائحتِه وخِفَّتِه، وثخانتِه ورِقَّتِه. والظاهرُ أنّ إنكارَ سحنونٍ الخامسَ مِنْ حيثُ النَّقْلُ.

المازري بعد أن حكى عن ابن نافع ما حكاه المصنف: هكذا نَقَلَه عنه ابنُ حارث وبعضُ أشياخي. وأنكر بعضُهم أن يكون ابنُ نافع حَدَّ الاستظهارَ بحَدٍّ، قال: وإنما ذكر عنه أنه قال: تَستظهر. ولعله أراد اليومين؛ لأن مِن الناسِ مَن قال: أكثرُ الحَيْضِ سبعةَ عشرَ يومًا. ولم يَقُلْ أحدٌ بالزيادة على ذلك، فلا معنى لإثباتِ الاستظهارِ في أمر اتُّفِقَ على أنه لا يبلغُ أكثرُ الحَيْضِ إليه. انتهى.

والْحَامِلُ تَحِيضُ، فَإِنْ تَمَادَى بها الدَّمُ فَفِيهَا: قَالَ مَالِكٌ: تَمْكُثُ قَدْرَ مَا يُجْتَهَدُ لَهَا. ولَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ، ولَيْسَ أَوَّلُ الْحَمْلِ كَآخِرِهِ، ورَوَى أَشْهَبُ كَالْحَائِلِ

كَوْنُ ما تراه الحاملُ مِن الدَّم حيضًا هو الْمَشْهُورِ. وقال الداودي: لو أُخِذَ فيه بالاحتياطِ فتصومُ وتُصلي، ولا يأتيها زوجُها لكان حسنًا. هكذا نقله الباجي وغيرُه. وجزم بعضهم عنه أنها تحتاط. وقال ابن لبابة: ليس حيضًا. واستُقْرِئَ لابن القاسم مما قاله في المطلقة إذا حاضَتْ ثم أَتَتْ بولدٍ: لو عَلِمْتُ أنه حَيْضٌ مستقيمٌ لرَجَمْتُها. فإن قيل: لو كان الحيضُ يَحْصُلُ مع الحَمْلِ– لم يكن الحيضُ دليلاً على براءةِ الرَّحِمِ. فجوابُه أنه يَدُلُّ دلالةً ظنيةً لا قطعيةً، واكتفى الشارعُ بالظَّنِّ رِفْقًا بالنساء.

ص: 245

وقوله: (فَإِنْ تَمَادَى) أي: فإن جاوزَ دمُها عادتَها. فقال مالكٌ ما ذَكَرَه المصنفُ عنه. وقولُ أشهبَ ظاهرٌ عَمَلاً بالاستصحابِ.

ومعنى (كَالْحَائِلِ) أي: فتَجلس أيامَ عدتِها.

ابن يونس: وتَسْتَظْهِرُ. وذلك عنه في الموازية والواضحة، وسواءٌ استرابتْ عنده على هذا القولِ أم لا. انتهى.

ولا يُؤخذ هذا مِن كلام المصنفِ؛ لاحتمالِ أن يُريد بقوله: (كالحائل) أنها تجلس خمسة عشر يوماً. وقد حكى المازري وابن رشد ثلاثةَ أقوال، فقيل: تجلسُ خمسة عشر يومًا كما قيل في الحائِلِ. وقيل: قَدْرَ عادَتِها، ولا تُؤْمَرُ بالاستظهارِ. وأمر به أشهبُ، واختَلف عنه رواةُ المدونة، هل تُؤمرُ بالاستظهار بِشَرْطِ الاِسْتِرَابَةِ أو بشرطِ أَلَاّ تَسْتَرِيبَ. والاسترابةُ– عند بعضِهم– أن يتأخرَ عن وقتِه، أو يزيدَ أو ينقصَ عن عَدَدِه، وعند بعضِهم أَنْ يَرتفع في أَوَّلِ الحَمْلِ. انتهى. وانظرُ ما يتعلقُ باختلافِ الرواةِ عن أشهبَ في التنبيهات.

وفِيهَا: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: تَمْكُثُ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَشْهُرٍ ونَحْوِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ ونَحْوَهَا، وبَعْدَ سِتَّةِ الْعِشْرِينَ ونَحْوَهَا. وعَنْهُ: وآَخِرُ الْحَمْلِ ثَلاثِينَ، ولا اسْتِظْهَارَ فِيهَا

هذا تفسيرٌ لأَوَّلِ الحَمْلِ وآخرِه. واختَلَفَ الشيوخُ في الشهرِ الأولِ والثاني، فقال الإِبِّيَانّي: تَجلس خمسةَ عشرَ بمنزلةِ الثلاثةِ. وقال ابن يونس: الذي يَنبغي على قولِ مالك الذي رجع إليه أن تَجلس في الشهر والشهرين قَدْرَ أيامِها والاستظهارِ.

واختُلِفَ أيضاً في الستة: هل حكمُها حكمُ الثلاثةِ، وهو قولُ ابنِ شبلون، أو حكمُ ما بعدها، وهو قولُ جماعةِ شيوخِ إفريقيةَ؟ وهو أظهرُ؛ لأنَّ الحاملَ إذا بَلَغَتْ ستةَ أشهرٍ صارتْ في أحكامِها كالمريضةِ. ونَقْلُ ابنِ شِبْلُونَ راجعٌ إلى هذا.

ص: 246

والضميرُ المجرور بعن عائدٌ على ابن القاسم.

وظاهرُه أنه وَافَقَ في هذا القولِ قولَه الأولَ في أَوَّلِه، وهو كذلك.

قال في النوادر: قال ابن حبيب: مذهبُ ابن القاسم إن رَأَتْهُ في أَوَّلِ الحَمْلِ جلستْ خمسةَ عشرَ يومًا، وفي آخرِه ثلاثينَ. وقال ابن يونس: قال سليمان بن سالم عن ابن القاسم أنها تجلس في أول الحمل خمسة عشر، وفي آخره خسمة وعشرين، ولا أُحِبَّ أن أَبْلُغَ بها الثلاثين. ونَقَلَ ابنُ الجلاب عن ابن القاسم أنها إِنْ رأته بعد شهرين أو ثلاثةٍ مِنْ حَمْلِها تَرَكَتِ الصلاةَ ما بين خمسة عشر يومًا إلى عشرين، وإن رأته بعد ستةِ أشهرٍ أو في آخرِ حَمْلها تَركت الصلاةَ ما بين عشرين إلى ثلاثين، فتَحَصَّلَ لابنِ القاسمِ أربعةُ أقوالٍ.

ورَوَى مُطَرذِفٌ فِي أَوَّلِهِ الْعَادَةَ والاسْتِظْهَارَ، وفِي الثَّانِي مِثْلَيْ الْعَادَةِ، وفِي الثَّالِثِ ثَلاثَةَ أَمْثَالِهَا، وكَذَلِكَ إِلَى سِتِّينَ فَلا تَزِيدُ. وقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: ضِعْفَ عَادَتِهَا خَاصَّةً.

تصورُ هذا الكلام ظاهرٌ، ومرادُه بالثاني الشهرُ الثاني، وكذلك بالثالث.

وقوله: (إِلَى سِتِّينَ) أي: لا تَزال تُضَاعِفُ العادةَ إلى أن يبلغَ دمُها ستين يومًا، ولا تَزِيدُ بعد ذلكَ، ونَقَلَ المازري قولاً آخَرَ بالتضعيفِ إلى آخِرِ شهورِ الحَمْلِ، وإن زادت على الستين يومًا. [39/ ب].

ومَتَى تَقَطَّعَ الطُّهْرُ غَيْرَ تَامٍّ عَلَى تَفْصِيلِهِ كُمِّلَتْ أَيَّامُ الدَّمِ عَلَى تَفْصِيلِهَا، ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وتَغْتَسِلُ كُلَّمَا انْقَطَعَ عَنْهَا وتُصَلِّي وتَصُومُ وتُوطَأُ. وقَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ: إِنْ كَانَ الدَّمُ أَكْثَرَ وإِلا جَمَعَتْ أَيَّامَ الطُّهْرِ طُهْراً وأَيَّامَ الْحَيْضِ حَيْضاً حَقِيقَةً ....

(تَقَطَّعَ الطُّهْرُ) أي: تَخَلَّلَهُ دَمٌ، وكلامُ المصنفِ أصحُّ مِن كلامِ مَن أضافَ التقطعَ إلى الدمِ؛ لأن الدمَ لا أقلَّ له.

ص: 247

وقوله: (غَيْرَ تَامٍّ) زيادة بيانٍ؛ إذ لا يكون الطهر متقطعًا إلا إذا لم يمض منه ما يصدق عليه اسم طهرٍ.

وقوله: (عَلَى تَفْصِيلِهِ) يعني: من الخلاف في أقله.

(كُمِّلَتْ أَيَّامُ الدَّمِ عَلَى تَفْصِيلِهَا) أي: على الخلافِ في أكثرِ الحَيْضِ.

وقوله: (وتَغْتَسِلُ) إلى آخره، أي: لأنها لا تَدْرِي هل يُعاودُها دمٌ أَمْ لا؟

واختُلف إذا طَلَّقَها في يومِ طُهْرِها، فقال أو بكر بن عبد الرحمن: يُجبر على الرجعةِ للتطويلِ. وقيل: لا يجبر؛ لأنه إنما طلق في طُهْرٍ.

ولا خلافَ في إلغاءِ أيامِ الطهرِ إن كانت أيامُ دمِها أكثرَ مِن أيامِ طُهْرِها، إِذْ لا يكونُ الطهرُ أقلَّ مِن الحيضِ أصلاً. هكذا عَلَّلَ صاحبُ الذخيرةِ هذه المسألةَ.

والْمَشْهُورِ أن الحُكْمَ كذلك إن كانت أيامُ الطهرِ أكثرَ أو مساويةً. وقال ابن مسلمة وعبد الملك: تكُونُ حائضًا يومَ الحيضَ، وطاهرًا يَوْمَ الطهرِ حقيقةً، ولو بَقِيَتْ على ذلك عمرَها. وهي امرأةٌ خاضتْ مِن الشهرِ نصفَه، وطَهُرَتْ نصفَه، فقد حاضت أكثرَ الحيضِ، وطَهُرَتْ أقلَّ الطُّهْرِ، وإِنْ كان الطهرُ أكثرَ فهو واضحٌ على قولهِما.

التونسي: ويَجِبُ على قولِ ابنِ مسلمة أن تكُونَ عِدَّتُها- إذا كانت تحيض يومًا وتَطْهُرُ يوماً- ثلاثةَ أشهرٍ، إِذْ فيها تَسْتَتِمُّ ثلاثةَ أطهارٍ. قال: وانْظُرْ على قولِه هل يُطلقها في يومِ الطهرِ؛ لأنها تحتسب به؟

قال في المقدمات: وانظر هل يَصِحُّ أن تُلَفِّقَ في النفاسِ أيامَ الطهرِ على مذهبِ ابن مسلمة؟ ولا يَبْعُدُ ذلك عندي. انتهى.

تنبيه:

قولنا: حاضت يومًا وطهرت يومًا- لا نُرِيدُ به استيعابَ جميعٍ اليومِ بالحيضِ؛ فقد نقل في النوادر عن ابن القاسم في التي لا ترى الدمَ إلا في كلِّ يومٍ مرةً، فإنْ رَأَتْه عند

ص: 248

صلاةِ الظهر فتَرَكَتِ الصلاةَ، ثم رأت الطهرَ قَبْلَ العصرِ فَلْتَحْتسِبْهُ يومَ دمٍ، وتتطهرُ وتصلي الظهرَ والعصرَ.

ومَتَى مَيَّزَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ بَعْدَ طُهْرٍ تَامٍّ حُكِمَ بابْتِدَاء حَيْضٍ فِي الْعِبَادَةِ اتِّفَاقاً، وفِي الْعِدَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ. والنِّسَاءُ يَزْعُمْنَ مَعْرِفَتَهُ بِرَائِحَتِهِ ولَوْنِهِ، فَإِنْ تَمَادَى فَكَمَا تَقَدَّمَ. وفِي الاسْتِظْهَارِ عِنْدَ قَائِلِهِ قَوْلانِ .....

ما ذكره ظاهرٌ.

وقوله: (فَإِنْ تَمَادَى) أي: هذا الدمُ المميَّزُ. فهل تَقتصر على عادتِها، أو تَسْتَظهر، أو تَرْفَعُ إلى خمسة عشر يوماً؟ ثلاثةُ أقوالٍ كما تقدم.

ثم اختلف القائلونَ بالاستظهارِ في الحيضِ، فابن الماجشون طَرَدَ أَصْلَه في ذلك.

ورُوِيَ عن مالك: لا تَسْتَظْهِرُ. وهو قولُ ابن القاسم في المجموعة، ورواه عن مالك في العتبية، وبه قال أصبغ؛ لأن المستحاضةَ قد تقرَّرَ لها حكمُ الاستحاضةِ، فالأصلُ أن دمَها– إذا زاد على حيضها– استحاضةٌ.

وجعل اللخمي محلَّ الخلافِ إذا أَشْكَلَ عليها الدمُ، وأما لو تحققتْ أنه حيضٌ عَمِلَتْ على ذلك، وحُكِمَ بانتقالِ عادتها ما لم تجاوز أقصى الحيض، وكذلك إذا تحققت أيضاً أنه استحاضةٌ عَمِلَتْ عليه.

ومَتَى انْقَطَعَ دَمُهَا اسْتَأنَفَتْ طُهْراً تَامّاً مَا لَمْ تُمَيِّزْ

قوله: (انْقَطَعَ) أي: حُكِمَ بانقطاعِ دَمِ الحيضِ الُمَميَّزِ، وليس المرادُ بالانقطاعِ انقطاعَه حِسّاً بدليل قوله:(مَا لَمْ تُمَيِّزْ).

ص: 249

وقوله: (طُهْرًا تَامّاً) احترازًا مما لو مَيَّزَتْ قَبْلَ كمالِه، فإنه لا اعتبارَ بذلك التمييزِ. ثم الدمُ المميَّزُ – المحكومُ بأنه حيضٌ– إما أن يكون حيضةً كاملةً أَوْ لا، أَجْرِهِ على ما تقدم.

ومعنى قوله: (مَا لَمْ تُمَيِّزْ) أي: أنها لا تزال محكومًا لها بالطهارة بعد أقَلِّ الطهرِ، ولو استمرَّ الدمُ بها شهورًا متواليةً إلى أن تُمَيَّزَ. فقولُه:(مَا لَمْ تُمَيِّزْ) مُخْرِجٌ مِنْ غَيْرِ مذكورٍ كما ذكرنا، والله أعلم.

ابن عبد السلام: وظاهر هذا أنه إن عاودها الدمُ بعد انقطاعِ الاستحاضةِ أنه لا يكون حيضًا إلا بشرطِ التمييزِ، وظاهرُ كلام أهل المذهبب أنه إنما يُرْجّعُ إلى التمييز إذا كان دمُ الاستحاة متصلاً. وفيه نظرٌ؛ لأن كلام المصنف إنما هو مفروضُ فيما إذا كان الدمُ مُتَّصِلاً، والله أعلم.

ولِلطُّهْرِ عَلامَتَانِ: الْجُفُوفُ وهُوَ خُرُوجُ الْخِرْقَةِ جَافَّةً، والْقَصَّةُ الْبَيْضَاءُ وهُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ كَالْقَصَّةِ، وهُوَ الْجِيرُ. ابْنُ الْقَاسِمِ: الْقَصَّةُ أَبْلَغُ. ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: الْجُفُوفُ أَبْلَغُ. وغَيْرُهُمَا: هُمَا سَوَاءٌ .......

(جَافَّةً) أي: ليس عليها شيء من الدم. و (والْقَصَّةُ) ماءٌ أبيضُ، قيل: يُشْبِهُ ماءَ الجِيِر. وقيل: يُشبه ماءَ العَجِينِ. وقيل: شيءٌ كالخيطِ الأبيضِ. وروى ابن القاسم: يُشبه البولَ. وروى علي: يشبه المنيَّ.

ووجهُ قولِ ابن القاسم أن القَصَّةَ لا يُوجد بعدها دَمٌ، والجفوفَ قد يُوجدُ بَعْدَه دَمٌ.

ووجهُ قول ابن عبد الحكم– وهو قولُ ابنِ حبيب أيضاً– أن القصةَ مِن بقايا ما يُرْخِيه الرَّحِمُ، والجُفُوفَ بَعْدَهُ.

وقوله: (وغَيْرُهُمَا: هُمَا سَوَاءٌ) هو قول الداودي وعبد الوهاب.

ص: 250

وفَائِدَتُهُ أَنَّ مُعْتَادَةَ الأَقْوَى تَنْتَظِرُهُ مَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ الْمُخْتَارُ. وَقِيلَ: الضَّرُورِيُّ

الضميرُ عائدٌ على الخلافِ المفهومِ مِن الأقوالِ المذكورةِ، والانتظارُ إنما يأتي على القولين الأولين، وأما الثالثُ فأيّ العلامتين وَجَدَتْ اغْتَسَلَتْ.

وجعل ابنُ راشدٍ الخلافَ في الانتظارِ [40/ أ] للوقتِ الاختياريِّ والضروريِّ مَبْنِيّاً على أَنَّ طَلَبَ الأَقْوَى هل هو مِن بابِ الأَوْلَى، أو مِن بابِ الأَوْجَبِ.

ابن عبد السلام: والظاهرُ الاختياريُّ، ولا حاجةَ إلى إيقاعِ الصلاةِ في الوقتِ المكروهِ مع أَنَّ كُلاًّ منهما علامةٌ.

وأَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ومُطَرِّفٌ وابْنُ الْمَاجِشُونِ: تَنْتَظِرُ الْجُفُوفَ. وغَيْرُهُمْ: هُمَا سُوَاءٌ. قَالَ الْبَاجِيُّ: نَزَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ

ظاهرُه– وكذلك صرَّحَ ابنُ شاس أنها إن رأت القَصَّةَ تَنتظر الجفوفَ. وفي المنتقى نحوُه، فإنه قال: وأما المبتدأةُ فقال ابن القاسم وابن الماجشون: لا تَطْهُرُ إلا بالجفوف. وهذا نزوعٌ إلى قولِ ابنِ عبدِ الحكمِ. وفي النكتِ نحوَه. وقال المازري: وافق ابن القاسمِ على أن المبتدأةَ إذا رأتِ الجفوفَ طهرتْ. ولم يَقُلْ إذا رأتِ القَصَّةَ تَنتظر الجفوفُ فتأمَله، ثم حكى تعقبَ الباجي، وردَّه بأنَّ خروجَ المعتادةِ عن عادتِها ريبةٌ بخلافِ المبتدأة؛ لأنها لم تتغيرْ في حقِّها عادةٌ، فإذا رأتِ الجفوفَ أولاً فهو علامةٌ، والأصلُ عَدَمُ القَصَّةِ في حقِّها، فلا معنى للتأخيرِ لأجلِ أمرٍ مشكوكٍ فيه.

وما قاله المازري واضحٌ إن كانت صورةُ المسألة كما ذَكَرَ أنها رأت الجفوفَ ولم تَرَ القصةَ، وأما إن كان الأمرُ على ما نقله الباجي والمصنف مِن أنها إذا رأت القصةَ تنتظرُ الجفوفَ فإيرادُ الباجيِّ صحيحٌ، فتأمله.

ص: 251

ونقلُ ابن حبيب كنقلِ الباجي، فإنه قال: قال مطرف وابن القاسم وابن الماجشون: والتي بَلَغَتْ فلا تَطْهُر حتى تَرَى الجُفُوفَ، ثم تَجْرِي بعد ذلك على ما يَنكشفُ لها مِن علامةٍ. ونقلَ عبدُ الوهاب عن ابنِ القاسم مثلَ ما قاله المازري، قال في المقدمات: ونقلُه أصحُّ في المعنى وأَبْيَنُ مما نَقَلَه ابنُ حبيبٍ عنه؛ لأنه كلامٌ متناقضٌ في ظاهرِه.

فرع:

قال في النوادر: قال ابن القاسم عن مالك: وليس على المرأةِ أن تقومَ فتنظرَ طهرَها قَبْلَ الفجرِ، وليس من عَمَلِ الناسِ. قال عنه عليٌّ في المجموعة: وإنما عليها أن تنظر عند النومِ، وعندَ صلاةِ الصبحِ.

وقال ابن حبيب: إذا رأت الطهرَ غُدْوَةً فلم تَدْرِ أَكانَ قَبْلَ الفجرِ أو بَعْدَه فلا تقضي الصبحَ حتى تَتيقن أنه قَبْلَ الفجرِ، ولكن تصومُ يومَها إن كان رمضانَ، وتقضيه احتياطًا.

ويَمْنَعُ الْحَيْضُ الصَّلاةَ مطلقاً ولا قَضَاءَ، والصَّوْمَ وتَقْضِيهِ

أراد بالإطلاق سواءٌ كان فرضًا أو نفلاً، أداءً أو قضاءً.

واعلم أن ممنوعات الحيض قسمان: متفَقٌ عليها، ومختلَفٌ فيها.

فالأَوَّلُ تسعةٌ: وجوبُ الصلاةِ، وصحةُ فِعْلِها، وصحةُ فِعْلِ الصومِ، ومَسُّ المصحفِ، والطلاقُ، وابتداءُ العِدَّةِ، والوطءُ في الفَرْجِ، ورَفْعُ الحَدَثِ، ودخولُ المسجدِ. ويَنْدَرِجُ فيها الطوافُ والاعتكافُ؛ إذ لا يُوقَعَانِ في غيرِه.

والقسم الثاني سبعةٌ، وهو ينقسمُ إلى قِسمين: قسمٌ الْمَشْهُورِ فيه المنعُ، وقسمٌ الْمَشْهُورِ فيه الجوازُ.

فالأَوَّلُ خمسةٌ: الوطءُ بَعْدَ الطُّهْرِ وقَبْلَ التطهيرِ، والوطءُ بِطُهْرِ التيممِ، والوطءُ فيما دُونَ الإزارِ، ووجوبُ الصومِ، ورفعُ حَدَثِ جنابتِها.

ص: 252