الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قيل: لا يؤذن لهما.
وقيل: يؤذن للأولى فقط.
والْمَشْهُورِ: يؤذن لكل منهما.
قال المازري: واتفق عندنا على أنه يقام لكل صلاة.
و
الإِقَامَةُ
سُنَّةٌ فِي كُلّ فَرْضٍ عُمُوماً أَدَاءً أَوْ قَضَاءٌ، وفِي الْمَرْأَةِ حَسَنٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَجَائِزٌ أَنْ يُقَيِمَ غَيْرُ مَنْ أَذَّنَ، وإِسْرَارُ الْمُنْفَرِدِ حَسَنٌ ....
قوله: (حَسَنٌ عَلَى الْمَشْهُورِ) هو قول ابن القاسم. قال في الجلاب: وليس على النساء أذان ولا إقامة. قاله ابن عبد الحكم. وقال ابن القاسم: إن أقمن فحسب. ولأشهب قول ثالث بالكراهة. وأما الأذان فلا يطلب منهن اتفاقا. ونص اللخمي على أنه ممنوع.
وقوله: (وَجَائِزٌ أَنْ يُقَيِمَ غَيْرُ مَنْ أَذَّنَ) لحديث عبد الله بن زيد حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان فأمر أن [46/ب] يلقيه على بلال، وقال:((هو أندى منك صوتا)).
فلما أذن بلال قال عليه الصلاة والسلام لعبد الله: ((أقم أنت)) رواه أبو داود.
وقوله: (وإِسْرَارُ الْمُنْفَرِدِ حَسَنٌ)؛ لأن المقصود بها إشعار النفس بالصلاة.
وَصْفَتَهُ مَعْلُومَةٌ، وَيَرَفَعُ صَوْتُهُ بالتَّكْبيرِ اِبْتِداءً عَلَى الْمَشْهُورِ، وَيَقُولُ بَعْدَهُ الشّهادَتَيْنِ مَثْنَى مَثْنَى أَخْفَضَ مِنْهُ ولا يُخْفِيهِمَا جِدّاً، ثُمَّ يُعيدهُمَا رَافِعاً صَوْتَهُ وهُوَ التَّرْجِيعُ، وَيُثْنِي: الصَّلَاةُ خَيِّرٌ مِنْ النُّوْمِ فِي الصُّبْحِ عَلَى الْمَشْهُورِ
أي: وصفه الأذان عند المالكية معلومة من الترجيع وتثبية التكبير دون ترجيعه.
ودليلنا ما رواه مسلم والترمذي، وصححه أبو داود والنسائي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة الأذن. كذلك مثنى التكبير فرجع الشهادتين. وفيه: تثنية الصلاة خير من النوم.
وفي مسلم رواية أخرى: تربيع التكبير. ثم ذكر المحل المختلف فيها، فذكر أن الْمَشْهُورِ رفع الصوت بالتكبير ابتداء، واحرز من التكرير آخر الأذان فإنه اتفق على رفع الصوت فيه. وما ذكر أنه الْمَشْهُورِ، كذلك ذكر صاحب الإكمال، وذكر أن عليه عمل الناس، وعبر عنه ابن بشير بالصحيح.
وذكر بعضهم أن مذهب مالك ليس إلا الإخفاء كالشهادتين. وذكر في الإكمال أنه اختلف الشيوخ في المدونة على أي المذهبين تحمل.
خليل: وظاهرها الإخفاء. وهو ظاهر الرسالة والجلاب والتلقين. والرفع مشهور باعتبار العمل في زماننا حتى في الأندلس. وقيل: هي إحدى المسائل التي خالف فيها أهل الأندلس مذهب مالك.
واعلم أن قول المؤذنين: ((الصلاة خير من النوم)) صادر عنه صلى الله عليه وسلم.
ذكره صاحب الاستذكار وغيره.
وقول عمر: اجعلها في نداء الصبح؛ إنكار على المؤذن أن يستعمل شيئا من ألفاظ الأذان في غير محله، كما كره مالك التلبية في غير الحج.
وقوله: (وَيُثْنِي: الصَّلَاةُ خَيِّرٌ مِنْ النُّوْمِ فِي الصُّبْحِ عَلَى الْمَشْهُورِ) مقابله لابن وهب: يفردها مرة. والْمَشْهُورِ: قولها لمن يؤذن لنفسه.
فائدة:
يغلط بعض المؤذنين في مواضع منها:
أن يمد الباء من أكبر فيصير أكبار. والإكبار جمع كبر، وهو الطبل؛ فيخرج إلى معنى الكفر.
ومنها: أنهم يمدون في أول أشهد إلى حيز الاستفهام، والمراد أن يكون خبرا لا إنشاء. وكذلك يصنعون في أول لفظ الجلالة.
ومنها: الوقوف على إله، وهو خطأ
ومنها: أن بعضهم لا يدغم تنوين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الراء بعدها، وهو لحن خفي عند القراء.
ومنها: أن بعضهم لا ينطق بالهاء في حي على الصلاة، ولا بالحاء في حي على الفلاح.
فيخرج في الأول إلى صلى- وهو اسم من أسماء النار- وفي الثاني إلى غير المقصود وهو الخلاء من الأرض. والله أعلم.
ويُفْرِدُ قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وأَنْكَرَ مَالِكٌ أَذَانَ الْقَاعِدِ إِلا مَرِيضاً لِنَفْسِهِ ويَجُوزُ رَاكِباً وَلا يُقِيمُ إِلا نِازِلاً ....
مقابل الْمَشْهُورِ في مختصر ابن شعبان أنه يشفع. وكره أذان القاعد لكونه مخالفا لأذان السلف. وروى أبو الفرج جوازه الأذان راكبا لكونه في معنى القائم، ولا يقيم إلا نازلا لتكون متصلة بالصلاة. وفي الجلاب رواية بجوازها راكبا.
ووَضْعُ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذْنَيْهِ فِيهِمَا وَاسِعٌ. ولا يُكْرَهُ الالْتِفَاتُ عَنِ الْقِبْلَةِ للإِسْمَاعِ، ولا يَفْصِلُ بِسَلامٍ ولا رَدَّ ولا غَيْرِهِمَا، فَإِنْ فَرّقَ بِذَلِكَ أَوْ غَيْرِهِ تَفْرِيقاً فَاحِشاً اسْتَأنَفَ
قوله: (فِيهِمَا) أي في الأذان والإقامة. قال ابن القاسم: رأينا المؤذنين في المدينة يفعلون ذلك، وأجاز مالك الدوران والالتفات عن القبلة لقصد الإسماع، وكلامه يدل على أن الْمَشْهُورِ في الأذان التوجه إلى القبلة. وفي المدونة: رأيت المؤذنين بالمدينة يتوجهون إلى القبلة في أذانهم، ويقيمون عرضا.
وفي الواضحة: عليه أن يستقبل استحبابا. وفي المجموعة: ليس ذلك عليه، أي: وجوبا. وعلى هذا فما في الكتابين متفق. ومنهم من حمله على الخلاف. قال ابن عات: ويستحب في الإقامة التوجه. وتأولوا قوله في المدونة: ويقيمون عرضا على أن الإمام كان
يخرج من جهة المغرب أو المشرق ويخرج المؤذن معه فيقيم عرضا ولا ينتظر حتى يتوجه.
قال: ولو كان خروجه طولا أو كان جالسا في المسجد أقام إلى القبلة.
وقوله: (ولا يُكْرَهُ الالْتِفَاتُ عَنِ الْقِبْلَةِ) لما في الترمزي، وصححه عن ابن أبي جحيفة عن أبيه قال: رأيت بلالا خرج إلى الأبطح فإن، فلما بلغ حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح لوى عنقه يمينا وشمالا ولم يستدير. رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
وقوله: (ولا يَفْصِلُ بِسَلامٍ) أي المؤذن والمقيم وإن كان الضمير مفردا.
وقوله: (فَإِنْ فَرَّقَ) أي أحدهما بسلام أو رد أو غير ذلك، وكان التفريق يسيرا بنى وأن كان فاحشا استأنف. ويمكن أن يكون الضمير في (فَرَّقَ) عائدا على المؤذن وحده، ويقرأ (غَيْرِهِ) بالرفع معطوف على الضمير في (فَرَّقَ).
ولا يَرُدُّ بِالإِشَارَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ بِخِلافِ الصَّلاة
الفرق بين الأذان والصلاة أن الأذان عبادة ليس لها في النفس موضع كالصلاة. فلو أجزنا فيه الرد بالإشارة لتطرق إلى الكلام بخلاف الصلاة فإنها لعظمها في النفوس لا يتطرق فيها جواز الإشارة إلى الكلام. والملبي ملحق بالمؤذن.
قَالَ بَعْضُهُمْ: ولَمْ يُسْمَعْ إِلا مَوْقُوفاً فِيهِمَا
هو ثعلب؛ أي: لم يسمع الأذان معربا وإنما سمع مجزوما بخلاف الإقامة فإنها معربة.
[47/أ].
وفي بعض النسخ بعد قوله: (مَوْقُوفاً) زيادة: فيهما؛ فيكون الضمير عائدا على كلمتي الأذان والإقامة.
وأجاز بعض الأندلسيين الوصل والوقف في التكبير من بين ألفاظ الأذان، واختار الوصل، ثم قال: والوجهان المذكورين إنما يحسنان في التكبير الأخير، وأما التكبير الأول في الأذان فإنه يحسن الفصل على غير رأي مالك الذي يرفع الصوت، وأما مالك فالمناسب على مذهبه بالإخفاء وصل التكبير.
وشَرْطُ الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونُ مُسْلِماً عَاقِلاً بَالِغاً ذَكراً، وفِي الصَّبِّي: قَوْلانِ. فَلا يُعْتَدُّ بِكَافِرٍ ولا مَجْنُونٍ ولا سَكْرَانَ ولا امْرَأَةٍ ....
إطلاق الشروط عليها أحسن من إطلاق الصفات لما تعطيه الشرطية من انتفاء المشروط عند انتفاء شرطه. والقولان في الصبي كالقولين في إمامته في النافلة.
وقوله: (فَلا يُعْتَدُّ بِكَافِرٍ) تحقيق للشرطية لئلا يتوهم أنه من شروط الكمال.
ولا يُؤَذِّنُ وَلا يُقِيمُ مَنْ صَلَّى تِلْكَ الصَّلاةَ
أي: إذا صلى صلاة فلا يؤذن ولا يقيم في تلك الصلاة لغيره كما لا يؤم غيره فيها.
أشهب: فإن فعل ولم يعلموا حتى صلوا أجزأهم.
واختلف إذا لم يصل وأذن في مسجد هل يؤذن في غيره؟ كره ذلك أشهب، وأجازه بعض الأندلسيين.
وتُسْتَحَبُّ الطَّهَارَةُ، وَفِي الإِقَامَةِ آكَدُ
أي: وتستحب الطهارة في الأذان والإقامة، واستحبابها في الإقامة آكد لاتصالها بالصلاة. واستحبت الطهارة؛ لأنه داع للصلاة. وإذا كان متطهراً بادر إلى ما دعى إليه، فيكون كالعالم العامل إذا تكلم انتفع بعلمه بخلاف ما إذا لم يكن متطهراً.
ويُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ صَيِّتاً، وَالتَّطْرِيبُ مُنْكَرٌ
لأن ظهور الثمرة في الصيت أكثر، إذ القصد من الأذان الإعلام. وألحق ابن حبيب التحزين بالتطريب.
وقوله: (وَالتَّطْرِيبُ مُنْكَرٌ) يعني: إذا غير حروف الأذان كمد المقصور وقصر الممدود؛ لأنه ينافي الخشوع، وإلا فتحسين الصوت بالذكر والقرآن مندوب. وروى الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم كان له مؤذن يطرب في أذانه، فقال صلى الله عليه وسلم:((الأذان سهل سمح، فإن كان أذانك سهلا سمحا فأذن، ،إلا فلا)).
وإِذَا تَعَدَّدُوا جَازَ أَنْ يَتَرَتَّبُوا أَوْ يَتَرَاسَلُوا، وَفِي الْمَغْرِبِ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ مَرَّةً وَاحِدَةً
(يَتَرَتَّبُوا) أي واحدا بعد واحد ما لم يؤد ذلك إلى خروج الوقت.
(أَوْ يَتَرَاسَلُوا) يريد: أو يؤذن الجميع في زمان واحد، وكل منهم يؤذن لنفسه ولا يقتدي بأذان صاحبه. قاله ابن شاس وابن راشد.
وذكر الشيخ أبو عبد الله بن الحاج أن هذا هو الذي أجازه علماؤنا، ولم يجيزوا أن يذكر الجميع لفظة لفظة. ويرجحه ما قاله ابن حبيب: رأيت بالمدينة ثلاثة عشر مؤذنا وكذلك بمكة يؤذنون معا في أركان المسجد، كل واحد لا يقتدي بأذان صاحبه. نقله في النوادر.
وتُسْتَحَبُّ حِكَايَتُهُ، ويَنْتَهِي إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وقِيلَ إِلَى آخِرِهِ، فَيُعَوِّضُ عَنِ الْحَيْعَلَةِ الْحَوْقَلَةَ. وفِي تَكْرِيرِ التَّشَهُّدِ قَوْلانِ. وقَوْلُهُ: قَبْلَ الْمُؤَذِّنِ وَاسِعٌ .....
تستحب الحكاية لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول)). رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمزي، والنسائي، وابن ماجه.
والمشهور أن الحكاية تنتهي إلى قوله: وأشهد أن محمدا رسول الله. وقال ابن حبيب: إلى آخره.
وقوله: (فَيُعَوِّضُ) من تتمة الشاذ؛ أي: إذا قلنا يحكيه إلى آخره فيعرض عن قول المؤذن حي على الصلاة حي على الفرح: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ أي: ويحكي ما بعد الحيعلتين من الأذان. والشاذ أظهر؛ لأنه كذلك ورد في حديث صحيح رواه البخاري وغيره.
وإذا قلنا لا يحكيه في الحيعلتين فهل يحكيه فيها بعد ذلك التهليل والتكبير؟ خيره ابن القاسم في المدونة. وظاهر قول مالك في المدونة: الذي يقع في نفسي أنه يحكيه إلى قوله أشهد أن محمدا رسول الله، ولو فعل ذلك أحد لم أر به بأسا.
وإن تركه أولى وهذا على ما تأوله سحنون والشيخ أبو محمد؛ لأنهما تأولا ذلك على أن معناه: وإن أتم الأذان لم أر بذلك بأساً، وعلى ذلك اقتصر البراذعي.
وقال ابن يونس والباجي: الظاهر أن مراده: لو فعل ما يقع في نفسي. وصوبه بعض شيوخ عبد الحق؛ أي: لأنه المذكور، وأما تمام الأذان فليس مذكوراً.
وقوله: (وفِي تَكْرِيرِ التَّشَهُّدِ قَوْلانِ) أي في الرجيع. وأما تثنيته فلا بد منها كالتكبير. وحاصلة: هل يقول الشهادتين مثل المؤذن أربع مرات أو مرتين؟
والقول بعدم التكرار رواه ابن القاسم عن مالك.
والتكرار للداودي وعبد الوهاب.
وقوله: (قَبْلَ الْمُؤَذِّنِ وَاسِعٌ) ونحوه في المدونة. قال عنه علي: أحب إلى بعده.
قال الباجي: إن كان في ذكر أو صلاة، وكان المؤذن بطيئا فله أن يفعل قبله، ليرجع إلى ما كان فيه، وإن كان غير ذلك فالأحسن بعده؛ لأن ذلك حقيقة الحكاية.
فَإِنْ كَانَ فِي صَلاةِ فَثَالِثُهَا: الْمَشْهُورِ يَحْكِي فِي النَّافِلَةِ لا الْفَرِيضَة
هذا كلام ظاهر، والقول بأنه يحكى فيهما لابن وهب وابن وهب وابن حبيب، وقاله مالك أيضاً.
ومقابلة لسجون.
فَلَوْ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ. فَفِي بُطْلانِ الصَّلاةِ قَوْلان
أي: وكذلك حي على الفلاح؛ يعني: وإذا قلنا يحكي في الفرض والنفل فلا يتجاوز التشهد. فإن قال: حي على الصلاة؛ فحكي المصنف في بطلان الصلاة قولين.
والقول بعدم البطلان لأبي محمد الأصيلي.
والقول بالبطلان ذكره عبد الحق عن غير واحد من شيوخه، وهو قول ابن القصار واستظهر. قال سند: وهو أصل المذهب؛ لأنه قول غير مشروع في الحكاية خارج الصلاة، فأخرى ألا يكون مشروعا في الصلاة، [47/ب] والجاهل في الصلاة كالعامد.
ولا يُؤَذِّنُ لِجُمُعَةٍ ولا غَيْرِهَا قَبْلَ الْوَقْتِ إِلا الصُّبْحَ فَإِنَّ مَشْهُورَهَا: يَجُوزُ إِذَا بَقِيَ السُّدُسُ. وقِيلَ: إِذَا خَرَجَ الْمُخْتَارُ. وَقِيلَ: إِذَا صُلِّيَتِ الْعِشَاءُ ....
جاز تقديمه في الصبح لما في الصحيح ((إن بلالاً ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم))، وكان رجلا أعمى، لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت. رواه مالك، والبخاري، ومسلم.
وتأول ابن العربي القول الثالث بأن معناه: إذا صليت العشاء آخر وقتها المختار، الثلث أو النصف فيرجع بهذا التأويل إلى القول الثاني، وفيه نظر؛ لأن الشيوخ حكوه ثالثا. وأيضاً فقد حكى الباجي والمازري هذا القول، ولو صليت العشاء في أول الوقت، ونسباه للوقار.
وزاد بعضهم قولاً رابعاً عن ابن عبد الحكم: أنه يؤذن لها إذا بقي الثلث الآخر.
ولِلصَّلاةِ شُرُوطٌ، وفَرَائِضُ، وسُنَنٌ، وفَضَائِلُ
الفرق بين الشرط والفرض أن الشرط خارج عن الماهية والفرض داخل فيها.
فَالشُّرُوطُ: طَهَارَةُ الْخَبَثِ ابْتِدَاءً ودَوَاماً فِي الثّوْبِ والْبَدَنِ والْمَكَانِ عَلَى الْخِلافِ الْمُتَقَدِّم
المكان المطلوب طهارته للصلاة ما تماسه الأعضاء. قاله في الذخيرة.
وقوله: (ابتداء) أي قبل الدخول في الصلاة. و (دواما) أي بعد الدخول فيها، ويحتمل أن يريد بقوله:(على الخلاف المتقدم) الخلاف في الوجوب، أي هل مع الذكر أو مطلقاً، وينحمل عوده على الدوام؛ لأنه قد تقدم الخلاف إذا ذكر المصلي النجاسة في الصلاة ويحتمل أن يريد المجموع.
الثَّانِي: طَهَارَةُ الْحَدَث
أي: ابتداء ودواما.
الثَّالِثُ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وفِي الرَّجُلِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: السَّوْءَتَانِ خَاصَّةً، ومِنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ، والسَّتر حَتَّى الرُّكْبَةِ. وقِيلَ: سَتْرُ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَاجِبٌ
وسيأتي الكلام على شرطية ستر العورة.
وقوله: (وفِي الرَّجُلِ) تقديره: وفي عورة الرجي.
فالأول منها حكاه اللخمي وابن شاس، ولم يعزواه، ولم أره معزوا. قال صاحب اللباب: وهو ظاهر قول أصبغ؛ لأنه قال: لو صلى رجل منكشف الفخذ لم يعد.
والثاني: من السرة إلى الركبة ولا يدخلان. قال الباجي: وإليه ذهب جمهور أصحابنا.
قال صاحب الإشارة في العمدة: وهو الْمَشْهُورِ.
والثالث: أن السرة والركبة داخلتان في العورة.
وقال سند: مقتضى النظر أن العورة السوءتان وأن الفخذ حريم لهما.
وفي الجلاب رابع، وهو قوله: وعورة الرجل فرجاه وفخذاه.
وقوله: (وقِيلَ: سَتْرُ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَاجِبٌ) أي: ستر كل ما يستره القميص، وليس مراده الرأس ونحوه. ولا يريد هذا القائل أن جميع البدن عورة. ألا ترى أن المصنف حكى في العورة ثلاثة أقوال وجعل هذا القول خارجا عنها. وهذا القول أخذه أبو الفرج من قول مالك في الكفارة إذا كسا المساكين كسا المرأة درعا وخمارا، والرجل ثوبا وذلك أدنى ما تجزئ به الصلاة. ورده المازري بجواز أن يكون مراد مالك أقل ما يجزئ في الفصل.
وعَوْرَةُ الحُرَّةِ: مَا عَدَا الْوَجْهَ والْكَفَّيْن
هذا بالنسبة إلى الرجل، وأما حكمها مع النساء فالْمَشْهُورِ أنها كحكم الرجل مع الرجل، وقيل كحكم الرجل مع ذوات محارمه، وقيل كحكم الرجل مع الأجنبية ومقتضى كلام سيدي أبي عبد الله بن الحاج أن هذا الخلاف إنما هو في المسلمة مع المسلمة، وأما الكفارة فالمسلمة معها كالأجنبية مع الرجل اتفاقا، وحكم المرأة فيما تراه من الأجنبي كحكمه فيما يراه من ذوات محارمه. قال في البيان في باب النكاح: وقيل كحكمه فيما يراه منها.
قال: وهو بعيد. قال: ويلزم عليه ألا ييمم النساء الرجال الأجنبيين إلا إلى الكوع. وهو مما لا يوجد في شيء من مسائلها. وحكم المرأة فيما تراه من ذوي محارمها كالرجل مع الرجل.
والأَمَةُ كَالرَّجُلِ بِتَأكُّدٍ
أي: وعورة الأمة كعورة الرجل مع تأكد، والباء للمصاحبة. وما ذكره مخالف لما قاله في المقدمات: لا خلاف في أن الفخذ من الأمة عورة، وإنما اختلف في الفخذ من الرجل.
ومِنْ ثَمَّ جَاءَ الرَّابِعُ الْمَشْهُورِ: إِذَا صَلَّيَا بَادِيَيِ الْفَخِذَيْنِ تُعِيدُ الأَمَةَ خَاصَّةً فِي الْوَقْت
أي: ومن محل التأكد؛ لأن (ثَمَّ) من ظروف المكان. وظاهره أن الأقوال الأربعة: يُعيدان أبداً، لا يُعيدان في الوقت ولا غيره، يُعيدان في الوقت، تعيد الأمة دون الرجل وهو الْمَشْهُورِ.
ولعل الخلاف مخرج على أن الفخذ عورة أولا؟ ولم أر ما حكاه من الأقوال، وإنما رأيت ما ذكره أنه الْمَشْهُورِ. ونقله التونسي، واللخمي، وابن يونس عن أصبغ.
ونقل اللخمي عن أشهب ما يقتضي إعادة الرجل إذا صلى بادي الفخذين، ولفظه: قال أشهب فيمن صلى عريانا، أو في ثوب يصف، أو في قميص لا يبلغ الركبتين، أو يبلغهما فإذا سجد انكشف عورته: أعاد ما دام في الوقت. فرأى أن ستر السوءتين سنة، وأن الفخذ عورة. النتهى.
خليل: ولا يلزم ما قال أنه رأى ستر السوءتين سنة لجواز أن يرى ذلك واجبا ليس بشرط، واعلم أنه إذا خشي من الأمة الفتنة وجب الستر لدفع الفتنة لا لأنه عورة.
فرع:
قال في المدونة: شأن الأمة أن تصلي بغير قناع. قال سند: اختلف في قوله: شأنها هل معناه أنها لا تندب إلى ذلك وهو الأظهر كالرجل، أو تندب وهو اختيار صاحب الجلاب. وقد كان عمر رضي الله عنه يمنع الإماء من لبس الإزار، وقال لابنه: ألم أخبر أن جاريتك خرجت في [48/ب] الإزار، وتشبهت بالحرائر، ولو لقيتها لأوجعتها ضرباً.
فإن قيل: لم منع عمر الإماء من التشبيه بالحرائر؟ فجوابة أن السفهاء جرت عادتهم بالتعرض للإماء، فخشي عمر رضي الله عنه أن يلتبس الأمر فيتعرض السفاء للحرائر، فتكون الفتنة أشد، وهو معنى قوله تعالى:{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]
أي: يتميزن بعلامتهن عن غيرهن.
وأُمُّ الْوَلَدِ آكَدُ مِنْهَا، ولِذَلِكَ قَالَ: إِذَا صَلَّتْ بِغَيْرِ قِنَاعٍ فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ تُعِيدَ فِي الْوَقْتِ بِخِلافِ الْمُدَبَّرَةِ والْمُعْتَقِ بَعْضُهَا، والْمُكَاتَبَةُ ....
الإعادة في حق أم الولد أخف منها في حق الحرة نص عليه في المدونة. وما ذكره في المكاتبة هو الْمَشْهُورِ، وألحقها في الجلاب بأم الولد.
ورَاسُ الْحُرَّةِ وصَدْرُهَا وأَطْرَافُهَا كَالْفَخِذِ لِلأَمَة
قوله: (كَالْفَخِذِ لِلأَمَةِ) أي فتعيد في الوقت. قال ابن الجلاب: فإن صلت الحرة مكشوفة الرأس أعادت في الوقت استحبابا، وإن خرج الوقت فلا إعادة عليها. وأطرافها بخلاف جسدها بدلالة جواز النظر إلى الأطراف من ذوات المحارم.
وتُؤْمَرُ الصَّغِيرَةُ بسُتْرَةِ الْكَبِيرَة
أي: تندب الصغيرة التي تخاطب بالصلاة أن تستر من جسدها ما تستره الكبيرة. قال مالك: كبنت إحدى عشرة، واثنتي عشرة. قال أشهب: فإن صلت بغير قناع أعادت الوقت. وكذلك الصبي يصلي عريانا. وإن صلينا بغير وضوء أعادا أبداً. وقال سحنون: يُعيدان في القرب لا بعد اليومين والثلاثة. اللخمي: إن كانت بنت ثماني سنين كان الأمر أخف.
والْمُتَنَقِّبَةُ لا تُعِيدُ
لأنها فعلت ما أمرت به وزادت إلا أنها فعلت فعلا مكروها إذ هو من الغلو.
فَلَوْ طَرَأَ عِلْمٌ بِعِتْقٍ فِي الصَّلاةِ لِمُنْكَشِفَةِ الرَّاسِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: تَتَمَادَى ولا إِعَادَةَ إِلا أَنْ يُمْكِنَهَا السَّتْرُ فَتَتْرُك.
سَحْنُونٌ: تَقْطَعُ. أَصْبَغُ: إِنْ كانَ الْعِتْقُ قَبْلَ الصَّلاةِ فَكَالْمُتَعَمِّدَةِ تُعِيدُ فِي الْوَقْتِ كَنَاسِي الْمَاءِ يُعيد أبداً، وإِلا لَمْ تُعِدْ مطلقاً كَوَاجِدِ الْمَاءِ ....
اعلم أن لهذه المسألة صورتين: إحداهما: أن يطرأ العتق في الصلاة، وتعلم به. ثانيهما: أن يطرأ العتق قبل الصلاة، ولا تعلم به إلا في الصلاة.
والظاهر أن المصنف تكلم عليهما؛ ولذلك ذكر قول أصبع تفصيلا. وعلى هذا فقوله: (فِي الصَّلاةِ) ظرف لـ (عِلْمٌ) لأن طروء العلم في الصلاة أعم من أن يكون العتق في الصلاة أو قبلها.
ونقل ابن رشد في بيانه الخلاف في الصورتين، قال: ويتحصل في المسألة أربعة أقوال: أحدهما: إن استترت في بقية الصلاة أو لم تقدر على الاستتار فيها أجزأتها صلاتها، فإن قدرت على الاستتار فلم تفعله أعادت في الوقت. وهو قول ابن القاسم في العتبية. والاستتار عليها في بقية الصلاة على هذا القول واجب مع القدرة، وساقط مع عدمها.
والقول الثاني: أنها إذا استترت في بقية صلاتها أجزأتها، فإن لم تفعل أعادت في الوقت كانت قادرة على ذلك أو لم تكن. وهو قول ابن القاسم أيضاً في رواية موسى عنه.
والاستتار على هذا القول في بقية الصلاة واجب عليها بكل حال. قال ابن القاسم في هذه الرواية بإثر قوله: إن استترت أجزأها: وأحب إلى أن لو جعلتها نافلة، وإن كانت ركعة شفعتها وسلمت، كمن نوى الإقامة بعد أن صلى ركعة.
والقول الثالث: أن الصلاة لا تجزئها وإن استترت لبقيتها فتقطع وتبتدئ، وإن لم تفعل أعادت في الوقت. وهو قول سحنون. ووجهه أنه قد حصل جزء من صلاتها بغير قناع بعد عتقها، أو بعده وبعد وصول العلم إليها بذلك.
والقول الرابع: الفرق بين أن تعتق في الصلاة أو يأتيها الخبر بعتقها بعد أن دخلت فيها فإن عتقت فيها لم يجب عليها استتار في بقيتها إلا استحبابا إن قدرت عليه، وإن لم تفعل فلا إعادة عليها، وإن أتاها الخبر بعتقها بعد أن دخلت في الصلاة لم يجزها، وإن استترت في بقيتها فتقطع وتبتدئ وإن لم تفعل أعادت في الوقت- وهو قول أصبع- فيحكم لها بحكم الحرة من يوم عتقت. ولم يحكم لها به ابن القاسم إلا من حين وصول
الخبر بذلك إليها، وهو على اختلافهم في المنسوخ هل يكون منسوخا بلفظ الناسخ، أو بوصول العلم به. انتهى.
وأنكر رحمة الله على من خصص الخلاف بما إذا أعتقت في الصلاة، والله أعلم.
وفرض المصنف المسألة في منكشفة الرأس تبعا لفرض العتيبة، وهو أحسن من قول غيره إذا افتتحت الصلاة بما لا يجزئ الحرة من اللباس.
فإذا قلت: لم شبه أصبغ صورة بأخرى، وخالف بينهما في الحكم.
فالجواب أن أصبغ إنما قصد في هذه المسألة أنه لا ينبغي أن يسوي في الحكم بين من يكون من أهل الخطاب بالشرط قبل دخوله في العبادة، وبين من لا يكون مخاطبا، بل دخل في العبادة وهو من غير أهلها. والأول غير معذور والثاني معذور. وإذا تم هذا فقصارى الأمة التي طرأ لها العلم بالعتق قبل الصلاة – وهي في الصلاة – أن تكون فعلت ذلك متعمدة، ومن فعلت مثل ذلك – أعني صلت مكشوفة الرأس – فإنها تعيد في الوقت ولا كذلك في مسألة التيمم؛ إذ نسيانه للشرط لا يعذر به، فتكون في الإعادة كم افتتحها [48/ب] بذلك فيُعيد أبداً.
وكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ يَجِدُ ثَوْباً، وقِيلَ: يَتَمَادَى ويُعيد
أي: ففيها قولان، وقد نقلهما سند لما تكلم على مسألة الأمة والعريان. فقال ابن القاسم: تستر رأسها المكشوف، وتتمادى إن كانت السترة قريبة وهو المشهور عندنا، فإن بعدت فقيل تتمادى، وقيل تقطع. فإن قربت ولم تستتر، فقال ابن القاسم: تعيد في الوقت وكذلك العريان، وقال سحنون: يقطعان.
وكذلك ذكر في النوادر القولين، وكذلك قال ابن عطاء الله: المشهور في العريان أنه يستر، ويتمادى، وقول ابن عبد السلام المنقول في هذه المسألة القطع مطلقاً ليس بظاهر.
وقوله: (وقِيلَ: يتَمَادَى ويُعيد) اختلف ضبط النسخ. ففي بعضها: يُعيد بالياء المثناة من أسفل فيكون عائدًا على العريان، وفي بعضها تتمادى وتعيد بالتاء المثناة من فوق فيكون عائداً على الأمة.
ولعله يريد القول الثاني الذي نقله صاحب البيان، ويكون معنى كلامه: وقيل: إن الأمة تتمادى مطلقاً سواء أمكنها الاستتار أم لا وتعيد: يريد إذا لم تستتر، وأما إن استترت أجزأها. وعلى هذا يكون المصنف ذكر الأربعة التي ذكرها في البيان، والله أعلم.
وفِي وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ قَوْلانِ، وعَلَى النَّفْيِ فَفِي وُجُوبِهِ لِلصَّلاةِ قَوْلانِ. وقِيلَ: بَلِ الْقَوْلانِ فِي شَرْطِيَّتِهِ مطلقاً ....
أشار اللخمي إلى أن العورة في هذا الفرع السوءتان وما والاهما خاصة، ولا يدخل في ذلك الفخذ من الرجل، وكذلك قال ابن عبد السلام.
وأعلم أنه لا خلاف في وجوب ستر العورة عن أعين الناس، وأما الخلوة فإن لم يكن في صلاة فحكى اللخمي فيه الاستحباب. وقال ابن بشير: الذي سمعناه في المذكرات قولان: الوجوب والندب، والوجوب أظهر لقوله صلى الله عليه وسلم:"إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين يقضي الرجل إلى أهله، استحيوا منهم وأكرموهم" رواه الترمذي، قوله عليه الصلاة والسلام:"إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى زوجه"، ونحو ذلك كالاغتسال.
قوله: وعلى نفيه؛ أي: إذا فرعنا على أنه لا يجب في غير الصلاة، فهل يجب للصلاة أم لا؟ وهذه طريق اللخمي، ورد عليه ابن بشير، وقال: لا خلاف في الوجوب، وإنما الخلاف هل هو شرط في صحتها أو لا؟ ينبني عليهما إن صلى مكشوف العورة فعلى الشرطة يُعيد أبداً، وعلى نفيها يُعيد في الوقت. وهذا معنى قوله:(وقِيلَ: بَلِ الْقَوْلانِ فِي شَرْطِيَّتِهِ مطلقاً).
وقوله: (مطلقاً): أي: في الخلوة والجلوة
وقال ابن شافين وابن عطاء: الذي قاله ابن بشير ضعيف، فقد ذكر عبد الوهاب أن أبا إسحاق وابن بكير والشيخ أبا بكر الأبهري ذهبوا إلى أن السترة من سنن الصلاة، وهذا يعضد ما حكاه اللخمي ويحققه. انتهى. وقال صاحب القبس الْمَشْهُورِ: إنه ليس من شروط الصلاة؛ ولذلك قال التونسي أن الستر فرض في نفسه ليس من شروط الصلاة. وإذا كان الْمَشْهُورِ نفي الشرطية لم يحسن عد المصنف وغيره الستر من شروط الصلاة؛ لأنه إنما يأتي على الشاذ، وهذا ما وعدناك فيما يتعلق بالشرطية، والله أعلم.
نعم يحسن على ما قال ابن عطاء الله فإنه قال: والمعروف من المذهب أن ستر العورة المغلظة من واجبات الصلاة وشرط فيها مع العلم والقدرة لأنه عليه الصلاة والسلام قال: "لا يقبل صلاة حائض إلا بخمار"، انتهى. رواه أحمد وأبو داود والحاكم وقال: على شرط مسلم. ورواه ابن خزيمة في صحيحه. واحتج الذاهب للشرطية بقوله تعالى: (زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف: 31] فإن كان المراد من الزينة الحقيقة فستر العورة لازمها، وإن كان المراد المجاز وهو ستر العورة على ما قاله غير واحد من المفسرين فهو المطلوب. قال المازري: وهذه الآية قد كثر كلام الناس عليها، فأشار مالك في المستخرجة إلى أن المراد بالزينة الأردية وبالمساجد الصلوات في المساجد. وذكر ابن مزين أن المراد بالمساجد الصلوات. وقال القاضي إسماعيل: ذهب قوم إلى وجوب لباس الثياب في الصلاة تعلقاً بهذه الآية، والآية إنما نزلت رداً لما كانوا يفعلونه من الطواف عراة تحريماً للباس، ألا تراه تعالى يقول:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32].
والسَّاتِرُ الشَّفُّ كَالْعَدَمِ
لظهور العورة معه؛ كالبندقي الرفيع.
وما يَصِفُ لِرِقَّتِهِ أَوْ لِتَحْدِيدِهِ كَالسَّرَاوِيلِ فَمَكْرُوهٌ بِخِلافِ الْمِئْزَرِ
قال في النوادر: ومن الواضحة: ويكره أن يصلى في ثوب رقيق يصف، أو خفيف يشف، فإن فعل فليعد، قال مالك: إلا الرقيق الصفيق الذي لا يصف إلا عند ريح، فلا بأس به. انتهى.
وهذا مخالف لكلام المؤلف؛ لأنه جعل في النوادر ما يصف قسمين، وأطلق المصنف فيه، ثم إنه جعل في النوادر ما يصف دائماً كالشاف، لاسيما وقد قال مالك في هذه الرواية إثر قوله فليعد: لأنه شبيه بالعريان. لكن ذكر في الجواهر أن الواصف مكروه، ولا يصل إلى البطلان.
وفي تهذيب الطالب: ومن العتيبة قال ابن القاسم: إذا صلت المرأة بغير خمار أو بثوب يصف أعادت في الوقت.
واختلف إذا صلى بسراويل، ففي المدونة لا إعادة عليه في الوقت ولا في غيره، وإن كان واجدا للثياب.
وقال أشهب: يُعيد في التبان والسراويل في الوقت
والْعَاجِزُ يُصَلِّي عُرْيَاناً
هذا بيّن، على أن ستر العورة غير شرط، وكذلك على أنها شرط مع القدرة، كما تقدم من كلام ابن عطاء الله. ابن القاسم وابن [49/أ] زرب: إذا صلى العاجز عرياناً فلا يُعيد، بخلاف المصلي بثوب نجس، واستشكل. وفرق ابن عطاء الله بأن المصلي بنجاسة قادر على إزالتها بأن يصلي عرياناً، وإنما رجحنا ستر العورة على إزالة النجاسة، مع أنه قادر على تركها، بخلاف المصلي عرياناً لعدم القدرة على الستر.
قال في الكافي: ومن وجد ما يواري به وارى به قبله، وقد قال بعض أصحابنا: يواري أيَّ فرجيه شاء. انتهى.
وقال الطرطوشي في التعلقة: واختلف إذا لم يجد ما يستر به إلا الطين هل يتمعك به ويستتر أم لا؟ واختلف إذا وجد ما يستر به إحدى السوأتين، فقيال: يستر القبل، وقيل: الدبر، وإن وجد حشيشا استتر به. انتهى
فَإِنِ اجْتَمَعُوا فِي ضَوْءِ انْفَرَدُوا، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَقَولانِ: الْجُلُوسُ إِيمَاءً، والتَّمَامُ وغَضُّ الْبَصَرِ، وفِي الظَّلامِ كَالْمَسْتُورِينَ ....
أي: إذا اجتمع عراة في ضوء نهار أو ليل مقمر انفردوا، أي: يتباعدوا، بحيث لا ينظر بعضهم إلى بعض، وصلوا أفذاذاً.
وقال ابن الماجشون: يصلون جماعة صفاً واحداً، وإمامهم في الصف، يعني ويغضون أبصارهم.
فإن لم يمكن تباعد بعضهم من بعض لخوف أو غيره.
فقولان: الجلوس إيماء؛ أي: للركوع والسجود، والتمام؛ أي: تمام الصلاة على الهيئة المعهودة من القيام والركوع والسجود، أي مع غض البصر. وفي بعض النسخ: والقيام، والأول أحسن
واختار عبد الحق وغيره التمام؛ لما في الجلوس من ترك فرض القيام
ويَسْتَتِرُ الْعُرْيَانُ بِالنَّجِسِ
أي: إذا لم يجد غيره. ابن عبد السلام: واتفق المذهب في ذلك فيما علمت.
وبِالْحَرِيرِ عَلَى الْمَشْهُورِ، ونَصَّ ابْنُ الْقَاسِمِ وأَشهب فِي الْحَرِيرِ يُصَلَّي عُرْيَاناً
أي: الْمَشْهُورِ إذا لم يجد إلا الحرير أن يصلي فيه، ومقابل الْمَشْهُورِ قول ابن القاسم وأشهب، واستبعد بأن الحرير إنما يمنع خشية الكبر والسرف، وعند الضرورة يزول ذلك.
فَإِنِ اجْتَمَعَا فَالْمَشْهُورِ لابْنِ الْقَاسِمِ: بِالْحَرِيرِ. وأَصْبَغَ: بِالنَّجِسِ
أي: فإن اجتمع الحرير والنجس، ووجه قول ابن القاسم أن النجاسة تنافي الصلاة بخلاف الحرير.
ووجه قول أصبغ أن الحرير يمنع في الصلاة وفي غيرها، والنجس إنما يمنع في الصلاة، والممنوع في حال دون أخرى أولى من الممنوع مطلقاً.
ونص أصبغ في الموازية على أنه إذا صلى بالنجس حالة انفراده يُعيد في الوقت، وإن صلى بالحرير لا إعادة عليه. وهو خلاف الْمَشْهُورِ؛ إن الْمَشْهُورِ إذا صلى بالحرير يُعيد.
وقد يسق للنفس إنكار قول أصبغ في أمره بالإعادة في حق من صلى بالنجس وعدم أمره بالإعادة في حق من صلى بالحرير، وهو يقتضي أن الحرير أخف، وقد قال بتقديم النجس على الحرير في الاجتماع فيكون أخف.
المازري: وعندي أنه اعتبر في الإعادة ما يختص بالنواهي في الصلاة دون ما لا يختص بها، واعتبر بما يؤمر به من اللباس ابتداءّ عموم النهي عن اللباس. فلما كان النهي عن الحرير مطلقاً، والنهي عن النجس في الصلاة، كان النجس في حكم اللباس أخف؛ لجوازه في الغالب، وفي الإعادة أثقل؛ لاختصاص النهي عنه في الصلاة.
وخَرَجَ فِي الْجَمِيعِ قَوْلانِ
يعني: خرج لابن القاسم في كل من الصور المتقدمة قولان، أي: في صلاة العريان بالحرير وفي صلاته أيضاً بالنجس، وفي صلاته عرياناً أو بالنجس إذا وجدهما؛ وذلك لأن
ابن القاسم قدم الحرير على النجس في الاجتماع، والنجس مقدم على التعري، فيلزم تقديم الحرير على التعري؛ لأن مقدم المقدم مقدم، وأيضاً فإن قدم التعري على الحرير في الانفراد، والحرير مقدم على النجس في الاجتماع، فيلزم أن يصلي إذا وجدهما عرياناً؛ لأن مقدم المقدم مقدم، وأيضاً فإن قدم النجس على التعري في حالة الانفراد، والتعري في الانفراد مقدم على الحرير، فيلزم تقديم النجس على الحرير في الاجتماع، لأن مقدم المقدم مقدم، والله أعلم.
والْمَذْهَبُ: يُعيد فِي الْوَقْتِ
أي: إذا صلى بحرير أو نجس، فإنه يُعيد بغيرهما في الوقت، واختلف في الوقت فقال ابن القاسم: الاصفرار في الظهر والعصر.
وقال في النوادر: وروى ابن وهب عن مالك فيمن صلى وفي ثوبه أو جسده نجاسة أنه يُعيد وقت غروب الشمس، وقال بها عبد الملك وابن عبد الحكم.
قال في البيان: ومعنى ذلك أن يدرك الصلاة كلها قبل الغروب، وأما إن لم يدرك قبل الغروب إلا بعضها فقد فاتته.
ونص سحنون على أنه إذا صلى بأحدهما أنه لا يُعيد بالأخرى.
ونقل المازري عن أشهب أنه أمر من صلى بالنجس أنه يُعيد في الوقت إذا وجد الحرير الطاهر.
ولَوْ صَلَّى بالْحَرِيرِ مُخْتَاراً عَصَى، وَثَالِثُهَا: تَصِحُّ إِنْ كَانَ سَاتِراً غَيْرَهُ
لا شك في عصيانه عند جهور العلماء، والظاهر صحة الصلاة لوجود ستر العورة.
وجمع المصنف مسألتين:
إحداهما: أن لا يكون عليه غيره.
والثانية: أن يكون عليه غيره، فذكر فيهما ثلاثة أقوال، ومقتضى كلامه أن فيهما قولاً بالإعادة أبداً، وفيه نظر لأن اللخمي والمازري وابن بشير وسنداً وابن شاس أنهم حكموا الإعادة أبداً إذا لم يكن عليه غيره. وهو قول ابن وهب وابن حبيب.
وقال أشهب: في الوقت.
وقال ابن عبد الحكم: لا إعادة.
وأما إن كان عليه غيره فقال سحنون: يُعيد في الوقت.
وقال أشهب وابن حبيب: لا إعادة.
وكذلك القولان لو صلى بخاتم ذهب أو سوار، أو تلبس بمعصية في الصلاة، كما لو نظر إلى عورة آخر، أو أجنبية، [49/ب] أو سرق درهماً.
ونقل عن سحنون في ذلك كله البطلان.
فانظر هل يؤخذ منه قول بالبطلان، وإن عليه غيره أو لا؟ لأن الحرير مختلف فيه في الأصل.
فرع:
لو صلى وفي كمه ثوب حرير، أو حلي ذهب فلا شيء عليه، ولا يأثم بذلك. قال سحنون: إلا أن يشغله. ابن أبي زيد: فيُعيد أبداً.
وفِيهَا: ولَوْ صَلَّى وهُوَ يُدَافِعُ الأَخْبَثَيْنِ بِقَرْقَرَةٍ ونَحْوِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِمَّا يَشْغَلُ أَوْ يُعَجِّلُ أَحْبَبْتُ لَهُ الإِعَادَةَ أبداً ......
هذه المسألة لا يتعلق لها بهذا الفصل، ولعله أتى بها لينبه على البطلان بالمعصية فيها، فيؤخذ منه البطلان في مسألة من صلى بالحرير، ويحتمل أن يكون أتى بها ينبه على إشكالها؛ لأنه استحب الإعادة أبداً، والقاعدة في الإعادة المستحبة إنما تكون في الوقت.
ويجاب عن هذا بأن معنى قوله: أحببت، أي: أوجبت.
وهذه المسألة عند القرويين على ثلاثة أوجه: إن كان شيئاً خفيفاً فلا شيء عليه، وإن صلى به وهو ضام بين وركيه فإنه يؤمر بالقطع، فإن تمادى أعاد في الوقت. وإن كان مما يشغله عن استيفائها أعاد أبداً، وكذلك قال ابن بشير: إن شغله عن الفرائض أعاد أبداً، وعن السنن في الوقت. ويجري على ترك السنن متعمداً، وعن الفضائل لا شيء عليه.
وإذا خرج لحقن فليجعل يده على أنفه لئلا يخجل، رواه ابن نافع عن مالك.
ومَنْ صَلَّى مُحْتَزِماً أَوْ جَمَعَ شَعَرَهُ أَوْ شَمَّرَ كُمَّيْهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِبَاسَهُ أَوْ كَانَ فِي عَمَلٍ فَلا بَاسَ بِهِ .......
حاصله: إنما يكره ذلك إذا كان لأجل الصلاة، وأما لو كان لباسه ذلك، أو كان لأجل شغل تم حضرته الصلاة، وهو على تلك الحالة فإنه يصلي من غير كراهة.
الرَّابِعُ: الاسْتِقْبَالُ، وهُوَ شَرْطٌ فِي الْفَرَائِضِ إِلا فِي الْقِتَالِ، وفِي النَّوَافِلِ إِلا فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ لِلرَّاكِبِ فَيَجُوزُ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ دَابَّتُهُ ابْتِدَاءً وَدَوَاماً، وِتْراً أَوْ غَيْرَهُ بِخِلافِ السَّفِينَةِ فَإِنَّهُ يَدُورُ لَهَا. وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ كَالدَّابَّةِ، وَيُومِئُ الرَّاكِبُ بالرُّكُوعِ، وَبالسُّجُودِ أَخْفَضَ مِنْهُ ......
قوله: (إِلا فِي الْقِتَالِ) أي: حالة الالتحام، وأما في صلاة القسمة فاشتراط الاستقبال باق.
وقوله: (الطَّوِيلِ) أي: سفر القصر. احترز بالراكب من الماشي فإنه لا يجوز له التنقل عندنا.
ومراده بالنوافل ماعدا الفرض، ولذلك قال وتراً أو غيره.
وقوله: (ابْتِدَاءً وَدَوَاماً)؛ أي: سواء ابتدأ الصلاة إلى القبلة ثم تحول عنها، أو افتتحها إلى غيرها، وهذا هو الْمَشْهُورِ.
وقال ابن حبيب: يفتتحها إلى القبلة ثم يصلي كيفما أمكنه.
ولا فرق على الْمَشْهُورِ بين أن يكون في محمل أو لا، أشار إلى ذلك في العتبية، وخفف مالك فيها إن أعرض بوجهه عن وجه دابته لحر الشمس، أن يتنفل كذلك.
والفرق على الْمَشْهُورِ بين السفينة والدابة: إمكان الدوران في السفينة، والْمَشْهُورِ مذهب المدونة، لكن تأولها ابن التبان على أن ذلك لمن يصلي إيماء، وأما من يركع ويسجد فهي كالدابة. وخالفه أبو محمد وقال: ليست كالدابة، ولا يتنفل فيها إلا إلى القبلة وإن ركع وسجد. ذكره في تهذيب الطالب.
وقوله: ويومئ: قال اللخمي: ويكون إيماؤه إلى الأرض لا إلى الراحلة.
قال ابن حبيب: ولا يجوز أن يسجد على الكور ولا على القربوس، وليتوجه لوجه دابته، وله إمساك عنانها، وضربها بالسوط، وتحريك رجليه إلا أنه لا يتكلم ولا يلتفت.
قال اللخمي: قال مالك: إذا أومأ للسجود يرفع العمامة من جبهته.
ولا يُؤَدَّى فَرْضٌ عَلَى رَاحِلَةٍ، فَإِنّ كَانَتْ مَعْقُولَةً وأُدِّيَتْ كَالأَرْضِ فَفِي كَرَاهِتَها قَوْلانِ
يعني اختياراً، وهو متفق عليه، ولذلك ردوا على أبي حنيفة قوله بوجوب الوتر مع صحة صلاته عليه الصلاة والسلام الوتر على الراحلة.
واعترض بأن الوتر وقيام الليل كانا واجبين عليه صلى الله عليه وسلم.
وأجاب في الذخيرة عن هذا الاعتراض بأن الوتر وقيام الليل لم يكونا واجبين عليه عليه السلام في السفر.
والخلاف في قوله: وأديت كالأرض؛ خلاف في حال. ومذهب المدونة الكراهة.
قال في البيان: وروى ابن القاسم عن مالك إجازة الصلاة على المحمل إذا لم يقدر على السجود ولا على الجلوس بالأرض. وقال ابن عبد الحكم: يجوز وإن قدر على الجلوس. انتهى. سحنون: وإن صلى على المحمل لشدة مرض أعاد أبداً.
وأما الصلاة على السرير فلا خلاف في جوازها، قاله في البيان.
والْمَشْهُورِ جَوَازُ النَّفْلِ فِي الْكَعْبَةِ لا الْفَرْضِ، وفِيهَا: ولا الْوِتْرِ ولا رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَإِذَا صَلَّى فَحَيْثُ شَاءْ .....
الْمَشْهُورِ التفرقة كما ذكر، فتجوز النافلة غير المؤكدة، ولا يجوز الفرض ولا السنن، والنافلة المؤكدة، وهي ركعتا الفجر والوتر.
ومقابل الْمَشْهُورِ بالجوازفيهما، وهو قول ابن عبد الحكم، وقد أجاز الصلاة على ظهرها، وهو أشد.
واستحب أشهب أن لا يفعل ذلك في الفرض ابتداءً، وصوبه اللخمي؛ لأنه لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها النافلة وجبت مساواة الفريضة إلى أمرهما في الحضر واحد من جهة الاستقبال. فمنع في المدونة أن يصلي فيها أو في الحجر ركعتي الطواف الواجب.
وقوله: (فَإِذَا صَلَّى فَحَيْثُ شَاءْ)، هكذا روي عن مالك، وروي عنه أيضاً: إنما استحب ألا يصلي إلى جهة الباب.
قال في البيان: وروي عن مالك أولاً أن يصلي فيه إلى أي ناحية شاء؛ إذ [50/ أ] لا فرق، ثم استحب بعد ذلك أن يصلي فيه إلى الناحية التي جاء أنه عليه الصلاة والسلام صلى إليها.
وفِيهَا: فَفِي الْفَرْضِ يُعيد فِي الْوَقْتِ. وحُمِلَ عَنِ النَّاسِي لِقَوْلِهِ: كَمَنْ صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ .....
إن فرعنا على قول أشهب من جواز إ يقاع الفرض فيها فلا شك في عدم الإعادة، وإن فرعنا على الْمَشْهُورِ ففي المسألة أقوال:
قال أصبغ: يُعيد أبداً.
وقال ابن حبيب: يُعيد العامد والجاهل أبداً، والناسي في الوقت.
ووقع في المدونة أنه يُعيد في الوقت، فحمله ابن يونس وجماعة على الناسي. قال المصنف: لقوله: كمن صلى لغير القبلة، أي؛ لأنه لو صلى لغير القبلة عامداً أعاد أبداً. وحمله عبد الوهاب واللخمي وابن عات على ظاهره، وأن العامد كالناسي، ويكون تشبيه مالك لمطلق الإعادة.
فإن قلت: هذا كله يناقض ما يقوله المصنف آخر الفصل: ويُعيد الناسي والجاهل أبداً على المشهور.
فالجواب: من ثلاثة أوجه:
الأول: أنهما مسألتان؛ لأن الناسي لم يستقبل شيئاً من القبلة، بخلاف من صلى فيها؛ لكونه استقبل بعضها فكان أخف، فلهذا الوجه حملها عبد الوهاب على ظاهرها.
الثاني: وإن سلمنا أنهما مسألة واحدة، فقد يكون المشهور غير ما في المدونة.
الثالث: وهو الظاهر أن التشهير الذي يأتي للمصنف ليس بظاهر، وسيأتي ذلك.
والْحِجْرُ مِثْلُهَا
يعني: في الصلاة فيه؛ لأنه جزء من البيت؛ بدليل أن من لم يطف وراءه بمنزلة من لم يطف بجميع البيت.
قال اللخمي: منع مالك الصلاة في الحجر، ولم يقل في التوجه إليه، والصلاة إليه من خارج شيئاً، وقد قيل أن الصلاة إليه لا تجزئ؛ لأنه لا يقطع أنه من البيت. ورأى اللخمي أنه لو صلى إليه في مقدار ستة أذرع لم تكن عليه إعادة؛ لتظاهر الأخبار أنه من البيت، وما زاد على ذلك فليس من البيت، وإنما زيد لئلا يكون ركناً فيؤذي الطائفين.
وذكر في البيان قولين في التوجه إليه.
والصَّلاةُ عَلَى ظَهْرِها أَشَدُّ، وقِيلَ: مِثْلُهَا. وقيِلَ: إِنْ أَقَامَ مَا يَقْصِدُهُ. وقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ قِطْعَةٌ مِنْ سَطْحِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الأَمْرَ بِبِنَائِهَا أَوْ بِهَوَائِهَا .......
الأشدية على الْمَشْهُورِ؛ لأنه هناك يُعيد في الوقت وهنا أبداً.
قال المازري: ومشهور مذهبنا منع الصلاة على ظهرها، وأنه أشد من المنع في بطنها، وأنه إذا صلى على ظهرها يُعيد أبداً بناءً على أن الأمر ببنائها.
ومنع ابن حبيب التنفل فوقها، وأجازه فيها.
وقوله: (وقِيلَ): مثلها، يعني: أنه يمنع من إيقاع الفرض عليه.
فإن فعل أعاد في الوقت، وهذا القول حكاه ابن محرز عن أشهب.
وحكى اللخمي عنه نفي الإعادة، كالصلاة فيها عنده، وهو قول ابن عبد الحكم.
وقوله: (وقِيلَ): إن أقام؛ هذا قول عبد الوهاب.
قال ابن بشير: اختلف المذهب في الصلاة على ظهر الكعبة هل هي منهي عنها على الإطلاق، أو بشرط أن لا يجعل عليها قائماً يقصده؟ اللخمي: والأول رأي الجماعة. والثاني تأويل أبي محمد على المذهب، وكأنه رأى متى أقيم عليها قائم يقصده المصلي كان كالمصلي لبنائها.
واعترضه ابن بشير بأنه إذ ذاك مستدبر لبعض سمتها، فصار كالمصلي فيها.
وحكى عنه ابن محرز أنه إذا أقيم شيء كان كالمصلي في جوفها.
فعلى هذا ما ألزمه ابن بشير هو قائل به، وعلى هذا تكون الصلاة عنده حينئذٍ جائزة؛ لأنه يجيز الصلاة فيها.
قوله: وقال أشهب .... إلخ، كذا حكاه عنه المازري.
الْمُستَقْبَلُ
يصح بكسر الباء على أنه اسم فاعل، وهو الذي يؤخذ من الجواهر، ويصح بالفتح اسم مفعول؛ لأنه ذكر ف يهذا الفصل حكم من يستقبل وحكم ما يستقبل.
والْقُدْرَةُ عَلَى الْيَقِينِ تَمْنَعُ مِنَ الاجْتِهَادِ، وعَلَى الاجْتِهَادِ تَمْنَعُ مِنَ التَّقْلِيدِ
منع الاجتهاد مع القدرة على اليقين؛ لكون الاجتهاد معرضاً للخطأ، ومنع التقليد إذا قدر على الاجتهاد؛ لكون الاجتهاد أصلاً التقليد فرع عنه، والاجتهاد مطلوب في الصحاري.
قال ابن القصار في تعليقه: والبلد الخراب الذي لا أحد فيها لا يقلد المجتهد محاربه، فإن خفيت عليه الأدلة، أو ولم يكن من أهل الاجتهاد قلدها، والبلد العامر الذي تتكرر فيه الصلاة، ويعلم أن إمام المسلمين نصب محرابه، أو اجتمع أهل البلد على نصبه، فإن العالم بالأدلة يجتهد ولا يقلد، فإن خفيت عليه الأدلة قلد محاربها، وأما العامي فيصلي في سائر المساجد.
وهَلْ مَطْلُوبُهُ فِي الاجْتِهادِ: الْجِهَةُ أَوِ السَّمْتُ؟ قَوْلانِ
القول بطلب الجهة للأبهري، والقول بطلب سمت عينها لابن القصار، قال المازري: وأشار إلى أنه لا يمتنع في كثرة المسامتين مع البعد، كما لا يمتنع ذلك في مسامته
النجوم. وهذا الذي قاله يفتقر إلى التحقيق؛ وذلك أن المتكلمين اختلفوا في الدائرة، هل يحاذي مركزها جميع أجزاء المحيط، أو إنما يحاذي من أجزائه مقدار ما ينطبق عليه ويماسه؟ فذهب النَّظَّامُ من المعتزلة إلى أن المركز يحاذي جميع [50/ب] أجزاء المحيط، واحتج في ذلك بأنك لو قصدت إلى أي جزء من أجزاء المحيط أخرجت منه خطاً يوصل إلى المركز.
ورد عليه ذلك أئمتنا المتكلمون، بأن الخطوط إذا خرجت من المركز إلى المحيط فإنها تضيق عند ابتدائها، وتنفرج عند انقطاعها، وما ذاك إلا أن ما يسامت المركز يفتقر فيه إلى تعويج الخط؛ ليمكن الاتصال. قالوا: لا يحاذي نقطة المركز من أجزاء المحيط إلا ما لو قدر منطبقاً عليها لماسها، فهذه المسألة يجب أن يعتبر فيها ما قاله ابن القصار، فيقال: إن أدرت بمسامتته الكثير مع البعد، أنهم وإن كثروا فكلهم يحاذي بناء الكعبة، فليس كما تذهب، وقد أخبرناك إنكار أئمتنا على النظام، وإن أردت أن الكعبة تقدر بمرائهم ولو كانت بحيث ترى وأن المرائي يتوهم المقابلة والمحاذاة وإن لم يكن كذلك في الحقيقة فهذا نسلمه ونسلم تمثيله لك برؤية الكواكب، وتبقى المسامتة على هذا بالبصر لا بالجسم. وذكر المازري عن أحد أشياخ شيخه أبي الطيب عبد المنعم اختيار المسامتة لا الجهات. انتهى.
والظاهر أن ابن القصار إنما أراد المسامتة بالمعنى الثاني، وبه يندفع ما أورد على القول بالمسامتة من أنه يلزم عليه ألا تصح صلاة الصف الطويل؛ فإن الكعبة طولها خمسة وعشرون ذراعاً، وعرضها عشرون ذراعاً، والإجماع على خلافه.
وكان ابن عبد السلام شيخ ابن دقيق العيد يستشكل هذا الخلاف؛ لأن محل الخلاف إنما هو فيمن بعد عن الكعبة، وأما القريب ففرضه السمت اتفاقاً، والذي بعد لا يقول أحد أن الله تعالى أوجب عليه استقبال عين القبلة ومقابلتها ومعاينتها؛ فإن ذلك تكليف ما لا يطاق؛ ولأنه كان يلزم عدم صحة صلاة الصف الطويل، بل الواجب عليه أن يبذل
جهده في تعيين جهة يغلب على ظنه أن الكعبة وراءها، وإذا غلب على ظنه بعد بذل الجهد بالأدلة الدالة على الكعبة أنها وراء الجهة التي عينها وجب استقبالها، فصارت الجهة مجمعاً عليها، والسمت الذي هو العين مجمع على عدم التكليف به، فأين محل الخلاف على هذا؟ وكان يجيب عنه فيقول: الشيء قد يجب إيجاب الوسائل وقد يجب إيجاب المقاصد، والأول كالنظر في المياه، فإنه يتوصل به إلى معرفة الطهورية، وكالسعي إلى الجمعة، والضوء للصلاة، والثاني كالأولين والصلوات الخمس، وصوم رمضان، والحج، والعمرة. وإذا تقررت هذه القاعدة فاختلف الناس في الجهة، هل هي واجبة وجوب الوسائل؟ وأن النظر فيها إنما هو لتحصيل عين الكعبة، وهو مذهب الشافعي، فإذا أخطأ في الجهة وجبت الإعادة؛ لأن القاعدة أيضاً أن الوسيلة إذا لم يحصل مقصدها، يسقط اعتبارها، أو النظر في الجهة واجب وجوب المقاصد، وأن الكعبة لما بعدت عن الأبصار، جعل الشرع الاجتهاد في الجهة هو الواجب، وهو المقصود دون عين الكعبة، فإذا اجتهد ثم أخطأ لا يجب عليه إعادة، وهو مذهب مالك، وعلى هذا فقول العلماء هو الواجب الجهة أو السمت؟ يتضمن قيداً لطيفاً، أي: هل الواجب وجوب المقاصد السمت أو الجهة؟ قولان، وإنما أطلت في هذا المحل؛ لأنه يشكل على كثير من الناس.
أَمَّا لَوْ خَرَجَ عَنِ السَّمْتِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ تَصِحَّ ولَوْ كَانَ فِي الصَّفِّ، وكَذَلِكَ مَنْ بمَكْةَ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ اسْتَدَلَّ فَإِنْ قَدَرَ بِمِشَقَّةٍ ففِي الاجْتِهَادِ تَرَدُّدٌ
قوله: (أَمَّا لَوْ خَرَجَ عَنِ السَّمْتِ) فواضح؛ لكونه خالف ما أمر به.
وقوله: (وكَذَلِكَ مَنْ بمَكْةَ) أي: فتجب عليه المسامتة لقدرته على ذلك، بأن يطلع على سطح أو غيره، ويعرف سمت الكعبة في المحل الذي هو فيه.
وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ اسْتَدَلَّ) أي كما لو كان بليل مظلم، واستدلاله بالمطالع والمغارب.
وقوله: (فَإِنْ قَدَرَ بِمِشَقَّةٍ)؛ أي: قدر على المسامتة بمشقة كما لو كان يحتاج إلى صعود السطح وهو شيخ كبير أو مريض.
والتردد حكاه ابن شاس عن بعض المتأخرين.
ووجهه: إن نظرت إلى الحرج، وهو منفي عن الدين كما قال الله تعالى، أجزت الاجتهاد، وإذا نظرت إلى أنه قادر على اليقين لم يجز له الاجتهاد.
ومَنْ بِالْمَدِينَةِ يَسْتَدِلُّ بِمِحْرَابِه صلى الله عليه وسلم، لأَنَّهُ قَطْعِيٌّ
قوله: (قَطْعِيٌّ)، يريد لأنه ثبت بالتواتر أن هذا محرابه الذي كان يصلي إليه، وإذا ثبت ذلك ثبت قطعاً أنه مسامتٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إما أن يكون أقامه على اجتهاد على القول به أو بوحي، وأياً ما كان فهو مؤد إلى القطع، أما الوحي فظاهر، وأما الاجتهاد فلأنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ، وقد روى ابن القاسم أن جبريل عليه السلام أقام للنبي صلى الله عليه وسلم قبلة مسجده.
والأَعْمَى الْعَاجِزُ يُقَلِّدُ مُسْلِماً مُكَلَّفاً عَارِفاً، فَإِنْ كَانَ عَارِفاً قَلَّدَ فِي الأَدِلَّةِ واجْتَهَدَ
العاجز، أي؛ عن التوصل لليقين والاجتهاد.
وقوله: (مُسْلِماً مُكَلَّفاً عَارِفاً) احترازٌ من الكافر والصبي والجاهل لعدم الوثوق بخبرهم، وينبغي أن يريد عدلاً؛ لأن الفاسق غير مقبول إجماعاً.
وقوله: (َإِنْ كَانَ عَارِفاً) أي: الأعمى عارفاً بالاجتهاد قلد في [51/ أ] أدلتها، كسؤاله عن كوكب كذا.
ابن عبد السلام: ولا يحتاج هنا أن يسأل مسلماً مكلفاً. وفيه نظر.
والْبَصِيرُ الْجَاهِلُ مِثلُهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ، وَلَوَ صَلَّى أَرْبَعاً لَكَانَ مَذْهَباً
…
أي: مثل الأعمى.
وفاعل (لَمْ يَجِدْ) ضمير عائد على أحد المتقدمين لا بعينه، وهما الأعمى والبصير الجاهل.
وقوله (وَلَوَ صَلَّى أَرْبَعاً لَكَانَ مَذْهَباً) هو من تمام قول ابن عبد الحكم، ومعنى (لكان مذهباً) أي: مذهباً حسناً.
فإن قيل: لم لا يتعين هذا كالشاك في صلاة من الخمس؟
فجوابه: خفة الطلب في القبلة؛ إذ قد اكتفى فيها بالظن، وشدة أمر الصلاة، وأيضاً فقد لا يتوصل إلى القطع في القبلة إذ قد لا يصادفها.
ولَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَفِي تَخْبِيِرهِ أَوْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ أَوْ تَقْلِيدِهِ ثَلاثَةُ أَقْوالٍ .....
يستغني عن قوله: (ولَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ) بما قدمه بأن القدرة على الاجتهاد تمنع من التقليد، لكن ذكره ليرتب عليه ما بعده، وأظهر الأقوال الثالث؛ لأن المجتهد هنا كالعاجز.
ومَنِ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ. وَالْوَقْتُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إِلَى الاصْفِرَارِ، بِخِلافِ ذَوِي الأَعْذَارِ فَإِنَّهُ مَا لَمْ تَغْرُبْ. ابْنُ مَسْلَمَةَ: إِلا أَنْ يَسْتَدْبرَ. ابْنُ سَحْنُونٍ: يُعيد أبداً عَلَى أَنَّ الْوِاجِبَ الاجْتِهَادُ أَوِ الإِصَابَةُ .....
قوله: (فَأَخْطَأَ)؛ أي: ولم يتيقن له الخطأ إلا بعد الفراغ من الصلاة.
وقوله: (أَعَادَ فِي الْوَقْتِ) هو كذلك في المدونة.
قال الباجي: وهو قول محمد؛ وذلك أن المصلي إلى غير القبلة لا يخلو أن يفعل ذلك مع عدم أدلة القبلة، أو مع وجودها، ولم أر لأصحابنا في ذلك فرقاً بيناً، غير أن ابن
القصار ذكر عن مالك: أنه إن فعل ذلك مجتهداً أعاد في الوقت استحباباً. وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه فيمن عميت عليه دلائل القبلة فصلى إلى ما غلب على ظنه أنه جهتها، ثم بان له الخطأ، لم تكن عليه إعادة، ثم ذكر قول ابن مسلمة وحمله على ما إذا ما كانت علامات القبلة ظاهرة، قال: وأما مع خفائها فإن مذهب مالك ألا إعادة عليه وإن استدبر القبلة. قال: فعلى هذا الانحراف عن القبلة يكون على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتعمد ذلك، فهذا يُعيد أبداً وإن صلى إلى جهتها.
الثاني: أن يتحرى استقبالها مع ظهور علاماتها، فهذا حكمه على ما قدمنا ذكره عن محمد بن مسلمة.
الثالث: أن يتحرى استقبالها مع عدم علاماتها، فهذا لا إعادة عليه. وما ذكره من أن وقت الإعادة إلى الاصفرار منصوص عليه في المدونة.
قال ابن عات: ويتخرج فيها قول آخر، يُعيد إلى الغروب من المصلى بثوب نجس.
وقوله: (بِخِلافِ ذَوِي الأَعْذَارِ فَإِنَّهُ مَا لَمْ تَغْرُبْ) فرق الأصحاب بينما بأن إعادة المصلي لغير القبلة وبثوب نجس مستحبة، فأشبهت النافلة، فلا تصلى عند الاصفرار، وصلاة أهل الأعذار فرض، فتصلى في كل وقت.
قوله: (ابْنُ مَسْلَمَةَ: إِلا أَنْ يَسْتَدْبرَ) يعني: أن ابن مسلمة قال بالإعادة في الوقت، كالمذهب إلا أن يستدبر فيُعيد أبداً. وفي نقل المصنف لهذا القول نقص، ونص ما نقله الباجي: وقال ابن مسلمة: من استدبر القبلة قاصداً للقبلة متحرياً أعاد أبداً؛ لأنه لم يستقبل القبلة بشيء من وجهه، فإن كانت قبلته إلى اليمن فصلى إلى شرق أو غرب أعاد في الوقت؛ لأن بعضه مستقبل القبلة، فأما من كان انحرافه بين المشرق والمغرب؛ فلا يُعيد في الوقت ولا غيره. وقال ابن سحنون: يُعيد أبداً سواء استدبر أو لا، وهو قول المغيرة.
وقوله: (عَلَى أَنَّ الْوِاجِبَ الاجْتِهَادُ أَوِ الإِصَابَةُ) أي: فإن قلنا: الواجب الاجتهاد، فلا إعادة؛ لكونه أتى بالواجب، وإن قلنا: الواجب الإصابة فقد أخطأها، فيُعيد أبداً.
فإن قيل: لم لا حكمتم بالبطلان في الخطأ لفقد الشرط.
فجوابه من وجهين:
الأول: أن الخطأ لا يتبين في هذا الباب قطعاً، وإنما يتبين ظناً، فلذلك لم نجزم ببطلانها.
الثاني: لما كان هذا الشرط مطلوباً مع القدرة، وساقطاً مع العجز، أشبه طهارة الخبث.
ورد بأنه لو كان كذلك لم يعد الناسي أبداً، وهو خلاف ما سيأتي.
وإِنْ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ فِي الصَّلاةِ قَطَع إِلا فِي الْيَسِيرِ فَيَنْحَرِفُ ويُغْتَفَرُ
قال في المدونة: ومن علم في الصلاة أنه استدبر القبلة، أو شرق، أو غرب، قطع وابتدأ، وإن علم في الصلاة أنه انحرف يسيراً فلينحرف إلى القبلة ويبني. وقال أشهب: يدور إلى القبلة ولا يقطع؛ لحديث أهل قباء أنهمن كانوا مستقبلين بيت المقدس فأتاهم آت فأخبرهم أن القبلة قد حولت، فاستداروا، وأقرهم عليه الصلاة والسلام على ذلك.
وفرق بينهما بأن الماضي من صلاة الصحابة صحيح، والطارئ نسخ، فبنوا الصحيح على الصحيح، بخلاف الخطأ، ولأن أهل قباء لم يكن منهم تقصير بخلاف غيرهم.
ويَسْتَانِفُ الاجْتِهَادَ لِكُلِّ صَلاةٍ
كذا ذكر ابن شاس، وهذا لعله تغير اجتهاده.
وفي الطراز: إن كان الوقتان تختلف فيهما الأدلة اجتهد ثانياً، وإلا فلا.
وهو أظهر مما قاله ابن شاس والمصنف.
ابن هارون بعد أن ذكر كلام المصنف: ولعله محمول على ما إذا نسي الاجتهاد الأول، وأما [51/ ب] إذا كان ذاكراً له فلا يجب عليه تكرار الاجتهاد، وكما هو الصحيح في المجتهد يفتي في نازلة، ثم يُسأل عنها، فإن كان ذاكراً للاجتهاد الأول أفتى به، وإن نسيه استأنف الاجتهاد. حكاه صاحب الإحكام، وحكى قولاً بوجوب الاجتهاد مطلقاً، وقولاً بعدمه مطلقاً.
وإِذَا اخْتَلَفَاَ لَمْ يَاثْمَا
أي: إذا اختلف شخصان في القبلة فلا يأثم أحدهما بالآخر، وهو ظاهر.
ولَوْ قَلَّدَ الأَعْمَى ثُمَّ أُخْبرَ بِالْخَطَأِ فَصَدَّقَهُ انْحَرَفَ، ومَا مَضَى مُجْزِئٌّ. وَقَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ: إِلا أَنْ يُخْبَرهُ عَنْ يَقِينٍ فَيَقْطَعَ ....
جعل الأعمى أعذر من المجتهد، وهو كذلك؛ لتعذر الأسباب في حقه، وقول ابن سحنون فيه إشارة إلى ذلك.
ويُعيد النَّاسِي فِي الْوَقْتِ، والْجَاهِلُ أبداً عَلَى الْمَشْهُورِ
قال ابن يونس: الرواية في الناسي أنه يُعيد أبداً.
وعليه فيُعيد الجاهل أبداً من باب أولى.
وقال ابن الماجشون: يُعيد في الوقت. وقال ابن حبيب: يُعيد الجاهل أبداً، بخلاف الناسي.
ابن راشد: والأول أصح؛ لأن الشروط من باب خطاب الوضع، فلا يشترط فيها علم المكلف.
وكلام صاحب البيان بخلاف هذا، ولفظه: وقد اختلف فيمن صلى إلى غ ير القبلة مستدبراً لها، أو مشرقاً أو مغرباً عنها، ناسياً أو مجتهداً، فلم يعلم حتى فرغ من الصلاة، فالْمَشْهُورِ من المذهب أنه يُعيد في الوقت، من أجل أنه يرجع إلى اجتهاد من غير يقين، وقيل: يُعيد في الوقت وبعده، وهو قول المغيرة وقال سحنون: كالذي يجتهد فيصلي قبل
الوقت. وذكر عن أبي الحسن القابسي: أن الناسي يُعيد أبداً بخلاف المجتهد، وأما من صلى إلى غير القبلة متعمداً أو جاهلاً بوجوب استقبال القبلة، فلا اختلاف في وجوب الإعادة عليه أبداً. انتهى.
وعلى هذا فالأحسن ما وقع في يبعض النسخ: ويُعيد الناسي في الوقت والجاهل أبداً، على الْمَشْهُورِ.
والظاهر أن المراد بالجاهل الجاهل بالأدلة، ولا يصح أن يريد الجاهل بوجوب استقبال القبلة؛ لأن هذا لم يختلف فيه، على ما قاله ابن رشد.
الْخَامِسُ: تَرْكُ الْكَلامِ. السَّادِسُ: تَرْكُ الأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ، وَسَيَأَتِيَانِ
لا ينبغي عد هذين في الشروط؛ لأن ما طولب تركه إنما يعد في الموانع، وهذا محقق في علم الأصول، لكن المؤلف تابع لأهل المذهب هنا؛ فإن جماعة منهم عدوهما من الفرائض.
فإن قيل: في هذا الاعتراض الذي ذكرته نظر؛ لأن عدم المانع شرط؛ إذ الحكم لا يوجد إلا إذا عدم المانع، ولا يلزم من عدم المانع حصول الحكم، وهذا هو حقيقة الشرط.
قيل: الفرق بينهما أن الشك في الشرط أو في السبب يمنع من وجوب الحكم، بخلاف الشك في المانع، كالشك في الطلاق، والله أعلم.
وذكر الأبهري في شرحه أن ترك الكلام سنة، قال: لقولهم فيمن تكلم ساهياً في صلاته تجزئه صلاته، وسجد لسهوه، بخلاف من سها عن فريضة من فرائضها.
قال في المقدمات: والأظهر أنه فرض؛ لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].
الْفَرَائِضُ: التَّكْبِيرُ لِلإِحْرَامِ، وَالْفَاتِحَةُ، وَالْقِيَامُ لَهُمَا، وَالرُّكُوعُ، وَالرَّفْعُ مِنْهُ، وَالسُّجُودُ، وَالرَّفْعُ مِنْهُ، وَالاعْتِدَالُ، وَالطُّمَانِينَةُ، عَلَى الأَصَحِّ، وَالْجُلُوسُ لِلتَّسْلِيمِ، وَالتَّسْلِيمُ .....
لما فرغ من الكلام على الشروط شرع في الكلام على الفرائض، ولا شك أن النية فرض، ولعله إنما أسقطها لكونها شرطاً في صحة الإحرام، ولا يقال إنه ترك ذكرها لأنها من الشروط، كما فعل ابن شاس؛ لأنه لم يذكرها في الشروط.
قال المازري بعد أن ذكر عن الشافعي أنها جزء، وعن أبي حنيفة أنها شرط: والذي حكاه أصحابنا البغداديون أنها جزء.
وقوله: (وَالْقِيَامُ لَهُمَا) أي: للإحرام والفاتحة. أما فريضة القيام لتكبيرة الإحرام في غير المسبوق فظاهرة، وأما بالنسبة إلى المسبوق فظاهر المدونة- على ما قاله الباجي وابن بشير- أنه لا يجب؛ لكونه قال فيها: إذا كبر للركوع ونوى بها العقد أجزأته. والتكبير إنما يكون للركوع في حال الانحطاط.
وقال ابن المواز: وهو شرط، وأنه من أحرم راكعاً لا تصح له تلك الركعة. وتؤولت المدونة عليه أيضاً، وصرح في التنبيهات أيضاً بمشهوريته.
فائدة:
قال في التقييد والتقسيم: أقوال الصلاة كلها ليست بفرض إلا ثلاثة: تكبيرة الإحرام، والفاتحة، والسلام.
وأفعال الصلاة كلها فرائض إلا ثلاثة: رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، والجلسة الوسطى، والتيامن عند السلام.
زاد في المقدمات: والاعتدال؛ فإنه مختلف فيه.
واختلف في القيام للفاتحة، هل هو فرض لأجلها أو فرض مستقل؟ وتظهر فائدة الخلاف إذا عجز عن الفاتحة وقَدَر عليه. وأيضاً فلا يجب القيام على المأموم للفاتحة إلا من جهة مخالفة الإمام عند من يقول بأنه واجب لها.
وقوله: (وَالاعْتِدَالُ) يؤخذ من قول ابن القاسم الذي يأتي أنه سنة. ومقابل الأصح في الطمأنينة- أنها فضيلةٌ، والفرق بين الاعتدال والطمأنينة أن الاعتدال في القيام هنا انتصابُ القامة، والطمأنينة استقرار الأعضاء في محلها، وقد يكون قبل ذلك، وقد يحصل الاعتدال من غير طمأنينة.
ولم يذكر المصنف من جملة الفرائض ترتيبَ الأداء- وهو أن يأتي بالصلاة على [52/أ] نظمِها، كما فعل عبد الوهاب- استغناء بذكر الأركان عن الترتيب.
السُّنَنُ: سُورَةٌ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي الأُولَيَيْنِ، وَالْقِيَامُ لَهُمَا، وَالْجَهْرُ، وَالإِسْرَارُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَسَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَالْجُلُوسُ الأَوَّلُ، وَتَشَهُّدُهُ، وَالزَّائِدُ عَلَى قَدْرِ الاعْتِدَالِ وَالتَّسْلِيمِ مِنَ الثَّاني، وَتَشَهُّدُهُ، وَالصَّلاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى الأَصَحِّ. وَالْفَضَائِلُ: مَا سِوَاهُمَا ....
قوله: (سُورَةٌ مَعَ الْفَاتِحَةِ) الظاهر أن كمال السورة فضيلة، والسنة قراءة شيء مع الفاتحة بدليل أن السجود إنما هو دائرٌ مع ما زاد على الفاتحة، لا على السورة، وكذا صرح به صاحب الإرشاد، وقد يقال: إن قراءة السورة سنة. وهو ظاهر كلامهم، وإنما لم يسجد إذا قرأ بعضها؛ لأن كمالها سنة خفيفة.
وذكر المازري والباجي في الاقتصار على بعض السورة قولين لمالك، قال في المختصر: لا يفعل ذلك، وإن فعل أجزأه. وروى الواقدي عن مالك: لا بأس أن يقرأ بأم القرآن وآيةٍ مثل آية الدين.
واختلف في التكبير- ما عدا تكبيرة الإحرام- هل كل تكبيرة سنة أو الجميع سنة؟ قولان.
وقوله: (وَالزَّائِدُ عَلَى قَدْرِ الاعْتِدَالِ) أحسنُ منه أن يقول: والزائد على قدر الطمأنينة. ولو قال أيضاً: على الأصح لكان أعم فائدة؛ ليدخل في كلامه قولُ من رأى أن ما زاد على الطمأنينة ينسحب عليه حكم الوجوب، ورُدَّ بأن الزائد لا يذم تاركه. واحتج الآخر بأن من أدرك الزائد على الطمأنينة من الركوع مع الإمام فقد أدرك تلك الركعة، فلو لم يكن الزائد واجباً لزم فوات الركوع في حق المأموم، وفيه نظر؛ لأن المسبوق يُغتفر في حقه للضرورة، بدليل أن من أوجب على المأموم الفاتحة اغتفرها لإدراك الركوع.
وقوله: (وَالتَّسْلِيمِ) مخفوضٌ معطوف على (الزَّائِدُ عَلَى قَدْرِ الاعْتِدَالِ) يعني أن الزائد من الجلوس الثاني على قدر التسليم سنة. وما ذكره المصنف من أن التشهد الأخير سنة هو الْمَشْهُورِ، وروى أبو مصعب وجوبه، وعليه فيكون الجلوس واجباً؛ لأن القاعدة أن الظرف حكمُه ما يُفعل فيه. وحكى ابن بزيزة في التشهدين ثلاثة أقوال، والْمَشْهُورِ أنهما سنتان، وقيل: فضيلتان. وقيل: الأول سنة، والثاني: فريضة.
وفي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عندنا ثلاثة أقوال: الفريضة، والسنة، والفضيلة. وصحح المصنف القول بالسنية، قال ابن شاس: وهو الْمَشْهُورِ. وقال ابن عطاء الله: الْمَشْهُورِ الفضيلة. وهو الذي يؤخذ من كلام ابن أبي زيد في الرسالة لقوله: ومِمَّا تزيدُهُ إنْ شِئتَ، ولا يقال ذلك ف يالسنة، وزاد صاحب المقدمات في السننِ رفعَ اليدين عند الإحرام، قال: وقيل: إنه مستحب.
ورَدُّ السلام على الإمام، وتأمين المأموم إذا قال الإمام {وَلَا الضَّالِّين} [الفاتحة: 7] وقوله: ربنا ولك الحمد، والقناع للمرأة، والتسبيح في الركوع، والدعاء في السجود. وإنما يُسجد للمؤكدة منها، وهي ثمان: قراءة ما سوى أم القرآن، والجهر، والإسرار، والتكبير سوى
تكبيرة الإحرام، والتحميد، والتشهد الأول، والجلوس له، والتشهد الآخِر، وأما ما سواها فلا حكم لتركها، ولا فرق بينها وبين الاستحباب إلا في تأكيد فضائلها، انتهى بمعناه.
وَيُشْتَرَطُ فِي تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ اقْتِرَانُهَا بِنِيَّةِ الصَّلاةِ الْمُعَيَّنَةِ بِقَلْبِهِ أَوْ تَقْدِيمُهَا وَتُسْتَصْحَبُ، وَفِي نِيَّةِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ قَوْلانِ .......
النية إن اقترنت فلا إشكال في الإجزاء، وإن تأخرت عن تكبيرة الإحرام فلا خلاف في عدم الإجزاء، وإن تقدمت بكثير لم يجزئ اتفاقاً، وبيسير قولان: مذهب عبد الوهاب وابن الجلاب وابن أبي زيد- وهو الذي اقتصر عليه المصنف- عدمُ الإجزاء.
واختار ابنُ رشد وابن عبد البر والمتيوي في شرح الرسالة الإجزاءَ، قال ابن عات: وهو ظاهر المذهب.
خليل: وهذا هو الظاهر، ومن تأمل عمل السلف، ومقتضى إطلاقات متقدمي أصحابنا يرى هذا القول هو الظاهر؛ إذ لم ينقل لنا عنهم أنه لابد من المقارنة، فدل على أنهم سامحوا في التقديم اليسير. قال في المقدمات: وليس عن مالك ولا عن أصحابه المتقدمين نص في ذلك، ولو كان عندهم فرضاً لما أغفلوه ولتكملوا عليه. ولأن اشتراط المقارنة طريق إلى التوسوس المذموم شرعاً وطبعاً. ثم الذي يظهر لي أن قول الآخرين بشرطِ المقارنة معناه أنه لا يجوز الفصل بين النية وتكبيرة الإحرام؛ لأنه يشترط أن تكون مصاحبة للتكبيرة، وإلى ذلك أشار المازري، بل يؤخذ منه أنه حمل المقارنة على ما إذا لم يحصل فصل كثير، ولفظه: الْمَشْهُورِ عندنا ما ذكره القاضي من قصر الوجوب على حالة الإحرام، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز تقديمها على الإحرام بالزمان اليسير. قال: وبعض أشياخي يشير إلى تخريجٍ في هذا من الطهارة، فإنه اختلف في تقديم النية فيها بالزمان اليسير. وقد ينفصل عنه بأن النية في الصلاة آكد للإجماع على وجوبها. انتهى.
وقوله: (أَوْ تَقْدِيمُهَا وَتُسْتَصْحَبُ) ظاهرٌ إذ استصحابها بنيةٍ.
وقوله: (الْمُعَيَّنَةِ) أي: أنه لا يكفيه فرض مطلقاً، بل لابد من تعيينه ظهراً أو عصراً.
وقوله: (بِقَلْبِهِ) أي: لا يتلفظ على الأَوْلَى، ويجب على المأموم أن ينوي الاقتداء بالإمام. قالوا: وإن لم ينوه بطلت صلاته. وأما الإمام فلا تلزمه [52/ب] نية الإمامة إلا في مسائل سيأتي التنبيه عليها في باب الإمامة إن شاء الله. والأصح عدم اشتراط نية عدد الركعات؛ لأن كونها مغرباً يستلزم كونها ثلاثاً، وكذلك في سائرها، وإنما يحتاج إلى ذلك لو اختلفت عدد الركعات في الظهر أو المغرب أو غيرهما من الصلوات. ولا يجب أن يستحضر في نيته الإيمان وأداء الصلاة والتقرب بها ووجوبها، نعم الأكملُ استحضارُ ذلك، نص عليه في المقدمات، ولا يلزم عند الإحرام أن يذكر حدوث العالم وأدلته، وإثباتَ الأعراض واستحالة عِرْوِ الجواهر عنها، وأدلةَ إثبات الصانع والصفات وما يجب له تعالى، ويستحيل عليه، ويجوز، وأدلة المعجزة، وتصحيح الرسالة، ثم الطرق التي بها وصل التكليف إليه خلافاً للقاضي أبي بكر. وحُكي عن المازري أنه قال: أردت العمل على قول القاضي أبي بكر فرأيت في منامي كأني أخوض في بحر من الظلام، فقلت: والله، هذه الظلمة التي قالها القاضي.
وَفِيمَنْ نَوَى الْقَصْرَ فَأَتَمَّ وَعَكْسِهِ قَوْلانِ
وفي المسافر ينوي القصر فيتم. (وَعَكْسِهِ) أي: وفي المسافر ينوي الإتمام فيَقْصُرُ. والخلاف فيهما مبنيٌّ على اعتبار عدد الركعات، وستأتي هذه المسألة في باب القصر.
وَفِيمَنْ ظَنَّ الظُّهْرَ جُمُعَةً وَعَكْسِهَا، مَشْهُورُهَا تُجْزِئُ فِي الأُولَى
أي: في المسالتين ثلاثة أقوال: الأول الإجزاء فيهما، وعدمه فيهما، مبنيان على ما تقدم. ووجه المشهور أن شروط الجمعة أخص من شروط الظهر، ونية الأخص تستلزم نية الأعم، بخلاف العكس. وحكى في البيان قولاً رابعاً بعكس المشهور.
وَعُزُوبُهَا بَعْدَهُ مُغْتَفَرٌ بِخِلافِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ
أي: والذهول عن النية- بعد الاقتران- مغتفر للمشقة. وكان سحنون يُعيدها، ولعله على الورع. وعن ابن العربي: إن عزب بأمر خطر في الصلاة، أو بسبب عارض في الصلاة لم يضر، وإن كان بأسباب متقدمة دنيوية قَوِيَ تركُ الاعتداد.
خليل: وقوله: (بِخِلافِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ) أي: الرَّفْضِ، فإنها تبطل على الْمَشْهُورِ كالصوم، بخلاف الحج والوضوء، فإن الْمَشْهُورِ فيهما عدم الرفض، وقد تقدم هذا.
فإن قيل: فما الفرق على الْمَشْهُورِ؟ قلتُ: لأنه لما كان الوضوء معقول المعنى- بدليل أن الحنفية لم توجب فيه النية- والحج محتوٍ على أعمال مالية وبدنية لم يتأكد طلب النية فيهما، فرفضُ النية فيهما رفضٌ لما هو غير متأكد، وذلك مناسب لعدم اعتبار الرفض، ولأن الحج لما كان عبادة شاقة، ويُتمادى في فاسدِه- ناسَبَ أن يال بعدمِ الرفضِ رفعاً للمشقة الحاصلة على تقدير رفضه، والله تعالى أعلم. وما ذكرناه هو الذي كان شيخنا رحمه الله يُمَشِّيه عليه، وهو الذي يؤخذ من الجواهر، وهو أحسن ممن حمل كلامه على عدم اغتفار عزوب النية عند الخروج من الصلاة، وأنه لابد من استصحابها عند الخروج بالسلام، لأن هذه المسألة سيذكرها المصنف، ويذكر فيها قولين.
فَلَوْ أَتَمَّهَا بِنِيَّةِ النَّافِلَةِ سَهْواً أَوْ عَمْداً فقَوْلانِ
في هذه المسألة ثلاثة أقوال، يُفرق في الثالث بين العامد فتبطل، وبين الساهي فلا تبطل.
ثم هذه المسألة لها صور: إن سلم من اثنتين، ثم قام وأتى بركعتين بنية النافلة فالمعروف عدم الإجزاء، وإن لم يسلم فصورتان: الأولى: إن ظن أنه قد سلم من فريضته فقام إلى نافلة، فإن ذكر بالقُرب رجع إلى فريضته وسجد بعد السلام، وإن لم يذكر إلا بعد ركوعه في نافلته أو طول قراءته فالْمَشْهُورِ بطلان فريضته.
الصورة الثانية: أن يظن أنه في نافلة من غير أن يعتقد السلام، فالْمَشْهُورِ هنا الإجزاء، وقيل: لا يجزئ. وصححه ابن الجلاب. والفرق على الْمَشْهُورِ: أنه في الأولى لما ظن أنه سلم من الفريضة قَصد أنه في نافلة، وفي هذه لم يقصد أنه خرج من الفرض البتة، ولم يوجد منه قصد ذلك.
وَلَفْظُهُ: اللهُ أَكْبَرُ مُعَيَّناً وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيّاً، ولا يُجْزِئُ الأَكْبَرُ وَلا غَيْرُهُ، وَالْعَاجِزُ تَكْفِيهِ النِّيَّةُ، وَقِيلَ يَدْخُلُ لِلصَّلاةِ بِلِسَانِهِ .....
لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ولم يرو أنه دخل الصلاة بغير هذه اللفظة، والمحل محل تعبد. ولا يجزئ أكبار بإشباع فتحة الباء لتغيير المعنى، نص عليه سند. قال في الذخيرة: وأما قول العامة: الله وكبر فله مدخل في الجواز، لأن الهمزة إذا وليتْ ضمةً جاز أن تقلب واواً.
(وَالْعَاجِزُ) أي: لجهلِه باللغة، فقال الأبهري: تكفيه النية.
المازري: وهو صحيح على أصلنا؛ لأن لفظ التكبير متعين عندنا. واستعمال القياس فيه بالأبداًل لا يصح، ولم يأت الشرع ببدل منه عند العجز، كما أتى بالبدل في غيره من العبادات، والأصل براءة الذمة فلا يجب شيء إلا بدليل. انتهى.
وقال أبو الفرج: يدخل بالحرف الذي دخل به الإسلام. وذكر عبد الوهاب عن بعض شيوخه: أنه يدخل الصلاة بمرادف التكبير في لغته، ولا خلاف أنه لا يعوض القراءة في لغته؛ لأن الإعجاز في النظم العربي، والعاجز الجاهل باللغة هو محل الخلاف، وأما العاجز عن الكلام جملة فتكفيه النية اتفاقاً.
وَيَنْتَظِرُ الإِمَامُ بِهِ قَدْرَ مَا تَسْتَوِي الصُّفُوفُ
قوله: (وَيَنْتَظِرُ) روى ابن حبيب عن مالك أن ذلك لازمٌ، يريد على طريق الاستحباب، والضمير المجرور عائد على الإحرام، لأنه [53/أ] إن كبر بإثْرِ الإقامة؛
فالمأمومون إن تشاغلوا بتسوية الصفوف فاتهم جزء من الصلاة، ومن فاتته الفاتحة فقد فاته خير كثير، وإن لم يسووا صفوفهم فاتتهم فضيلة تسوية الصفوف، ولما في أبي داود عنه عليه الصلاة والسلام، أنه كان يسوي الصفوف فإذا استوت كبر.
ولما في الموطأ: أن عمر وعثمان– رضي الله عنهما– كانا يوكلان رجلين بتسوية الصفوف، فلا يكبران حتى يخبراهما أن قد استوت.
وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ. وَقِيلَ: إِلَى الصَّدْرِ. فَقِيلَ: قَائِمَتَيْنِ. وَقِيلَ: بُطُونُهُمَا إِلَى الأَرْضِ. وَقِيلَ: يُحَاذِي برُؤُوسِهِمَا الأُذُنَيْنِ ....
قوله: (وَيُسْتَحَبُّ) ظاهره أنه فضيلة، وكذلك نص ابن يونس. وقال ابن أبي زيد وابن رشد: هو سنة.
ووقت الرفع عند الأخذ في التكبير، نص عليه ابن شاس.
وفي الرفع خمسة أقوال: المشهور أنه يرفع في تكبيرة الإحرام فقط، وقال في مختصر ما ليس في المختصر: لا يرفع في شيء. وروى ابن عبد الحكم: يرفع عند الإحرام والرفع من الركوع.
وروى ابن وهب: وعند الركوع. وقال ابن وهب: وفي القيام من اثنتين.
ورفعهما إلى المنكبين هو المشهور، وإلى الصدر رواه أشهب، وإليه مال سحنون، والقول بأن بطونهما إلى الأرض لسحنون.
ومنشأ الخلاف: اختلاف الآثار والأحاديث. والظاهر رفعهما قائمتين لعدم التكليف، وأنه يرفع عند الإحرام، والركوع، والرفع منه، والقيام من اثنتين لورود الأحاديث الصحيحة بذلك، والله أعلم.
وَفِي سَدْلِ يَدَيْهِ أَوْ قَبْضِ الْيُمْنَى عَلَى الْكُوعِ تَحْتَ صَدْرِهِ ثَالِثُهَا، فِيهَا: لا بَاسَ فِي النَّافِلَةِ. وَكَرِهَهُ فِي الْفَرِيضَةِ. وَرَابعُهَا: تَاوِيلُهُ بالاعْتِمَادِ. وَخَامِسُهَا: رَوَى أَشْهَبُ إِبَاحَتَهُمَا
الجواز فيهما في العتبية.
ابن راشد: والمنع فيهما رواه العراقيون، والتفصيل هو مذهب المدونة، قال فيها: ولا يضع يمناه على يسراه في فريضة، وذلك جائز في النوافل لطول القيام. قال صاحب البيان: ظاهره أن الكراهة في الفرض والنفل، إلا إن أطال في النافلة فيجوز حينئذ. وذهب غيره إلى أن مذهبه الجواز في النافلة مطلقاً؛ لجواز الاعتماد فيها من غير ضرورة.
وقوله: (وَرَابعُهَا: تَاوِيلُهُ بالاعْتِمَادِ) أي: تأويل الثالث، وهو تأويل عبد الوهاب. وقال بعضهم: إنما كرهه مخافة أن يعتقد وجوبه، وإلا فهو مستحب. وقال عياض: مخافة أن يُظهر من الخشوع ما لا يكون في الباطن. وتفرقته في المدونة بين الفريضة والنافلة يرده ويرد الذي قبله. وقوله: (وَخَامِسُهَا) إلى آخره؛ أي: روى أشهب إباحة السدل والقبض في الفرض والنفل، والتحقيق أنه لا يعد خلافًا إلا ما كان راجعًا إلى التصديق، أما ما كان راجعًا إلى التصور – كالقول الرابع – فلا. وفي المذهب قول آخر باستحبابه في الفرض والنفل، قاله مالك في الواضحة، وهو اختيار اللخمي وابن رشد.
الْفَاتِحَةُ إِثْرُ التَّكْبيرِ، وَلا يَتَرَبَّصُ، وَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ وَغَيْرُهُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمَشْهُورِ وَلا يَتَعَوَّذُ وَلا يُبَسْمِلُ، وَلَهُ أَنْ يَتَعَوَّذُ وَيُبَسْمِلُ فِي النَّافِلةِ، وَلَمْ يَزَلِ الْقُرَّاءُ يَتَعَوَّذُونَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ ....
(الْفَاتِحَةُ) خبر ابتداء مضمر، أي: الفرض الثاني – الفاتحة، و (إِثْرُ التَّكْبيرِ) خبر أيضاً، أي: محلها إثر التكبير. وكونها فرضًا في الجملة هو المنصوص، ولابن زياد فيمن صلى ولم يقرأ: لا إعادة عليه. رواه الواقدي عن مالك، وكذلك نقل المازري
عن ابن شبلون أنه قال بسقوط فريضة الفاتحة مطلقاً؛ قال: لحمل الإمام لها، والإمام لا يحمل فرضًا.
(وَلا يَتَرَبَّصُ) أي: بعد التكبير وقبل القراءة، لأنه إذا كره الدعاء– على المشهور– فلا معنى للتربص مع السكوت، ومقابل الْمَشْهُورِ إجازة قول: ((سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك، وجهت وجهي
…
إلى آخره))، ((اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرف، ونقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد)). روي ذلك عن مالك، وروي عنه أيضاً استحسان ذلك. وقال ابن حبيب: يقوله بعد الإقامة وقبل الإحرام. قال في البيان: وذلك حسن.
وقوله: (وَلا يَتَعَوَّذُ) هو الصحيح، أي: في الصلاة لعد إثباته، ولا يقال إن عموم قوله تعالى:{فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] متناول له؛ لأنه نقل فعله عليه السلام، ولم ينقل فيه استعاذة، فيكون ذلك مخصصًا للآية.
ابن هارون: وفي البسملة في الفريضة أربعة أقوال: الكراهة للمدونة، والإباحة لمالك في المبسوط، والندب لابن مسلمة، والوجوب لابن نافع. انتهى.
وقوله: (وَلَهُ أَنْ يَتَعَوَّذُ) أي: ولو جهرًا، وكره مالك في العتبية الجهر في الاستعاذة.
وقوله: (وَيُبَسْمِلُ) حكى في البيان في قراءتها في النافلة قبل الفاتحة روايتين، وثلاثة أقوال في قرءاتها في أول كل سورة: فالأول: أنه يقرأها في أول كل سورة، والثاني: لا يقرأ في شيء منها إلا أن يكون رجلاً يقرأ القرآن عرضًا، يريد بذلك، عرضه في صلاته، وهي رواية أشهب. الثالث: أنه مخير، إن شاء قرأ وإن شاء ترك، وهو قوله في المدونة.
فَيَجِبُ تَعَلُّمِهَا فَإِنْ لَمْ يَسَعِ الْوَقْتُ ائْتَمَّ عَلَى الأَصَحَّ
أي: فبسبب وجوبها وجب تعليمها، وهذا إذا كان في الوقت سعة، وكان قابلاً للتعليم، فإن لم يسع الوقت للتعليم، وجب عليه الائتمام بمن [53/ ب] يحسنها على الأصح، ومقابل الأصح أن صلاته تصح من غير ائتمام، وصحح المصنف الأول؛ لأن القرءاة واجبة، ولا يتوصل إلى الواجب حينئذ إلا به.
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَقِيلَ: تَسْقُطُ. وَقِيلَ: فَرْضُهُ ذِكْرٌ
أي: فإن لم يجد من يأتم به – وفي معناه لا يجد من يعلمه – فقيل: تسقط. ويُختلف: هل يجب القيام بقدرها أو لا؟ قال المازري: أوجبه بعض أهل العلم. وفي المبسوط: ينبغي له أن يقف قدر قرءاة أم القرآن وسورة، ويذكر الله تعالى. قال المازري: وإليه ذهب القاضي أبو محمد. لكن القاضي لم يعتبر قدر القراءة كما في المبسوط، وإنما استحب الفصل بين الإحرام والركوع بوقوف ما يكون فاصلاً بين الركعتين. وقال سحنون: فرضه ذكر. دليله ما رواه الدارقطني: ((أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أحسن القراءة، فقال له: قل: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)).
فرع:
قال أشهب في المجموعة: من قرأ في صلاته شيئًا من التوراه والإنجيل والزبور، وهو يحسن القراءة، أو لا يحسنها، فقد أفسد صلاته، وهو كالكلام، وكذلك لو قرأ شعرًا فيه تسبيح أو تحميد لم يُجزِئه، وأعاد.
وَلا تَجِبُ عَلَى الْمَامُومِ وَتُسْتَحَبُّ فِي السِّرِّيَّةِ لا الْجَهْرِيَّةِ. وَقِيلَ: وَلا السِّرِّيَّةِ
أي: لا تجب الفاتحة على المأموم، وإذا لم تجب الفاتحة فأولى غيرها.
وقوله: (وَتُسْتَحَبُّ فِي السِّرِّيَّةِ) ظاهره أن هذا خاص بالفاتحة؛ لأنه إنما يتكلم فيها، ولو قال: وتستحب القراءة ليعم الفاتحة وغيرها كان أولى؛ لأن الخلاف في الجميع، ولعل المصنف اقتصر على الفاتحة؛ لأن ذكره الخلاف فيها يقتضي الخلاف في غيرها، والقراءة مع الإمام فيما يجهر فيه مكروهة، وهذا إذا كان يصل الإمام قراءته بالتكبير، فإن كان الإمام ممن يسكت بعد التكبير سكته ففي المجموعة من رواية ابن نافع عن مالك: يقرأ من خلفه في سكتته أم القرآن، وإن كان قبل قراءته. قال الباجي: ووجه ذلك أن اشتغاله بالقراءة أولى من تفرغه للوسواس وحديث النفس إذا لم يقرأ الإمام قراءة ينصت لها، ويتدبر معناها. انتهى.
خليل: وعلى هذا فإن كان الإمام ممن يسكت بعد الفاتحة كما تفعل الشافعية فيقرأها المأموم، والله أعلم. واختار ابن العربي وجوب قراءة الفاتحة على المأموم إلا في الجهر إذا كان يسمع قراءة الإمام.
وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَقِيلَ: فِي الأَكْثَرِ. وَإِلَيْهِ رَجَعَ. وقِيلَ: فِي رَكْعَةٍ. وَقَالَ: تُجْزِئُ سَجْدَتَا السَّهْوِ، وَما هُوَ بِالبَيِّنِ. وَلَمْ يَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَقَالَ: تُلْغَى الرَّكْعَةُ. وَفيهَا فِيمَنْ فَاتَتْهُ ثَانِيَةُ الْجُمُعَةِ فَقَامَ يَقْضِي فَنَسِيَهَا يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلامِ وَيُعيد ظُهْراً ....
اختلف في الفاتحة هل تججب في كل ركعة أو إنما تجب في الأكثر؟ والقولان لمالك في المدونة. أو إنما تجب في ركعة؟ وإليه ذهب المغيرة، وما صححه المؤلف. قال ابن شاس: هي الرواية الْمَشْهُورِة.
ومنشأ الخلاف ما خرجه مسلم والنسائي من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج)) ثلاثًا، أي: غير تمام. هل المراد ظاهر اللفظ فيكتفي بها في ركعة أو المراد بالصلاة كل ركعة؟ لأن ذلك يظهر من السياق؛ لأن محل أم
القرآن من الصلاة كل قيام، كما لو قيل: كل صلاة لم يركع فيها ولم يسجد. وكذلك لم خرجه البخاري ومسلم وأبو داود الترمذي والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب))، ومنهم من زاد فيه:((فصاعدًا))، وروى هذه الزيادة ابن حبان في صحيحه، وهي تقتضي وجوب قراءة ما زاد على الفاتحة.
وأما القول بوجوبها في الأكثر فضعيف؛ لأنه لم يأخذ هذين المحملين، ووجهه – على ضعفه – أن الحكم للأكثر في الغالب.
قال المازري: واختلف في الأقل على هذا المذهب، ما هو؟ فقيل: هو الأقل على الإطلاق. وقيل: هو الأقل بالإضافة. ومعنى الأقل مطلقاً العفو عنها في ركعة واحدة، وإن كانت صبحًا أو جمعة أو ظهرًا لمسافر. ومعنى الأقل بالإضافة: أن تكون الركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية، والله أعلم. وأما حديث جابر:((كل ركعة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج))، فالصحيح وقفه على جابر، قاله الدارقطني. قال ابن عبد البر: ورفعه غلط خطأ.
تفريع:
إن بنينا على قول المغيرة، فقرأها في ركعة من أي صلاة صحت صلاته. قال بعض الشيوخ: وظاهر قول المغيرة أنها سنة فيما عدا الواحدة، وإن بنينا على قول غيره فإما أن يترك القراءة في نصف صلاته أو في أقلها، فإن تركها في نصفها كركعة من الثنائية أو ركعتين من الرباعية فقولان، قال ابن عطاء الله: أشهرها أنه يتمادى، ويسجد قبل السلام، ويُعيد، وهو مذهب المدونة.
والثاني قول أصبغ وابن عبد الحكم: يغلي ما ترك فيه القراءة، ويأتي بمثله، ويسجد بعد السلام.
وإن تركها في الأقل، فقال ابن راشد: فإن تركها في ركعة من الرباعية، فإما أن يذكر ذلك بعد فراغه من الصلاة أو في الصلاة، فإن ذكر بعد فراغه فلا يخلو إما أن يذكر
بالقرب أو لا، فإن ذكر بالقرب من سلامه ولم يحدث ما يمنعه من البناء [54/ أ] ففي المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يسجد وتجزئه صلاته، وهذا على قوله: أرجو أن تجزئه سجدتا السهو قبل السلام. وثانيها: أنه يسجد ويُعيد الصلاة. وثالثها: أنه يلغي تلك الركعة ويأتي بركعة ويسجد بعد السلام، وإن ذكر بعد أن طال أعاد على القولين الأخيرين. وعلى القول الأول: يسجد وتجزئه سجدتا السهو. وأما إن ذكر وهو في الصلاة، فإما أن يذكر ذلك في الركعة الأولى أو غيرها، فإن ذكر ذلك في الركعة الأولى فلا يخلو: إما أن يذكر ذلك قبل الركوع، أو وهو راكع، أو بعد تمام الركعة، فإن ذكر قبل الركوع فلا خلاف أنه يقرأها. والمشهور: أنه يُعيد السورة وفاقاً لأشهب وسحنون، ولمالك في المجموعة: أنه لا يُعيدها. واتفقوا في المستنكح على عدم الإعادة.
وهل يسجد لإعادة السورة بعد السلام؟ وإليه ذهب سحنون، أو لا يسجد؟ وإليه ذهب ابن حبيب، قولان، وقول ابن حبيب أصح؛ لأن زيادة القراءة لا يسجد لها، بدليل لو قرأ سورتين.
تنبيه:
قال مالك فيمن ترك تكبير صلاة العيدين فلم يذكر حتى قرأ: إنه يكبر ثم يُعيد القراءة ويسجد بعد السلام. قال عبد الحق: فعلى هذا يسجد من قدم السورة على الفاتحة، والفرق أن قراءة السورة سنة، وإلغاؤها كإلغاء تكبيرة وشبه ذلك فلا سجود عليه. والذي كبر بعدما قرأ الفاتحة إذا ألغى القراءة فقد ألغى ركنًا، فكان له تأثير كما لو انخرم عليه ركوع أو سجود فألغاه، وإن ذكر وهو راكع ففي المذهب أربعة أقوال: روى ابن القاسم عن مالك في المجموعة: أنه يرجع إلى القيام فيقرأ ثم يركع ويسجد بعد السلام. وقال سحنون: يرجع إلى القراءة ويُعيد الصلاة احتياطًا. وقال ابن القاسم في الموازية: يقطع بسلام ثم يبتدئ؛ لأنها ركعة لم تنعقد، فالقطع فيها أخف من تماديه عليها؛ لأنه إن
بنى عليها فقد لا تجزئه، وإن ألغاها صارت صلاته خمسًا لما في ذلك من الاختلاف، فكان إتيانه بصلاةٍ متفق عليها أولى. وقال ابن القاسم وأصبغ وغيرهما: يتمادى ويجزئه سجود السهو قبل السلام.
وإن ذكر بعد الرفع أو بعد أن سجد فقال ابن القاسم في الموازية: يقطع ويبتدئ. وتجري فيها الأقوال الثلاثة التي قبلها. وإن ذكر بعد أن أتمها بسجدتيها ففيها أيضاً أربعة أقوال: يتمادى ويسجد قبل السلام وتجزئه، ويتمادى ويسجد ويُعيدها، والقول الثالث ويلغي تلك الركعة، ويجعل الثانية أولى صلاته ثم يسجد بعد السلام، والرباع: أن يضيف إليها ركعة ويسجد قبل السلام ثم يسلم ويبتدئ، قاله ابن القاسم في الموازية.
وأما إن ذكر ذلك في غير الأولى، مثل أن يذكر وهو في الركعة الثانية أنه نسى الفاتحة منها، فإن ذكر وهو قائم أعاد قراءة الفاتحة، واختلف في إعادة السورة، وفي السجود كما تقدم.
وإن ذكر وهو راكع فقال ابن القاسم هنا: لا يقطع. وتقدم قوله في الموازية أنه يقطع إذا ذكر ذلك في ركوع الأولى، لأنه في الأولى لم يبق له إلا تكبيرة الإحرام، وقد يتصل بها ذلك، فكان القطع أولى. وهاهنا وقعت له ركعة على الصحة فاستحب له أن يشفعها ويجعلها نافلة. وكذلك يقول إذا ذكر وهو في سجودها أو بعد قيامه إلى الثالثة، فإنه يرجع إلى الجلوس ويجعلها نافلة، وإن لم يذكر حتى ركع الثالثة– وقلنا بإلغاء الركعة– فهل تكون هذه ثالثة، أو يفرق فيقرأ فيها بأم القرآن خاصة، أو ثانية يضيف إليها سورة؟ خلاف.
تنبيه:
ما تقدم من الخلاف في تركها من الأولى جارٍ هنا، وإن ذكر ذلك وهو راكع في الثالثة ولم يعلم الركعة التي نسيها منها، هل هي الأولى أو الثانية ففي المذهب خمسة أقوال:
أحدها: أنه يلغي الأولى ويتم سجود التي هو فيها ثم يجلس لأنها ثانية، ثم يسجد قبل السلام لأنه ترك من ثانيته السورة. وثانيها: أنه يتمادى ويجزئه سجود السهو قبل
السلام. وثالثها: أنه يفعل ذلك ويُعيد. ورابعها: أنه يتمادى ويجعل هذه ثالثة ثم يقوم إلى الرابعة ثم يقضي الركعة بأم القرآن وسورة، ثم يسجد بعد السلام. وخامسها: أنه يرجع إلى الجلوس ثم يسجد ويسلم ويجعلها نافلة. قاله ابن القاسم في الموازية. ولو ذكر ذلك بعد فراغه من الثالثة فقال ابن القاسم: يتم صلاته ويسجد قبل السلام، وأحب إلى أن يُعيد، فيكون في هذه أربعة أقوال أيضاً. وكذلك إذا ذكر في الرابعة أو في التشهد أنه ترك أم القرآن من الأولى أو الثانية – ففيه أربعة أقوال أيضاً: أحدها: أنه يسجد قبل السلام وتجزئه. وثانيها: أنه يسجد ثم يُعيد، وهو ظاهر المذهب عند أصحابنا. قال ابن المواز: وهو الذي استحب ابن القاسم. وثالثها: أنه يأتي بركعة بأم القرآن فقط، ويسجد قبل السلام ورابعها: أنه يأتي بركعة بأم القرآن وسورة ويسجد بعد السلام. انتهى كلام ابن راشد.
تنبيه:
قوله: (وَقِيلَ: فِي الأَكْثَرِ. وَإِلَيْهِ رَجَعَ) ليس هذا الرجوع كسائر الرجوعات في الجزم بما رجع إليه؛ لأن مالكًا هنا قال: وما هوبالبين. فقول الإمام وما هو بالبين فيه إيماء إلى ترجيح القول بالوجوب في الجميع، والله أعلم.
فرع:
قال عبد الحق: لو أسقط الإمام آية من الفاتحة لانبغي أن يلقن، وإن لم يقف لقول من قال أنه كتارك جملة أم القرآن وذلك يبطل صلاته. وحكى الشيخ أبو عمران عن القاضي إسماعيل [54/ ب] أنه قال: يجب على المذهب أن يسجد قبل السلام. وفيها قول آخر: أنه لا يسجد، والله أعلم.
وَلَيْسَتِ الْبَسْمَلَةُ مِنْهَا، فَلا تَجِبُ لِلأَحَادِيثِ وَالْعَمَلِ
أي: عمل المدينة، والأحاديث: حديث: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي
…
)) رواه مالك، وحديث أبي بن كعب:((كيف تفتتح الصلاة)) رواه مالك، وحديث أنس:
((صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فكلهم كانوا لا يقرؤون – بسم الله الرحمن الرحيم-)) خرجه مالك والبخاري ومسلم. وأيضاً فإنا نقطع أن القرآن ينقل متواترًا، فما لم تنقل متواترًا يحصل لنا القطع بأنه ليس قرآنًا.
وَلا تُجْزِئُ بِالشَّاذِّ وَيُعيد أبداً
أي: بالقراءة الشاذة، وعن مالك إجازة القراءة بالشاذ ابتداء، ذكره ابن عبد البر في تمهيده. والإمام إنما نص على الإعادة أبداً في شاذ خاص، وهو قراءة ابن مسعود، ولعل ذلك إنما هو لما يقال أنه كان يفسر فيخلط القراءة بالتفسير، بخلاف غيرها من الشاذ.
ولقائل أن يقول: هذا إنما هو في الفاتحة، وأما غيرها فالقارئ وإن خرج عن التلاوة فإنما خرج إلى ذكر، وهو مشروع في الصلاة فلا يبطل، وفيه نظر؛ لأن الشاذ لما لم يكن قرآنًا، ونقله قرانًا خطأ على ما نقله أهل الأصول صار كالمتكلم في صلاته عامدًا، والله أعلم.
وَيُسْتَحَبُّ التَّامِينُ قَصْراً أَوْ مَدّاً
(التَّامِينُ) قول آمين عند الفراغ من الفاتحة. وقوله: (قَصْراً أَوْ مَدّاً) أي: فيه لغتان: بمد الهمزة وهي الأفصح، وقصرها وهي ثانية. وروي تشديد الميم مع المد، وأنكرت. ومعناها اللهم استجب، وقيل: اسم من أسماء الله، فكأنه قال: يا الله اغفر لي.
وَيُؤَمِّنُ الإِمَامُ إِذَا أَسَرَّ اتِّفَاقاً، فَإِذَاَ جَهَر فَرَوَى الْمِصْرِيُّونَ: لا يُؤَمِّنُ. وَرَوَى الْمَدَنِيُّونَ: يُؤَمِّنُ .....
الْمَشْهُورِ رواية المصريين، ودليلنا ما رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقولوا: آمين، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه".
ووجه رواية المدنيين ما رواه مالك والبخاري ومسلم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((إذا أمن الإمام فأمنوا)) وهو أظهر؛ لأن حمله على بلوغ الإمام محل التأمين مجاز، والأصل عدمه. وفي المسألة قول ثالث لابن بكير بالخيار بين التأمين والترك.
وَيُسِرُّ كَالْمَامُومِ وَالْمُنْفَرِدِ. وَقِيلَ: يَجْهَرُ فِي الْجَهْرِ
هذا من الاختصار الحسن لإعطائه الحكم في الثلاثة. وقوله: (وَقِيلَ: يَجْهَرُ) أي: الإمام في الجهرية، لما تقدم من قوله عليه الصلاة والسلام:((إذا أمن الإمام فأمنوا)).
فرع:
وهل يؤمن المأموم على قراءة إمامه في صلاة الجهر إذا لم يسمع قراءة الإمام؟ روى ابن نافع عن مالك في العتبية: ليس عليه ذلك. قال في البيان: قوله ليس عليه ذلك يدل على أن له أن يقول بأن يتحرى الوقت كما يتحرى المريض الوقت الذي يرمي فيه الجمار عنه فيكبر. وذهب ابن عبدوس إلى أن ذلك عليه، وذهب يحيى بن عمر إلى أنه لا ينبغي له أن يفعل ذلك. فهي ثلاثة أقوال، أظهرها قول يحيى؛ لأن المصلي ممنوع من الكلام، والتأمين كلام أبيح له أن يقول في موضعه، وإذا تحرى فقد يضعه في غير موضعه. انتهى.
وقد يصادف آية عذاب، والله أعلم.
وَالسُّورَةُ بَعْدَهَا فِي الأُولَيَيْنِ سُنَّةٌ، وَكَذَلِكَ الصُّبْحُ وَالْجُمُعَةُ وَفِي كُلِّ تَطَوُّعٍ، وَفِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ قَوْلانِ .....
فَفِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ فَمَا زَادَ مَا لَمْ يُخْشَى الإِسْفَارُ، وَالظُّهْرُ تَلِيهَا، وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ تُخَفِّفَانِ، وَالْعِشَاءُ
مُتَوَسِّطَةٌ، وَالثَّانِيَةُ أَقْصَرُ ....
تقدم في كون السورة سنة بحث. وقوله: (فِي الأُولَيَيْنِ) يدل على أن الصلاة أكثر من ركعتين، ولذلك ذكر بعد هذا الكلام الصبح والجمعة، يريد: وصلاة السفر. وقوله: (فِي الأُولَيَيْنِ) يدل على أنه لا يقرأ في غيرهما بسورة، وهو المذهب. وقال محمد بن عبد الحكم: من قرأها في الأخريين فقد أحسن. وأخذ اللخمي وجوب السورة من قول
عيسى: من ترك السورة عامدًا أو جاهلاً أعاد أبدً. وأخذ استحبابها من قول مالك وأشهب: إذا ترك السورة فلا سجود عليه. ورد المازري الأول بأن الجاهل كالعامد، فلعل الإعادة أبداً مبنية على قول من رآها في ترك السنن.
وقوله: (وَفِي كُلِّ تَطَوُّعٍ) أي: السورة سنة في كل تطوع، فإن أراد أنها مشروعة فظاهر، وإن أراد أنه يسجد لها كما في الفرائض فلا؛ لأن المنصوص أنه إذا ترك السورة في النافلة أو الوتر لا شيء عليه. وقد صرح في البيان: بأن قراءة ما زاد على الفاتحة في الوتر مستحب لا سنة.
فائدة:
هذه المسألة إحدى خمس مسائل مستثناة من قولهم: السهو في النافلة كالسهو في الفريضة. الثانية: الجهر فيما يجهر فيه. الثالثة: السر فيما يسر فيه. الرابعة: إذا عقد ثالثة في النفل أتمها رابعة بخلاف الفريضة. الخامسة: إذا نسي ركنًا من النافلة وطال فلا شيء عليه، بخلاف الفريضة فإنه يُعيدها.
وقوله: (وَفِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ قَوْلانِ) أي: وفي الاقتصار على الفاتحة في ركعتي الفجر قولان، الْمَشْهُورِ الاقتصار، وسيأتي.
فرع:
تجوز قراءة سورتين مع الفاتحة فأكثر، والأفضل واحدة، قاله المازري. وأما المأموم يقرأ مع الإمام فيما يسر فيه، فيفرغ من السورة قبل أن يركع الإمام فقال ابن القاسم في العتبية: يقرأ غيرها ولا يقيم ساكتًا. قال في البيان: بعد ذلك هو بالخيار، إن شاء قرأ، وإن شاء سكت. انتهى. وهو خلاف ظاهر قول ابن القاسم، والله أعلم. وكره مالك في العتبية تكرير {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] [55/ أ] في ركعة واحدة، وقال: هذا من محدثات الأمور. ومقتضى كلامه في البيان أن هذه الكراهة خاصة بحفظ القرآن، وأما
غيره فلا؛ لأنه قال: كره مالك للذي يحفظ القرآن أن يكرر (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في ركعة واحدة؛ لئلا يعتقد أن أجر من قرأ القرآن كله هو أجر من قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثلاث مرات، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم: أنها تعدل ثلث القرآن، وليس ذلك معنى الحديث عند العلماء، ولو كان ذلك معناه عندهم لاقتصرنا على (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في الصلاة بدلاً من السور الطوال، ثم ذكر معنى الحديث، فانظره فيه.
فَفِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ فَمَا زَادَ مَا لَمْ يُخْشَى الإِسْفَارُ، وَالظُّهْرُ تَلِيهَا، واَلْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ تُخَفَّفَانِ، وَالْعِشَاءُ مُتَوَسِّطَة، وَالثَّانِيَةُ أَقْصَرُ ....
واختلف في المفصل، فقيل: من الشورى. وقيل: من الجاثية. وقيل: من الحجرات. وقيل: من قاف. وقيل: من النجم. وقيل: من الرحمن.
وقوله: (وَالظُّهْرُ تَلِيهَا) ظاهره أنها أقصر، وهو قول مالك ويحيى بن عمر، وقال أشهب: هي كالصبح.
وقوله: (وَالثَّانِيَةُ أَقْصَرُ) أي: والركعة الثانية أقصر، ونص بعضه معلى كراهة كون الثانية أطول: هي كالصبح.
وقوله: (واَلْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ تُخَفَّفَانِ) قال في البيان: اختلف في العصر فقيل: إنها والمغرب سيان في قدر القراءة، وإليه ذهب ابن حبيب. وقيل: إنها والعشاء الآخرة سيان. وهذا مع الاختيار، وأما مع الضرورة – كالسفر – فله التخفيف بحسب الإمكان. وقد أجاز مالك القراءة في الصبح في السفر بسبح والضحى.
وَيُسْتَحَبُّ الْقُنُوتُ سِرّاً فِي ثَانِيَةِ الصُّبْحِ قَبْلَ الرُّكُوعِ كَفِعْلِ مَالِكٍ، أَوْ بَعْدَهُ، وَلا يُكَبِّرُ لَهُ، وَفِيهَا: اخِتَيارُ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُك إِلى آخِرِهِ، وَيَجُوزُ بِغَيْرِهِ، أَوْ يَدْعُو بِمَا شَاءْ، وَفِيهَا: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: الْقُنُوتُ فِي الْفَجْرِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ ....
والْمَشْهُورِ: أن القنوات في الفجر فضيلة، وقيل: يُسجد له فهو سنة. وقال يحيى بن يحيى: إنه غير مشروع. ومسجده بقرطبة – إلى حين أخذها الكفار – على الترك. وقال
علي بن زياد: من تركه متعمدًا فسدت صلاته. وهذا يحتمل أن يكون على أحد القولين في تارك السنن متعمدًا، ويحتمل أن يكون على الوجوب.
فإن قيل: تخصيصه بالعامد لا يقتضي الوجوب. قلت: راعى الخلاف في الناسي. وقال أشهب: من سجد له أفسد على نفسه. وقوله: سرًا هذا هو الْمَشْهُورِ، كما سيأتي.
والأفضل فيه قبل الركوع؛ رفقًا بالمسبوق، ولما فيه من عدم الفصل بين الركوع والسجود. واختار ابن حبيب والشافعي: بعده. وقاله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقوله: (نَسْتَعِينُك) إلخ، أي: نستعينك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونخنع لك، ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد، إن عذابك بالكافرين ملحق. ومعناه: نستعينك على طاعتك، ونستغفرك من التقصير عن خدمتك. ونؤمن بك، ونصدق بما ظهر من آياتك، ونتذلل لعظمتك. ونخلع الأديان كلها لوحدانيتك. ونترك من يكفرك؛ أي: من يجحد نعمتك. اللهم إياك نعبد؛ أي: لا نعبد إلا إياك. ولا نسجد إلا لك، ونبه على السجود؛ لأنه أشرف أحوال الصلاة، إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. وقال غيره: نرجو رحمتك؛ لأن أعمالنا لا تفي بشكر نعمتك، فما لنا ملجأ إلا رجاء رحمتك، ونخاف عذابك. الجد؛ أي: الثابت، وهو بكسر الجيم، هو ضد الهزل. وملحق روى بكسر الحاء، أي: لاحق، وبالفتح: اسم مفعول، والفاعل هو الله والملائكة. و (يَدْعُو بِمَا شَاءْ) أي: من أمر دينه ودنياه في القنوت.
وَيَجْهَرُ فِي أُولَيَيْنِ غَيْرَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَما فَوْقَ ذَلِكَ قَلِيلاً، وَالْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَقَطْ كَالتَّلْبِيَةِ .......
في كلامه قصور؛ لأنه إنما يتناول ما زاد على الركعتين دون الصبح والجمعة وصلاة السفر.
وقوله: (وَما فَوْقَ ذَلِكَ) أي: ومن يليه، هو أدنى مراتب الجهر. وجهر المرأة كسرها، فتسمع نفسها فقط.
وَلا يُجْزِئُ الإِسْرَارُ مِنْ غَيْر تَحْرِيكِ لِسَانٍ، وَيَجُوزُ الإِسْرَارُ فِي النَّوَافِلِ ليْلاً، وَفِي الْجَهْرِ فِيهَا نَهَاراً قَوْلانِ .....
لأنه إذا لم يحرك لسانه لم يقرأ، وإنما فكر. وانظر: هل يجوز للجنب ذلك حينئذ؟ قال ابن القاسم: ويجزئ إذا حرك لسانه، وأن يسمع نفسه أحب إلى.
(وَيَجُوزُ الإِسْرَارُ فِي النَّوَافِلِ ليْلاً) أي: والأفضل الجهر. (وَفِي الْجَهْرِ فِيهَا نَهَاراً قَوْلانِ). ووقع في بعض النسخ: (وفي كراهة الجهر فيها نهارًا قولان). وظاهر المذهب أن الجهر خلاف الأولى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة النهار عجماء)).
الْقِيَامُ إِنْ كَانَ يَثْبُتُ بَزَوَالِ الْعِمَادِ كُرِهَ
أي: الفرض الثالث القيام.
واعلم أن مراتب الصلاة سبع: أربع على الوجوب، وثلاث على الاستحباب.
فالأربع: أن يقوم مستقلاً، ثم مستندًا، ثم يجلس مستقلاً، ثم مستندًا، فمتى قدر على واحدة وانتقل إلى التي تليها بطلت صلاته.
والثلاث: أن يستلقي على جنبه الأيمن، ثم على ظهره مستلقيًا، ثم على الأيسر.
وفي بعض النسخ بعد قوله: إن كان يثبت بزوال العماد كره، وإن كان يسقط بطلت؛ لأنه إذا سقط [55/ ب] بزوال العماد صار في معنى المضطجع، وهذا صحيح على أصل المذهب، وصرح بذلك ابن شاس.
فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَهَا أَوْ فِيهَا تَوَكَّأ ثُمَّ جَلَسَ
ظاهرٌ مما تقدم.
وَلا بَاسَ بهِ فِي النَّافِلَةِ لِلْقَادِرِ
أي: بالجلوس في النافلة مع القدرة على القيام.
ثُمَّ اسْتَنَدَ إِلَى غَيْرِ جُنُبٍ أَوْ حَائِضٍ، فإن استند إلى أحدهما أعاد في الوقت
هذه المرتبة الرابعة. وقوله: (إِلَى غَيْرِ جُنُبٍ أَوْ حَائِضٍ) المازري: على سبيل الأولى. اللخمي والمازري: ويتخرج جواز ذلك على قول ابن مسلمة بجواز الاستناد إلى الحائض والجنب، ونقل عن بعض القرويين أنه لم يحمل قول أشهب على الخلاف، بل حمله على ما إذا تيقنت طهارة ثيابهما، وقول ابن القاسم على ما إذا لم تتحقق الطهارة، قال: والقول بحمل قوليهما على الخلاف أظهر. انتهى. قال ابن القاسم في العتبية: فإن استند إلى جنب أو حائض أعاد في الوقت. قال في التنبيهات: ذهب أكثر شيوخنا إلى أن علة الإعادة كون المصلي باشر نجاسة في أثوابهما، فكان كالمصلي عليها. وقال بعضهم: بل حكم المستند إليه حكم المصلي؛ لأنه كالمعاون له بإمساكه، فيجب أن يكون على أكمل الحالات، ورد بأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون الممسك متوضئًا، وهذا لا يقوله أحد. انتهى بالمعنى. وما ذكره الباجي عن بعض القرويين من أن قول ابن القاسم ليس مخالفًا لقول أشهب نحوه لابن أبي زيد، فإنه رأى أن العلة في كراهة ابن القاسم الاستناد إليهما كون ثيابهما لا تخلو من النجاسة غالبًا، ونقل ابن يونس عنه إذا تحققت الطهارة الجواز. قال ابن بشير: إنما العلة في ذلك بعدهما عن الصلاة بخلاف غيرهما.
وَيُومِئُ بِالسُّجُودِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ، وَيُكْرَهُ رَفْعُ شَيْءٍ يَسْجُدُ عَلَيْهِ
اشتراط عدم القدرة في الفرض متفق عليه، واشترطه ابن القاسم في النافلة أيضاً، ولم يشترطه ابن حبيب، وأجاز له إذا صلى جالسًا أن يؤمئ بالسجود من غير علة. وإذا أومأ بالسجود إلى الأرض وهو جالس، فهل يضع يديه على الأرض؟ وهو قول اللخمي، أو لا؟ وهو قول أبي عمران، لأن اليدين إنما يسجدان مع الوجه.
واعلم أنه لا يسقط عندنا ركن للعجز عن آخر، فالعاجز عن السجود إن قدر على القيام والركوع قام وركع وأومأ للسجدة الأولى، ثم يجلس ويؤمئ للسجدة الثانية، فإن عجز عن السجود والجلوس وقدر على الركوع ركع وأومأ للسجدتين من قيام، والله أعلم.
وقوله: (وَيُكْرَهُ رَفْعُ شَيْءٍ) حكى اللخمي في ذلك الاتفاق. قال: واختلف إن فعل، ففي المدونة وإن فعل أو جهل ذلك لم يعد. وقال أشهب: لا يجزئه، ويُعيد أبداً إلا أن يومئ برأسه. انتهى. قيل: وقول أشهب تفسير لقول مالك.
ثُمَّ عَلَى الأَيْمَنِ كَالْمُلْحَدِ، ثُمْ مُسْتَلْقِياً وَرِجْلاهُ إِلَى الْقِبْلَة، أَوْ عَلَى الأَيْسَرِ. وَثَالِثُهَا: هُمَا سَوَاءٌ. وَقِيلَ: الاسْتِلْقَاءُ قَبْلَ الأَيْمَنِ، وَيُومِئُ فِيهِمَا
القول بتقديم الاستلقاء لابن القاسم، والقول بتقديم الأيسر لابن المواز وابن الماجشون ومطرف وأصبغ، والتسوية ظاهر المدونة لقوله: يصلي على جنبه أو هره لكن تؤول على أنه أراد تقدمة الأيسر، بل صرح اللخمي بأنه في متن المدونة، ولم أر من صرح بهذا القول، غير أنه مقتضى كلام التونسي، ولفظه: ومن لم يقدر على الجلوس صلى على جنبه أو ظهره ثم ذكر قول ابن المواز.
وقوله: (وَيُومِئُ فِيهِمَا) أي: في حالتي الجنب يمينًا وشمالاً، والاستلقاء.
وقال ابن راشد: في حالتي الركوع والسجود. والقول بأن الاستلقاء قبل الأيمن لابن القاسم في الواضحة.
فَإِنْ عَجَزَ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ سِوَى نِيَّتِهِ فَلا نَصَّ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ إِيجَابُ الْقَصْدِ، وعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ سُقُوطُهَا .......
أي: فإن عجز عن جميع أفعال الصلاة، ولم يقدر على شيء إلا النية فلا نص في مذهبنا. وعن الشافعي إيجاب القصد، لقوله صلى الله عليه وسلم:((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)). وعن أبي حنيفة: سقوطها؛ لأن النية وسيلة لتمييز غيرها، وقد تعذر الفعل المميز، فلا يخاطب بالنية، كما في حق العاجز عن الصيام وغير ذلك. ويمكن أن يكون سبب الخلاف بين الحنفي والشافعي: هل النية شرط فلا تجب، كسقوط الوضوء عند سقوط الصلاة، أو ركن فتجب؟
وقوله: (فَلا نَصَّ) أي: صريحًا. وأما الظواهمر فلا؛ لأن في الجلاب والكافي: ولا تسقط الصلاة عنه، ومعه شيء من عقله. وفي الرسالة نحوه. وللمصنف أن يمنع أن تكون هذه صلاة. ابن بشير: وقد طال بحثي عن مقتضى المذهب في هذه المسألة، والذي ترجح مذهب الشافعي. وقال المازري: إذا لم يستطع المريض أن يؤمئ برأسه للركوع والسجود، فهل يؤمئ بطرفيه وحاجبيه ويكون مصليًا بهذا مع النية؟ مقتضى المذهب – فيما يظهر لي – أمره بذلك، ويكون مصليًا بذلك، وبه قال الشافعية. وقال أبو حنيفة: لا يصلي في هذه الحالة وتسقط الصلاة. وقال ابن القاسم في العتبية: إذا لم يقدر على القراءة والتكبير لم يجزئه أن ينوي ذلك بغير حركة اللسان بقدر ما يطيق. وهذا وإن كان فيه إشارة إلى أن النية لا تنفع، فإن المراد أن يأتي بحركة اللسان إذا لم يعجز عنها. انتهى. وفيه نظر؛ لأن ظاهر قول ابن القاسم أنه عاجز عن حركة اللسان، [56/ أ] وعلى كلام المازري،
فقول المصنف: (عَجَزَ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ سِوَى نِيَّتِهِ) ليس بجيد؛ لأنه يقتضي أنه لو قدر على تحريك عينيه للزمته الصلاة بلا إشكال، وهو محل عدم النص على ما قاله المازري.
وَعَجْزُهُ لِمَشَقَّةٍ أَوْ خَوْفِ عِلَّةٍ أَوْ لا يَمْلِكُ خُرُوجَ الْحَدَثِ إِذَا قَامَ
لم يذكر في هذا الباب خلافًا كالتيمم، والظاهر أنه لا فرق بينهما، ونص ابن عبد الحكم على أن من لا يملك الريح إذا قام على سقوط القيام عنه، واستشكله سند بأن هذا سلس فلا يترك الركن له، ولو خاف من القيام انقطاع العروق ودوام العلة صلى إيماءً، قاله مطرف وعبد الملك.
فَإِنْ عَجَزَ عَنْ غَيْر الْقِيَامِ قَامَ وَأَوْمَأ، وَفِي إِيمَائِهِ وُسْعَهُ قَوْلانِ
قوله: (فَإِنْ عَجَزَ عَنْ غَيْر الْقِيَامِ) أي: لا يقدر على الركوع والسجود فإنه يصلي قائما إيماءً، والأقرب في الإيماء أن يكون إلى الوسع؛ لأنه أقرب إلى الأصل، وهو ظاهر مختصر ابن شعبان. وأخذ اللخمي والمازري من قوله في المدونة في المصلي قائمًا: يكون إيماؤه للسجود أخفض من إيمائه من الركوع أنه ليس عليه نهاية طاقته. ورده ابن بشير بأنه قال ذلك للفرق، لا لأنه لا يومئ وسعه. ومنشأ الخلاف هل الحركة إلى الركن مقصودة أم لا؟
فرع:
قال المازري: فإن زاد على ما أمر به، مثل من بجبهته قروح تمنعه من السجود عليها فإنه مأمور بأن يومئ ولا يسجد على أنفه. قال ابن القاسم في المدونة، فإن لم يفعل وسجد على أنفه فقال أشهب: يجزئه؛ لأنه زاد على الإيماء. واختلف المتأخرون في مقتضى قول ابن القاسم هل الإجزاء– كما قال أشهب– أم لا؟ فقال بعضهم– وحكاه عن ابن القصار– هو خلاف قول أشهب؛ لأن فرض هذا المصلي الإيماء، فإذا سجد على أنفه فقد ترك فرضه، فصار كمن سجد لركعته فلا يعتد بذلك، وإن كان زاد على مبلغ الركعة. وقال
غيره من الأشياخ: بل هو موافق للمذهب؛ لأن الإيماء لا يحصر بحدَّ ينتهي إليه، ولو قارب المومُئ الأرضَ أجزاه باتفاقٍ، فزيادةُ مساس الأرض بالأنف لا تؤثر، مع أن الإيماء رخصة وتخفيف، ومن ترك الرخصة وارتكب المشقة فإنه يعتد بما فعل، كمتيممٍ أبيح له التيمم لعذرٍ، فتحمل المشقة واغتسل بالماء فإنه يجزئه. انتهى.
فإن قيل: قد تقدم في حق من كان فرضه التيمم واغتسل الإجزاء، وكذلك من كان فرضه الفطر وصام، ولم يذكروا خلافًا، فهل يمكن أن يخرج فيه الخلاف من هذه المسألة؟
قيل: لا؛ لأن هذا لما سجد على أنفه، فقد يقال: إنه لم يأت بالأصل، وهو السجود، ولا ببدله، وهو الإيماء، وإنما نظير المسألتين المذكورتين– أن لو سجد على جبهته، والله أعلم.
فَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْجَمِيعِ لَكِنْ إِنْ سَجَدَ لا يَنْهَضُ قَائِماً فَقِيلَ: يُصَلِّي الأُولَى قَائِماً وَيُتِمُّ قَاعِداً. وَقِيلَ: يُصَلِّي قَائِماً إِيمَاءً، ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ فِي الأَخِيرَةِ.
أي: أن هذا المريض يستطيع القيام والركوع، والرفع منه، والسجود، والجلوس، لكن إذا جلس لا يستطيع النهوض إلى القيام، فقيل: يصلي الأولى قائمًا بكمالها ويتم بقية الصلاة جالسًا، وإليه مال التونسي واللخمي وابن يونس. وقال بعض المتأخرين: يصلي الثلاث الأول إيماءً؛ أي: يؤمئ بركوعها وسجودها وهو قائم، ثم يركع ويسجد في الرابعة، ويلزم على الأول الإخلال بالركوع من ثلاث ركعات، وعلى الثاني الإخلال بالسجود ثلاث ركعات، ورجح الأول بأن المكلف مطلوب أولاً بفعل ما قدر عليه حتى يتحقق عجزه، وتركه شيئًا مع القدرة عليه لما يأتي به بعد من باب تقديم المظنون على المقطوع.
وَلَوْ عَجَزَ عَنِ الْفَاتِحَةِ قَائِماً فَالْمَشْهُورِ الْجُلُوسُ
أي: إذا عجز عن جميعها حال القيام، ولم يعجز عنها حال الجلوس لدوخةٍ أو غيرها فالمشهور الجلوس؛ لأن القيام إنما وجب لها، فإذا لم يقدر أن يقف لها سقط. وقوله
(فَالْمَشْهُورِ) يقتضي أنه نصٌّ. وفي ابن بشير: وإن عجز عن القيام لكمال الفاتحة فهاهنا مقتضى الروايات أنه ينتقل إلى الجلوس، وهذا ظاهر على القول بوجوب الفاتحة في كل ركعة، وأما على القول بأنها فرض في ركعةٍ فينبغي أن يقوم مقدار ما يمكنه إلا في ركعة واحدة، فيجلس ويأتي بأم القرآن. انتهى.
خليل: وينبغي أن يقيد هذا بما إذا قام ولم يقدر بعد ذلك على الجلوس، وأما لو قدر على الجلوس فينبغي أن يقوم قدر ما يطيق، فإذا عجز جلس وكمل الفاتحة من غير خلاف.
وَيُسْتَحَبُّ التَّرَبُّعُ، وَقِيلَ: كَالتَّشَهُّدِ
أي: حيث قلنا يصلي جالسًا فالمستحب مِن الهيئةِ – على المشهور– التربُّعُ؛ لأنه بدلٌ مِن القيام وقيل: كجلوسِ الشتهد. واختاره المتأخرون. قال اللخمي: وهي التي اختارها اللهُ لعبادهِ، وهي جِلسة الأدنى بين يَدي الأعلى، والتربعُ جِلسة الأَكْفاء.
وَيُكْرَهُ الإِقْعَاءُ، وَهُوَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ. أَبُو عُبَيْدَةَ: عَلَى اَلْيَتَيْهِ نَاصِباً قَدَمَيْهِ. وَقِيلَ: نَاصِباً فَخِذَيْهِ ....
كُره لقولِ مالك: ما أدركت أحدًا من أهل العلم إلا وهو ينهى عنه. وما صدر به نَسبه الجوهريُّ في صحاحه إلى الفقهاء، ولفظه: والإقعاء أن يضع أليتيه على عقبيه بين السجدتين. وهذا [56/ ب] تفسير الفقهاء، وأما أهل اللغة فالإقعاء عندهم: أن يلصق الرجل أليتيه بالأرض ويتسانَدَ إلى ظهره. انتهى. قال بعضهم: مثل إقعاء الكلب والأسد.
زاد ابن يونس عن أبي عبيدة: ويضع يديه بالأرض.
وقوله: (وَقِيلَ: نَاصِباً فَخِذَيْهِ) لم أر هذا القول ولم أتحقق معناه.
وَلا حَدَّ فِي تَفْرِيِقِ الأَصَابِعِ وَضَمِّهَا فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ، وَجُلُوسُ التَّشَهُّدِ كَغَيْرِهِ، وَيُكَبِّرُ لِلدُّخُولِ فِي الثَّالِثَةِ .......
أي: لا حد في تفرقة الأصابع، بل يفعل ما تيسر عليه. ونص مالك على أن الفعل الخاص من البدع. واستحب ابن شعبان ضمها في السجود؛ لاستقبال القبلة بسائر أصابع اليد بخلاف تفرقتها.
وقوله: (وَجُلُوسُ التَّشَهُّدِ) أي في حق الجالس كغيره من الجلوس بين السجدتين. والضمير في (وَيُكَبِّرُ لِلدُّخُولِ فِي الثَّالِثَةِ) عائد على المصلي جالسًا، فيكَبِّرُ إذا تَمَّ تشهدُه، ويتربع على المشهور.
وَالرَّمِدُ يَتَضَرَّرُ بِالْقِيَامِ، وَغَيْرُهُ كَغَيْرِهِ
(وَغَيْرُهُ) أي: من الركوع والسجود. (كَغَيْرِهِ) أي: من ذوي العذر.
وَفِيهَا فِي قَادِحِ الْمَاءِ: يُعيد أبداً، وَعُلَّلَ بِتَرَدُّدِ النُّجحِ فِيهِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: مَعْذُورٌ. وَهُوَ الصَّحِيحُ .......
لما ذكر أن الرَّمِدَ كغيرِه خشي أن ينقض عليه بهذه المسألة؛ فذكرها ليبين أنه اختار خلاف مذهب المدونة، وقد اعترض الشيوخ مذهب المدونة بأن التداوي مباح؛ فينبغي أن لا يُعيد، وعلل مذهب المدونة بتردد النجح كما ذكر المصنف، وأجيب بأن الظن عند الأطباء حاصل بالنجح، ولم يكلفوا اليقين.
وقوله: (يُعيد أبداً) زاد في سماع موسى: يقوم ويصلي وإن ذهبت عيناه. وقول أشهب رواية أيضاً عن مالك، رواها ابن وهب، واختارها التونسي وابن محرز، وأجازه مالك في كتاب ابن حبيب في اليوم ونحوه، وكرهه فيما كثر من الأيام. والخلاف مقيد بما إذا أدى ذلك إلى الاضطجاع، وأما إن أدى إلى ترك القيام للجلوس فإنه يصلي جالسًا، ويجوز له ذلك، قاله المازري، ولم يَحْكِ فيه خلافًا.
ثُمَّ حَيْثُ خَفَّ الْمَعْذُورُ انْتَقَلَ إِلَى الأَعْلَى
(خَفَّ) أي: وجد في نفسه القوة انتقل إلى الأعلى، فإن كان جالسًا قام، وإن كان يومئ ركع وسجد كذلك، وهو ظاهر.
وَلا يَتَنَفَّلُ قَادِرٌ عَلَى الْقُعُودِ مُضْطَجِعاً عَلَى الأَصَحِّ
قوله: (قَادِرٌ عَلَى الْقُعُودِ) ظاهره سواءٌ كان مريضًا أو صحيحًا، وحكى اللخمي في المسألة ثلاثة أقوال: أجاز ذلك ابن الجلاب للمريض خاصة، وهو ظاهر المدونة، وفي النوادر المنع وإن كان مريضًا، وأجازه الأبهري للصحيح، ومنشأ الخلاف القياسُ على الرُّخَصِ.
فَلَوِ افْتَتَحَهَا قَائِماً ثُمَّ شَاءَ الْجُلُوسَ فَقَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، بِخِلافِ الْعَكْسِ
تصور هذا الكلام ظاهرٌ بناءً على أن التخيير في الجملة يقتضي التخيير في الأبعاضِ أم لا؟ كخصال الكفارة، وقسم اللخمي المسألة على ثلاثة أقسام: إن التزم القيام لم يجلس، وإن نوى الجلوس جلس، فإن نوى القيام ولم يلتزمه فقولان.
الرُّكُوعُ: وَأَقَلُّهُ أَنْ يَنْحَنِيَ بِحَيْثُ تَقْرُبُ رَاحَتَاهُ مِنْ رُكْبَتَيْهِ
أي: الفرض الرابع: الركوعُ، وأقله أن ينحني بحيث تقرب راحتاه من ركبتيه، والراحتان الكفان، ثم بين أكملَه، فقال:
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْصِبَ رُكْبَتَيْهِ وَيَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَيْهِمَا وَيُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ وَلا يُنَكِّسَ رَاسَهُ إِلى الأَرْضِ ......
(يَنْصِبَ) أي: يقيم ركبتيه معتدلتين، والأفعال منصوبة عطفًا على (يَنْصِبَ)، فهي على الاستحباب. (وَيُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ) أي: تجنيحًا وَسَطًا، وهو خاصٌّ بالرَّجُلِ، وأما المرأةُ فيطلب في حقها الانضمامُ، ولا ينكس رأسه بل يكون ظهره مستويًا، وقد ورد النهي عن الإفراط في الركوع.
الْخَامِسُ: الرَّفْعُ: فإِنْ أَخَلَّ بِهِ وَجَبَتِ الإِعَادَةُ عَلَى الأَشْهَرِ، فَلَوْ لَمْ يَعْتَدِلْ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَجْزَأَهُ وَيَسْتَغْفِرُ اللهَ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لا يُجْزِئُهُ. وَقِيلَ: إِنْ قَارَبَ أَجْزَأَهُ، وَعَلَى وُجُوبِ الاعْتِدَالِ، ففِي وُجُوبِ الطُّمَأنِينَةِ فيهِ وَفِي غَيْرِه قَوْلانِ، وَفِيهَا: وَلا أَعْرِفُ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي رَفْعٍ وَلا خَفْضٍ، وَرَوَى أَشْهَبُ: يُسْتَحَبُّ فِيهِمَا
أي: الفرض الخامس: الرفعُ من الركوع. وقوله: (فإِنْ أَخَلَّ بِهِ) أي تَرَكَه جملةً، والأشهر هو الصحيحُ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي:"صَلِّ فإنك لم تُصَلِّ" فقال: علمني يا رسول الله. فأمره بالتكبير والقراءة ثم قال له: "اركع حتى تطمئن راكعًا ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، وافعل ذلك في صلاتك كلها" أخرجه البخاري ومسلم.
ومقابل الأشهرِ رواية عن مالك يَرى أن الرفعَ سُنة، ووجهُه التمسكُ بظاهر القرآن في الأمر بالركوع والسجود، ولم يَذكر الرفع، وهو بعيد.
ولو قال المصنف: على الْمَشْهُورِ لكان أولى، لأن مقابل الأشهر لا حظ له هنا في الشُّهرة.
وقوله: (فَلَوْ لَمْ يَعْتَدِلْ .... إلخ) أي: إذا فرَّعنا على وجوب الرفع فاختلف، هل يجب الاعتدال؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه سنة، ونقل عن ابن القاسم، الثاني: أنه واجب، وهو قول أشهب وابن القصار وابن الجلاب وابن عبد البر، الثالث: إن كان إلى القيام أقرب أجزأه، قاله عبد الوهاب، حكاه ابن القصار أيضاً.
وظاهر المذهب وجوبُ الطمأنينة، [57/ أ] والواجب منها أدنى لبثٍ، واختلف في الزائد هل ينسحب عليه حكم الوجوب أو هو فضيلة؟ قولان، لكن قول المصنف:(وَعَلَى وُجُوبِ الاعْتِدَالِ، ففِي وُجُوبِ الطُّمَأنِينَةِ فيهِ) يقتضي أن الخلاف في الطمأنينة مرتب على القول بالوجوب فقط، وليس بجيد، بل الخلاف في الطمأنينة مطلقاً، ولو اكتفى بالخلاف الذي قدمه في الطمأنينة لكان أحسن، وقد تقدم ما يتعلق برفع اليدين.
وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُنْفَرِدِ فِي الرَّفْعِ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَلِلإِمَامِ الأَوَّلُ. وَقِيلَ: مِثلُهُ وَلِلْمَامُومِ الثَّانِي، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ: ولَك. وَابْنُ وَهْبٍ: لك ......
قد تقدم أن قوله: (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) سنة، فالاستحباب إنما هو راجع إلى الجميع، والْمَشْهُورِ: أن الإمام يقول: سمع الله لمن حمده فقط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد". (وَقِيلَ: مِثلُهُ) أي: مثل المنفرد في الجمع، وهو قول عيسى بن دينار وابن نافع، وقاله مالك أيضاً، واختاره عياض وغيره، لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله.
والأظهر إثبات الواو لأن الكلام –عليه– جملتان، تقديره: يا ربنا استجب لنا ولك الحمد، بخلاف ما إذا أسقطه، فإن الكلام يبقى جملة واحدة، والإطناب في الدعاء مطلوبٌ، وقد صحت الروايتان عنه صلى الله عليه وسلم.
السُّجُودُ: وَهُوَ تَمْكِينُ الْجَبْهَةِ وَالأَنْفِ مِنَ الأَرْضِ، وَفِي أَحَدِهمَا ثَالِثُهَا: الْمَشْهُورِ إِنْ كَانَتِ الْجَبْهَةُ أَجْزَأَ ....
أي: الفرض السادس السجود. والقول بالإجزاء – مع الاقتصار على أحدهما – حكاه أبو الفرح في الحاوي عن ابن القاسم، وقال: يُعيد في الوقت. والقول بنفي الإجزاء متى لم يسجد عليهما لابن حبيب، واختاره ابن العربي؛ لأنه صفة سجوده صلى الله عليه وسلم، فيكون مُبَيِّنًا لإطلاق الآية. والثالث: المشهور، ووَجْهُه أن معظم السجود على الجبهة، فإذا سجد عليها حصل المطلوب. قال عبد الوهاب: ويُعيد في الوقت لترك الأنف.
وَتَقْدِيمُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ أَحْسَنُ، وَتَاخِيرُهُمَا عِنْدَ الْقِيَامِ
أي: الأحسن تقديم اليدين قبل الركبتين في الهُوِيِّ إلى السجود، وفي أبي داود والنسائي عنه صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، ولكن يضع يديه قبل
ركبتيه"، وفي رواية قال: "يعمد أحدكم فيبرك في صلاته كما يبرك الجمل"، لكن في أبي داود: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض من الصلاة" وفي أبي داود والترمذي والنسائي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه ققبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه". وروى ابن عبد الحكم عن مالك – التخيير.
وقوله: (وَتَاخِيرُهُمَا عِنْدَ الْقِيَامِ) حكى فيه في البيان ثلاث روايات: الأولى: إجازة ترك الاعتماد وفعله، ورأى ذلك سواء، وهو مذهبه في المدونة، ومرة استحب الاعتماد وضعف تركه، ومرة استحب تركه، قال: وهو أولى الأقوال باصواب؛ لأنه قد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، ولكن يضع يديه قبل ركبتيه)) فإذا أَمَرَه بوضعِ اليدين أوَّلاً في سجوده –حتى لا يشبه البعير في بروكه– وجب أن يضع يديه في القيام حتى لا يشبه البعير في قيامه. انتهى.
وَأَمَّا الْيَدَانِ فَقَالَ سَحْنُونٌ: إِنْ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ بَيْنَهُمَا فَقَوْلانِ
أي: يتخرج في وجوب السجود على اليدين قولان من القولين اللذين ذكرهما سحنون في بطلان صلاة من لم يرفعهما من الأرض، فعلى البطلان يكون السجو عليهما واجبًا، وإلا فلا.
وَأَمَّا الرُّكْبَتَانِ وَأَطْرَافُ الْقَدَمَيْنِ فَسُنُّةٌ فِيمَا يَظْهَرُ، وَقِيلَ: وَاجِبٌ
كون السجود عليهما سنة ليس بالصريح في المذهب، قال ابن القصار: الذي يقوى في نفسي أنه سنة في المذهب. وإليه أشار بقوله: (فِيمَا يَظْهَرُ) أي من المذهب، لأنه اختيارٌ منه مخالف للمنقول. ووجه القول بالوجوب قوله صلى الله عليه وسلم:((أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء)). وقوله: (وَأَطْرَافُ الْقَدَمَيْنِ) احترازًا من أن يسجد على ظهور قدميه.
وَلَوْ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ كَالطَّاقَتَيْنِ أَوْ طَرَفِ كُمِّهِ صَحَّ
كَور العمامة –بفتح الكاف– مجمع طاقتها. وأطلق مالكٌ الإجزاء في الكَوْرِ، وقيده ابن حبيب بما ذكره المصنف، وحمله المصنف وغيره على الوفاق، وحملَه بعضُهم على الخلاف.
المازري بعد كلام مالك وابن حبيب: وهذا فيما شُدَّ على الجبهة، لا فيما بَرَزَ عنها حتى منع لصوقها بالأرض. أي: فإن ذلك لا يجزئ اتفاقًا، وكذلك قال ابن عات: ولا شك في صحة صلاة من صلى على طرف ثوبه أو كمه على المذهب، وأما حكمه ابتداء فالكراهة إلا لضرورةٍ كاتقاءِ حرِّ الأرض أو بردها.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، وَبَيْنَ مِرْفَقَيْهِ وَجَنْبَيْهِ، وَبيْنَ بَطْنِهِ وَفَخِذَيْهِ- بخِلافِ الْمَرْأَةِ- وَلَهُ تَرْكُهُ فِي النَّافِلَةِ إِذَا طَوَّلَ
هذا ظاهر، وفي المرأة قولٌ أنها كالرجل.
وَتُسْتَحَبُّ مُبَاشَرَةُ الأَرْضِ بِالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَفِي غَيْرِهِمَا مُخَيَّرٌ، فَإِنْ عَسُرَ لِحَرَّ أَوْ بَرْدٍ وَنَحْوِهِ سَجَدَ عَلَى [57/ب] مَا لا تَرَفُّهَ فِيهِ كالخُمْرَةِ وَالْحَصِيرِ وَمَا تُنْبِتُهُ الأَرْضُ، بِخِلافِ ثِيَابِ الصُّوفِ وَالْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ، وَالأَوْلَى وَضْعُ يَدَيْهِ عَلَى مَا يَضَعُ عَلَيْهِ جَبْهَتَهُ
استُحِبَّت المباشرة؛ لأنَّ ذلك مِن التواضع، ولذلك لم يتخذ في مسجدي الحرمين حصير. وحكى أبو طالب في القوت: أن تحصير المساجد من البدعِ المحدّثة.
والْمَشْهُورِ كراهة ثياب القطن والكتان، وأباح ذلك ابن مسلمة. والخُمْرُة: فرضٌ صغيرٌ. قال ابن بشير: قال المحققون، إذا كان الأصلُ الرفاهيةَ، فكل ما فيه رفاهيةٌ– ولو كان مما تنبته الأرض كالحصر السامان – فإنه يكره، وكلُّ ما لا تَرَفُّهَ فيه فإنه لا يكره، ولو كان مما لا تنبته الأرض كالصوف الذي لا يقصد به الترفه. وهذا إنما يكره في الوجه والكفين، وأما غيرهما من الأعضاء فيجوز أن توضع على كلِّ طاهرٍ، والفرقُ: تعلقُ
الخضوعِ بهما؛ ووجهُ استحباب وضع اليدين على ما يضع عليه الوجه أنهما يُرفعان مع الوجه ويُوضعان مع الوجه، فوجب أن يكون حكمُهما في ذلك حكمَه.
وفي قول المصنف: (فَإِنْ عَسُرَ) نظرٌ؛ لأنه يقتضي أنه إنما يجوز ما تنبته الأرض مع العسر، والمذهبُ جوازُ ذلك اختيارًا.
الرَّفْعُ مِنْهُ: وَالاعْتِدَالُ فِيهِ وَالطُّمَانِينَةُ كَالرُّكُوعِ
اعتُرِض على المصنف بأنه شبَّه الرفعَ من السجود– وهو متفق على وجوبه– بالرفع من الركوع، وهو مختلفٌ فيه.
وأُجيب بأن التشبيه في الطلبِ فقط، لا في الخلاف. وقاعدةُ المصنف أنه إنما يشبه بالخلاف إذا ذكر المشبه به بإثر المشبه، كما قال: والدمُ المسفوحُ نجسٌ، وغيرُه طاهرٌ، وقيل: قولان، كأكله. وأما مع البُعْدِ فإنما يُشبه في القول الراجح فقط.
واتُفق على وجوب الرفع من السجود، بخلاف الرفع من الركوع؛ لاختلاف شكل الركوع والسجود؛ لأن الركوع انحناء الظهر، والسجود إلصاق الوجه بالأرض، والفرق بينهما حاصل إذا ركع ولم يرفعْ رأسَه، والسجدةُ الواحدة– وإن طالت– لا تُتصور سجدتين، فلا بد من الفصل بين السجدتين حتى يكونا اثنتين لا واحدة، قاله المازري. نعم، اختُلف في الاعتدال في الرفع منه كالركوع.
وَلا بَاسَ بِالدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ، وَالرَّفْعِ مِنْهُ، بِخِلافِ الرُّكُوعِ، وَلَكِنْ يُسَبِّحُ، وَأَنْكَرَ التَّحْدِيدَ فِي الْجَمِيعِ بِشَيْءٍ مَخْصُوصٍ .....
مقضتى كلمه أن الدعاء في السجود ليس مستحبًا، وكذلك قال ابن أبي زيد؛ لأنه قال: وتدعو في السجود إن شئت. وينبغي أن يكون مستحبًا للآثار في ذلك، وأنكرَ مالكٌ التحديدَ في عدد التسبيحات أو في تعيين لفظها؛ لاختلاف الآثارِ في ذلك.
فائدة:
يكره الدعاء في خمسة مواضع باتفاق:
أولها: في أثناء الفاتحة، ذَكره صاحب البيان والتقريب؛ لأنها رُكنٌ فلا يُقطع لغيرِه، ولأنها ثناءٌ ودعاء فدعاؤها أَوْلَى.
وثانيها: بَعْدَ الفاتحة وقَبْلَ السورةِ، ذكره بعضُهم؛ لأن السورةَ سُنَّةٌ فلا يُشتغل عنها بما ليس بسنة.
وثالثها: في أثناء السورة، ذكره ابنُ عطاء. قال: لأنها سنةٌ، والدعاءُ ليس بسنةٍ. قال عنه ابن نافع في المجموعة: وإن كان في نافلة فيَمُرُّ بآيةِ استغفارِ فليستغفِرِ اللهَ، ويقول ما شاء الله، فلا بأسَ. وعلل ذلك بأن السورةَ في النافلةِ ليست مؤكدةً كما في الفريضة.
ورابعها: بَعْدَ الجلوسِ، وقَبْلَ التشهدِ، ذكرَه عبدُ الحق في نكته، وابنُ يونس، وصاحبُ البيان.
وخامسها: بَعْدَ سلام الإمام وقَبْلَ سلام المأموم، ذكره ابن الطلاع.
واختلف في أربعة مواضع:
بعد تكبيرة الإحرام وقبل القراءة، والْمَشْهُورِ– كما تقدم– الكراهةُ.
وفي الركوع، والمعروف من المذهب الكراهة، قال المازري: ووقفت لأبي مصعب على جواز الدعاء في الركوع. انتهى. ودليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: ((أما الركوع فعظموا فيه الرب))، فإن قيل: الدعاء لا ينافي التعظيم. قيل: فَهِمَ العلماءُ منه الأمرَ بقولِ: سبحان ربي العظيم وبحمده فقط.
وفي التشهد الأول، وذكر الباجي فيه قولين، والظاهرُ الكراهةُ؛ لأن السنةَ فيه التقصيرُ، والدعاءُ يُطوِّله.
والرابع: بين السجدتين، والصحيح الجواز، وهو الذي اقتصر عليه المؤلفُ وابنُ الجلاب وجماعةٌ.
وما عدا هذه المواضع فيجوز الدعاء فيه اتفاقًا كالسجود، وبعد القراءة، وقبل الركوع، والرفع من الركوع، والتشهد الأخير، والله أعلم.
وَلا يَقْرَأ فِي شَيْءٍ مِنْهَا
أي: في الركوع والسجود والرفع، وجاء في الصحيح النهيُ عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وأما الرفعُ فلا أعلم فيه حديثًا.
ثُمَّ يَقُومُ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ وَيَعْتَمِدُ عَلَى يَدَيْهِ لِلْقِيَامِ أَوْ يَتْرُكُ
نبه بقوله: (يَقُومُ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ) على خلاف الشافعية في استحبابهم جلسة الاستراحة.
فرع:
وإن جلس عامدًا فلا شيء عليه، وإن كان ساهيًا ففي العتبية عن مالك: يسجد للسهو. قال في البيان: ولم يراع في ذلك قول من رأى ذلك سُنةً؛ لضَعْفِ الخلاف عنده. انتهى. وروى ابن وهب وابن أبي أويس: لا سجود عليه إلا أن يجلس قدر ما يتشهد. وأشار مالك في العتبية إلى أن السجود إنما يجب على مَن جلس مُجْمِعًا على الجلوس، لا على الشاكِّ الذي يريد أن ينظر [58/ أ] ما يصنع الناس. وكذلك نص بعضهم على أن الشاكَّ لا شيءَ عليه.
وقوله: (وَيَعْتَمِدُ عَلَى يَدَيْهِ لِلْقِيَامِ أَوْ يَتْرُكُ) ظاهرهُ التسويةُ، وقد تقدم من كلام صاحب البيان في هذه المسألة ثلاثة أقوال.
وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا
أي: والركعةُ الثانيةُ مِثلُ الأولى، إلا أنَّ الثانية أقصرُ كما تقدَّم.
فرع:
وهل الأفضل في الثانيةِ أن يقرأ سورةً بعدَ السورةِ التي قرأ بها في الأُولَى، أو لا فرق بين ذلك والتي قبلها؟
عن مالك في ذلك روايتان، والذي اختاره ابن حبيب وابن عبد الحكم وابن رشد، واقتصر عليه في الجلاب أن ذلك أفضل، والله أعلم.
وَالسُّنَّةُ التَّكْبِيرُ حِينَ الشُّرُوعِ إِلا فِي قِيَامِ الْجُلُوسِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَسْتَقِلَّ قَائِماً لِلْعَمَلِ إِذْ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ رُكْنٍ ....
يعني: أن التكبير يكون للأركان في حال الحركة إليها إلا في قيام الجلوس من الثانية، فإنه بعد أن يستقل في الثالثة لوجهين:
الأول: العمل، وكَفَى به. ورُوي أن عمر بن عبد العزيز كَتب إلى عُمَّاله فأمَرهم بذلك، فلم يُنكر ذلك عليه أحدٌ.
الثاني: أن التكبير على قسمين: إمَّا مفتَتَحٌ به رُكْنٌ، كتكبيرة الإحرام. وإمَّا في حالِ الحركة إذا انتقل عن ركنٍ، كالتكبير للركوعِ وغيرهِ، والجلوسُ الأول ليس بركنٍ، فأخر التكبير ليُفتتح به ركنٌ وهو القيام، كتكبيرة الإحرام. وقيل: إنها مشبهة بابتداء صلاة، لما جاء أن الصلاة فرضت ركعتين فأُقِرَّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر.
تنبيه:
ما ذكرناه من أن المشروع أنه لا يكبر في الثالثة إلا بعد الاستقلال هو المشهور. وقيل: إن التكبير في القيام إلى الثالثة كالتكبير في القيام إلى الثانية، وعلى المشهور فذلك مطلوب في حق المصلي مطلقاً إمامًا كان أو مأمومًا أو مفردًا، لكن المأموم يزيدُ بأنه لا يَقوم حتى
ينتصبَ إمامُه ويكبِّر، فإذا انتصب وكبَّر قام حينئذ، ولم يكبر إلا بعد استقلاله. نص على ذلك في الرسالة.
جُلُوسُ التَّسْلِيمِ، وَيُسْتَحَبُّ فِي جَمِيعِ الْجُلُوسِ جَعْلُ الْوَرِكِ الأَيْسَرِ عَلَى الأَرْضِ وَرِجْلاهُ مِنَ الأَيْمَنِ نَاصِباً قَدَمَهُ الْيُمْنَى وَبَاطِنُ إِبْهَامِهَا إِلَى الأَرْضِ وَكَفَّاهُ مَفْرُوجَتَانِ عَلَى فَخِذَيْهِ ....
في صفة الجلوس ثلاثة مذاهب:
أحدها لأبي حنيفة: ينصب اليمنى ويقعد على اليسرى.
والثاني للشافعي: الجلوسُ الأول كأبي حنيفة، والثاني كمالك.
والثالث لمالك: وهو ما ذكره المصنف.
وقوله: (وَبَاطِنُ إِبْهَامِهَا إِلَى الأَرْضِ) قال ابن أبي زيد بعد ذلك: وإن شئت أحنيت اليُمنى في انتِصابِها، فجعلتَ جَنْبَ بَهْمِها إلى الأرض فواسعٌ.
وَيَعْقِدُ فِي التَّشَهُّدَيْنِ بالْيُمْنَى شِبْهَ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَجَانِبُ السَّبَّابَةِ يَلِي وَجْهَهُ، وَيُشِيرُ بِهَا عِنْدَ التَّوْحِيدِ، وَقِيلَ: دَائِماً. وَقِيلَ: لا يُحَرِّكُهَا ......
أي: يقبض الخنصر، والبنصر، والوسطى، ويُقيم السبابة ويَضم الإبهام إليها، قاله ابن شاس.
ابن عبد السلام: فما فعله في السبابة والإبهام هو العشرون، وما فعله في الثلاثة الأخر هو التسعة، وما ذكره مخالف لما ذكره غيره، فإن ابن بشير قال: شبه ثلاث وثلاثين. وقال الباجي: شبه ثلاث وخمسين. وهذا يعرف عند أهله.
وحاصل ما ذكره المصنف في التحريك ثلاثة أقوال، وتصورها واضح، غير أن كلامه يقتضي أن الْمَشْهُورِ التحريك عند الشهادة فقط، وهذا القول إنما نقله الباجي.
والمازري عن يحيى بن عمر، ونقلاً عن مالك: أنه كان يحركها من تحت البُرْنُس، فلما قال المازري: وعندي أن ابن عمر إنما حركها عند الشهادة؛ لأنها حركة تستعمل في تقرير الأمر وثبوته. ألا ترى أن الإنسان إذا حدَّث صاحبه حَرَّك أصبعه كالمقرر بها مُلِحًّا بها، فلما افتتح المصلي الشهادتين رأى ابن عمر أن ذلك مما يحتاج إلى التقرير، فكأنه قرر على نفسه وحقق عندها صحة ما أخذ فيه. انتهى.
واختلف في معنى ذلك، فقيل: إن ذلك مقمعة للشيطان. وقيل: إشارة للتوحيد. وقيل: يشتغل به عن السهو.
قال ابن رشد: وحكم هذه الإشارة السُّنَّيَّةُ، وقال غيرُه: الاستحباب.
وَفِيهَا: اخْتِيَارُ التَّحِياتُ لِلّهِ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ، الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ بَعْدَهُ دُونَ الأَوَّلِ .....
اختار مالك هذا؛ لأنه هو الذي كان عمر يعلمه للناس على المنبر. ولم ينكره عليه من حضرة من الصحابة، ومعناه مشهور. ولم يذكر المصنف الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه وكأنه سكت عنه اكتفاء بما قدمه؛ إذ محلها الجلوس الثاني.
التَّسْلِيمُ: وَيَتَعَيَّنُ السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَلَوْ نَكِّرَ فَالْمَشْهُورِ كَغَيْرِهِ. وَفِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ بِهِ قَوْلانِ .....
أي: الفرضُ التاسعُ التسليمُ.
(فَلَوْ نَكِّرَ) أي: قال: سلام عليكم، فالْمَشْهُورِ كغيرِ السلام عليكم فلا يجزئ.
ومقابل المشهور لابن شبلون. قال ابن الفاكهاني: والمشهور عدمُ اشتراطِ نيةِ الخروجِ بالسلامِ. وقال سند: ظاهر المذهب افتقارُه إلى نية. وكذلك قال الشيخ [58/ ب] عبد الحميد في استلحاقه، واقتصر صاحب الإشراف على الاشتراط، وحكَى في الجواهر القولين عن المتأخرين. وما ذكره المصنف– من اشتراط السلام– هو المعروف. وحكى الباجي عن ابن القاسم أنه قال: من سبقه الحدث وهو في آخر صلاته أجزأته. وأُنكر معنىً ونقلاً.
أما معنىً: فإن الأمة على قولين: مذهبُ الجمهور اشتراطُ السلام. والثاني– وهو مذهب أبي حنيفة– أن كل مُنافٍ يَقوم مقاهه بشرطِ نيةِ الخروجِ.
وأمَّا نقلاً: فلأنَّ الموجود لابن القاسم إنما هو في قوم صلوا خلف إمامٍ، فأَحْدَثَ في آخر صلاته وسلموا، فقال: لا إعادة عليهم. فقوله: لا إعادة عليهم. يريد المأمومين دون الإمام.
وَيَتَيَامَنُ الإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ قَلِيلاً مَرَّةٌ وَاحِدَةً، وَرُوِيَ مَرَّتَيْنِ
(يَتَيَامَنُ) كما قال ابن أبي زيد: يسلم واحدة قبالةَ وجهِه، ويتيامنُ برأسه قليلاً.
ابن عبد السلام: يريد– والله أعلم– بقدر ما يرى صفحة وجهه.
قال في التنبيهات: ظاهر المدونة أن سلام الإمام والفذ في الهيئة سواء، وسلام المأموم بخلاف ذلك، لأنه قال في الإمام: قبالة وجهه ويتيامن. وقال في المنفرد: يسلم واحدة ويتيامن قليلاً. ولم يقل قباله وجهه، وهو ظاهر. وقال في المأموم: يسلم عن يمينه، ثم يَرُدُّ على الإمام. وكذلك وصف سلام مالك خلف الإمام في العتبية، والمجموعة. واختلف الشيوخ في هذا، فذهب بعضهم إلى هذا الظاهر. وحكى ابن أبي زيد مثلَه، وإن كان الذي له في رسالته خلاف هذا، فإنه قال: ويسلم تسليمة واحدة يتيامن برأسه قليلاً، هكذا يفعل الإمام والرجل وحده. وأما المأموم فيسلم واحدة يتيامن بها قليلاً. فهو وإن لم يذكر
قبالة وجهه– كما ذكر في الفذ والإمام– فضمنه أنه قُبالة وجهه؛ لأنه لا يتيامن إلا مِنَ استقبالٍ. وإلى استواءِ سلام الثلاثة ذهب ابن سعدون. وإلى افتراق المأموم أشار عبد الحق والباجي وغيرهما، وهو ظاهر الكتاب. انتهى.
وقوله: (وَرُوِيَ مَرَّتَيْنِ) هي رواية ابن وهب، وسببُ الخلافِ اختلافُ الأحاديث، هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم واحدة أو اثنتين؟ وقد روى الترمذي:((أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم واحدة)). قال الباجي وغيرُه: وأحاديث التسليمة الواحدة غيرُ ثابتة، وأحاديثُ التسليمتين لم يُخَرِّج منها البخاري شيئًا، وخرَّجَ مسلمٌ في ذلك حديثين: عن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمتين)). وقال سعد: ((يسلم عن يمينه ويساره حتى يرى بياض خديه)). الباجي: وهي أخبار تحتمل التأويل، والقياس يقتضي إفراد السلام الذي يُتحلل به من الصلاة، وما زاد على ذلك فإنما هو للرد، وليس ذلك في الإمام والفذ. انتهى بمعناه. وذكر مالك أن على التسليمة الواحدة العملَ، ولفظُه على نَقْلِ ابنِ يونس: وقد سلم النبي صلى الله عليه وسلم واحدة، وكذلك أبو بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وغيرهم. قال مالك في غير المدونة: فكما يدخل في الصلاة بتكبيرة واحدة فكذلك يخرج منها بتسليمة واحدة. وعلى ذلك كان الأمر في الأئمة وغيرهم، وإنما حدثت التسليمتان منذ كان بنو هاشم.
وَالْمَامُومُ عَنْ يَمِينِهِ وَيُضِيفُ اثْنَتَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ، أَمَامَهُ ثُمَّ يَسَارَهُ إِنْ كَانَ فِيهِ أَحَدٌ، وَقِيلَ: يَسَارَهُ ثُمَّ أَمَامَهُ ....
مقابل الْمَشْهُورِ يسلم اثنتين فقط، الأولى عن يمينه، والثانية على الإمام، نقله ابن شاس وغيره، يريد هذا القائل، ويقصد بالثانية أيضاً الرد على المأموم. وعلى المشهورِ فالمشهورُ أنه يبدأ بالأمامِ قبل اليسار، وروى أشهب عن مالكٍ العكسَ.
وحكى عبد الوهاب ثالثاً بأنه مُخَيَّرٌ.
والردُّ على اليسارِ مشروطٌ بأن يكون على اليسار أحد.
مالك: ويجهر الإمام بتسليمة التحليل جهرًا، يُسمع نفسه ومَن يليه، ويُخفِي تسليمةَ الرد على مَن كان على يسارِه. المازري: قيل: لئلا يُقتدى به في ذلك، وقال بعضهم: التسليمة الأولى تستدعي الرد، واستدعاؤه يفتقر إلى الجهر، وتسليمةُ الرد لا يَستدعي بها ردًا؛ فلم تفتقر إلى الجهر.
فرع:
ولو قدم المأمومُ السلام على يساره، وتكلم قبل أن يسلم على يمينه فقال ابن القُرْطِيُّ: تبطل صلاته. وقال مطرف: صلاته تامة، عامدًا كان أو ناسيًا، فذَّاً كان أو إمامًا.
ابن أبي زيد: ولا وجه لفسادها؛ لأنه إنما ترك التيامن. وفَصَّلَ اللخميُّ فقال: إِن تَعمد الخروج بها لم تبطل صلاته، وإن سلم للفَضْلِ، ثم يَعودُ ويُسلم ويَخرج مِن الصلاة، ثم نسي وانصرف– وطال الأمر– أبطل صلاته. وجعل ابن بشير قول اللخمي جمعًا بين القولين، لا خلافًا.
وَفِي الْمَسْبُوقِ رِوَايَتَانِ
أي: هل يرد على الإمام أو على من يساره إذا فَرغ، كغير المسبوق، أو لا يَرُدُّ لفواتِ المحلِّ؟ روايتان. واختار ابن القاسم أنه يَرُدُّ على مَن سلم عليه، انصرف أم لا.
المازري: وعلل بعض المتأخرين ثبوته بأنَّ حكمَ الإمامِ باقٍ عليه في قضائه، فكأنَّ الإمام لم يفرغ بَعْدُ مِن [59/ أ] صلاتِه. وعلَّل نفيَه بأنَّ مِن سُنة الردِّ الاتصالُ بسلامِ الابتداء، فإذا عدم الاتصال لم يَثبت الرد. وهذا التعليل يقتضي تصور الخلاف في الرد، وإن كان من يرد عليه حاضرًا لم يذهب. وأشار بعض أشياخي إلى أن الخلاف لا يتصور مع حضور من يرد عليه وإنما يتصور مع غيبته. انتهى.
وَكُرِهَ الدُّعَاءُ بِالْعَجَمِيَّةِ وَالْيَمِينُ بِهَا. وَنَهَى عُمَرُ عَنْ رِطَانَةِ الأَعَاجِمِ، وَقَالَ: إِنهَا خِبٌّ
أي: في الصلاة. وقال في موضع آخر في المدونة: ولا بأس أن يدعو بها في غير الصلاة. وقال في الذي يحلف بالعجمية: وما يدريه أن الذي قال هو كما قال. اللخمي: فعلى هذا إن علم أن ذلك اسم الله جاز أن يحلف بها ويدعو بها. ثم إن النهي المذكور إنما هو في حق القادر على النطق بالعربية؛ ففي سماع ابن القاسم: سئل مالك عن العجمي يدعو في صلاته بلسانه، وهو لا يُفصح بالعربية، فقال –رضي الله عنه:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وكأنه خَفَّفَه. واختُلف في سبب الكراهةِ، فقيل: لأنه لا يعلم أنه اسم الله تعالى فيدعو به، وعلى هذا فيُكره في غيرِ الصلاة ويجوز فيها إذا علم ذلك. وهو قريب مما تقدم. اللخمي: وقيل: لكونه لم يَرِدْ عن السلف.
والرطانة: بفتح الراء وكسرها. والخِبُّ: بكسر الخاء، المكر والخديعة. وقيل: إنما نهى عمر عن ذلك إذا كان بحضرةِ مَن لا يَفهمه مِن بابِ كراهةِ تَناجي اثنين دونَ واحدٍ. نقله ابن يونس.
وعلى طرد هذا لو كان عربيان في جماعة عظيمة من الأعاجم لا يحسنون العربية، والعربيان يحسنان لسانها – لكان الأولى في حق العربيين التكلم بالعجمية. وقيل: إنما الكراهة في المساجد مطلقاً؛ لأن مالكًا كره أن يتكلم في المساجد بألسنة العجم، وإليه ذهب ابن يونس.
وَالتَّرْتِيبُ فِي قَضَاءِ يَسِيرِ الْفَوَائِتِ- وَهِيَ الْخَمْسُ فَمَا دُونَهَا أصْلاً أَوْ بَقَاءً، وَقِيلَ: الأَرْبَعُ- وَاجِبٌ مَعَ الذِّكْرِ ....
(وَالتَّرْتِيبُ) مبتدأ، وخبره (وَاجِبٌ مَعَ الذِّكْرِ). وقوله:(أصْلاً) أي: هي جميع ما فات. وقوله: (أَوْ بَقَاءً) أي: بقيت فوائت. وشهر المازري أن اليسير خمسٌ. ومقتضى
الرسالة أن الخمسَ في حيِّزِ الكثيرِ، واليسيرَ أربعةٌ، لقوله: وإن كانت يسيرة أقل من صلاة يوم بدأ بهن. وتؤول القولان على المدونة. قال في البيان: وقيل: الكثيرُ أربعُ صلواتٍ على ظاهرِ المدونةِ. وقال ابن يونس: إن ذكر صلوات إن بدأ بهن فات وقت الحاضرة، فإن كانت أربع صلوات فأقل فلا خلافَ بين أصحابنا أنه يَبدأ بهن وإِنْ فاتَ وقتُ الحاضرة. فإن كانت ستَّ صلواتٍ فأكثر بدأ بالحاضرة، واختلف إِنْ كانت خمس صلوات، فقيل: يبدأُ بهن. وقيل: يبدأ بالحاضرة. قال ابن حبيب: وإن كان الوقت متسعًا. انتهى.
وَيُقّدَّمُ ذَلِكَ عَلَى الْوَقْتِيَّةِ وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي سُقُوطِ قَضَاءِ الْوَقْتِيَّةِ حِينَئِذٍ عَنْ نَاسِيهَا مِنْ أَصْحَابِ الأَعْذَارِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: إِنْ ضَاقَ فَالْوَقْتِيَّةُ. وَقَالَ أَشْهَبُ: مُخَيَّرٌ
أي: ويقدم يسير من الفوائت على الحاضرة الوقتية– وإن ضاق الوقت عن إدراك الحاضرة – على الْمَشْهُورِ. ومقابلُه قولُ ابنِ وهب وأشهبَ. وقولُ ابن وهب ظاهرٌ؛ لأنه إذا قدم الفوائت– مع الضيق– تصير جميع الصلوات قضاء. والترتيب بين الفوائت والحاضرة واجبٌ على الْمَشْهُورِ، وقيل: مندوبٌ. وكلام المصنف يحتمل وجهين:
أولهما: أن يكون إنما تكلم على ترتيب الفوائت مع الحاضرة، وعلى ذلك حمله ابن راشد.
والثاني: وهو ظاهر لفظه، أنه إنما تكلم أوَّلاً على ترتيبِ الفوائتِ في أنفسِها، ثم على ترتيبها مع الحاضرة. لكن اعترضه ابن عبد السلام بأن هذا شيء لا يعلم لغيره، بل الذي ذكره غيره أن الترتيب فيما بين الفوائت أنفسها لا يتحقق فيه في المذهب نص للمتقدمين، واختار بعض الشيوخ سقوطه فيما بين المتماثلات كظهرين، بخلاف ظهر مع عصرٍ. قال: لكن مسائلهم تقتضي عندي أنه مطلوب وجوباً مع الذِّكر وغيرِه، في يسيرِ الفوائتِ وغيرِها. قال: وأما ما ذكره المصنف في قوة كلامه أنه واجب في اليسير دون الكثير فلا أعلمه لغيرِه.
خليل: أمَّا ما ذكره من أن مقتضى كلامهم وجوب الترتيب بين الفوائت في أنفسها وإن كثرت فهو كذلك، وأما ما قاله من وجبوه مطلقاً، فالذي ذكره المازري وجوبه مع الذكر. ونقل ابن يونس عن ابن القصار سقوطَ وجوبِه في المتماثلين دونَ غيرِهما. قال ابن القصار: وليس عن مالك في هذا نصٌّ. ابن هارون: وقول ابن القصار عندي مبنيٌّ على عدم مراعاة الأيام. وذكر ابنُ هارون في ترتيب الفوائت في أنفسها– إذا كانت مختلفة – ثلاثة أقوال:
الوجوب والسُّنِّية، والوجوب مع الذكر، والسقوط مع النسيان، وهذا هو الذي يؤخذ من التهذيب، لقوله: وإن نسي صُبحًا وظهرًا مِن غيرِ يومِه، فذكر الظهر وحدها فلما صلى بعضها تفكر في الصبحَ فسدتْ الظهر وصلى الصبحَ ثم الظهرَ، وإن ذكرها بعد أن فرغ أعاد الصبح فقط. انتهى. يريد: لأن إعادة المفعولات مستحبٌّ في الوقت، والفائتةُ لا وقت لها. وقال مالك في المجموعة: إن علم– وهو بمكانِه– أعادها، وإن طال فلا شيء عليه، وجعل القُرْبَ كالوقتِ. ونَقَلَ في المقدمات فيما إذ قدم بعضَ الفوائت على بعض، متعمدًا أو جاهلاً، كما إذا نسي الصبح والظهر، فذكر ثم صلى الظهر ذاكرًا للصبح ثلاثة أقوال: الأول: [59/ ب] ليس عليه إعادة الصلاة التي صلاها؛ لأنها مفعولة قد خرج وقتها، وهو يأتي على ما في سماع سحنون عن ابن القاسم. والثاني: أن عليه إعادتها. والثالث: الفرق بين أن يتعمد الصلاة الثانية قبلَ الأولى، أو يدخل في الثانية ثم يذكر الأولى ويتمادى عليها، وهو يأتي على قول ابن القاسم في المدونة، انتهى.
وقوله: (وَفِي سُقُوطِ .... إلخ) لو أسقط المصنف هذا الفرع واكتفى بما تقدم– كما فعل ابن شاس– لكان أولى، وكلام ابن شاس أولى من وجهٍ آخر؛ وذلك لأنه إنما ذكر اليسير في ترتيب الفوائت مع الحاضرة، ثم قال: وترتب الفوائت كما تُرتب الحاضرة معها، وأطلق.
فرع:
حكى في المقدمات الاتفاق على وجوب ترتيب الحاضرتين، وأنه إن خالف أعاد الثانية أبداً بلا خلاف. خليل: كما لو طَهُرت الحائضُ قبل الغروب وصلَّت العصرَ ذاكرةً للظهر.
فَلَوْ بَدَأَ بِالْحَاضِرَةِ سَهْواً صَلْى الْمَنْسِيَّةَ وَأَعَادَ فِي الْوَقْتِ. وَفِي تَعْيِينِ وَقْتِ الاخْتِيَارِ أَوِ الاضْطِرَارِ قَوْلانِ ....
مثاله لو نسي الظهر، ثم صلى العصر والمغرب ثم ذكر، فإنه يصلي الظهر ويُعيد المغرب لبقاء وقتها، فلو لم يذكر إلا بعد العشاء صَلَّى الظهر وأعاد العشاء لبقاء وقتها. وهل يُعيد المغرب؟ إن أُريد الوقت الاختياري؟ لم يُعد؛ لخروج الوقت الاختياري، وإن أريد الضروري أعادها مع العشاء، والْمَشْهُورِ أنه يُعيد في الوقت الضروري، والقائل بوقت الاختيار هو ابن حبيب.
وقد تقدم سؤال ابن دقيق العيد لمن فرق في الْمَشْهُورِ بين هذه المسألة وبين من صلى بثوب نجس– فإن الْمَشْهُورِ فيها الإعادة في وقت الاختيار– والجوابُ عنه.
وَفِيهَا: رَجَعَ إِلَى أَنَّهُ لا إِعَادَةَ عَلَى مَامُومِيهِ
أي: إذا أعاد إمامهم في الوقت للترتيب، فالذي رجع إليه مالك أنه لا إعادة على مأموميه، وكان أَوَّلاً يقول: يُعيدون معه. وهو أقيس. قال ابن بزيزة: وهو الْمَشْهُورِ بناءً على الارتباط، ويُختلف على هذا في إعادتِّهم لإعادتِه لو صلَّى بنجاسة ناسيًا.
وَعَمْداً فَكَذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يُعيد أبداً بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ أَوْ لا
يعني: إذا بنينا على أن الترتيبَ واجبٌ، فهل هو شرط أَوْ لا؟ الْمَشْهُورِ نفي الشرطية، وروى ابن الماجشون عن مالٍك الشرطية، وتظهر ثمرة الخلاف لو ذَكَرَ صلاةً في صلاةٍ ولم يَقطع، فعلى المشهورِ تَصِحُّ؛ لأنه إنما خالف واجبًا ليس بشرطٍ، وعلى الشرطية لا
تصح. فقوله: (وَعَمْداً) أي: فلو قدم الحاضرة عمدًا فإنه يُعيدها في الوقت، كما لو قدمها ناسيًا، ويُختلف في إعادة المأمومين إن كان إمامًا، وهذا معنى قوله:(فَكَذَلِكَ)، وعلى رواية ابن الماجشون تفسد صلاة المأموم. وأخذ بعض الشيوخِ من المدونة مثل رواية ابن الماجشون مِن المسألة التي تقدَّم ذِكرها في ترتيب الفوائتِ بعضِها مع بعضٍ، وخالف المصنف هاهنا الغالب من عادته؛ لأن الفسادَ مرتَّبٌ على الشرطيةِ، والإعادةُ في الوقت مُرتبةٌ على عَدَمِها، والله أعلم.
فَإِنْ ذَكَرَ فَائِتَةً فِي وَقْتِيَّةٍ، فَفِي وُجُوبِ الْقَطْعِ وَاسْتِحْبَابِهِ قَوْلانِ
هو ظاهر مما تقدم، لكن استحباب القطع مشكل؛ لأنه إن وجب الترتيب وجب القطع، وإن لم يجب فلا يبطل العمل المتلبس به لتحصيل المستحب.
وَفِي إِتْمَامِ رَكْعَتَيْنِ إِنْ لَمْ يَعْقِدْ رَكْعَةً قَوْلانِ
لذكر المنسية ثلاثة أقسام.
قسم قبل الدخول في الصلاة، وقسم بعدها –وقد تقدما-، وقسم وهو فيها، والكلام الآن فيه، والقولان لمالك، وظاهر المذهب وجوبُ القطع، وهما في حق المنفرد. وأما المأموم والإمام فسيأتي الكلام عليهما. ومقتضى كلامه: أنه إن عقدها أضاف إليها أخرى وسلم عن نافلةٍ. وحصَّل في البيان في هذه المسألة سبعة أقوال:
الأول: لمالك في العتبية أنه يتم ركعتين ركع أو لم يركع، كان في فريضة أو نافلة.
الثاني: أنه يقطع ما لم يركع، وهو قوله في المدونة، وسواء –على مذهبه فيها– ذَكَرَ وهو في العصر صلاةَ الظهر من يومه، أو صلاةً قد خرج وقتها.
الثالث: أنه يقطع أيضاً في المسألتين، رَكَعَ أو لم يركع، وهو أحدُ قولي مالك في المدونة، ولا فَرْقَ على هذا بين الفريضة والنافلة.
الرابع: الفرقُ بين النفل والفرض، فيقطع في النافلة، رَكع أو لم يركع، ولا يَقطع في الفريضة إذا ركع، ولابن القاسم أيضاً –في كتاب الصلاة الثاني من المدونة– أنه لا يقطع في النافلة، ركع أو لم يركع.
خليل: يريد قوله في ذاكر سجود السهو وهو في الصلاة، أنه إن أطال القراءة أو ركع بطلت الأولى، وإن كانت هذه نافلة أتمها، ولا شك أن الأولى إذا بطلت صارت منسية ذكرها في نافلة، وسيأتي ذلك في سجود السهو.
الخامس: إن كان معه ركعة أتم ركعتين، وإن لم يركع شيئًا أو ركع ثلاث ركعات قطع، وهو اختيار ابن القاسم في المدونة.
السادس: لابن حبيب: الفرقُ بين أن يذكر الظهر في العصر، أو المغرب في العشاء، فيقطع ركع أو لم يركع، كان مع إمام أو وحده، وإن ذكر صلاة قد خرج وقتها وهو في صلاة تمادى إن كان مع الإمام، وإن كان وحده أتم ركعتين، ركع أو لم يركع.
السابع: إن كان في خناق من الوقت قَطَعَ ما لم يركع، وإن لم يكن في خناق منه تمادى وإن لم يركع.
قال: [60/ أ] وهذا كله اختلافُ اختيارٍ، إذ لا يتعلق بمن فعل شيئًا من ذلك حكمٌ عند من يرى خلافه إلا نقص الفضيلة. انتهى.
فرع:
إن ذكر بعد أن صلى ركعتين فإنه يسلم ويجعلها نافلة إن كانت غير ثنائية، وإن كانت فهو كمن ذكر المنسية بعد أن صلى أربعًا، فإنه يُسَلم ويكون كمَن ذَكر بعد أَنْ سلم، وإن ذكر في الثالثة قبل عَقْدِها رجع إلى الجلوس وسلم، وبعد عقدها قال مالك: يصلي الرابعة، ثم يصلي المنسية ويُعيد هذه. وقال ابن القاسم: يقطع بعد ثلاثٍ أحب إلى. وإن كانت مغربًا فقد تَمَّتْ، وصار كالذاكرِ بعد سلامه، قاله المازري.
فَإِنْ كَانَ إِمَاماً قَطَع أيضاً، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ: يَسْرِي فَلا يَسْتَخْلِفُ وَرَجَعَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: رَجَعَ عَنْهُ. وَرَوَى أَشْهَبُ: لا يَسْرِي فَيَسْتَخْلِفَ، وَإِنْ كانَ مَامُوماً تَمَادَى. وَفِي وُجُوبِ الإِعَادَةِ قَوْلانِ .....
أي: أن حكم الإمام إذا ذكرَ صلاة القطعُ، فالْمَشْهُورِ سريانُ الفساد إلى صلاة المأمومين؛ فلا يستخلف. وروى أشهب: لا يسري. والضمير في: (رَجَعَ) راجعٌ إلى مالك.
فائدة:
قاعدة المذهب –في القول الْمَشْهُورِ– كلما بطلتْ صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم، إلا في مسألتي نسيانِ الحَدَثِ وسَبْقِه. وقوله:(وَإِنْ كانَ مَامُوماً تَمَادَى) أي: مُطْلَقاً لحَِقِّ الإمام.
ابن عبد السلام: والتمادي مشكلٌ– على رأي مَن يُوجب الإعادةَ– إذْ فيه مراعاةُ حقِّ الإمامِ بالتمادي على صلاة فاسدة يجب على المأموم إعادتها، ولا حق للإمام في ذلك. وبالجملةِ فأكثرُ مسائل هذا الفصل قال بعض الشيوخ: إنها جَارِيّةٌ على الاستحسان. انتهى.
فَإِنْ كَانَ فِي الْجُمُعَةِ فَالْمَذْهَبُ: يُعيد ظُهْراً. وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ خَافَ فَوَاتَهَا تَمَادَى وَلا إِعَادَةَ لِفَوَاتِهَا، وَإِلا قَطَعَ وَقَضَى وَلَحِقَ ....
أي: فإن كان المأمومُ الذاكرُ للصلاةِ في صلاةِ جمعةٍ فإنه يتمادى مع الإمام ويُعيد ظهرًا، وهذا يَدل على أنها بدل من الظهر. وقال أشهب: إنما يَتمادى إذا خاف فواتها، ولا يُعيدها ظُهرًا؛ لأن الظهر صلاةٌ أخرى. وإليه أشار بقوله:(وَلا إِعَادَةَ لِفَوَاتِهَا) أي: لأن الجمعةَ فرضُ يومِها وقد فَرغت، وإنْ لم يَخَفِ الفواتَ قَطَعَ، وصلى الفائتةَ، ودخل مع الإمام، وفي نَقلِه لقولِ أشهبَ نقصٌ؛ لأنَّ ظاهرَه نفيُ الإعادة جملةً. وقال أشهب: إنْ أعاد ظُهرا فحسنٌ، نقله ابن يونس.
فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْجُمُعَةِ فَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ: يُعيد فِي الْوَقْتِ. وَرَجَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ إِلَيْهِ ......
قولُ ابن القاسم المرجوعُ عنه شبيهٌ بقولِ أشهبَ في الفرعِ السابق، ومنشأُ الخلاف: هل الجمعةُ بدلٌ مِن الظهرِ أو فرضُ يومِها؟
وَفِي وُجُوبِ تَرْتِيبِ كَثِيرِ الْفَوَائِتِ قَوْلانِ. وَلا تُقَدَّمُ إِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ اتِّفَاقاً، وَتُقْضَى
أي: اختُلف في وجوبِ ترتيبِ كثيرِ الفوائتِ مع الحاضرة على قولين، والْمَشْهُورِ سقوطُ الوجوب. وقوله:(وَلا تُقَدَّمُ إِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ اتِّفَاقاً) أي: لا يقدم الكثير من الفوائت على الحاضرة إذا ضاق وقتُ الحاضرة. وحاصلُه أن الشاذ إنما يقول بوجوب ترتيبِ كثيرِ الفوائت مع سعةِ الوقتِ، وفي كلامِه نظرٌ لمَا نقلَه اللخميُّ، ولفظه: وقال محمد بن مسلمة: يَبدأ بالمنسيات– وإنْ كثرتْ– إذا كان يأتي بجميعِها مرةً واحدةً. قال: ولو أنَّ رَجلاً صلى جُنبًا شهرين– ولم يعلم– فإنه يَبتدئ بها – قَبْلَ صلاةِ يومِه وإن خرجَ وقتُها– إذا كان لا يُفارقها حتى يصلي جميعها. وقال محمد بن عبد الحكم: إذا كانت صلوات كثيرة– فإن صلاها كلها فاته وقت الحاضرة– فإنه يصلي بعض تلك الصلوات، فإذا خاف فواتها صلاها ثم صلى ما بقي. انتهى. فقول ابن مسلمة ينقض الاتفاق الذي ذكره المصنف، وقد ذكر ذلك المازري، والله أعلم. قال اللخمي: واختلف إذا ذكر صلوات كثيرة، وهو في أول وقت التي هو فيها، في أول وقت الظهر أو العصر، فقال ابن القاسم: إذا كان يقدر على أن يصلي ما نسي والظهر والعصر قَبْلَ الغروبِ بَدَأَ بما نَسِيَ، وإِلا بَدَأَ بالحاضرةِ. واختلف النقلُ عن مالك، فرُوي عنه كذلك، ورُوي عنه أنَّ المُرَاعَى الاصفرارُ. وقال أشهب وابن حبيب: المراعى في ذلك الوقت المختار، انتهى.
قوله: (وَتُقْضَى) نَبَّه فيه على خلافِ أهلِ الظاهرِ في قولهم: أنه يسقط القضاء عن العامد. وهو لازمٌ؛ لقولِ ابنِ حبيبٍ القائلِ بتكفيرِ تاركِ الصلاةِ، على أنَّ بعضَهم نَسَبَ السقوطَ مع العمدِ لمالكٍ، لكنْ أنكر عياضٌ نسبتَه إليه.
وَيُعْتَبَرُ فِي الْفَوَائِتِ يَقِينُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، فَإِنْ شَكَّ أَوْقَعَ أَعْدَاداً تُحِيطُ بِجِهَاتِ الشُّكُوكِ
مقتضى كلامه أنه لا يُكتفى فيه بالظن، وهو الأصلُ؛ لأن الصلاةَ في الذمةِ بيقينٍ، فلا تَبرأ الذمةُ منها إلا بيقينٍ.
وقوله: (فَإِنْ شَكَّ) أي: في الإتيان، أو في الأعيان، أو في الترتيب.
فَلَوْ نَسِيَ صَلاةً- لا بِعَيْنِهَا- صَلَّى خَمْساً
لأن الشكَّ لا يَزول إلا بالخَمْسِ.
فَإِنْ عَلِمَ عَيْنَهَا دُونَ يَوْمِهَا صَلاهَا، وَلا يُعْتَبَرُ عَيْنُ الأَيَّامِ اتِّفَاقاً
أي: عَلم عينَ الصلاةِ بأنها ظهر أو عصر– مَثَلاً – صَلاها، ولم يُعْتَبَرْ عينُ الأيام اتفاقًا؛ أي: لا يطلب من المكلف تكرار الصلاة بحسب عدد أيام الأسبوع بالاتفاق؛ لأنه– وإن كرر تلك الصلاة– فلا يحيل في نيته إِلا على يومٍ مجهولٍ، وإن كان لا بُدَّ مِن الإحالةِ على جهالةٍ فلا فائدةَ في التَّكرار.
وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ أَعْيَانَ بَعْضِهَا، وَنَسِيَ التَّرْتِيبَ عَلَى الْمَشْهُورِ وَخُرِّجَ [60/ب] اعْتِبَارُهُ مِنَ الشَّاذِّ فِيمَنْ نَسِيَ ظُهْراً وَعَصْراً مِنْ يَوْمَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ لا يَدْرِي مَا السَّابقَةُ مِنْهُمَا يُصَلِّي ظُهْراً وَعَصْراً ثُمَّ عَصْراً وَظُهْراً، وَالصَّحِيحُ: يُصَلِّيهِمَا وَيُعيد الْمُبْتَدَأَةَ فَيَسْتَوْعِبُ التَّقْدِيرَيْنِ كَمَا لَوْ لَمْ يَتَعَيَّنِ الْيَوْمَانِ اتِّفَاقاً ....
الضمير في (بَعْضِهَا) عائد على الأيام؛ أي: إذا علم الصلاة وشَكَّ، هل هي من الخميس أو من الجمعة لزمه الخمسُ أيضاً، كما لو لم يعلم ذلك، ولا يمكن عوده على الصلوات؛ إذ لا معنى له هنا؛ لأنه إذا علم أن عليه صلاة الظهر مثلاً وصلاةً أخرى غيرَ معيَّنة فلا إشكال أنه يصلي الظهرَ وصلاةً يومٍ كامل.
قوله: (وَخُرِّجَ اعْتِبَارُهُ مِنَ الشَّاذِّ) أي اعتبار تعيين الأيام، أي يُطلب من المكلف الصلاةُ مُضافةً إلى يومها. ومُقابلُ الْمَشْهُورِ هو التخريج المذكور، وتصورُ القولين اللذين ذكرهما المصنف فيمن نسي ظهرًا وعصرًا ظاهرٌ. ووقع في بعض النسخ بعد: لا يدري لفظة ما، وهي تحتمل أن تكون زائدة، أو مصدرية، أو استفهامية، وفي بعضها بإسقاطها.
وفي المذهب قول ثالث فيمن نسي ظهرًا وعصرًا من يومين معينين لا يدري ما السابقة منهما، فيكتفي بصلاة ظهر وعصر فقط، وهو أظهر؛ لأن ترتيب المفعولات إنما يطلب في الوقت، فإذا خرج الوقتُ سقط، والفرضُ أن الظهر والعصر فائتتان، فإذا صلاهما فلا وجه للإعادة. وطلبُ الصلاة مع تعيين يومها مشكلٌ؛ لأنه لو طُلب ذلك مع تعيين الأيام لطلب مع عدمه، فلا يطلب ذلك بالاتفاق كما حكاه المصنف، وإنما قلنا: لو طُلب مع التعيين لطلب مع عدمه؛ لأن نية إيقاع الصلاة في يومها المعين إما أن يكون معتبرًا شرعًا أم لا؟ فإن كان معتبرًا شرعًا لزم ذلك في المعلوم والمجهول، وإن لم يكن معتبرًا سقط فيهما. وقد يفرق بأنه لو طلب ذلك مع عدم التعيين للزم الحرجُ؛ لأنه كان يلزم تكرار صلاة جميع الأيام الماضية من عمره إلى الأيام التي يتيقن أنه أتى بجميع صلواتها.
وَضَابِطُهُ أَنْ تَضْرِبَهَا فِي أَقَلَّ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ، ثُمَّ تَزِيدُ وَاحِدةً؛ فَفِي الثَّلاثِ يُصَلِّي سَبْعاً، وَفِي الأَرْبَعِ ثَلاثَ عَشْرَةَ، وَفِي الْخَمْسِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ
…
أي: وضابط هذا الترتيب أن يضرب الصلوات المنسيات في أقل منها بواحدة، ثم تزيد صلاة واحدة، فإذا نسي ثلاث صلوات من ثلاثة أيام لا يدري ما السابقة منهن يصلي سبعًا؛ لأنه يضرب ثلاثة في اثنين، فيكون الحاصل سِتًا، ثم يزيد واحدة، ويبدأ بالظهر اختيارًا. وقيل: بالصبح.
فَإِنِ انْضَمَّ شَكَّ فِي الْقَصْرِ فَالصَّحِيحُ- وَرَجَعَ إِلَيْهِ ابْنُ الْقَاسِمِ-: يُعيد كُلَّ حَضَرِيَّةٍ عَقِيبَهَا سَفَرِيَّةً عَلَى مَا ذُكِرَ فَتَتَضَاعَفُ الْحَضَرِيَّاتُ، وَالصَّحِيحُ الاسْتِحْبَابُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَصْرِ .....
أي: فإن انضم إلى ما تقدم الشكُّ في القصر، أي شك في الظهر والعصر مثلاً من يومين معينين لا يدري السابقة منها، وشك هل الظهر سفرية أم العصر؟ فإنه يصلي ست صلوات، لكن اختلف في صورة ترتيبها، والصحيح– على ما ذكر المصنف– أن يصلي ظهرًا حضرية، ثم ظهرًا سفرية، ثم عصرًا حضرية، ثم هي سفرية، ثم ظهرًا حضرية، ثم هي سفرية، وإن بدأ بالعصر فعلى ذلك.
ومقابل الصحيح: يحتمل أن يصلي ظهرًا حضرية، ثم عصرًا سفرية، ثم عصرًا حضرية، ثم ظهرًا سفرية، ثم ظهرًا حضرية، ثم عصرًا سفرية، فيقع له صلاة حضر بين صلاتي سفر، وبالعكس. وهذا القول حكاه أبو محمد عن بعض الأصحاب، ويحتمل أن يريد أن يصلي ظهرًا وعصرًا تامتين، ثم مقصورتين، ثم تامتين، وهو الذي ذكره المازري عن ابن القاسم في العتبية.
المازري: وذكر ابن حارث قول ابن القاسم هذا فيما إذا شك هل الظهر والعصر سفريتان أم حضريتان؟ وليس كما نقل، بل ذكر في المستخرجة أنه يعلم أن إحداهما سفرية والأخرى حضرية، ولا يدري ما السفرية منهما، وقد أطال المازريُّ النفسَ في هذه المسألة، فانظره.
وقوله: (عَلَى مَا ذُكِرَ) أي: على القانون المتقدم. وفي هذه الأقوال إشكال؛ لأن إعادة من أتم في السفرية مستحبةٌ في الوقت، ولا وقت هنا، فالذي يأتي على أصل المذهب أن يصلي الحضريات ليس إلا.
وفي قوله: (فَتَتَضَاعَفُ الْحَضَرِيَّاتُ) إشكال؛ لأنه إذا صلى ثلاثًا صلاة سفر، وثلاثًا صلاة حضر لم تحصل مضاعفة البتة.
وأجيب بأنه لمَّا كان من الصلوات ما لا يُقصر كالمغرب والصبح كثرت الحضرياتُ حينئذ، ويكن مراده بالتضعيف مطلق الكثرة. وقيل: المراد تتضاعف الحضريات، وفيهما بُعْدٌ.
وقوله: (وَالصَّحِيحُ الاسْتِحْبَابُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَصْرِ) أي: إعادة الحضرية سفرية ليس بواجب، وإنما هو مستحب على ما يأتي في بابه إن شاء الله.
وقوله: (عَلَى الْقَوْلَيْنِ) أي: على الْمَشْهُورِ من أن القصر سنة، وعلى القول بأنه مستحب، وعلى هذا ففيه نظر؛ لأن قياس المشهور أن تكون الإعادة سنة، إِلا أن يكون تجَوَّزَ بإطلاق المستحب على السنةِ، وإنما اختص الاستحباب بهذين القولين؛ لأنه على القول بالتخيير يصلي صلاتي حضر، وعلى القول بالوجوب تكون الإعادةُ واجبةً– والله أعلم– وإلى هذا أشار ابن بشير.
ولَوْ نَسِيَ صَلاةً وَثَانِيَتَهَا وَلَمْ يَدْرِ مَا هُمَا صَلَّى سِتَّاً مُرَتَّبَةً
الذي تقدم له في الضابط إذا علم أعيان الصلاة وجهل الترتيب فيها، وهذا بالعكس، عَلمَ الترتيبَ وجهل أعيانَها. ويُصلي ستًا؛ يعني: ويختم بأي صلاة بدأ بها، ويبدأ بالظهر اختيارًا؛ لأنهما إن كانتا ظهرًا وعصرًا، أو عصرًا ومغربًا، أو مغربًا وعشاء، أو عشاء وصبحًا، أو صبحًا [61/ أ] وظهرًا، فقد أتى بهما.
ولَوْ نَسِيَ صَلاةً وَثَالِثَتَهَا صَلَّى سِتّاً يُثَنِّي بِثَالِثَتِهَا، وَفِي رَابعَتِهَا برَابِعَتِهَا، وَفِي خَامِسَتِهَا بِخَامِسَتِهَا، فَلَوْ نَسِيَ صَلاةً وَسَادِسَتَهَا فَهُمَا مُتَمَاثِلَتَانِ مِنْ يَوْمَيْنِ فَيُصَلِّي الْخَمْسَ مَرَّتَيْنِ وَكَذَلِكَ حَادِيَةَ عَشْرَتِهَا وَسَادِسَةَ عَشْرَتِهَا
تصورها ظاهر لمن تأمله.
وَللسَّهْوِ سَجْدَتَانِ، وَفِي وُجُوبِهِمَا قَوْلانِ
أطلق- رحمه الله الخلافَ في وجوبهما، والخلافُ إنما هو في اللتين قبل السلام. وأما اللتان بعد السلام فلا خلاف في عدم وجوبهما. قال في الإشراف: ومقتضى مذهبنا وجوب القبلي. قال: وكان الأبهري يمتنع من إطلاق الوجوب. وقال المازري: ذكر القاضي أبو محمد أنه يتنوع لواجب وسنة، ومعناه: أن البَعدي سنة، والقبلي واجب، على قولنا: إنه إن أخّر ما قبل السلام بعد السلام تأخيرًا طويلاً فسدت الصلاة.
ابن عبد السلام: والتحقيق عدم وجوبه؛ لأن سببه غير واجب.
خليل: وقد يُعترض عليه بوجوب الهدي في الحج عما ليس بواجب.
فَفِي الزِّيَادَةِ بَعْدَ السَّلامِ، وَفِي النُّقْصَانِ وَحْدَهُ- أَوْ مَعَهَا- قَبْلَهُ، وَرُوِيَ التَّخْييرُ
دليل الزيادة: ما رواه البخاري ومسلم من حديث ذي اليدين: أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من اثنتين في إحدى صلاتي العَشِيِّ ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه، وخرجت السَّرَعانُ من أبواب المسجد فقالوا: قُصِرَت الصلاة. وفي القوم أبو بكر، وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: لم أنس، ولم تقصر. فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم. فتقدم عليه الصلاة والسلام فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتين بعد السلام)).
ودليل النقصان: حديث ابن بُحينة، قال:((قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من اثنتين ولم يجلس، فلما قضى صلاته سجد سجدتين قبل السلام))، قال ابن أبي حازم، وعبد العزيز بن أبي مسلمة: يسجد لهما سجدتين قبل وبعد.
وقوله: (وَرُوِيَ التَّخْييرُ) يعني: إن شاء سجد قبل أو بعد، كان السبب زيادة أو نقصانًا أو هما معًا، وهذا القول حكاه اللخمي.
وَسُجُودُ الْمُتِمِّ للِشَّكَّ بَعْدَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ
أي: الذي يشك هل صلى ثلاثًا أو أربعًا فإنه يبنى على ثلاث، ويصلي أخرى، ويسجد بعد السلام؛ لانحصار أمره في الزيادة وعدم النقص. فقال ابن لبابة: يسجد للزيادة بعد السلام إلا في هذه الصورة فإنه يسجد قبل، لحديث أبي سعيد الخدري، وهو الصحيح.
وَفِي سُجُودِ الْمُوَسْوِسِ: قَوْلانِ، ثُمَّ فِي مَحِلِّهِ: قَوْلانِ
القولان في السجود لمالك، و (الْمُوَسْوِسِ) هو الذي تكثر عليه الشكوك، والقول بأن محله بعد السلام رواه ابن القاسم، والقول بأن محله قَبْلَ السلام لابن حبيب.
وَفِي تَشَهُّدِ الْقَبْلِيَّةِ رِوَايَتَانِ
الْمَشْهُورِ إعادة التشهد وهو اختيار ابن القاسم، وهو الذي يؤخذ من الرسالة، والعمل عليه الآن ببلاد المغرب، ووجهه أن من سنة السلام أن يكون عقب تشهد.
والقول بعد إعادته لمالك أيضاً، وذكر في الجلاب أنها رواية ابن القاسم عنه، واختارها عبد الملك، ووجهه أن سنة الجلوس الواحد ألا يتكرر التشهد فيه مرتين.
وَفِي سِرِّ سَلامِ الْبَعْدِيِّةِ قَوْلانِ
القولان لمالك، وروى ابن القاسم وابن زياد عنه أن السلام منهما كالسلام من الفريضة. وروى غيرهما أنه يسره كالسلام من الجنازة.
ابن عبد السلام: وهذا– والله أعلم– لغير الإمام، وأما الإمام فيجهر به ليقتدي به.
وفي ذِكر المصنف الخلافَ في صفة السلام إشعارٌ بأن ثبوت السلام متفق عليه، وهو كذلك. وأُخِذَ مِن قوله في المدونة إذا انتقض وضوؤه قبل السلام منهما أنه إِن لم يُعِدْهُما فلا شيء عليه عدمُ اشتراط السلام للبعدي، وفيه نظر.
وَفِي الإِحْرَامِ لِلْبَعْدِيَّة، ثَالِثُهَا: يُحْرِمُ إِنْ سَهَا وَطَالَ
قال ابن عطاء الله: الْمَشْهُورِ افتقاره إلى الإحرام. وأطلق، قال: لاستقلاله بنفسه.
ونفيُ الإحرام مطلقاً لمالك في الموازية.
والثالث: لابن القاسم في المجموعة.
وما حكاه المصنف مِن الخلاف مطلقاً موافقٌ لِلَّخمي، مخالفٌ لابن يونس والمازري، فإنهما لم يحكيا الخلاف إلا مع الطول.
ابن راشد: ويصحح نقل المصنف ما قاله محمد: كل من رجع إلى إصلاح صلاته فيما قرب يرجع بإحرام، قال: فإذا قلنا يحرم فيكتفي بتكبيرة الإحرام عن تكبيرة الهُوِيِّ، لما في الموطأ من حديث ذي اليدين: فصلى ركعتين أخريين، ثم كبر فسجد بعد. وذلك يقتضي أنه كبر تكبيرة واحدة. وفيه من طريق هشام بن حسان أنه كبر ثم كبر، قال الناس: وذلك وهم، انتهى.
وَعَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْمَحِلِّ، وَالْوُجُوبِ لَوْ قَدَّمَ أَجْزَأَهُ. وَقِيلَ: يُعيدهُ. وَقَالَ أَشْهَبُ: يَبْطُلُ عَمْدُهُ ......
(الْوُجُوبِ) معطوف على (الْمَشْهُورِ) لا على (الْمَحِلِّ)؛ لأنه لم يتقدم له مشهور في الوجوب، وقد تقدم أنه إنما اختلف في وجوب القبلي، وعلى هذا يشكل قوله:(لَوْ قَدَّمَ أَجْزَأَهُ)؛ لأن المسألة مفروضة في السجود البعدي وليس فيها قول بالوجوب. والقول بأنه يُعيده بعد السلام لابن القاسم في العتبية، يريد إذا فعله سهوًا، كذا قيده في العتبية. [61/ب] قال في البيان: ويلزم عليه إعادة العامد والجاهل. وكذا نص أشهب أنه يُعيد
الصلاة إذا قدمه جاهلاً أو عامدًا. وفي الموازية: لا إعادة عليه للسجود بعد السلام إذا سجد قبله ناسيًا أو متعمدًا؛ مراعاة للخلاف. واختلف الشيوخ في تأويل المدونة مجملها في البيان على نفي الإعادة مطلقاً. وجعل ابن لبابة رواية عيسى بالفرق بين الناسي والعامد تفسيرًا للمدونة، قال في البيان: وإنما هو خلاف.
فَلَوْ أَخَّرَهُ فَأَوْلَى بالصِّحَّةِ
أي: فإن أخر السجود القبلي إلى بعد السلام فالصحةُ فيه أولى من الصحة في الفرع الذي قبله. ووجه الأولوية أن المنافاة في الأولى أظهرُ لإدخال ما ليس من صلب الصلاة فيها، وكذلك قال أشهب بالإبطال عمدًا، ولا كذلك هنا.
وبهذا يندفع قول ابن عبد السلام: في هذه الأولوية نظر. ثم قال: وانتظر معنى المسألة فيمن أخّر عمدًا أو سهوًا، أو عمدًا فقط. وقد نص ابن المواز على مَن سلم ساهيًا قبل السجود القبلي أنه يرجع بنية وتكبيرة كما يرجع للسجود الذي هو صلب الصلاة، والمدونة عندي محتملة لذلك. انتهى.
فَإِنْ سَهَا عَنِ الْبَعْدِيَّةِ سَجَدَ مَتَى مَا ذَكَرَ، وَلَوْ بَعْدَ شَهْرٍ
قوله: (مَتَى مَا ذَكَرَ) نحوه في المدونة. وحكى عبد الحق عن بعض شيوخه أن السهو إن كان من فريضة سجد في كل وقت، وإن كان من نافلة فلا يسجد في وقتٍ تكره فيه النافلة. واختلف هل هو تفسير للمدونة أو خلاف؟ قال ابن القاسم في العتبية: وإن ذكر وهو قائم فلا يهوي ساجداً بل يقعد ويتشهد.
فإن قلت: لِمَ أمر به ولو بعد شهر وليس هو بفرض، والقاعدة أن النافلة لا تقضى؟ فالجواب أنه لما كان جابرًا للفرض أمر به لتبعيته لا لنفسه.
ابن هارون: ولا أدري لم أنث القبلية والبعدية، ولا يصح أن يريد الجلسة من السجود كما ذهب إليه بعضهم؛ لأنه لم يَسْهُ عنه بانفراده، وإنما سها عن السجود جملة.
فَإِنْ كَانَ فِي صَلاةٍ فَبَعْدَهَا
أي: فإن ذكر البعدي وهو في صلاة. وكلامه ظاهر.
فَإِنْ سَهَا عَنِ الْقَبْلِيِّ سَجَدَ مَا لَمْ يَطُلْ أَوْ يُحْدِثْ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فَثَالِثُهَا: تَبْطُلُ إِنْ كَانَ عَنِ نَقْصِ فِعْلِ لا قَوْلٍ. وَرَابِعُهَا: تَبْطُلُ إِنْ كَانَ عَنِ الْجُلُوسِ أَوِ الْفَاتِحَةِ. وَخَامِسُهَا: تَبْطُلُ إِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ تَكْبِيرَتَيْنِ، أَوْ سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مَرَّتَيْنِ ....
يعترض عل المصنف بذكر الحدث من وجهين:
أحدهما: أن قوله: (مَا لَمْ يَطُلْ) يُجزئ عنه؛ لأنه إذا أحدث افتقر إلى الوضوء فيطول الأمرُ بفعله.
الثاني: تخصيصه الحدث بهذا الحكم – من بين سائر الموانع – لا معنى له؛ لأنه لو تكلم أو لمس نجاسة أو استدبر القبلة عامدًا كان حكمُ ذلك حكمَ الطول، والطولُ معتبرٌ عند ابن القاسم بالعرف. وقال أشهب: بالخروج مِن المسجد. قيل له: فلو كان في صحراء؟ قال: يسجد ما لم يجاوز من الصفوف قدر ما لا ينبغي أن يصلي بلاتهم. قال: وهو استحسان. قال: والقياس أن يسجد ما لم ينتقض وضوؤه. وهذا الخلاف أيضاً فيمن نسي ركعة أو سجدة، وحيث أمرناه أن يسجد مع القرب، فقال ابن المواز: يسجد في موضعِ ذَكَرَ، إلا أن يكون عوضاً عن متروكٍ من صلاة الجمعة، فلا يُجزئ إلا في الجامع. نقله الباجي.
وقوله: (فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا) أي: الطول أو الحدث، وكان تامَّة، وذكر خمسة أقوال: الصحة مطلقاً، حكاه ابن الجلاب عن بعد الملك. وحكاه اللخمي والمازري عن ابن عبد الحكم، وزاد فيه: ولو كان على الجلوس الأول أو الفاتحة.
والبطلان مطلقاً لابن القاسم.
والثالث: رواه ابن عبد الحكم عن مالك في المختصر.
وقوله في الرابع: (تَبْطُلُ إِنْ كَانَ عَنِ الْجُلُوسِ) أي: الوسط. (أَوِ الْفَاتِحَةِ) أي: في قول من يرى سجود السهو كافيًا عنها، وهو قول ابن القاسم في المختصر.
والخامس: لمالك، وحاصلهُ التفرقة، فإن كان عن سُنتين– كتكبرتين– لم تبطل لخفة الأمر، وإن كان عن ثلاثٍ كالجلسة الوسطى، أو ثلاث تكبيرات أبطل، وبه كان يفتي غير واحد، وهو مذهب المدونة، والرسالة. ووقع في بعض النسخ بإثر الكلام المتقدم: وفرق فيها بين مرتين وثلاثًا، أي: كالقول الخامس، قال فيها: وإن ترك تكبيرتين أو التشهدين فليسجد قبل السلام، وإن لم يسجد حتى تطاول الأمر أو انتقض وضوؤه أجزأته صلاته، وإن نسي ثلاث تكبيرات، أو سمع الله لمن حمده سجد قبل السلام، وإن نسي أن يسجد حتى سلم سجد بالقرب، وإن تطاول ذلك أعاد الصلاة. قال المازري: وسبب الخلاف أن من اعتبره بحال ما هو عوض عنه لم يبطل الصلاة؛ لأنه عوضٌ عن متروك ليس بواجب. وإلى هذا كان يميل بعض أشياخي المحققين. ومَن أبطل الصلاة به مطلقاً إذا طال فإنه لم ينزله منزلة ما هو عوض عنه، ولا يبعد أن يكون ترك مندوبًا علمًا على وجوب فعل آخر، ومن فصّل اعتبر الجزء المتروك وخفته. انتهى.
فرع:
ابن راشد: فإذا قلنا بالصحة فهل يكونان كسجدتي الزيادة يسجدهما متى ما ذكر، أو يسقطان؟ قولان:
ففي التفريع: إن كانتا عن ترك قولٍ أو صفة قول سجد متى ما ذكر، طال أو لم يطل.
ورأيت في اللباب عن ابن القاسم أنه قال بالسقوط فيما لم ير فيه إعادة، قال: ووجهه أنها سنة مرتبطة بالصلاة وتابعةٌ، ومِن حُكم التابع أن يُعطى حكم المتبوع [62/ أ]
بالقُرب، فإذا بَعُدَ لم يُلْحَقْ به. انتهى. وحكى بعضهم عن محمد بن عبد الحكم أنه يسجد متى ما ذكر كالبعدي.
فَإِنْ كَانَ فِي صَلاةٍ وَحُكِمَ بِبُطْلانِ الأُولَى فَهُوَ كَذَاكِرِ صَلاةٍ، وإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِبُطْلانِهَا لِسَهْوٍ وَانْتِفَاءِ طُولٍ وَحَدَثٍ فَهُوَ كَتَارِكِ بَعْضِ صَلاةٍ.
أي: فإن ذَكَرَ السجود القبلي وهو في صلاة، فإن قلنا بالبطلان فذلك بمنزلة مَن ذكرة صلاةً في صلاةٍ، وقد تقدم، وإن لم نَقُل ببطلان الأُولى لسهوٍ، أي: لم يتعمد ترك السجود في محله فهو كذاكرِ بعض صلاة؛ أي: فيكون ذلك البعض فرضًا.
ثم ذكر حكم تارك بعض الصلاة فقال:
وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، فَرْضٌ فِي فَرْضٍ: إِنْ طَالَ بَطَلَتْ، وَيُعْتَبَرُ الطُّولُ بِالْعُرْفِ، وَقِيلَ: بِعَقْدِ الرَّكْعَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَإِلا أَصْلَحَ الأُولَى. نَفْلٌ فِي نَفْلٍ: إِنْ طَالَ تَمَادَى، وَإِلا فقَوْلانِ. فَرْضٌ فِي نَفْلٍ: كَالأُولَى، وَقِيلَ: تَبْطُلُ الأُولَى مطلقاً. نَفْلٌ فِي فَرْضٍ: يَتَمَادَى عَلَى الأَصَحِّ ....
أي: ولمَن ذكر بعضَ صلاة في أخرى.
وقوله: (فَرْضٌ فِي فَرْضٍ) أي: يَذكر السجودَ مِن صلاة فريضة وهو في صلاة فريضة أخرى، وتقديره: فرضٌ مذكورٌ سجودُه في فرضٍ. وفي حَدِّ الطُّولِ أربعة أقوال:
أحدها: أنها تبطل إذا أطال القراءة في الثانية أو ركع، وهو لابن القسم في المدونة، ولم يتعرض له المصنف وكان حقه أن يذكره، ولفظها: فإن كانت القبليتان من فريضة فذكرهما بقرب صلاته رجع إليهما بغير سلام، وإن أطال القراءة في هذه أو ركع بطلت الأولى، فإن كانت هذه الثانية نافلة أتمها، وإن كانت فريضة قطعها، إلا أن يعقد منها ركعة فيشفعها استحبابًا، ثم يصلي الأولى ثم الثانية.
الثاني: أن المعتبرَ الطولُ، فلا تبطل إذا ركع ركعة خفيفة إلا أن يطول فيها، لابن وهب.
الثالث: أنه إن صلى ركعة كان مخيرًا بين القطع لإصلاح الأولى، أو يمضي على صلاته، رواه ابن وهب عن مالك.
والرابع: أنه يرجع وإن صلى ثلاث ركعات، حكاه ابن بشير.
قوله: (وَقِيلَ: بِعَقْدِ الرَّكْعَةِ) هو الخامس، وحكاه ابن بشير أيضاً ولم يَعْزُه. وأل في القولين للعهد، وهما ما تقدم، هل عقد الركعة برفع الرأس أو بوضع اليدين؟
وقوله: (وَإِلا أَصْلَحَ الأُولَى) أي: وإن لم يطل رجع وأصلح الأولى، ويسجد بعد السلام.
فإن قيل: كيف قال: وإن طال بعد أن فرضها فيما إذا لم يطل؟
قيل: الطول المنفي أولاً الطولُ في غير الصلاة، والطول الثاني باعتبار ما إذا تلبَّس بصلاةٍ أخرى، ولهذا أطلق في الطول أوَّلاً، وذكر الخلاف ثانيًا، والله أعلم.
وقوله: (نَفْلٌ فِي نَفْلٍ: إِنْ طَالَ تَمَادَى) أي: ولا قضاء عليه للأُولى؛ لأنها قد بطلت سهوًا، والأصل في النافلة– إذا بطلت على غير وجه العمد – أنه لا يلزمه قضاؤها. وإن لم يطل فقولان. قال في المدونة: يرجع إلى الأولى ما لم يركع؛ يعني: أو يطول القراءة كما في الفرض. قال في المدونة: ثم يبتدئ التي كان فيها إن شاء. والقول بالتمادي مطلقاً حكاه ابن بشر، ووجهه أنه لا يصح له ولا نافلة منهما.
وقوله: (فَرْضٌ فِي نَفْلٍ: كَالأُولَى) أي: فإن طال بطلت. ويقع في بعض النسخ كالأول؛ أي: كالوجه الأول أو كالقسم الأول.
وقوله: (تَبْطُلُ الأُولَى مطلقاً) لأن مضادة نية النافلة بالفريضة أقوى من مضادة نية الفريضة للفريضة، وهذا قول مالك في مختصر ما ليس في المختصر. وقال أشهب: يرجع إلى المكتوبة ولو صلى سبع ركعات. وكذلك قال مطرف فيمن نسي السلام من مكتوبة وأحرم لنافلة أنه يرجع إلى المكتوبة وإن طال، ورأى أن حرمة الصلاة باقية إذا لم يسلم منها، وكذلك وافق على مسألة المصنف.
قوله: (نَفْلٌ فِي فَرْضٍ: يَتَمَادَى عَلَى الأَصَحِّ) الأصح لابن القاسم حكاه عنه ابن المواز. وقال ابن عبد الحكم: يرجع إلى إصلاح النافلة. وأطلق في القولين. وقال بعضهم: إن طال فليس إلا التمادي على الفريضة. وهو الظاهر. وحيث قلنا يرجع إلى الأولى فإنه يرجع بغير السلام، والله أعلم.
تنبيه:
ما تقدم من لفظ المدونة اختلف في تأويله الشيوخ: فحمله أبو عمران وعبد الحق على ظاهره من الفرق بين الفريضة والنافلة، وأنه يقطع في الفريضة ما لم يركع، ويمضي في النافلة مطلقاً، وقد نص في الموازية على ذلك، وذهب غيرهما إلى أن في قوله في الفريضة بعد عقد ركعة يشفعها استحبابًا إشارة إلى جواز القطع أيضاً بعد عقد ركعة، وهو خلاف ما تقدم له في المدونة فيمن ذكر فريضة في فريضة، أنه إن عقد ركعة أكملها نافلة، وإنما اختلف قوله إذا لم يعقد ركعة. وتقدم له أيضاً أنه إذا ذكر فريضة في نافلة أنه إن لم يعقد ركعة قَطَعَ، وإن عقد فقولان. وظاهرُ كلامه هنا التمادي مطلقاً، فذهب بعضهم إلى أن قوله هنا خلاف ما تقدم له في الفرض والنفل. قال في التنبيهات: وذهب بعضهم إلى أن قوله لا يختلف هنا بعد عقد الركعة في الفرض والنفل. قال في التنبيهات: وذهب بعضهم إلى أن قوله لا يختلف هنا بعد عقد الركعة في الفرض والنفل، إلا بعد ثلاث في الفرض أنه يشفع لاتساع الوقت هنا، بخلاف الفائتة التي ذكرها في صلاته؛ لأن تلك قد ضاق وقتها، فلذلك اختلف هنالك قوله بالقطع أو بالخروج عن شفع. انتهى.
سَبَبُهُ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ فِي فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ
يريد: أوْ هما معًا.
فَكَثِيرُ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلاةِ مُبْطِلٌ مطلقاً، وَإِنْ وَجَبَ كَقَتْلِ مَا يُحَاذَرُ وَإِنْقَاذِ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ ......
أي: فكثير الفعل من غير جنس الصلاة، وأما من جنسها فسيأتي. وقوله:(مطلقاً) أي: ولو سهوًا، كذا حكى ابن بشير، [62/ ب] وهو ظاهر كلام ابن شاس. قال الباجي: العمل في الصلاة على ثلاثة أضرب:
أحدها: اليسير جدًا كالغمزة، وحك الجسد، والإشارة، فهذا لا يُبطل الصلاة لا عمدُه ولا سهوه، وكذلك المشي إلى الفُرج القريبة.
وثانيها: ما كان أكثر من ذلك فيُبطلها عَمْدُه لا سهوه، كالانصراف. واختلف أصحابنا في الأكل والشرب، فقال ابن القاسم: يُبطل الصلاة عمده وسهوه. وقال ابن حبيب: لا يبطلها إلا أن يطول جدًا كسائر الأفعال. يريد: ويجزئه سجود السهو.
وكذلك قال ابن رشد: إذا كان الفعل لا يجوز كأكله وشربه، فقيل: يبطل صلاته. وقيل: يجزئه سجود السهو.
وثالثها: الكثير جدًا كالمشي الكثير، والخروج من المسجد فهذا يُبطل عمدُه وسهوه.
وقوله: (وَإِنْ وَجَبَ) تأكيد للإبطال؛ لئلا يُتوهم نفي الإبطال مع الوجوب.
ابن عبد السلام: ويحتمل أن يكون البطلان مع اتساع الوقت، وإذا ضاق بقدر ما يُحاذر فقد يقال أنه يؤدي الصلاة على تلك الحال كالمُسَايَفَةِ، وفي استحباب الإعادة بعد ذلك في الوقت نظر، كمن يخاف أن ينزل عن دابته لخوف لصوص أو سباع، وكذلك إنقاذ النفس في هذا، ولا يبعد إلحاق المال الكثير بهذا. انتهى.
وَالْقَلِيلُ جِدّاً مُغْتَفَرٌ، وَلَوْ كَانَ إِشَارَةً بِسَلامٍ أَوْ رَدٍّ وَنَحَوْهِ أَوْ لِحَاجَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ
الأصل في هذا إدارةُ النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس عن يمينه، وإصلاحه صلى الله عليه وسلم رداءه بعد الإحرام، وغمزه لعائشة حين السجود لتضم رجليها. وقوله:(مُغْتَفَرٌ) يريد مع إباحته؛ لقوله: (وَلَوْ كَانَ إِشَارَةًخ فإن المهشور الجوازُ، ومقابِلُ المشهورِ الكراهةُ، رواها علي بن زياد، فإنه روى كراهة السلام على المصلي، ورده بيده أو رأسه. وفصَّل ابن الماجشون فقال: لا بأس بالمصافحة في الصلاة، وبالإشارة برد السلام في المكتوبة، وأما الشيء يعطيه فلا أحبه، وقد يخطيه فيكون ليفهم. نقله صاحب النوادر وغيره. وفصل ابن بشير في القليل جدًا فقال: إن لم تدع إليه ضرورة ولم يكن من مصلحة الصلاة فهو مكروه، وإن كان من مصلحتها أو دعت إليه ضرورة كإنقاذ نفس أو مال أو قتل ما يحاذر لم يكره.
وقسَّم في المقدمات اليسيرَ على ثلاثة أقسام:
منها ما يجوز كقتل عقرب تريده، ولا شيء فيه.
ومنها ما يكره كقتلها وهي لا تُريده، فهذا يتخرج السجود فيه على قولين.
ومنها ما يمنع كالأكل والشرب، فهذا قيل: يسجد له. وقيل: تبطل الصلاة.
فرع:
لو أطال الجلوس أو التشهد أو القيام، فقال ابن القاسم: ذلك مغتفر. وقال سحنون: عليه السجود. وفرق أشهب فقال: إن أطال في محل شرع تطويله كالقيام والجلوس فلا سجود، وإن أطال في محل لا يشرع فيه الطول كالقيام من الركوع أو الجلوس بين السجدتين سجد. قال في البيان: وهو أصح الأقوال.
وَلِذَلِكَ لَمْ يُكْرَهِ السَّلامُ عَلَى الْمُصَلِّي فَرْضاً أَوْ نَفْلاً
أي: ولجواز الإشارة بالسلام، وجواز الإشارة بالرد لم يكره السلام على المصلي، سواء كان يصلي فريضة أو نافلة.
وَفِيهَا: وَلا يَرُدُّ عَلَى مَنْ شَمَّتَهُ إِشَارَةٌ، وَلا يَحْمَدُ إِنْ عَطَسِ
كأنه نسب المسألة إلى المدونة لإشكالها بسبب تفرقتها بينه وبين رد السلام، وكلاهما مطلوب. وفرق بوجهين:
الأول: أن رد السلام متفق على وجوبه، والردُّ على المشمِّت مختلفٌ فيه بالوجوب والندب، فلا يلزم من إباحة المجمع عليه إباحة المختلف فيه.
والثاني: أن سبب الرد على المشمت منتفٍ؛ فينتفي لانتفاء سببه. وبيانه أن سبب التشميت الحمدُ من العطاس، والمصلى العاطسُ مأمورٌ بترك الحمدِ لاشتغاله بالصلاة، وهذا إنما يتمشى إذا قلنا أن المصلى لا يحمد ربه. قال سحنون، فإنه قال: لا يحمد سرًا ولا جهرًا. ويقرب منه ما قاله في المدونة: لا يحمد الله، فإن فعل ففي نفسه، وتركه خير له. وقيل: يحمد سرًا. وقيل: جهرًا.
وَفِيهَا: إِنْ أَنْصَتَ لِمُخْبِرٍ يَسِيراً جَازَ
كذا قال ابن بشير، قال: وإن طال الإنصات جدًا أبطل الصلاة؛ لأنه انشغل عن الصلاة، وإن كان بين ذلك سجد بعد السلام.
وَابْتِلاعُ شَيْءٍ بَيْنَ أَسْنَانِهِ مُغْتَفَرٌ
يعني: لعموم الضرورة. قال في المدونة: إن ابتلع حبة بين أسنانه لم تبطل صلاته. وهو يحتمل الإباحة والكراهة، وهو أقرب؛ ولذلك جاء الترغيب في السواك عند كل صلاة خشية التشويش على المصلي بما يبقى بين أسنانه من الطعام.
وَالْتِفَاتُهُ وَلَوْ بِجَمِيعِ جَسَدِهِ مُغْتَفَرٌ إِلا أَنْ يَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ
الالتفات مكروه إلا لضرورة، فأما كراهته فلما في البخاري: عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة، فقال:((هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد))، وفي أبي داود:((ولا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في الصلاة ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه)).
وأما إجازته للضرورة فلفعل أبي بكر – رضي الله عنه – حال التصفيق.
وقوله: (وَلَوْ بِجَمِيعِ جَسَدِهِ) مقيد بما إذا لم ينقل رجليه، وإلا لم يكن مستقبلاً.
وَتَرْوِيحُ رِجْلَيْهِ مُغْتَفَرٌ
ترويح الرجلين؛ أي: يرفع واحدة ويعتمد على الأخرى.
ابن عبد السلام: وهذا إذا كان لطول قيام وشبهه، وإلا فمكروه. انتهى.
وظاهر المدونة جوازهُ مطلقاً.
فرعان:
الأول: كره مالك في المدونة أن يفرق رجليه ويعتمد عليهما، وهو الصفق المنهي عنه. وفسره أبو محمد بأن يجعل حظهما من القيام سواء راتبًا دائمًا. قال: وأما إن فعل ذلك اختيارًا، وكان متى شاء روح واحدة [63/ أ] ووقف على الأخرى فهو جائز.
الثاني: قال في المدونة: أكره أن يصلي وكُمُّه محشُوٌّ خبزًا أو غيره، أو يفرقع أصابعه في الصلاة.
وكره مالك في العتبية تنقيض الأصابع في المسجد وغيره. وقال ابن القاسم في العتبية: إنما أكرهه في المسجد: قال في البيان: كره مالك ذلك في المدونة في الصلاة خاصة. ولم يتكلم على ما سوى الصلاة، وكرهه مالك هنا في المسجد وغيره وفي الصلاة؛ لأنه من
فعلِ الفتيان وَضَعَفَةِ الناس الذين هم ليسوا على مستٍ حسنٍ. وكرهه ابن القاسم في المسجد دون غيره؛ لأنه من العبث الذي لا ينبغي أن يُفعل في المساجد. انتهى.
وأجاز مالك في العتبية تشبيك الأصابع في المسجد إذا لم يكن في الصلاة. قال اللخمي: ولا يعبث المصلي بلحيته ولا بخاتمه. وقيل: لا بأس أن يحوله في أصابعه كلها لعدد ركوعه خوف السهو. ويُكره أن يكون لباسه مما يشغله النظر إليه كعَلمٍ أو غيرِه. انتهى. ولهذا كره مالك في المدونة تزويق القبلة والكتابة فيها.
وَمَا فَوْقَهُ مِنْ مَشْيٍ يَسِيرٍ وَشِبْهِهِ إِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ كَانْفِلاتِ دَابَّتِهِ أَوْ مَصْلَحَةٍ مِنْ مَشْيٍ لِسُتْرَةٍ أَوْ فُرْجَةٍ أَوْ دَفْعِ مَارَّ دَفْعاً خَفِيفاً فَمَشْرُوعٌ ....
أي: وما فوق القليل جدًا. قال في المدونة: لا بأس أن يشمي فيما قرب بين يديه أو عن يمينه أو عن شماله. قال بعضهم: ويقهقر إليها إن كانت خلفه.
فرع:
قال في المدونة: فإن تباعدت الدابة قطع وطلبها. قال في البيان: هذا إن كان في سعة من الوقت، وإلا تمادى وإنْ ذهبتْ، ما لم يكن في مفازةٍ، ويخاف على نفسه إن تركها. انتهى. ومن هذا الأسلوب من خُطف رداؤه في الصلاة، أو نحو ذلك. وفي العتبية لمالك: إذا دخلت شاة فأكلت ثوبًا أو عجينًأ، فإن كان في مكتبوبةٍ فليتمادى على صلاته ولا يشتغل بطردها. قال في البيان: ولم يفرِّق مالك بين ما له بال وقدر، وبين ما لا بال له. انتهى. وإلى الفرق بين ذلك ذهب ابن القاسم في سماع موسى عنه، قال: وهو الأظهر عندي. انتهى. ولسحنون في إمامٍ خاف على صبي أو أعمى أن يقع في بئر، أو ذكر متاعًا له خاف عليه التلف أن له أن يخرج لذلك ويستخلف.
وقوله: (مَصْلَحَةٍ) أي: من مصالح الصلاة مِن مشيٍ لسترة.
ابن عبد السلام: وأكثر عبارات أهل المذهب: الصفان، وربما قالوا: والثلاثة.
وقال أشهب في المارِّ: إن كان قريباً مشى إليه، وإن كان بعيداً أشار إليه ليرجع.
ابن عبد السلام: وهذا عندي خلافُ ما قاله ابن العربي أن ليس للمصلي حريم إلا مقدار ثلاثة أذرع، وأن لا إثم عليه فيما بين ذلك.
وقوله: (فَمَشْرُوعٌ) جواب ل (إِنْ)
وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَإِنْ أَخَالَ الإِعْرَاضَ فَمُبْطِلٌ عَمْدُهُ، وَمِنجَبِرٌ سَهْوُهُ، وَإِلا فَمَكْرُوهٌ
أي: وإن كان الفعل لغير ما ذُكر، وهو مع ذلك فوق القليل جداً. (فَإِنْ أَخَالَ الإِعْرَاضَ) أي: أشبه المِنصرف عن الصلاة، يُقال: أَخال، يَخال، إِخالة إذا أشبهَ غيرَه، ومِنه قياس الإِخالة؛ أي: الشَّبَه، وليس هو مِن خال بمعنى ظن. ويقع في بعض النسخ عوضَ أخال أطال، وليس بظاهرٍ؛ إِذِ الكلام في الفعل القليل.
وقوله: (فَمُبْطِلٌ عَمْدُهُ) ظاهر، فإنه زاد فعلاً مِن غير جنس الصلاة على سبيل العمد مع مكونه مُخِيلاً للإعراض.
وقوله: (وَمُِنْجَبِرٌ سَهْوُهُ) أي: بالسجود بعد السلام.
وقوله: (وَإِلا فَمَكْرُوهٌ) أي: وإن لم يكن مُخيلاً للإعراض مع كونه فوق اليسير فهو مكروه- أي عمده- وأما السهوُ فلا يوصف بالكراهة، ولا يَبعد السجود في هذا القسم. وقد تقدم مِن كلام ابن رشد في القسم المكروه- كما إذ قتل عقرباً لا تريده- أنه يتخرج في ذلك قولان في السجود.
وَفِيهَا: وَلَوْ سَلَّمَ مِن اثْنَتَيْنِ فَأَكَلَ وَشَرِبَ بَطَلَتْ. وَفِيهَا: إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي الصَّلاةِ أَجْزَأَهُ سُجُودُ السَّهْوِ. فَقِيلَ: اخْتِلافٌ. وَقِيلَ: لا. وَفُرِّقَ بِالْكَثْرَةِ إِمَّا لأَنَّ الأُولَى مَعَ السَّلامِ وَإِمَّا لأَنَّ فِيهَا أَكَلَ وَشَرِبَ وهَذِهِ أَوْ شَرِبَ .....
لعله أتى بهذه المسألة لتضمِنها إبطال بعض أقسام القاعدة المتقدمة؛ فإنَّ هذا فعلٌ متوسطٌ مُخيلٌ للإعراض على سبيل السهو، وقد نص مالك فيه على البطلان،
وهو خلافُ ما قاله المصنف أن حكمه السجود. ويمكن أن يُجاب عنه بأن انضمام السلام صيَّره كالكثير.
وقوله: (فأَكَلَ وَشَرِبَ وهَذِهِ أَوْ شَرِبَ) يعني أن هذه المسألة رويت على وجهين، وتصوره واضح.
وقوله: (إِمَّا لأَنَّ الأُولَى مَعَ السَّلامِ) هذا فرقٌ على روايةِ مَن روى: أو شرب بأو.
وقوله: (وَإِمَّا لأَنَّ فِيهَا أَكَلَ وَشَرِبَ) هذا فرق على رواية مِن روى بالواو، وحاصله أن بالواو يكون الفرق بالوجهين مِن جهة الجمع والسلام، وبأو مِن جهة السلام فقط.
فرع:
اختلف في السلام سهواً، هل يُخرج المصلي عن حكم صلاته، أوْ لا؟ على قولين، حكاهما صاحب البيان وغيره. ونسب في المقدمات القولَ بأنه لا يخرجه لأشهبَ وابنِ الماجشون، واختاره ابنُ المواز. قال: وعليه فيرجع للصلاة بغير إحرام، والقول بالخروج لابن القاسم في المجموعة، ورواه عن مالك، وهو قول أحمد بن خالد، وعليه فيرجع إليها بإحرام.
ويأتي على الخروج ما نص عليه أصبغ في العتبية في إمام صلى بقوم وسها سهواً يكون سجوده بعد السلام، فلما كان في التشهد الآخر سمع أحدهم شيئاً، فظن أن الإمام قد سلم فسلم، ثم سجد سجدتين، ثم سمع سلام الإمام بعد ذلك. فقال: يعيد الصلاة إذا كان قد سلم قبل سلام إمامه. قال في البيان: وهو مثل قوله في المدونة فيمِن سلم مِن ركعتين ساهياً، ثم أكل وشرب ولم يطل: أنه يبتدئ. انتهى.
تنبيه:
وهذا الخلاف إنما هو إذا سلم (63/ ب) قاصداً للتحليل وهو يرى أنه قد أتمها، ثم شك في شيء مِنها، وأما إن سلم ساهياً قبل تمام صلاته فقال في المقدمات: لا يخرج لذلك بإجماع.
وَفِيهَا: إِنْ قَلَسَ وَقَلَّ لَمْ يَقْطَعْ بِخِلافِ الْقَيْء
القلس: ماء حامض تقذفه المعدة، ولم يقطع إذا قلَّ لسيارته، فأشْبَهَ التثاؤبَ والعطاسَ، ومقتضى كلامِه أن القيء يقطع الصلاة، وليس على إطلاقه، فقد روى ابن القاسم في المجموعة: إن كان ماء لا يقطعها، وإن كان طعاماً قطعها. قال في البيان: فأفسد الصلاة بما لا يفسد به الصوم. والمشهور أنَّ مَن ذَرَعَه القيءُ لا يُفسد صلاته ولا صيامه. واختلف قوله إنْ رده بعد انفصاله ساهياً في فساد صلاته وصيامه. قال: وأما إن رده طائعاً غير ناسٍ فلا اختلاف أنه يُفسد صلاته وصيامه. انتهى.
وَكَثِيرُ الْفِعْلِ مِن جِنْسِ الصَّلاةِ سَهْواً غَيْرُ مِنجَبِرٍ. وَقِيلَ: مِنجَبِرٌ
أي: والمشهور أن زيادة الفعل الكثير في الصلاة إذا كان سهواً من جنس الصلاة ليس بمِنجبر، لأن الكثرة تُلْحِقُه بغيرِ المجانس، والشاذُّ أنه مِنجبر. ثم بيَّن الكثير فقال:
وَالْكَثِيرُ: أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ. وَقِيلَ: رَكْعَتَانِ. وَالثُّنَائِيَّةُ: مِثلُهَا. وَقِيلَ: نِصْفُهَا. فَتُلْحَقُ الْمَغْرِبُ بالرُّبَاعِيَّةِ، وَقِيلَ: بِالثُّنَائِيَّةِ ....
ابن راشد: لا خلاف أن الأربع كثيرٌ؛ لأنها أكثر عدد الصلوات الخمس، فهي كثيرةٌ في نفسِها، كثيرةٌ بالنسبة إلى الصلاة المَزيدِ فيها. انتهى. وفيه نظر، فقد حكى اللخمي عن مطرف أنه روى عن مالك: لو صلى الحاضر الظهر ثمانية ركعات، والمسافر أكثر من أربعة لم تبطل صلاته. وهذا هو القول الذي حكاه المصنف أولاً بقوله:(وَقِيلَ: مُِنْجَبِرٌ). وقوله: (وَقِيلَ: رَكْعَتَانِ) نُسب لابن القاسم وابن الماجشون. قال ابن الماجشون: وليس هذا مِن قِبَلِ أنها نصف الصلاة؛ لأني لا أرى زيادةَ ركعةٍ في الصبح طُولاً.
وقوله: (وَالثُّنَائِيَّةُ: مِثْلُهَا) يعني أن الخلاف المتقدم إنما هو بالنسبة إلى الرباعية، وأما الثنائية فتبطل بزيادة ركعتين.
ابن راشد: والمشهور أن الصبح تبطل بزيادة ركعتين؛ لأنهما مثلها، وقيل: لأنهما نصف الرباعية. انتهى.
وقوله: (وَقِيلَ: نِصْفُهَا) قال ابن هارون: هو قول ابن نافع وابن كنانة في ثمانية أبي زيد: أن الصبح والجمعة تبطل بزيادة ركعة. وما ذكرناه مِن كلام المصنف أصح مما في بعض النسخ عوض قوله: (وَالثُّنَائِيَّةُ: مِثْلُهَا). وقيل: (مِثْلُهَا) لأنه على هذه النسخة يقتضي أن المشهور لا تبطل الثنائية إلا بزيادة أربع ركعات، وليس كذلك. قال المازري: ولا خلاف أن الرباعية لا تبطل بزيادة ركعة.
وقوله: (فَتُلْحَقُ الْمَغْرِبُ بالرُّبَاعِيَّةِ ....) إلخ؛ أي: إذا حد الكثير بالنصف فيُختلف في المغرب، هل تُلحق بالثنائية فتبطل بركعة، أو بالرباعية فلا تبطل إلا باثنتين؟ والقولان لابن القاسم؛ لأنه قال في العتبية فيمِن صلى المغرب خمساً أنه يكتفي بسجدتي السهو. قال في البيان: وهو خلاف ما روي عن سحنون أن مَن زاد في صلاته مثلَ نصفِها، فإنها تبطل.
وَقَلِيلُهُ جِدّاً مُغْتَفَرٌ
كرفع اليدين في السجود والتشهد.
وَنَحْوَ سَجْدَةٍ عَمْداً مُبْطِلٌ
ظاهر.
وَإِذَا قَامَ الإِمَامُ إِلَى خَامِسَةٍ: فَمِن أَيْقَنَ مُوجِبَهَا وَجَلَسَ عَمْداً بَطَلَتْ، وَمِن أَيْقَنَ انْتِفَاءَهُ وَتَبِعَهُ عَمْداً بَطَلَتْ، وَيَعْمَلُ الظَّانُّ عَلَى ظَنِّهِ، وَالشَّاكُّ عَلَى الاحْتِيَاطِ ......
اعلم أن مصلي الفرض يجب عليه الكف عن الزيادة متى ما ذكر. وقوله: (وَمَنْ أَيْقَنَ) يعني أن المأمومين ينقسمون على أربعة أقسام:
الأول: من أيقن موجبها بالنسبة إلى الإمام، كمِن علم أم الإمام إنما قام لكونه نسي سجدة مِن الأولى، فإنه يلزمه إتباعُ الإمام، وإن جلس عمداً بطلتْ لكونه خالف ما لزمه.
القسم الثاني: أن يتيقن انتفاء الموجب فيلزمُه الجلوسُ، فإن تَبِعَه عمداً بطلتْ. وشروط سحنون في صحة صلاة الجالس التسبيح، واستبعده أبو عمران، ورأى ابن رشد أنه تفسيرٌ للمذهب.
القسم الثالث: أن يظن أحدَ هذين. قال المِنصف: (وَيَعَْمَلُ الظَّانُّ عَلَى ظَنِّهِ).
القسم الرابع: أن يَشكَّ فيتبعَ الإمامَ، وهو معنى قوله:(وَالشَّاكُّ عَلَى الاحْتِيَاطِ).
وما ذكره المصنف في الظنِّ مخالفٌ لما نقله الباجي، ولفظه: وإنما يعتد مِن صلاته بما تيقن أداءه له. هذا مذهب مالك وأصحابه. وقال أبو حنيفة: يرجع إلى غالب ظنه. انتهى.
خليل: وقد يقال: ما ذكره المصنف يتخرج على أحد القولين اللذين ذكرهما اللخمي فيمن ظن أنه صلى أربعاً، هل حكمه كمن شك؟ هل صلى ثلاثاً أم أربعاً؟ أو يبني على الظن قولان.
فَلَوْ قَالَ لَهُمَا: إنما كَانَتْ لِمُوجِبٍ، فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: مَنْ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُهُ وَتَبِعَهُ، وَمُقَابِلُهُ: تَصِحُّ فِيهِمَا، وَفِي الثَّالِثِ الْمَنصُوصِ: تَبْطُلُ، وَفِي الرَّابِعِ، مُتَأَوِّلاً قَوْلانِ، وَالسَّاهِي مَعْذُورٌ .....
(لَهُما) أي: لمن تَبِعَه ولمَن جلس. وفي بعض النسخ لهم؛ أي: للمأمومين. (كَانَتْ لِمُوجِبٍ) أي: لم تكن سهواً وإنما كانت لإسقاط الفاتحة أو نحوها. (فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ) أي: فحكم المأمومين على أربعة أقسام:
(مَنْ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُهُ وَتَبِعَهُ) لتيقنِه الموجِبَ، أو شكِّه أو ظنِّه.
(وَمُقَابِلُهُ) أي: مَن لم يلزمه اتباعه ولم يتبعه لتيقنه انتفاء الموجب أو ظنه، على ما قدَّمه المصنف، لا على ما حكاه الباجي.
وأما الوجه الأول: فالظن معتبر فيه اتفاقاً.
وقوله: (تَصِحُّ فِيهِمَا) أي: في الوجهين؛ لأن كلاً منهما قد أتى بما لزمه. قال سحنون: وإنما تصح صلاة الجالس إذا سبح للإمام، وأما إن لم يفعل وقعد أعاد أبداً. (64/ أ)
وقوله: (وَفِي الثَّالِثِ الْمَنصُوصِ: تَبْطُلُ) الثالث: مِن يلزمه اتباعه ولم يتبعه، ومرادُه بلزوم الاتباع اللزومُ في نفس الأمر.
ومقابلُ المنصوص هو اختيار اللخمي، فإنه قال: قال محمد: فإن قال الإمام بعد السلام: كنت ساهياً عن سجدة. بطلتْ صلاة مَن جلس، وصحَّتْ صلاةُ مَن اتبعه سهواً أو عمداً، يريد إذا أسقطوها أيضاً. والصواب أن تتمَّ صلاةُ مَن جلس ولم يتبعه؛ لأنه جلس متأوِّلاً، وهو يرى أنه لا يجوز له إتباعه، وهو أعذرُ مِن الناعس والغافل.
وقوله: (وَفِي الرَّابِعِ) أي: مَن لم يلزمه إتباعه لتيقنه الكمال، فيتبعُه متأوِّلاً للزوم متابعته. (قَوْلانِ) قال سحنون: أرجو أن يجزئه، وأحبُّ إليَّ أن يعيد. وقال غيره: تلزمه الإعادة.
ويقع في بعض النسخ: وفي الثالث والرابع قولان. وما تقدم أولى لانتفاء الخلاف في الوجه الثالث إلا ما اختاره اللخمي.
وقوله: (وَالسَّاهِي مَعْذُورٌ) يعني أن مِن لم يتبع الإمام ساهياً وحكمه الاتباع أو يتبعه ساهياً وحكمه الجلوس فصلاتُه صحيحة.
فَيَلْزَمُ الْجَالِسَ عَلَى الصِّحَّةِ الإِتْيَانُ بِرَكْعَةٍ
ابن عبد السلام: يعني أن مَن جلس وحكمُه الإتباع، وقلنا بصحة صلاته فلا بد أن يأتي بركعة. انتهى.
ابن هارون: وفيه بُعْدٌ؛ لأن المصنف لم يَحْكِ في صحة صلاةِ مَن جلس وحكمه الإتباع قولاً حتى يُفَرِّعَ عليه، وإنما أشار إلى اختيار اللخمي، ويبعد أن يفرع عليه. انتهى. وقد يقال: لعله يريد مَن جلس ساهياً وحكمه الإتباع. فإن قيل: يَرُدُّه قوله: (على الصحة) أو التقدير: على القول بالصحة، ولا خلاف في صحة صلاة الساهي. قيل: إنما أتى هذا على التقدير المذكور، وأما إن قدر على الحكم بالصحة، فلا.
فرع:
واختلف لو ذكر الإمام وهو قائم في الثانية سجدة، ولم يَسْهُ عنها جميع مِن خلفه، فقيل: يستحب لهم أن يعيدوها معه، وهم بمِنزلة مَن رفع مِن الركعة أو السجدة قَبْلَ إمامِه، فإن لم يُعيدوا صحتْ صلاتُهم. وقال سحنون: يجب عليهم أن يعيدوا معه. وقال ابن القاسم في العتبية: لا يسجدوا معه، وسجدتُهم تجزئهم. قال: وأحبُّ إليَّ أن يعيدوا صلاتهم. قاله اللخمي والمازري. قال في البيان: ولو اتبعوه على ترك السجدة عالمين سهوة فصلاتهم فاسدة باتفاق. انتهى. وهذا الخلاف إنما هو إذا لم يَفُتِ الإمامَ الرجوعُ إليها. قال في البيان: وأما لو فاته الرجوع إليها بعقد الركعة التي بعدها فركعة القوم صحيحةٌ باتفاق، ويقضي الإمامُ تلك الركعة في آخر صلاته وهم جلوس، ثم يسلم بهم ويسجد بعد السلام. وأما إن سها عنها هو وبعض مِن خلفه فلا يخلو مَن لم يَسْهُ عنها مِن حالتين:
إحداهما: أن يسجدوا لأنفسهم.
والثانية: أن يتبعوه على ترك السجود عالِمينَ بسهوِه، فأما إن سجدوا لأنفسهم ولم يرجع الإمام إلى السجود حتى فاته الرجوعُ بعقد الركعة التي بعدها ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها لابن القاسم: أن السجود يجزئهم وتصح لهم الركعة، ويلغيها الإمام ومَن سها معه، فإذا أكمل ثلاث ركعات قام ومَن سها معه إلى الرابعة، وقَعَدَ مَن لم يَسْهُ حتى يسلم فيُسلموا بسلامه، ويسجد بهم جميعاً بعد السلام. وهو أضعف الأقوال؛ لاعتدادهم بالسجدة، وهم إنما فعلوها في حكم الإمام، ولمخالفتهم إياه، فإن صلاتهم تبقى على سُنتها، وتصير للإمام ومَن سها معه الركعةُ الثانيةُ أُولى. ولهذا قال ابن القاسم: أحبُّ إليَّ أن يعيدوا. وإنما يسجد الإمام بعد السلام إذا ذكر بعد الركوع في الثانية؛ لأنه يجعلها أولى، ويأتي بالحمد وسورةٍ، ويجلس، فيكون سهوُه زيادةً، وأما إن لم يذكر حتى صلى الثالثة أو رفع من ركوعها فإنه يسجد قبل السلام لاجتماع الزيادة والنقصان.
والقول الثاني: أن صلاتهم فاسدة للمعنى الذي ذكرناه مِن مخالفة نيتهم لنية الإمام في عدد الركعات. وهو قول أصبغ.
والقول الثالث: أن السجود لا يجزئهم، وتبطل عليهم الركعة كما بطلت على الإمام ومَن معه، ويتبعونه في صلاته كلها وتجزئهم. حكاه ابن المواز في كتابه. وأما إن اتبعوه على ترك السجود عالمين بسهوه، فقال في العتبية: صلاتهم مِنتقضة. ويتخرج على ما في الموازية أنه إنما تبطل عليهم الركعة، ولا تنتقص عليهم الصلاة. انتهى. وفيه نظر؛ لأنه نص على أنه إذا لم يسهُ عنها أحد ممن خلفه وسجدوا ولم يرجع الإمام حتى فاته الرجوع أَنَّ ركعة القوم صحيحة باتفاق، وحكى فيها إذا سها بعضهم ولم يسه البعض ويجد ثلاثةَ أقوال، مع فوات التدارك أيضاً في حق الإمام، ولا يظهر بينهما فرقٌ. ومقتضى كلام المازري بل نصه حصول الأقوال الثلاثة فيما إذا لم يسه عنها أحد ممكن خَلْفه. وأيضاً فإنه حكى الاتفاق في البطلان على الأولى إذا اتبعوه على ترك السجود عالمين بسهوه، ولم يحك ذلك في الثانية، فانظر ما الفرق.
وَفِي إِعَادَةِ التَّابِعِ السَّاهِي لهَا قَوْلانِ
أي: إذا اعتقد صحة الركعات الأربع، وتبع الإمام في الخامسة سهواً، ثم تبين له أن أحد الأربع باطلة، فهل يعيد هذه الركعة أم لا؟
ابن عبد السلام وابن هارون: وأصل المشهور الإعادة. وحكاهما ابن بشير، وبناهما على الخلاف فيمن ظن أنه أكمل صلاته فأتى بركعتين ثم ذكر أنه إنما صلى ركعتين، فقيل: تنوب له النافلة. وقيل: لا. وفي بنائه نظر؛ لأنه (64/ل) أتى في هذه بنية منافية بخلاف ما نحن فيه.
وَفِي إِلْحَاقِ الْجَاهِلِ بالسَّاهِي قَوْلانِ
أي: إذا قلنا بعدم نيابة ركعة السهو فالأحرى أن لا تنوب ركعة الجهل، وإن قلنا نيابة ركعة السهو فهل تجزئ الجاهل كالساهي أم لا؟ ونعني بالجهل اعتقاد لزوم متابعة الإمام مع أنه غير لازم.
وَفِي نِيَابَتِهَا عَنْ رَكْعَةِ مَسْبُوقٍ يَتْبَعُهُ قَوْلانِ
يعني: أن المسبوق بركعة أو أكثر إذا تبع الإمام في هذه الركعة الخامسة التي قام لها لموجب، هل يعتد بها أم لا؟ وفي ذلك قولان، وهذا فيه تفصيل: إن تبعه وهو يعلم أنها خامسة، ولم يسقط الإمامُ شيئاً بطلت صلاته. نقله ابن يونس والمازري عن ابن المواز، ونص ما نقله ابن يونس عنه: ولو اتبعه فيها من فاتته ركعةٌ وهو يعلم أنها خامسة ولم يُسقط الإمام شيئاً أبطل صلاته، وإن لم يعلم فليقضِ ركعةً أخرى وليسجد لسهوه كما يسجد إمامه. انتهى. فلو قال الإمام: كنت أسقطت سجدة. وتبعَه المسبوق وهو يعلم أنها خامسةٌ فقال مالك: لا تجزئة عن ركعة. وقال ابن المواز: تجزئه؛ لأن الغيب كشف أنها رابعة. وأما إن لم يعلم فتجزئه عند مالك وابن المواز.
ابن راشد: وكلام المصنف يؤخذ منه هذا؛ أعني أن الخلاف إنما هو إذا تبين أنه قام لموجب؛ لأن فرض المسألة أن الإمام قال لهم: كانت لموجب. وبنى ابن شاس هذا الخلافَ على الخلافِ في الإمام، هل هو قاضٍ في هذه الركعة فلا تنوب له، أو بانٍ فتنوب؟
وَمِن قَامَ إِلَى ثَالِثَةٍ فِي نَفْلٍ فَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ رَكْعَةً رَجَعَ وَإِلا أَتَمَّهَا أَرْبَعاً وَسَجَدَ قَبْلَهُ، وَقِيلَ: بَعْدَهُ ........
قوله: (فَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ رَكْعَةً) اختلف إذا ذَكر وهو مُنْحَنٍ، فقال مالك: يرفع رأسه ويتمُّها. وقال أيضاً: يرجع إلى الجلوس. وبه أخذ ابن القاسم، وهو على الخلاف المعلوم في عقد الركعة.
قوله: (وَإِلا أَتَمَّهَا أَرْبَعاً) كان في ليل أو نهار، وهذا مذهب المدونة. وقال محمد بن مسلمة: إن كان في نهار فكذلك، وإن كان في ليلٍ قطع متى ما ذكر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:((صلاة الليل مثنى مثنى)).
وقيد أبو عمران الأول بما عدا ركعتي الفجر؛ لأنه لا نافلة بعدها، والسجود قبل السلام لمالك، وهو المشهور.
والثاني: لمالك أيضاً وابن عبد الحكم وسحنون.
ابن عبد السلام: وثمرة هذا الخلاف هل يعتد بهذه الصلاة في قيام رمضان بتسليمة أو بتسليمتين؟ قال: فإن قلنا بالسجود قبلُ اعتدَّ بأربع، وإلا فبركعتين.
واختلف في توجيه المشهور:
فقال الأبهري وابن شبلون وابن أبي زيد: لأنه نقص السلام.
وقال ابن مسلمة والقاضي إسماعيل: لأنه نقص الجلوس. واختاره ابن الكاتب والقابسي واللخمي، وهو أظهر. ولا ينبغي أن يعلل السجود بنقص السلام؛ لأنه فرض،
والذي ينبغي أن يقال: إِنْ قام مِن غير جلوسٍ سجدَ قبل السلام لنقص الجلوس، وإن جلس فلا سجودَ عليه قبلُ ولا بعدُ. قاله اللخمي. قال: لأن الأربعة صحيحة عند بعض أهل العلم. واعتبر بعضهم قول سحنون بأن السجود البعدي إنما يكون للزيادة على طريق السهو، والركعتان هنا وإن ابتدأهما سهواً فقد صارتا كالمأذون فيهما، ولذلك يؤمر بَعْد عقدِ الثالثةِ بالتمادي.
وأجيب بأنه قبل العقد مأمور بالكشف، فليس ترجيح الإذن فيهما آخراً أولى مِن ترجيح المنع أوَّلاً، بل مراعاة السابق أولى.
فرع:
فإن قام الإمام لخامسة رجع متى ما ذكر كالفرض، وهذا بناء على أنه لا يراُعى مِن الخلاف إلا ما قوي واشتهر عند الجمهور، والخلافُ في الأربعِ قويٌّ بخلاف غيره. واختلف إذا صلى النافلة خمساً، هل يسجد قبل أو بعد؟ قال ابن القاسم في المدونة: لم أسمع من مالك في ذلك شيئاً، ولا أرى أن يصلي السادسة، ولكن يرجع إلى الجلوس ويسلم ويسجد لسهوه.
عبد الحق: يجعل سجوده بعد السلام، ثم قال ابن القاسم: وأرى أن يسجد قبل السلام. وحمله اللخمي على أنه اختلافُ قول. وقال صاحب النكت: ليس هو خلافاً. وأصوب ما قيل في ذلك أن قوله: يسلم ثم يسجد إنما قاله على رأي من قال أن النافلة أربع، ثم ذكر بعد ذلك اختياره، وما يجيء على مذهب مالك- رحمه الله الذي يرى أن النافلة ركعتان؛ أي: فيكون إنما ذكر فيها السجود قبله. وحَمَل هذا القائلُ على هذا كونُ المعروفِ فِي المذهب في اجتماع الزيادة والنقص السجودَ قبله. واستبعد عياض هذا بأن المجتهد لا يفتي بمذهب غيره، وإنما يفتي بمذهبه أو بالاحتياط لمراعاة خلاف غيره عند عدم الترجيح أو فوات النازلة. وذكر أن المسألة وقعت في كتاب ابن المرابط على أن يسلم
ويسجد، معطوف بالواو لا بثم. اللخمي: وأرى- إن لم يكن جلس في الثانية- أن يسجد قبل السلام؛ لأنه نَقَصَ الجلوسَ وزاد الخامسةَ، وإن جلس في الثانية سجد بعده.
فَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَشَرَعَ فِي الْوِتْرِ أَمْ هُوَ فِي ثَانِيَةِ الشَّفْعِ جَعَلَهَا ثَانِيَةً وَسَجَدَ بَعْدَهُ
(جَعَلَهَا ثَانِيَةً) لإلغاء الشك، (وَسَجَدَ بَعْدَهُ) لاحتمال أن يكون أضاف ركعة الوتر إلى الشفع مِن غيرِ سلام، ويكون قد صلى الشفع ثلاثاً، وهذا هو المشهور. ورُوي عنه أنه يسجد قبل السلام؛ لاحتمال أن يكون في وترٍ فشفَعَه بسجدتين، للنهي الوارد عن وِترين في ليلةٍ. وحكى ابنُ حارث ثالثاً بنفي السجود مطلقاً.
وَأَمَّا الْكَلامُ فَعَمْدُهُ لِغَيْرِ إِصْلاحِهَا مُبْطِلٌ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ وَجَبَ لإِنْقَاذِ أَعْمَى وَشِبْهِهِ
قوله: (قَلَّ أَوْ كَثُرَ) كذا قال أكثر الشيوخ، وفي المقدمات: إن يسيرَه غيرُ مبطل كيسيرِ الفعل. وهو بعيد.
وقوله: (وَإِنْ وَجَبَ) هو المذهب، واختار اللخمي في ضيق الوقت أنه يتكلم ولا يبطل، وشبهها بحال المسايفة.
المازري: وفي تشبيهه نظر؛ لأن المسايف لا يبطل كلامه صلاته إذا اضطر إليه. ولو أوقع الصلاة في أول الوقت، بخلاف ما ذكر.
وَسَهْوُهُ إِنْ كَثُرَ فَمُبْطِلٌ، وَإِنْ قَلَّ فَمِنجَبِرٌ، وَفِي جَهْلِهِ الْقَوْلانِ
أبطل مع الكثرة لخروج المصلي بسببه عن معنى الصلاة.
وقوله: (وَإِنْ قَلَّ فَمِنجَبِرٌ) واضح.
(وَفِي جَهْلِهِ الْقَوْلانِ) أي: المتقدمان في عذر الجاهل بجهله في الصلاة. وفسره ابن شاس وغيره بمن جهل تحريم الكلام في الصلاة، ولعل هذا إنما يتصور فيمن قرب إسلامه.
فرع:
نص ابن شاس على أن الصلاة تبطل بكلام المكره.
ابن هارون: وانظر الفرقَ بينه وبين الناسي.
فَإِنْ كَانَ ذِكْراً فِي مَحِلِّهِ كَاتِّفَاقِ: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنينَ} وَقَصَدَ بِهِ التَّفْهِيمَ فَمُغْتَفَرٌ ........
أي: فإن كان الكلام ذِكراً في محله، والذِّكر هنا كلُّ كلام مشروع في الصلاة، وهو أعمُّ من القرآن.
وإِنْ تَجَرَّدَ لِلتَّفْهِيمِ فَقَوْلانِ
كما لو بشر بشارة فقال: (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا)(الأعراف: 43) أو أَمِنَ خوفاً فقال: (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ)(فاطر: 34) أو استؤذن عليه فقال: (ادْخُلُوا مِصْرَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنينَ)(يوسف: 99) ومعنى (تَجَرَّدَ) أنه لم يكن يقرأ في هذه المواضع. والأظهرُ البطلانُ؛ لأنه في معنى المحادثة. وحكى ابنُ عات البطلانَ عن ابن القاسم، وحكى المازريُّ عنه الصحةَ مع كراهةِ ذلك ابتداءً، ولم يذكر اللخمي قولاً منصوصاً بالبطلان وإنما خرجه على القول بالبطلان إذا فتح على من ليس معه في الصلاة. وحكى اللخميُّ والمازريُّ عن ابن حبيب إجازةَ الإفهام ابتداءً بكل ما يجوز للرجل أن يتكلم به في الصلاة مِن الذِّكرِ والقراءةِ.
كَمَن فَتَحَ عَلَى مَنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلاةِ
أي: ففيه القولان، قال اللخمي: ولا يفتح مَن هو في صلاةٍ على مَن ليس في صلاة، أو في صلاة وليس بإمام له. واختُلف إذا فعل، فقال ابن القاسم في المجموعة، وسحنون في كتاب ابنه أنه يفسد صلاته. قال سحنون: ويعيد، وإن خرج الوقت. قال أشهب في مدونته، وابن حبيب: أساء ولا يعيد. انتهى.
وَيُسَبِّحُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ لِلْحَاجَةِ، وَضَعَّفَ مَالِكٌ التَّصْفِيقَ لِلنِّسَاء
قال ابن شعبان: اختلف قول مالك في ذلك، فقال مرة: يسبح الرجال ولا يصفق النساء. وقال مرة: يسبح الرجال ويصفق النساء. وصفة التصفيق- على مقابل المشهور- أن تضرب بظهر أصبعين من يمينها على كفها الشمال.
وَلإِصْلاحِهَا لا يُبْطِلُ، مِثْلُ: لَمْ تُكْمِلْ. فَيَقُولُ: أَكْمَلْتُ. وَمِثْلُ أَنْ يَسْأَلَ فَيُخْبَرَ. وَقَالَ ابْنُ كِنَانَة: مُبْطِلٌ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: إِنْ كَانَ بَعْدَ سَلامِ اثْنَتَيْنِ فَلا تَبْطُلُ
قوله: (مِثْلُ: لَمْ تُكْمِلْ) مثالٌ لما ابتدأ فيه المأمومُ بالكلام.
وقوله: (وَمِثْلُ أَنْ يَسْأَلَ فَيُخْبَرَ) مثال لما ابتدأ الإمام فيه بالكلام. ووجه المشهور قصة ذي اليدين. ورأى التسوية بعد كونه بعد سلام اثنتين وغيره، ورأى ابن كنانة أن ذلك عند تجويزهم النسخ؛ لقولهم: أقصرتْ الصلاةُ أم نسيتَ. وذلك مقتضٍ للخصوصية. قال في البيان: ووافقه على ذلك أكثرُ أصحاب مالك.
المازري: وأفسد ابن القاسم هذا بأن القوم تكلموا أيضاً بعد علمهم بعدم النسخ، وهو قولهم: قد كان بعضُ ذلك.
وأجيب بأنه قد ثبت مِن وجه صحيح أنهم أشاروا؛ أي: نعم، ذكر ذلك ابن عبد البر من حديث حماد بن زيد، قال: وهو أثبت من غيره. وأيضاً لو أجابوا بنعم كما روي لما أضرَّهم لمخالفتهم إيانا في الكلام، إذا مجاوبته صلى الله عليه وسلم واجبةٌ. وعلى قول ابن كنانة يسبح فقط. وقال سحنون: الأصل ألا يتكلم في الصلاة، خرج الكلام بعد سلام اثنتين في حديث ذي اليدين، فيبقى ما عداه على الأصل، وفيه جمود.
تنبيه:
وهذا الخلاف إنما هو إذا وقع الكلام بعد أن سلم الإمام معتقداً التمام، كما في الحديث، وأما إذا شك الإمام قبل سلامه، فحكى اللخمي والمازري في ذلك ثلاثة أقوال:
المشهور أنه لا يجوز له أن يسأل المأمومين، كان في الصلاة أو انصرف مِنها بسلام، ثم حدث له الشك بعد سلامه. هذا اللفظ للمازري. وعَبَّرَ اللخمي عنه بالمعروف. ووجهه أنه مع الشك مخاطَبٌ بالبناء على اليقين، وقال أصبغ: يجوز السؤال بعد التسليم خاصة. وقال محمد بن عبد الحكم. يجوز قبل التسليم وبعده.
اللخمي: وأرى أن ذلك كله لإصلاح الصلاة، وخارج عن الكلام المنهي فلا فرق بين أن يكون قبل السلام أو بعده، ولا يفسد عليه ولا على من كلمه.
وَيَرْجِعُ الإِمَامُ إِلَى عَدْلَيْنِ، وَقِيلَ: إِلَى عَدْلٍ مَا لَمْ يَكُنْ عَالِماً. وَقِيلَ: بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا مَأمُومَيْهِ ......
قال اللخمي: إذا شك الإمام ومَن خلفه فأخبرهم عدلان أنهم أتموا رجعوا إليهما وسلموا. واختلف إذا أخبرهم عدل واحد، فقال مالك: لا يجتزئ به. وقال في كتاب محمد: إذا أخبره واحد أنه أتم طوافه أرجو أن يكون في ذلك بعض السَّعَة. ورآه من باب الإخبار لا من باب الشهادة، وعلى هذا يجتزئ بخبر العدل في الصلاة، والحرُّ والعبد والمرأة (65/ب) في ذلك سواءٌ، انتهى.
وقوله: (مَا لَمْ يَكُنْ عَالِماً) قال في الجواهر: وإنما يرجع الإمام إلى قول المأمومين إذا غلب على ظنه ما قالوه بعد سلامه، أو شك فيه، فإن خرج الاعتقاد بخلاف ما قالوه لم يرجع إلا أن يكثروا جداً، بحيث يفيد خبرهم العلم، فإنه يرجع إلى خبرهم، ويترك اعتقاده. ثم قال: وقال ابن حبيب: إذا صلى الإمام برجلين فصاعداً فإنه يعمل على يقين مَن وراءه، ويَدَعُ يقينه، يريد الاعتقاد. انتهى. وعلى هذا فقول المصنف:(مَا لَمْ يَكُنْ عَالِماً) مقيد بما إذا لم يكثر مَن خلفَه جداً. وقال المازري: اختلف قول مالك إذا أخبره مَن خلفه وكان الأمر عنده بخلاف ما قالوه، فروي عنه أنه لا يرجع إليهم، وبه قال الشافعي، وروي عنه أنه يرجع إليهم، وبه قال أبو حنيفة. وقال أشهب: يرجع إلى عدلين. وقال ابن مسلمة: يرجع إلى العدد الكثير ولا يرجع إلى العدد اليسير كالاثنين والثلاثة، انتهى.
وقوله: (وَقِيلَ: بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا مَأمُومَيْهِ) هذا القول لمالك في العتبية، ونقله المازري غن ابن القصار، وعلله بأن المأمومين يراعون صلاته كما يراعيها، بخلاف غيرهم، وعلى هذا فيختلف في الفذِّ إذا أخبره غيره ممِن يسكن إلى قوله بعدد ما صلى.
ثُمَّ يَبْنِيِ إِنْ كَانَ قَرِيباً وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقِيلَ: وَإِنْ بَعُدَ
لأنه إذا طال الأمر أو خرج مِن المسجد وانضم أحدهما إلى السلام كان ذلك إعراضاً عن الصلاة بالكلية.
وقوله: (وَقِيلَ: وَإِنْ بَعُدَ) حكاه في الجواهر، وظاهره: ولو خرج مِن المسجد، ورجح، لأن ابن عبد البر روى في حديث ذي اليدين أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيته.
وَبَبْنِي بِغَيْرِ إِحْرَامٍ إِنْ قَرُبَ جِدّاً اتِّفَاقاً، وَإِلا فَقَوْلانِ
في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: بأنه يحرم مطلقاً، نقله الباجي عن مالك مِن رواية ابن القاسم، وعن ابن نافع. ونقل القول بعدم الإحرام عن بعض القرويين واستبعده، ونقله بعضهم عن مالك في العتبية.
والثالث بالتفصيل إِن قرُب لم يَحْرُم، وإِنْ بَعُدَ أحرم، وعلى هذا ينتقض الاتفاق الذي ذكره المصنف، وإن كان قد يتبع فيه ابن بشير. وقد قيل: إن بعض أصحاب المصنف راجعه في ذلك، ونقل له الخلاف، وتوقف، وأشار أن يجعل مكان الاتفاق على الأكثر، وكذلك يوجد في بعض النسخ، على أن الاتفاق يمكن أن يكون عائداً على البناء؛ أي: يبني في القرب جداً اتفاقاً.
وقوله: وإلا فقولان قال المازري: والمشهور، إذا قرب ولم يطل جداً أنه يرجع بإحرام. وهذا كله مقيد بما إذا لم يطل جداً، وأما لو طال لم يصح له البناء على المشهور خلافاً لما في المبسوط.
فرع:
إذا قلنا بالإحرام فترَكَه، فقال ابن نافع: تبطل صلاته. وقال ابن أبي زيد وغيره مِن مشايخ عصره: لا تبطل. قال الأصيلي: ونيته تكفيه عن الإحرام كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المازري: ووقع في المدونة أنه صلى الله عليه وسلم رَجَعَ بإحرام. فقال بعض الأشياخ: لا يثبُتُ؛ لأن ابن سحنون أسنده لابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الشيخ أبو الحسن: ليس لابن عمر في السهو حديثٌ صحيح ولا سقيم.
وَعَلَى الإِحْرَامِ فَفِي قِيَامِهِ لَهُ قَوْلانِ، وَعَلَى قِيَامِهِ فَفِي جُلُوسِهِ بَعْدَهُ ثُمَّ يَنْهَضُ فَيُتِمُّ قَوْلانِ .....
قوله: (فَفِي قِيَامِهِ) نحوه لابن بشير وابن شاس، وظاهره أن القولين جاريان ولو كان جالساً.
ابن عبد السلام وابن هارون: وليس بصحيح، وإنما القولان في حقِّ مَن تذكَّر بعد أن قام، هل يطلب بالجلوس وهو قول ابن شبلون؛ لأنها الحالة التي فارق عليها الصلاة، وهو الأصل، أو يجوز له أن يحرم وهو قائم فيكون إحرامه بالفور وهو قول قدماء أصحاب مالك؟ قولان، وعلى القيام، فهل يجلس بعد ذلك أَوْ لا، قولان، وأما من تذكر ذلك وهو جالس فإنه يُحرم كذلك ولا يُطلب مِنه القيام اتفاقاً، والقول بأنه يكبر ويجلس لابن القاسم، والقول بأنه يكبر ويجلس لابن نافع، وأشار المازري إلى بناء قول ابن القاسم وابن نافع على أن الحركة إلى الركن مقصودة أم لا؟
وأنكر ابن رشد أن يكون قول ابن القاسم في المذهب، ووَهَّمَ مَنْ نقل ذلك عنه، وليس بصحيح؛ لأن عبد الحق والباجي وصاحب اللباب وغيرهم نقلوا ذلك عنه.
وإِنْ أَخَلَّ بِالسَّلامِ فَكَذَلِكَ، وَفِي إِعَادَةِ التَّشَهُّدِ فِي الطُّولِ قَوْلانِ، فَإِنْ قَرُبَ جِدّاً فَلا تَشَهُّدَ وَلا سُجُودَ ..........
قوله: (فَكَذَلِكَ) أي: فكالسلام مِن اثنتين في إبطال الصلاة مع الطول. وهذه المسألة على أربعة أقسام:
إما أن يتذكر بعد أن طال جداً، أو مع القرب جداً، أو مع القرب وقد فارق موضعه، أو بعد طول يبني معه.
فالقسم الأول: تبطل فيه الصلاة على مذهب المدونة، ولا تبطل على ما في المبسوط، وقاله اللخمي.
وأما الثاني: فإن لم ينحرف عن القبلة سلم ولا شيء عليه، وإن انحرف استقبل وسجد لسهوِه بعد السلام.
وأما الثالث: فاختلف فيه في ثلاثة مواضع: هل يكبر؟ وهل يكون تكبيره وهو قائم أو بعد أن يجلس؟ وهل يتشهد؟
قال في المجموعة: يكبر المازري وابن شاس: وهو المشهور. وقال في كتاب محمد: يجلس ويسلم. ولم يذكر تكبيراً، واختاره اللخمي.
قال ابن القاسم في المجموعة: ويجلس ثم يكبر ويتشهد. وفي كتاب محمد: ويكبر وهو قائم. ولم يجعل عليه التشهد. (66/أ) اللخمي: والقولان في إعادة التشهد يشبهان القولين في إعادة التشهد في السجود القبلي.
وأما القسم الرابع: فيختلف فيه كالقسم الثالث سواء. وعلى هذا فقول المصنف: (وَإِنْ قَرُبَ جِدّاً فَلا تَشَهُّدَ وَلا سُجُودَ) إنما هو إذا لم ينحرف عن القبلة، وهذا كله ما لم يحدث، فإذا أحدث بطلت بلا إشكال.
وَإِنْ خَرَجَ مِنْ سُورَةٍ إِلَى سُورَةٍ فَمُغَتْفَرٌ
واضح.
وَإِنْ جَهَرَ فِي السِّرِّيَّةِ سَجَدَ بعد السلام كَأَنَّهُ مَحْضُ زِيَادَةٍ، وَعَكْسُهُ قَبْلَهُ
قال: (كَأَنَّهُ) أي: ليس بزيادة محضة لكونه صفة للقراءة. وما ذكره من السجود بعد السلام هو المشهور، وحكي عن ابن القاسم قبله. واختلف إذا فعل ذلك متعمداً، فقال أصبغ: يستغفر الله، ولا شيء عليه. وقال الطليطلي: تبطل.
وقوله: (وَعَكْسُهُ) أي: أسَرَّ فيما يُجهر فيه، سجد قبله لنقص الجهر، وقيل: بعده لضعف مدرك السجود، فيؤخر عن الصلاة صيانة لها، فإن الصلاة تصان عن الزيادة كما تُصان عن النقص.
واختلف إذا أسرَّ فيما يُجهر فيه متعمداً، فقال ابن القاسم: يُعيد ويعيدون في الوقت.
وقال عيسى بن دينار: أبداً. وقال أصبغ: يستغفر الله ولا شيء عليه.
فَإِنْ ذَكَرَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَعَادَهُ وَسَجَدَ بَعْدَهُ فِيهِمَا
الضمير في (فِيهِمَا) عائد على صورتي الجهر فيما يسر فيه، والسر فيما يجهر فيه. وسجوده بعد السلام هو قول ابن القاسم في العتبية. وقال أشهب: لا سجود عليه.
وَقَالَ فِي السُّورَةِ: يُعِيدُهَا جَهْراً وَيُغْتَفَرُ
أي: إذا قرأ الفاتحة جهراً ثم نسي فأسر السورة فإنه يعيدها جهراً. (وَيُغْتَفَرُ) أي: لا سجود عليه للخفة. وقال أشهب فيمن ترك الجهر في قراءة الفاتحة في الصبح ثم ذكر فأعادها جهراً: لا سجود عليه، وحسن أن يسجد. وقال مالك في العتبية: يسجد. والأول أيضاً رواه أشهب. قال في البيان: والقولان قائمان من المدونة.
وَنَحْوُ الآيَةِ وَيَسِيرُ الجَهْرِ وَالإسْرَارِ مُغْتَفَرٌ
قال: (وَيَسِيرُ الجَهْرِ) ليدخل في كلامه ما إذا أسر أو جهر في أكثر من آية، وسمعت شيخنا رحمه الله يقول: يمكن أن يكون مراده لو يساعده السياق. وإسقاط نحو الآية من الفاتحة مغتفر، وقد تقدم ما في هذا الفرع.
خليل: والأقرب أن يريد ما ذكره ابن أبي في مختصره، فإنه ذكر بعد أن قرر السجودَ في الجهر في السريةِ، وعكسَه: وإن أسرَّ إسراراً خفياً، أو جهر جهراً يسيراً فلا شيء عليه، وكذلك إعلانه بالآية، فيكون مراده بيسير الجهر والإسرار إذا لم يبالِغْ فيهما، ولو كان ذلك في كل قراءته، والله أعلم.
وَزِيَادَةُ سُورَةٍ فِي نَحْوِ الثَّالِثَة مُغْتَفَرٌ عَلَى الأَصَحِّ
المشهور أنه إذا قرأ في الأخيرتين سورة مع الفاتحة لا سجود عليه. وقال أشهب: عليه السجود. وعلى هذا ففي كلامه نظر؛ لأن كلامه يقتضي أن الخلاف جارٍ ولو في ركعة. وقال أشهب: إنما خالف في الزيادة في الركعتين.
وَلَوْ بَدَّلَ اللهُ أَكْبَرُ بِسَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، أَوْ بِالْعَكْسِ فَكَالتَّرْكِ، يُغْتَفَرُ مَرَّةً، فَإِنْ ذَكَرَ فِي مَوْضِعِهِ أَعَادَهُ .......
أي: إذا أبدل التكبير بالتحميد، أو التحميد بالتكبير، أو تركَ التحميدَ مرة، أو التكبير مرة فلا سجود عليه، واشتمل كلامه- رحمه الله على أربع مسائل، وما ذكره مِن الاغتفار في التبديل مرة واحدة.
ابن راشد: هو ظاهر المذهب؛ لأن مشهور المذهب ترك السجود في ترك التكبيرة الواحدة. انتهى.
وفيه نظر، فإن مذهبَ المدونة في التبديل السجودُ قبل السلام، وعلل ذلك بأنه زيادة ونقص.
قال فيها: وإن جعل موضع الله أكبر سمعَ الله، أو موضع سمع الله لمِن حمده الله أكبر فليرجع فيفعل كما وجب عليه، فإن لم يرجع ومضى سجدَ قبل السلام. انتهى. عياض: وهكذا رويناه بالعطف بأو. خليل: وهو الذي يوافق نقل الجلاب وغيره.
قال عياض: وأكثر المتكلمين على المسألة حملوا جوابه على أنه أبدل ذلك في الركوع والقيام، فجاء مِنه إسقاطُ ذِكرين وبدلهما. انتهى. ومفهوم قوله:(مَرَّةً) أنه لو أبدل مرتين لم يغتفر، وهو كذلك، لكن قال ابن عبد الحكم: يسجد بعد السلام. وقال ابن القاسم: قبلَه. قال في الجلاب: ولم يفرق بين قليل ولا كثير.
وقوله: (فَإِنْ ذَكَرَ فِي مَوضعه) أي: قبل أن يلتبس بالركن الذي يليه أعاد الركن المشروع في ذلك المحل، وفيه تجوُّزٌ إِذِ الإعادة إنما تطلق مع تقديم الفعل.
وذكر عياض أنهم اختلفوا هل يقولها معاً، أو إنما يقول سمع الله لمِن حمده فقط، ويحصل التكبير قبله. والأول تأويل عبد الحق، والثاني تأويل ابن يونس.
وَالتَّنَحْنُحُ لِضَرُورَةٍ غَيْرُ مُبْطِلٍ، وَلِغَيْرِهَا فِي إِلْحَاقِهِ بِالْكَلامِ رِوَايَتَانِ
(إِلْحَاقِهِ بِالْكَلامِ) أي: فيفرق بين عمده وسهوه، وعدم إلحاقه، فلا يبطل مطلقاً. والأول قوله في المختصر، والثاني قوله في غيره، وبه أخذ ابن القاسم، واختاره الأبهري واللخمي، وأما إن كان لضرورة فلا خلاف في صحة الصلاة، قاله ابن بشير.
وَالْمَشْهُورُ إِلْحَاقُ النَّفْخِ بِالْكَلامِ
أي: فيبطل عمده دون سهوه. واختار الأبهري مقابل المشهور، قال: لأن النفخ ليس فيه حروف هجاء.
فرع:
مذهبنا أن مَنْ أَنَّ لوجعٍ فلا تبطل صلاته خلافاً للشافعي، قاله المازري.
وَالْقَهْقَهَةُ تُبْطِلُ مُطْلَقاً، وَقِيلَ: عَمْداً. وَفِيهَا: يَتَمَادَى الْمَامُومُ وَيُعِيدُ
(مُطْلَقاً) أي: عمداً أو غلبة [66 / ب] أو نسياناً، وهكذا روي ابن القاسم عن مالك، نقله التونسي، وكذلك قال صاحب البيان أنه لا يعذر فيه بالغلبة ولا بالنسيان عند ابن القاسم خلافاً لسحنون في قوله أن الضحك نسياناً بمِنزلة الكلام نسياناً ولابن المواز أيضاً: إذا صح نسيانه مثل أن ينسى أنه في صلاة. انتهى.
وإلى هذا القول أشار بقوله: (وَقِيلَ: عَمْداً) وهذه المسألة على ثلاثة أقسام: لأنه إما أن يضحك عامداً مع القدرة على الإمساك أو مغلوباً، أو نسياناً.
فأما الأول: فيؤخذ مِن كلام المصنف نفي الخلاف فيه، وكذلك قال في البيان: إنَّه إِنْ البيان كان عامداً قادراًَ على الإمساك فلا خلاف أنه أبطل صلاته وصلاةَ مَن خلفه، وإنْ كان إماماً يقطع ولا يتمادى عليها، فذّاً كان أو مأموماً أو إماماً، ونحوه لِلَّخمى.
وأما إن ضحك غلبةً فقال اللخمي: إنْ كان فَذّاً قطع، وإن كان مأموماً مضى وأعاد انتهى. وأما الإمام فوقع لابن القاسم في العتبية: أنه يقدِّم غيره فيتمُّ بهم، ويتم هو الصلاة معهم، ثم يعيد إذا فرغوا. وفي بعض الروايات: ويعيدون. قال في البيان: وقال يحي بن عمر: قوله يقدم غيره .. إلى آخره، لا يعجبني. قال: ولا وجه لإنكاره؛ لأن قولَه أنه يُقدم غيره ويتم معهم صحيحٌ على ما في المدونة في المأموم يتمادى مع الإمام ولا يقطع فإذا لم يقطع المأمومُ مِن أجلِ فضلِ الجماعة التي قد دخل فيها فالإمامُ كذلك
…
والأظهرُ أنه لا إعادة على المأمومين، وهو ظاهر ما في الواضحة مِن رواية مطرف عنه، وأما هو فيعيد على أصله في المدونة في المأموم، وذهب فضلٌ إلى أنه إذا قدم مَن يتم بهم الصلاة يقطع هو ويدخل معهم، لأن الصلاة قد فسدت عليه بضحكه. انتهى. وحمل اللخمي ما في العتيبة على المأمومين يعيدون. واعترض التونسيُّ قولَ ابن القاسم في العتبية فقال: قوله أنه يستخلف من يتم بهم ويعيد ليس له وجه بَيِّنٌ؛ لأنه إن كان أفسد صلاته فقد أفسد على القوم ويبتدئ بهم الصلاة، وإن كان ذلك كالكلام فيتم ويسجد بهم بعد السلام.
قال اللخمي: واختلف في الناسي أنه في صلاةٍ، فقال ابن القاسم: ليس بمِنزله الكلام. أي: فيبطل مطلقاً. وجعل الجواب فيه في الموازية كالمغلوب إن كان وحده قطع، وإن كان مأموماً مضى، وإن كان إماماً استخلف وأعاد مأموماً، وأعاد جميعهم. وقال أشهب في مدونته: هو كالكلام فيمضى إن كان فَذّاً وتجرئه الصلاة، وإليه ذهب محمد. انتهى. وعلى هذا إن كان مأموماً فلا شيء عليه، ويحمِله عنه الإمامُ، وكذلك قال أصبغ، نقله عن التونسي. وقال اللخمي: قال ابن المنذر: أجمع أهل العالم على أن الضحك يقطع الصلاة. يريد: لأنهم فرقوا بينه وبين الكلام؛ لأن فيه أمرأً زائداً على الكلام، وهو قلة الوقار، وفيه ضرب مِن اللعب. وانتهى. وذكر في البيان عن القاضي إسماعيل أنه قال: الكلام في قطع الصلاة أيسرُ من الضحك. وعلى هذا فقوله في المدونة: ويتمادى المأموم مقيدٌ بها إذا لم يكن ضحك عمداً، وكذلك قال سند.
وَالتَّبَسُّمُ لا يُبْطِلُ وَلَوْ عَمْداً. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ: لا يَسْجُدُ. وَأَشْهَبُ قَبْلَهُ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ بَعْدَهُ .......
أي: مع كراهة عمده. ووجهُ رواية ابن القاسم انتفاءُ الزيادة والنقص، واستحسن اللخمي قولَ اشهب لنقص الخشوع، ورأي في رواية ابن عبد الحكم أنه لما ضَعُفَ مدرك السجود ـ وهو الخشوع ـ أُخِّر. وهذه الرواية نقلها ابن عبد الحكم عن مالك في مختصر ما ليس في المختصر، وقال سحنون: نقله ابن راشد، وغيره.
وَكَانَ مَالِكٌ إِذَا تَثَاءَبَ سَدَّ فَاهُ بِيَدِهِ وَنَفَثَ فِي غَيْرِ الصَّلاةِ، وَلا أَدْرِي مَا فَعَلَهُ فِي الصَّلاةِ ...........
هذا كلام ابن القاسم في المدونة، لكن روي عن مالك أنه كان يسدُّ فاه أيضاً في الصلاة، فإن احتاج إلى نفثٍ نَفَثَ في طرفِ ثوبِه. قال في الواضحة: ويقطع القراءة. وذَكر.
هذه المسألة هنا- وإن لم تكن من زيادة القول- لمِناسبتها للضحك والتنحنح والتبسم، والله أعلم.
النُّقْصَانُ: رُكْنٌ وَسُنَّةٌ، وَفَضِيلَةٌ
أي: يتنوع إلى هذه الأنواع، وفي كلامه حذف؛ أي: نقص ركن.
فَالرُّكْنُ لا يَنْجَبِرُ إِلا بِتَدَارُكِهِ إِلا النِّيَّةَ وَتَكْبِيرَةَ الإِحْرَامِ
أي: أن الركن لا ينجبر إلا بالإتيان به، ولا يَرِدُ عليه إجزاءُ السجود عن الفاتحة في قولٍ، فإن ذلك مبنيٌّ على عدم الوجوب.
وقوله: (إِلا النِّيَّةَ وَتَكْبِيرَةَ الإِحْرَامِ) أي: فإنهما لا يتداركان بوجه؛ لأنهما إذا اختلا أو اختل أحدهما لم يحصل الدخول في الصلاة.
وَيَفُوتُ بِعَقْدِ رَكْعَةٍ تَلِي رَكْعَتَهُ، وَهُوَ رَفْعُ الرَّاسِ. وَقِيلَ: الاطْمِئْنَانُ
أي: يفوت التدارك بعقدِ الركعةِ التي تلي ركعةَ النقصِ، وهذا ظاهر إن كانت الركعة أصلية، وإن كانت غير أصلية- كمن قام إلى خامسة غلطاً- فاختلف: هل هي كالأصلية فيمتنع إصلاح الرابعة بالعقد أَوْ لا؟ لأن الخامسة لا حرمة لها على قولين حكاهما المازري، قال: وإذا قلنا: لا يَمْنَعُ عاد وكمَّل ما وجب مِن الركعات، فإن قلنا: يمِنع ذلك بطلت الرابعة، وهل يقضيها أو تكون الخامسةُ قضاءً؟ فيها قولان مبنيان على ما اشرنا إليه في مسألة الساجد لثنائيةٍ التاركِ لسجودِ الأُولى، هل ينوب له عن سجود الأولى؟ فانتهى. والخلافُ في انعقاد الركعة كثيرٌ شهير.
فائدتان:
الأولى: قالوا: وافق ابنُ القاسم أشهبَ في انعقاد الركعة بوضع اليدين في مسائلَ:
مِنها: مَن تركَ [67/أ] السورة، وفي معنى ذلك مَن تركَ الجهرَ أو السرَّ.
ومنها: مَن ذكر سجود السهو قبل السلام مِن فريضةٍ في فريضةٍ أو نافلةٍ.
ومنها: مَن ترك التكبيرَ في صلاة العيد.
ومنها: مَن نسي سجودَ التلاوة. ونصَّ على هذه الأربعة صاحبُ النكت.
ومنها: مَن نسي الركوع فلم يذكر إلا في ركوعِ التي تليها. قاله في البيان.
ومنها: مَن سلم مِن اثنتين ساهياً ودخل في نافلة، فلم يذكر إلا وهو راكع.
ومنها: مَن أقيمت عليه المغرب، وهو فيها قد أمكن يديه مِن ركبتيه في ركوع الثانية.
فرآه ابن القاسم فوتاً في المجموعة، واختلف قول أشهب، فقال مرة: يرجع ما لم يرفع رأسه مِن ركوع الثانية، وقال مرة أخرى كابن القاسم.
خليل: وقد يقال لا نسلم أن ابن القاسم يرى هذا انعقاداً، وإنما قال بالفوات لأحد أمرين: إما لخفة المتروك كترك السورة والجهر، وإما لعدم الفائدة كمِن ذكر أنه نسي ركوع الأولى وهو راكع، فإن رجوعه إلى الأولى لا فائدة فيه، إذ لا يصح له إلا ركعة، ألا ترى أنهم قالوا فيمِن ترك الجلوس وفارق الأرض بيديه وركبتيه أنه لا يرجع، مع كونه لم تنعقد له ركعة، بل ها هنا أَوْلَى؛ لأنه هنا قد تلبَّس بركنٍ، وتاركُ الجلوس لم يتلبس إلى الآن به. قال في البيان: ومِن المسائل أيضاً ما لا يكون فيه عقد الركعة إلا بتمامها بسجدتيها، وذلك مثل أن يذكر صلاة وهو في صلاةٍ، أو تقام عليه صلاةٌ وهو في صلاةٍ، على مذهب مَن يفرِّق في ذلك بين أن يكون قد عقد ركعة أو لم يعقد، ومثل أن ينسى القراءة جملة في الركعة الأولى- على مذهب من لا يقول بالإلغاء- فإنه إِنْ ذكر قبل أن يتم ركعة بسجدتيها قطع، وإن ذكر بعد أن صلى ركعة بسجدتيها أضاف إليها ثانية وخرج عن نافلة، أو أتم أربعاً وسجد قبل السلام وأعاد. واختُلف إذا ترك القراءة في الركعة الثالثة، فقيل: إنه يرجع إلى الجلوس ويسلم مِن ركعتين ما لم يركع. وقيل: ما لم يرفع رأسه مِن الركوع.
وقيل: ما لم يتم الثالثة بسجدتيها. فإن ركع على الأول، أو رفع على الثاني، أو أتمها بسجدتيها على الثالث تمادى إلى الرابعة، وسجد قبل السلام، وأعاد الصلاة. ومثل أن يَرْعُفَ على مذهبه في المدونة، فإنه يلغي تلك الركعة ما لم تتم بسجدتيها. انتهى.
الفائدة الثانية: إذا بطلت الأولى في حق الإمام والفذ، فهل تصير الثانية أولى، والثالثة ثانية- وهو المشهور- أَوْ لا؟ وركعات الصلاة على حالها؟ قولان.
وعلى المشهور فالركعة التي يأتي بها في آخر صلاته بناءً يقرأ فيها بأم القرآن فقط.
وعلى الشاذ تكون قضاء، ويقرأ فيها بأم القرآن وسورة.
وأما المأموم إذا بطلت عليه الأولى فلا خلاف أن الثانية باقيةٌ على حالها؛ لأن صلاتَه مبنيةٌ على صلاة إمامه.
وَفِي الْفَوْتِ بِالسَّلامِ قَوْلانِ
كما لو نسي السجود مِن الأخيرة حتى سلم، والفوتُ مذهبُ ابن القاسم، وعدمُه لغيرِه.
ووجه الأول: أن السلام ركنٌ حصل بعد ركعة السهو، فيكون مُفِيتاً لركوع التي تليها.
ووجه الثاني: أنه سلام حصل به الخروج مِن الصلاة، فلا يكون مانعاً كالسلام من اثنتين، ولأن السلام ركن قولي فأشبه الفاتحة.
فَإِنْ أَخَلَّ برُكُوعٍ رَجَعَ قَائِماً، وَيُسْتُحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ، وَقِيلَ: يَرْجِعُ رَاكِعاً
أي: إذا انحط للسجود مِن غير ركوع فإنه يتدارك الركوع. واختُلف في الكيفية، فالمشهور أنه يرجع قائماً ثم ينحط للركوع مِن القيام، بناء على أن الحركة إلى الركن مقصودة، وعليه فيستحب أن يقرأ شيئاً ليكون ركوعه عقيب القراءة. وقوله:(وَقِيلَ: يَرْجِعُ رَاكِعاً) ظاهره أنه قول منصوص ونحوه لابن شاس، وجعله اللخميُّ مخرجاً على أن الحركةَ غيرُ مقصودة.
وَبِسَجْدَةٍ يَجْلِسُ ثُمَّ يَسْجُدُ، وَبِسَجْدَتَيْنِ لا يَجْلِسُ
أي: إذا أخل بسجدةٍ رجع إلى الجلوس ثم يسجد، وهذا إذا لم يكن جلس. وقيل: يرجع ساجداً مِن غير جلوس، بناء على أن الحركة إلى الركن مقصودة أمْ لا؟ وأما لو جلس أوَّلاً لخرَّ مِن غير جلوس اتفاقاً.
وقوله: (وَبِسَجْدَتَيْنِ) أي: وإن أخل بسجدتين انحط إليهما مِن قيام كما كان يصنع لو لم ينسهما.
المازري: واختلف لو لم يذكر ذلك إلا وهو راكع في الثانية، هل يرفع رأسه ليخرَّ للسجود من قيام أم لا؟ على الخلاف في الحركات إلى الأركان، وهل هي مقصودة أم لا؟
وَلَوْ أَخَلَّ بِسُجُودِ ثُمَّ بِرُكُوعٍ مِنَ الَّتِي تَليِهَا لَمْ يَنْجَبِرْ بِسُجُودِ الثَّانِيةِ عَلَى الْمَنصُوصِ، بَلْ يَاتِي بِسُجُودٍ آخَرَ لِيُتِمَّ بِهِ الأُولَى. وَقِيلَ: يَنْجَبِرُ بِخِلافِ الْعَكْسِ
أي: إذا أتى بركوع الركعة الأولى ونسي سجودها، ثم أتى بسجود الثانية ونسي ركوعها فالمنصوصُ أن ركوع الأولى لا ينجبر بسجود الثانية، وعلل في المدونة بأنه نوى به الركعة الثانية، أي: فلا ينصرف إلى الأولى، واعتُرِض بما لو نسي سجود الأولى حتى فات التدارك فإن الثانية ترجع أولى، فإذا جاز ذلك في كلها جاز في بعضها.
وأجيب بأنه نوى بالسجود الثانية وهو تابع للركوع، فلما بطل الركوع بطل السجود للتبعية. وقوله:(وَقِيلَ: يَنْجَبِرُ) هو مقابل المِنصوص، وهو مخرَّجٌ، خرَّجه اللخمي على قول ابن مسلمة فيمن أخل بسجود الرابعة وسجد للسهو قبل السلام أن ذلك يجزئه عما أخلَّ به. وفرق بأن سجود السهو لم يقصد به ركعة بعينها، فلذلك أجزأه عما أخل به بخلاف سجود الثانية. فعلى هذا فقول المصنف:(وَقِيلَ: يَنْجَبِرُ) ليس بظاهر؛ لإيهامه أنه قول منصوص.
وإذا فرعنا على المنصوص فقال عبد الحق: ينبغي إن ذكر ذلك راكعاً أو (67/ب) ساجداً أن يرجع إلى القيام ليأتي بالسجدتين وهو منحط لهما من قيام، فإن لم يفعل وسجد السجدتين على حاله فقد نقص الانحطاط، فيكون سجوده قبل السلام، وهكذا قال لي بعض شيوخنا. انتهى.
وَأَرْبَعُ سَجَدَاتٍ مِن أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ يُتِمُّ الرَّابعَةَ وَيَبْطُلُ مَا قَبْلَهُا، وَيَجْرِي عَلَى كَثْرَةِ السَّهْوِ .......
أي: ولو أخل بأربع سجدات من أربع ركعات- أي: ترك من كل ركعة سجدة- لأتم الرابعة وبطلت الثلاث الأُوَل لانعقادِ الرابعة، فتصير الرابعةُ أُولَى، ثم يأتي بثانيةٍ بأمِّ القرآن وسورة ويجلس، ثم بركعتين بأم القرآن فقط، ويسجد قبل السلام لنقص السورة مِن الأولى.
قوله: (وَيَجْرِي عَلَى كَثْرَةِ السَّهْوِ) أي: فتبطل عند مَن يرى البطلانَ بزيادةِ النصف. قال في الجواهر: وإن نسي السجدات الثمانية ولم يحصل له إلا ركوع الرابعة فليبْنِ عليه.
وَلَوْ سَجَدَ الإِمَامُ وَاحِدةً وَقَامَ فَلا يُتْبَعُ، وَلْيُسَبَّحُ به، فَإِذَا خِيفَ عَقْدُهُ قَامُوا فَإِذَا جَلَسَ قَامُوا، فَإِذَا قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ قَامُوا، كإمام قام من اثنتين، فَإِذَا جَلَسَ قَامُوا كَإِمَامٍ قَعَدَ فِي ثَالِثَةٍ .....
أما عدمُ إتباعهم وتسبيحُهم فظاهرٌ لعله يرجع إليهم، فإذا خيف عقد الركعة الثانية- على زعمه- قاموا واتبعوه، وكانت هي الأولى بالنسبة إلى اعتقادهم، فإذا جلس كان كإمام جلس في الأولى فلا يُتْبَعُ ويقومون، وهو قوله:(فَإِذَا جَلَسَ قَامُوا).
وقوله: (فَإِذَا قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ) أي: إلى الثالثة في اعتقاد الإمام. ومعنى (قَامُوا) أي: استمروا على القيام. ففيه تجَوُّزٌ.
وقوله: (فَإِذَا جَلَسَ) أي: في الرابعة على اعتقاده، قاموا كإمام قعد في ثالثة. والحاصل أنهم يتبعونه في القيام دون الجلوس، وأصل هذه المسألة لسحنون، وفيها نظرٌ؛ لأنهم متعمدون لإبطالِ الأُولَى لتركِهم السجودَ، ومَنْ تعمد إبطالَ ركعةٍ مِن صلاته بطل جميعُها.
ولو قيل: إنهم يسجدون سجدة ويدركون الثانية معه، فتصح لهم الركعتان ما بَعُدَ.
فإن قلت: في ذلك مخالفة على الإمام وقضاء في حكمه، وهو غير جائز.
فالجواب: أَمَّا المخالفةُ فهي لازمةٌ لهم أيضاً؛ لأنه قائم وهم جلوس، وأما القضاءُ في حكم الإمام فقد أُجيز مثلُه في الناعسِ والغافلِ والمزحومِ خوفاً من إبطال الركعة، فكذلك هنا.
فَإِنْ سَلَّمَ أَتَمَّ بِهِمْ أَحَدُهُمْ عَلَى الأَصَحِّ وَسَجَدُوا قَبْلَ السَّلامِ
الأصح لسحنون، قال في النوادر بعد نسبته إليه: وإن صلوا أفذاذا أجزأهم.
وأجرى ابنُ عبد السلام الخلافَ على أنه إذا بطلت الأولى، هل ترجع الثانية أولى؟ إذ هم يعتقدون بطلان أُولى الإمام، فإن قلنا بالرجوع فيؤمهم أحدهم لكونهم مؤديين، ويكون سجودهم قبل السلام لاجتماع الزيادة والنقصان، فالزيادة هي الركعة الأولى، والنقصان هو نقص القراءة مِن ركعة، ونقصُ الجلوس مِن الأوسط، وأما على القول بأنهم يأتون بهذه قضاء يقرؤون فيها بأم القرآن وسورة، فيسجدون بعد السلام لتحقق الزيادة في حقهم دون النقص؛ لوقوع الجلوس في محله وعدم نقص القراءة.
واعترضه ابن هارون بأنه لا خلاف أنهم يأتون بالأفعال بناء، وإنما الخلاف في الأقوال، والمشهور أنهم يأتون بها أيضاً بناء، بخلاف المسبوق بها، وعلى هذا فيكون سجودهم قبل السلام لإسقاط الجلوس الوسط على القولين، كما ذكر المصنف. انتهى.
وَمَنْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ فِي رَكْعَةٍ رُبَاعِيَّةٍ فَفِيهَا قَوْلانِ: يُلْغِيهَا، وَتَنْجَبِرُ بِالسُّجُودِ. وَعَلَى الْجَبْرِ، ثَالِثُهَا: يُعِيدُ أَبَداً .....
أي: من ركعةِ صلاةٍ رباعيةٍ. واحترز مِن الثنائية، وأما الثلاثية فهي كالرباعية، قاله في المقدمات، وقد تقدمت هذه المسألة.
وَالشَّكُّ فِي النُّقْصَانِ كَتَحَقُّقِهِ إِلا أَنَّ الْمُوَسْوِسَ يَبْنِي عَلَى أَوَّلِ خَاطِرَيْهِ
أي: إذا شك في الإتيان بركن فذلك كتحقق النقص يبني على القليل، والأصل فيه الحديث: ((إذا شك أصلي ثلاثاً أم أربعاً، فليأت برابعة
…
الحديث)). وما ذكر في الموسوس تقدم مثلُه والكلامُ عليه في الطهارة.
فائدة:
الشكُّ مستنكِحٌ وغيرُ مستنكِح، والسهو كذلك، فالشك المستنكِح هو أن يعتري المصلي الشكُّ كثيراً بأن يشك هل زاد أو نقص، ولا يتيقن شيئاً فيبني عليه، وحكمه أنه يلهو عنه ولا إصلاح عليه، ولكن عليه أن يسجد بعد السلام.
والشك غير المستنكح كمن شك أصلي ثلاثاً أم أربعاً، وحكمه واضح.
والسهو المستنكح هو الذي يعتري المصلي كثيراً، وحكمه أن يصلح ولا يسجد.
والسهو غير المستنكح هو الذي لا يعتري المصلي كثيراً، وحكمه أنه يصلح ويسجد على حسب ما سها.
وَالشَّكُّ فِي مَحِلِّهِ كَمَنْ شَكَّ فِي مَحِلِّ سَجْدَةٍ فِي التَّشَهُّدِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَسْجُدُ وَيَاتِي بِرَكْعَةٍ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَيَتَشَهَّدُ. وَقَالَ أَشْهَبُ وَأَصْبَغُ: يَاتِي بِرَكْعَةٍ فَقَطْ ........
الضمير في (مَحِلِّهِ) عائدٌ على النقص؛ أي إذا تحقق النقص وشك في محله كمِن شك في التشهد الأخير، فذكر سجدة لا يدري مِن أي ركعات الأربع هي، وذكر ثلاثة أقوال:
قال ابن القاسم: يسجد الآن سجدة لاحتمال أن تكون من الرابعة، ثم يأتي بركعة لاحتمال أن تكون من إحدى الثلاثِ الأُوَلِ.
وزاد عبدُ الملك- على هذا- التشهدَ قبل أن يقوم لإتيان الركعة؛ لأن سجودَه إنما كان مصححاً للرابعة، والتشهدُ مِن تمامِها. ووجهُ قول ابن القاسم أن المحقَّقَ له حينئذ إنما هو ثلاثُ ركعات وليس هو بمحلِّ تشهدٍ، وإليه نَحَا ابن المواز.
وقال أشهب وأصبغ: لا يسجد بل يأتي بركعة فقط، إذ المطلوب إنما هو رفع الشك فقط بأقل (68/أ) ما يمكن، وكل ما يُزاد على ذلك فهو زيادة يجب اطِّراحُها.
وَفِي قِرَاءَتِهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ سُورَةٍ وَسُجُودِهِ قَبْلَ السَّلامِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ
فابن القاسم يقرأ فيها بأم القرآن فقط، ويسجد قبل السلام؛ لأنه زاد ركعة، وصارت الثالثة ثانية، فنقص مِنها السورة والجلوس.
وقال أشهب وابن وهب: يكون قاضياً؛ فيقرأ فيها بأم القرآن وسورة، ويسجد بعد السلام، حكاه اللخمي.
فَلَوْ كَانَ فِي قِيَامِهَا جَلَسَ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ تَشَهَّدَ عَلَى الأَوَّلَيْنِ
أي: القولين الأولين، قول ابن القاسم وعبد الملك؛ لأنه لما كان مأموراً بالجلوس والسجود عليهما ولم يتحقق له إلا ركعتان أُمِرَ بالتشهد، ويأتي على مذهب أشهب أنه لا يسجد؛ لأن معه ركعتين صحيحتين، فيأتي بركعتين ولا يجلس؛ لأنه حينئذ بمنزلة مَن قام مِن اثنتين، وهو ظاهرٌ. وكلامُ المصنف أولى مِن كلام ابن يونس؛ لأنه حكى الاتفاق على التشهد في هذه المسألة، قال: لأنه موضع جلوس.
فَلَوْ كَانَ فِي قِيَامِ الثَّالِثَةِ جَاءْتِ الثَّلاثَةُ
أي: فلو ذكر السجدة في قيام الثالثة، فعلى قول ابن القاسم: يسجد ولا يتشهد. وعلى قول عبد الملك: ويتشهد. وعلى قول أشهب: لا يسجد، بل يبني على ركعة فقط.
السُّنَنُ: إِنْ كَانَ عَمْداً فَثَالِثُهَا: تَصِحُّ وَيَسْجُدُ
لما قدم أن النقص على ثلاثة أقسام، وقدم الكلام على نقص الركن أتبعه بالكلام على نقص السنن. وذكر أنه إذا ترك سنة عمداً، ثلاثة أقوال:
الأول: الصحة، ولا سجود عليه لابن القاسم ومالك، لأن السجود إنما أتى فى السهو.
الثانى: تبطل، قاله ابن كنانة، لأنه كالمتلاعب.
الثالث: تصح ويسجد، قاله أشهب.
وزِيدَ رابعٌ بالإعادة فى الوقت.
وَإِنْ كَانَ سَهْواً فِعْلاً سَجَدَ قَبْلَ السَّلامِ، وَإِنْ كَانَ قَوْلاً قَلِيلاً كَالتَّكْبِيرَةِ فَمُغْتَفَرٌ. وَقِيلَ: يَسْجُدُ .....
قوله: (فِعْلاً) أى: الجلوس الوسط. قيل: وليس من الأفعال ما يُسجد له غيره، وقد ذكر المصنفُ حكمَ الجلوس بعدَ هذا، لكن ذكره هنا ليكون التقسيم جامعاً.
وقوله: (وَإِنْ كَانَ قَوْلاً قَلِيلاً كَالتَّكْبِيرَةِ فَمُغْتَفَرٌ) ظاهر. وكالتكبيرة: سمع الله لمن حمده، مرة، والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم، والتشهد.
وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَثَالِثُهَا يَسْجُدُ بَعْدَهُ
أى: وإن كان أكثر من تكبيرة – كتكبيرتين – فثلاثة أقوال:
المشهور: يسجد قبل السلام كما لو نقص سنة فعلية.
والقول بعدم السجود لأشهب، ولفظة: ماأرى عليه السجود واجباً. قاسَهُ على التسبيح فى الركوع والسجود، وأنت تعلم أنَّ نفى الوجوب لا يَلْزَمُ منه نفى الندب، لكن قياسه على التسبيح يقتضى نفيه جملة.
والقول بأنه يسجد بعد السلام هو لأشهب أيضا.
وَجَاءَ فِي السُّورَةِ يَسْجُدُ، وَفِي التَّشَهُّدَيْنِ مَعاً يَسْجُدُ
أى: وجاء عن مالك فيما إذا ترك السورة أنه يسجد، وهذا هو المشهور.
وروى عن مالك نفى السجود، وبه قال أشهب.
وقوله: (وَفِي التَّشَهُّدَيْنِ مَعاً يَسْجُدُ) أى أن التشهدين كالتكبيرتين يسجد لهما، والتشهد الواحد كالتكبيرة لايسجد له. وفى بعض النسخ: وفى التشهدين لايسجد، يعنى: فى كل واحد منهما منفردا.
سؤالٌ: السجود إنما يجب لفوات محل التدارك، والسجودُ هنا قبلُ، وقبلَ السلام لم يَفُتْ محلُّ التشهد الثانى، فيبقى التشهد الأول وحده، والمذهب لاسجود فيه؟
وأجيب: بأن السجود لإسقاط التشهد الأول، وزيادة الجلوس قبل الثانى، إذ لايقال سها عنه إلا إذا أَخَّرَه.
وجواب ثان: وهو أنه لم يَذكُر حتى سلم، فقد قال مالك فى المدونة: إذا ذكر ذلك بقرب السلام يرجع ويتشهد ويسلم ويسجد. وفى الجلاب مثله بناءً على أن السلام ليس بمانعٍ من الاستدراك، وروى عنه رواية بالفوات بناء على أن السلام مانع.
وَيَسْجُدُ لِلْجُلُوسِ، فَإِنْ ذَكَرَ مُفَارِقاً للأَرْضِ لَمْ يَرْجِعْ. وَقِيلَ: يَرْجِعُ مَا لَمْ يَسْتَقِلَّ قِائِماً، فَإِنْ رَجَعَ فَفِي السُّجُودِ قَوْلانِ، وَبَعْدَ الاسْتِقْلالِ فَفِي الْبُطْلانِ قَوْلانِ، ثُمَّ فِي مَحِلِّ السُّجُودِ قَوْلانِ ......
يسجد لترك الجلوس الوسط لكونه محتويا على ثلاث سنن: الجلوس، والتكبير، والتشهد.
وقوله: (فَإِنْ ذَكَرَ
…
إلخ) اعلم أن لهذه المسألة ثلاث حالات:
إحداها: أن يذكر قبل أن يفارق الأرض بيديه وركبتيه فيرجع، والمشهور: لاسجود عليه فى تزحزه، لأن التزحزح لو تعمده لم تفسد صلاته، وما لايفسد عمده فلا سجود فى سهوه، فإن قام ولم يرجع فإما أن يكون ناسياً أو عامداً أو جاهلاً. فالناسى: يسجد قبل السلام. والعامد: يجرى على تارك السنن عمداً.
والمشهور: إلحاق الجاهل بالعامد. وحكى ابن بطال أن من قام من اثنتين عمداً بطلت صلاته اتفاقاً. وليس بظاهر.
الحالة الثانية: أن يذكر قبل استقلاله، وبعد مفارقته الأرض بيديه وركبتيه، فالمشهور: لايرجع ويسجد قبل السلام. وقيل: يرجع.
ومنشأ الخلاف هلى النهوض إلى القيام فى حكم القيام، أو لايفارق حكم الجلوس إلا مع الانتصاب؟ وقيل: إن كان إلى القيام أقرب لم يرجع، وإن كان إلى الجلوس أقرب رجع. وقد ذكر المصنف الأوَّلَيْن، وعلى المشهور: إن رجع فإما عمداً أو سهواً أو جهلاً، ولا تبطل صلاته فى الثلاثة مراعاة لمن قال بالرجوع. واختُلف إذا رجع– على المشهور– هل يسجد بعد السلام لتحقق الزيادة أو لايسجد لخفتها [68/ ب] وقِلَّتِها؟ قولان، والأول أظهرُ، رواه ابن القاسم عن مالك فى المجموعة.
الحالة الثالثة: أن يذكر بعد استقلاله فيتمادى اتفاقاً، ويسجد قبل السلام، لأنه قد شرع فى واجب فلا يبطل بسنة.
واختلف إذا رجع عمداً: هل تبطل صلاته لإبطاله فرضا وقد تلبس به، أو لا يبطل، لأنه إنما رجع لإصلاح صلاته؟ فى المذهب قولان. المازى وابن راشد: والمشهور الصحة.
والقول بالبطلان حكاه ابن الجلاب عن عيسى بن دينار، ومحمد بن عبد الحكم، وحكاه فى النوادر عن محمد بن سحنون، وصححه مصنف الإرشاد. وقال سحنون: فإذا جلس فلا ينهض حتى يتشهد. وإن كان مأموراً ابتداء بأن لا يرجع.
ابن راشد: ولا أعلم خلافا إذا رجع ساهيا أن صلاته تامةٌ. وقد ذكر الاتفاقَ على ذلك سندٌ.
وقوله: (ثُمَّ فِي مَحِلِّ السُّجُودِ قَوْلانِ) هذا تفريغ على القول بالصحة، وأما على القول بالبطلان فلا يحتاج إلى تفريغ.
أى: إذا قلنا بالصحة فرور ابن القاسم عن مالك فى المجموعة أنه يسجد بعد السلام لتحقق الزيادة، ورواه أيضاً أشهب وابن نافع.
وقال أشهب وابن زياد: يسجد قبله.
فرع:
ابن راشد: فلو نسى الإمام الجلوس وذكر بعد اعتداله فليتبعه المأموم، فإن رجع الإمام إلى الجلوس قبل قيام المأموم فعلى رواية ابن القاسم يبقى المأموم جالسا معه ولا يقوم إلا بقيامه، لأنه عنده جلوس يعتد به.
قال سند: ويحتمل أن يقال على قول أشهب: لايقوم إلا بقيامه وإن كان لايعتد به، لان المأموم باق على جلوسه الأصلى، وليس الإمام باقياً على قيامه فيتبعه فيه، ويحتمل أن يقال: لما اعتدل الإمام تعيَّن على المأموم اتباعه، فإذا أخطأ الإمام بالرجوع لم يتبعه المأموم فى خطئه، ويترك فعل مايجب عليه فعله، وهذا هو القياس. ولو قام المأموم فلما اعتدل رجع الإمام فهاهنا لايتبعه على قول أشهب، لأنه قد دخل فى قيام واجب، فلا يتركه لخطأ الإمام، ويتبعه على رواية ابن القاسم، لأنه فَعَلَ ما يُعتد به. ولو اعتدل المأموم قبل الإمام ثم رجع الإمام فهاهنا يرجع المأموم، والله أعلم. انتهى.
وَالْفَضَائِلُ: لا سُجُودَ لَهَا
هذا متفق عليه.
ابن عبد السلام: ونص أهل المذهب على أنَّ من سجد قبل السلام لتركِ الفضيلة أعاد أبداً، وكذلك قالوا – فى المشهور– إذا سجد للتكبيرة الواحدة قبل السلام.
وَالْمَسْبُوقُ يَسْجُدُ مَعَ الإِمَامِ قَبْلَ السَّلامِ إِنْ كَانَ لَحِقَ رَكْعَةً، فَإِنْ سَهَا بَعْدَهُ فَفِي إِغْنَائِهِ قَوْلانِ، فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا يَتْبَعُهُ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: يَتْبَعُهُ ......
أى: أن المسبوق إذا لَحِقَ ركعة فأكثر، وسجد إمامُه قبل السلام، فإنه يسجد معه، سواء حضر السهو أَوْ لا، وهذا هو المشهور. وقال أشهب: إنما يسجد إذا قضى مافاته، ورواه ابن عبدوس عن ابن القاسم. قال فى البيان: وهذا على قياس المنقول بأن ما أدرك مع الإمام هو أول صلاته، إذ لايكون سجود السهو فى وسط الصلاة. فإذا سجد معه على المشهور، ثم سها بعده، أى: بعد إمامه، ويحتمل بعد السجود، فهل يغتنى بسجوده الأول؟ وهو قول ابن الماجشون. أولا يغتنى به؟ وهو قول ابن القاسم، وهو المشهور.
ابن عبد السلام: بناء على استصحاب حكم المأمومية أَوْ لا. قال: وينبغى أن يكون من ثمرة هذا الخلاف وجوب القراءة فيما ياتى به بعد سلام الإمام وسقوطها.
خليل: وفيه نظر، لأن حكم المأموم بعد مفارقة الإمام كالمنفرد، بدليل أن الإمام لو لم يسه ثم سها المأموم لسجد اتفاقا. وعلى هذا ففى البناء الذى ذكره نظر، لكن ابن القاسم لم يَرَ الاكتفاء بالسجود، لأن السجودجابر فلا ينوب عن سهو لم يتقدمه. ورأى ابن الماجشون الاكتفاء، لأن من سنة الصلاة ألا يتكرر فيها السجود، والله أعلم.
قوله: (فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِم: لا يَتْبَعُهُ) قولُ ابن القاسم هو المشهور، وقال سحنون: يتبعه، لأن لما دخل مع الإمام وجبت متابعته.
وحكى ابن عبد السلام عن أهل المذهب أنهم قالوا: لو تبعه على قول ابن القاسم بطلت صلاته.
وقال ابن هارون: قال صاحب اللباب: إنها لاتبطل. قال عيسى: سواء كان عالما أو جاهلاً، ويعيد السجود بعد السلام استحبابا عند ابن القاسم، وإيجابا عند أشهب. انتهى.
وفى كلام ابن هارون نظر، لان الذى نقله عن اللباب إنما نقله فى السجود البعدى، وهو إلى الآن لم يأت.
وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلا، وَيَقُومُ إِمَّا بَعْدَ السَّلامِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَإِمَّا بَعْدَ السُّجُودِ، وَفِي تَعْيينِ الْمُخْتَارِ وَالتَّسْوِيَةِ ثَلاثةٌ ....
يعنى: وأما فى السجود البعدى فلا يتبع المسبوق إمامه، وهل يقوم المأموم لقضاء مابقى عليه بعد سلام الإمام من صلب صلاته أَوْ لا يقوم حتى يفرغ من سجوده؟ قولان، وهو خلاف في الأَوْلَى، لا فى الوجوب. ونسب فى البيان الأقوال الثلاثة لمالك وابن القاسم. ومذهب المدونة ماذكره المصنف أنه المختار، فإذا قام قالوا: يقرأ ولا يسكت.
قال فى المدونة: وإذا جلس فلا يتشهد وليدع.
فرع:
فلو سجد المسبوقُ السجودَ [6?/ أ] البعدى فإن تعمد ذلك فقد أفسد صلاته، وإن جهل فقال عيسى: يعيد أبداً. قال فى البيان: وهو القياس على أصل المذهب، لأنه أدخل فى صلاته ماليس منها، وعذره ابنُ القاسم بالجهل، فحكم له بحكم النسيان مراعاةً لمن يقول: عليه السجود مع الإمام. وهو قول سفيان. انتهى.
ثُمَّ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلامِ، فَلَوْ سَهَا بَعْدَهُ يِنَقْصٍ فَفِي مَحِلِّ سُجُودِهِ قَوْلانِ
قوله: (ثُمَّ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلامِ) يريد إذا كان لحق ركعة، وكذلك الخلاف فى الانتظار والقيام، وأما من لم يدركها فلا يسجد بعد سلام نفسه ولا ينتظره حتى يسجد، بل يقوم للقضاء بنفس السلام.
وقوله: (فَلَوْ سَهَا بَعْدَهُ) أي: فلو سها هذا المأموم بعد سلام إمامه، فإذا كان بزيادةٍ فلا شك فى بقاء سجوده بَعْدِيّاً، فإذا كان بنقصٍ فقال ابن القاسم فى العتبية، وأشهب فى المجموعة: يرجع سجودُه قبلَ السلام، لاجتماع الزيادة والنقص.
وقال عبد الملك: ولا يسقط عنه مالزمه مع إمامه، ألا ترى أنه يسجد موافقةً لإمامه ولو لم يَسْهُ. وعبر ابن شاس عن قولِ عبدِ الملك بالمنصوص. وفيه نظرٌ، ولعله لم يطَّلع على قولٍ ابن القاسم وأشهب.
وَأَمَّا إِذَا انْفَرَدَ بِالسَّهْوِ بَعْدَهُ فَكَالْمُنْفَرِدِ
يعنى: أما لو لم يسه إمامُ المسبوق بل سها المسبوقُ فقط فحكمُه فى سهوه كحُكمِ المنفرد، فإن كان بزيادة ٍ فبعده، وإن كان بنقص أو بهما فقبله.
وَلَوْ لَمْ يَسْجُدُ الإِمَامُ لِسَهْوِهِ سَجَدَ الْمَأمُومُ
هذا ظاهر إن كان السجود بعدياً أو قبلياً، ولا تبطل الصلاة به، فإن كان مما تبطل الصلاة به فتبطل أيضاً على المأموم، وهو الذى يظهر ببادى الرأى، لكن قال فى البيان: إن كان السجود مما تبطل الصلاة بتركه، فإن لم يرجع الإمام إلى السجود بطلتْ صلاتُه وصحَّتْ صلاتهم، لأن كل ما لا يحملُه الإمام عمَّن خلفه لا يكون سهوُه عنه سهواً لهم إذا هم فعلوه، وهذا أصل، وبالله التوفيق. انتهى.
وَلا يَسْجُدُ الْمَامُومُ لِسَهْوِهِ مَعَ الإِمَامِ
لما رواه الدارقطنى: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه".
فَإِنْ ذَكَرَ الْمَامُومُ سَجْدَةً فِي قِيَامِ الثَّانِيّةِ فَإِنْ طَمِعَ فِي إِدْرَاكِهَا قَبْلَ عَقْدِ رُكُوعِ إِمَامِهِ سَجَدَهَا وَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ تَمَادَى وَقَضَى رَكْعَةً بِسُورَةٍ .....
لما ذكر أن الإمام يحمل سهو مأموميه خشى أن يتوهم أنه يحمل سهوه مطلقا فى السنن والفرائض، فذكر هذا الكلام ليبن أنه إنما يحمل عنه السنن ولا يحمل عنه الفرائض.
وقوله: (سَجْدَةً) أى: أو سجدتين، من بابِ الأَوْلَى.
وقوله: (ذَكَرَ) يقتضى أنه نسى، إذا لا يُقال ذَكَرَ إلا مع النسيان.
قوله: (َإِنْ طَمِعَ فِي إِدْرَاكِهَا قَبْلَ عَقْدِ رُكُوعِ إِمَامِهِ سَجَدَهَا وَلا شَيْءَ عَلَيْهِ) أى: لا سجود عليه لحمل الإمام: وليس هذا متفقا عليه كما قيل، فإن ابن راشد نقل روايتين: إحداهما هذه، والثانيه: انها مثل الركوع لا يتبعه فى الأولى ويتبعه فى الثانية.
وقوله: (قَبْلَ عَقْدِ رُكُوعِ إِمَامِهِ) هو على الخلاف في العقد، والله أعلم.
فرع:
واختلف إذا كانت الاخيرة ولم ينتبه لذلك حتى سلم الإمام، فقال ابن القاسم وأشهب ومطرف وابن الماجشون: يسجد بعد السلام ويجزئه. وقيل: لا يسجد، وسلام الإمام حائل فياتى بركعة.
وقوله: (وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ تَمَادَى) لأنه لو رجع لإصلاح الأولى لم يحصل بيده سوى ركعه مع مالفة الإمام. (وَقَضَى رَكْعَةً بِسُورَةٍ) لأن الأولى إذا بطلت على الماموم لم تصر الثانية أولى اتفاقا كما تقدم.
ثُمَّ إِنْ كَانَ عَنْ يَقِينٍ لَمْ يَسْجُدْ، وَإِلا سَجَدَ بَعْدَهُ وَالْمَزْحُومُ كَالسَّاهِي
أى: إن كان عن يقين من نقص سجود لم يسجد، لأنه سهو فى حكم الإمام والركعة التى أتى بها فى محلها.
(وَإِلا سَجَدَ بَعْدَهُ) أى: وغن لم يكن على يقين من النقض سجد بعد السلام، لا حتمال أَلا يكون نقض، فتكون الركعه التى قضى زيادة فيسجد لها بعد السلام.
وَالْمَزْحُومُ كَالسَّاهِي
أى: وحكمُ المزحومِ كَحكمِ الساهي.
فَإِنْ كَانَ رُكُوعاً فَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَرْبَعَةٌ: فَوَاتُهَا، وَمِثْلُ السُّجُودِ، وَمِثلُهُ مَا لَمْ يَقُمْ إِلَى الثَّانِيَةِ، وَمِثلُهُ مَا لَمْ تَكُنِ الأُولَى. وَقِيلَ: مِثْلُهُ مَا لَمْ تَكُنْ جُمُعَةً ......
ابن عبد السلام: الأقرب انتصابُ ركوع على إسقاطِ الخافض، وإن كان مقيس عند البصريين. انتهى. وفيه نظر، والأحسن أن يُجعل خبر كان، أى: فإن كان المتوك لسهوٍ أو زحامٍ ركوعاً. وحاصل ما ذكره خمسة أقوال:
الأول: أنها تفوت مطلقاً؛ لأنه لو أتى بها لأدى إلى مخالفة الإمام والقضاء في حكمه.
الثانى: أنه مثل السجود؛ أى: فيركعُ ويلحق الإمام ما لم يرفع رأسه من الركوع فى الثانية، أو يركع على اختلاف القول في ذلك، فإن لم بفرغ من ذلك حتى الإمام من الركوع فى الثانية فقد فاتت الركعتان معاً.
الثالث: أنه يتبعه ما لم يرفع الإمام من سجود هذه الركعة المسبوق فيها.
ابن عبد السلام: وهذا معنى كلام المصنف، وإن أراد غير هذا فليس كما أراد. ونقل المازرى أنه اختلف إذا قلنا باعتبار السجود هل تعتبر السجدتان معاً أم الأولى؟ المشهور: اعتبارهما. والثانى: ذكره ابن أبى زمنين عن بعض أصحابنا.
الرابع: أنه يتبعه فى ركوع الثانية والثالثة ما لم يرفع من سجودها، ولا يتبعه فى الأولى، [6?/ب] بل يحكم عليه بفواتها، وهذا هو المشهور.
وقوله: (وَقِيلَ:
…
إلخ) نسبة فى الجلاب لابن عبد الحكم، فقيل: يركع ويسجد، ويعتدْ بالركعة إن فرغ من فعلها قبل قيام الإمام إلى الركعة الثانية- فى قول ابن عبد الحكم- إلا أن يكون ذلك في صلاة الجمعة، فإنه لا يعتد بالركعة ويلغيها.
وحكى فى البيان الأربعة الأُولَ عن مالك من رواية ابن القاسم، لأنه قال: لمالك فى المسألة ثلاثة أقوال:
الأول: يتبع مطلقاً. الثانى: فواتها مطلقاً. الثالث: التفصيل، فلا يتبعه فى الأولى ويتبعه فيما عداها.
واختلف قوله إلى أى حدٍّ يتبعه- على الأول وعلى الثالث- على قولين:
أحدهما: أنه يتبعه ما لم يرفع رأسه من سجود الركعه التى غفل فيها.
والثانى: أنه يتبعه مالم يعقد الركعه التى تليها، على اختلاف قوله فى العقد، هل هو بالرفع أو بوضع اليدين على الركبتين؟ قال: وسواء على مذهب مالك غفل، أو سها، او نعس، أو زوحم، أو اشتعل بحل إزاره، أو ربطه وما أشبه ذلك. وسواء أيضاً على مذهبه أحرم قبل أن يركع الإمام، أو بعد أن ركع إذا كان لولا ما اعتراه من الغفلة وما أشبهه لأدرك معه الركوع، وأما لو كبر بعد أن ركع الإمام فلم يدرك معه حتى رفع رأسه فقد فاتته الركعة ولا يجزئه ان يركع بعده ويتبعه، قولاً واحداً.
وأخذ ابن وهب واشهب بقول مالك الأول إذا احرم قبل ان يركع الإمام، وبالقول الثانى إذا أحرم بع أن ركع الغمام، ولم بفرقا بين الزحام وغيره.
وأخذ ابن القاسم فى الزحام بالقول الثانى، وفيما سواه من الغفلة والاشتغال بالقول الثالث. انتهى باختصار.
ولَوْ ظَنَّ أَنَّ الإِمَامَ سَلَّمَ فَقَامَ رَجَعَ مَا لَمْ يُسَلِّمْ وَلا سُجُودَ عَلَيْهِ، فَإِنْ سَلَّمَ لَمْ يَعْتَدَّ بِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ سَلامِهِ وَكَمَّلَ حِينَئِذٍ، وَثَالِثُهَا يَسْجُدُ بَعْدَهُ ....
يعنى: إذا ظن المسبوق أن الإمام سلم، فقام لقضاء ما عليه، فتبين له أن الإمام لم يسلم، فإن تبين له ذلك قبل سلامه رجع ولا سجود عليه، لأنه سها مع الإمام، وإن لم يتبين له ذلك حتى سلم فإنه لا يرجع حينئذ، لانه إنما كان يرجع إلى الإمام وقد زال، ولا يعتد بما فعل قبل سلام الإمام، وهذا هو المشهور. ونقل بعضهم عن المبسوط قولاً أنه يعتد به، وحكاه المازرى عن ابن نافع، واستَغْرَبَهُ ابنُ رشد وقال: إنما الخلاف فى الاعتداد فى هذه المسألة إذا أدرك المسبوق مع الإمام مالم يعتد به، كما لو أدرك سجود الأخيرة.
وقوله: (وَكَمَّلَ حِينَئِذٍ) أى: بعد سلام الإمام.
وقوله: (وَثَالِثُهَا يَسْجُدُ بَعْدَهُ) هذا الخلاف مقيد بما إذا سلم عليه وهو غير جالس إما قائم أو راكع، وأما لو سلم عليه والمأموم جالس فلا يطالب بالسجود اتفاقاً.
وقوله: (وَثَالِثُهَا) أى: قول بنفى السجود، وقول بثبوته قبلياً، وقول بثبوته بعدِيّاً.
والأول: للمغيرة، وصححه ابن الجلاب، لأنه سهو فى حكم الإمام.
الثانى: هو المشهور، وعلله سحنون وابن المواز بنقص النهضة بعد السلام. وقال ابن العربى: لأنه زاد القيام قبل السلام ونقص الاقتداء بالإمام فى الانتظار، والأول: اظهر، لأان ما فعل من ذلك سهو فى حكم الإمام.
والثالث: لابن عبد الحكم في المختصر وهو مشكل؛ لأنه لا موجب للسجود بعد السلام، إلا أن يُقال: لما ضَعُفَ مُدْرَكُ السجود أُخِّرَ.
فرع:
وعلى المشهور، فإن سلم عليه وهو ساجد فقال المازى: إن رفع رأسه من السجود إلى الجلوس سجد بعد السلام، لزيادته بعد الإمام رفعَ الرأس من السجود إلى الجلوس،
وإن رفع رأسه إلى القيام سجد قبل السلام، لنقصه جزءاً مِن النهضة، لأن حقه أن ينهض إلى القيامِ مِن جلوس، فنهض إليه من سجود، وفى ذلك نقصُ شيء من النهضة.
وَيُؤْخَذُ تَارِكُ الصَّلاةِ بِهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ لا الاخْتِيَارِيِّ عَلَى الْمَشْهُورِ
أى: إن تارك الصلاة لا يُقَرُّ على التَّرْكِ، ويُؤَاخذ على ذلك، وهذا متفق عليه. واختُلف فى وقت المؤاخذة، فالمشهورُ أنه آخرُ الوقت الضرورى، المازرى: والمعروف أنه لا يُقتل حتى يبقى بينه وبين آخر الوقت الضرورى مقدارُ ركعة، فحينئذ إن لم يُصَلِّ قُتِل. والمشهورُ اعتبارُ ركعة بسجدتيها، وقال أشهب: الركوع فقط. ولا يُعتبر مقدارُ قراءة الفاتحة، لأنه قد قيل عندنا: إنها ليست فرضاً فى كل ركعة. وقد ذكر ابن خويزمنداد أن المعتبر مقدار أربع ركعات للعصر قبل الغروب، مع القول باعتبار الوقت الضرورى، وكان عبد الحميد يقول: إذا راعينا الخلاف لم يقتل حتى يبقى من الوقت مقدارُ تكبيرة الإحرام، لأن الجماعة قد قالوا بالإدراك بذلك، وهذا التحفظُ– لصيانة الدم– طَرَفُ نقيضٍ مع ماذكره ابن خويزمنداد من أنه إنما يؤخر إلى آخر الوقت الاختيارى، ليس بشيئ إلا أن يرى قائلُه أن مابعد الوقت الاختيارى ليس بوقتٍ للأداء. انتهى كلام المازى. وذكر عن أشهب أنه لا يُقتل حتى يَخرج الوقت، فإذا خرج الوقت ولم يصلِّ قُتِلَ. قال ابن رشد: وهو الأقيس، لأن الموجبَ هو الترك، ولا يتحقق إلا بعد ذهاب الوقت، وإيقاعُ المسَّببِ قبل وقوع سَببِه مُحَالٌ.
فَإِنِ امْتَنَعَ فِعْلاً وَقَوْلاً قُتِلَ حَدّاً لا كُفْراً. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: كُفْراً
أى: إن امتنع مِن فِعلها، وقال لا أصلى فإنه يقتل وفاقاً للجمهور، خلافاً لأبى حنيفة والماتريدى فى قولهما: أنه يُحبس ويُهدَّد ولا يقتل. وعلى المذهب لا يُقتل ابتداءً، بل يهدد، ولا يضرب، صرح بذلك ابن الجلاب، وظاهر المذهب أنه يضرب بالسيف، لأنه المتعارف.
وقال بعض فقهائنا: بل يُنخس بالسيف نَخْساً حتى يصلى أو يموت. وعلى القتل فالمشهور أنه حد. وقال ابن حبيب وفاقا لأحمد: كفراً. وعلى هذا القول فيختلف فى استتابته كالمرتد، وعليه لا تصح ذبيحته، ولا يقضي ما خرج وقته فى تلك الحال.
واحتج لهذا المذهب بظواهر، فمنها مافى مسلمٍ عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر تَرْكُ الصلاة" وما رواه بُرَيْدَةُ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العهدُ بيننا وبينهم الصلاةُ، فمَن تركها فقد كَفَرَ" رواه الترمزى، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وما رواه الترمذى فى كتاب الإيمان بإسناد صحيح: عن شقيق بن عبد الله التابعى المتفق على جلالته قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركُه كفرٌ غيرَ الصلاة.
وما رواه ابن حبان فى صحيحه، عن ابن عمرو: أن النبى صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة يوما فقال: "من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يومَ القيامة، ومن لم يُحافظ عليها لم تكن له برهاناً ولا نوراً ولا نجاةٌ، وكان يومَ القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأُبَىِّ بن خَلَفٍ"، ولقول عمر رضى الله عنه يوم وفاته: لا حَظَّ فى الإسلام لمن ترك الصلاة. وذلك بحضرتهم مِن غيرِ نكيرِ.
ودليل الأول: أنَّ تاركَ الصلاةِ فى المشيئة، والكافر ليس فى المشيئة، فتاركُ الصلاة ليس بكافر، أما أنه فى المشيئة فلما رواه مالكٌ فى الموطأ أنه عليه الصلاة والسلام قال:"خمس صلوات كتبهن الله على العباد فى اليوم والليلة" إلى قوله:"ومن لم يأت بهن، فليس له عند اللهِ عهدٌ، إِنْ شاء عذَّبه وإن شاء أدخله الجنة".
وأما الكافر فليس فى مشيئة الله، لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: ??6]، وعلى هذا فتحمل هذه الأحاديث وما أشبهها على التاركِ جحداً. قال ابن حبيب: وفى حكمه مَنْ قال: لا أصلى، من قال: لا أتوضأ، ولا
أغتسل من جنابة، ولا أصوم رمضان. وما ذكرناه إنما هو فى التارك إذا أَبَى خاصة. وأما إِنِ انضم إلى ذلك بعضُ الاستهزاء، كما يقوله بعض الأشقياء إذا أُمر بها: إذا دخلتَ الجنةَ فأغلِق البابَ خلفَك. فإنْ أراد أنَّ الصلاة لا أثر لها فى الدِّين فلا يُختلف فى كفره، وإن أراد صلاةَ المنكَر عليه خاصةً، وأنها لم تنهه عن الفحشاء والمنكر فهو مما اختلف فيه. قاله ابن عبد السلام.
فَلَوْ قَالَ: أَنَا أُصَلِّي وَلَمْ يَفْعَلْ فَفِي قَتْلِهِ قَوْلانِ
أى: فإن امتنع فعلاً لا قولاً فظاهرُ المذهب القتلُ، والقول بعدم القتل لابن حبيب، واستشكله اللخمى والمازى وغيرهما، لأن عدمَ امتناعه بالقول لا أثر له، والقتلُ إنما هو على تَرْكِ الفعلِ، وهو حاصل.
أَمَّا جَاحِدُهَا فَكَافِرٌ بِاتِّفَاقٍ
لا إشكال فى ذلك، والإجماع عليه، قال فى المدونة: وكذلك لو قال: ركوعها وسجودها سنةٌ غيرُ واجب.
فرعان:
الأول: اختلف أصحابنا فى قتل من امتنع من قضاء فوائت عليه، نقله المازى، ومال إلى عدم القتل.
الثانى: قال فى النوادر: قال الأوزاعى فى أسير موثوق: يصلى إيماء. وقاله سحنون، قال: وإن أُطْلِقَ فى الوقت لم يلزمه أن يعيد، وإن أعاد فحسنٌ. قال سحنون: وإذا خاف القتل إن صلى وَسِعَه تركُ الصلاة، وكذلك فى ترك الوضوء والتيمم. قال الأوزاعى: ولا يدع التيمم والصلاة إيماء وإن قتل. وخالفه سحنون، وقال: يسعه الترك. انتهى. وبالله التوفيق.