الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومَنْ قَطَعَ نَافِلَةً عَمْداً لَزِمَهُ إِعَادَتُهَا بخِلافِ الْمَغْلُوبِ
إنما لزمه إعادتها لأنها قد وجبت عليه بالشروع عندنا، ولا عذر له.
فائدة: هذه إحدى الأشياء السبع التي تلزم بالشروع فيها، وهي: الصلاة، والصوم، والاعتكاف، والحج، والعمرة، والائتمام، والطواف. ونظمها بعضهم فقال:
صلاة وصوم ثم حج وعمرة
…
يليها طواف واعتكاف وائتمام
يعيدهم من كان للقطع عامداً
…
لعودهم فرضاً عليه والتزام
انظر ما ذكره من لزوم الإعادة في الائتمام، فإن الظاهر عدم لزومه.
وَ
سُجُودُ التِّلاوَةِ
فَضِيلَةٌ. وقِيلَ: سُنَّةٌ
ظاهر كلامه أن المشهور أن سجود التلاوة فضيلة، والذي حكاه ابن محرز وابن يونس وصاحب اللباب: السنية. قال ابن عطاء الله: وهو المشهور، نعم استقرأ ابن الكاتب الفضيلة من قوله: كان مالك يستحب إذا قرأها في آيات الصلاة ألا يدع سجودها. ابن محرز ولا دليل له على ذلك؛ لأن السنة يطلق عليها المستحب والأشبه بمذهب الكتاب السنية؛ لأنه قال: يسجدها بعد الصبح ما لم يسفر وبعد العصر ما لم تصفر فجعلها منزلة الجنازة ورفعها عن النوافل.
وهِيَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً: الأَعْرَافُ، والرَّعْدُ، والنَّحْلُ:[102/أ]{يُؤْمَرُونَ} ، وسُبْحَانَ، ومَرْيَمُ، وأَوَّلُ الْحَجِّ، والْفُرْقَانُ، والنَّمْلُ:{الْعَظِيمِ} ، والسَّجْدَةُ، وص:{وَأَنَابَ} ، وقِيلَ:{مَآبٍ} ، وفُصِّلَتْ:{يَعْبُدُونَ} وقِيلَ: {يَسْئَمُونَ} . قَالَ ابْنُ وَهْبِ وابْنُ حَبيبِ: خَمْسَ عَشْرَةَ: ثَانِيَةُ الْحَجِّ، والنَّجْمُ، والانشِقَاقُ: آخِرُهَا، وقِيلَ:{لا يَسْجُدُونَِ} ، واقْرَا. ورُويَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ دُونَ ثَانِيَةِ الْحَجِّ. فَقِيلَ: اخْتِلافٌ. وقالَ حَمَّادُ بْنُ إِسْحَاقَ: الْجَمِيعُ سَجَدَاتٌ، والإِحْدَى عَشْرَةَ الْعَزَائِمُ كَمَا فِي الْمُوَطَّأِ.
قال عبد الوهاب: الرواية المشهورة هي أن السجود في أحد عشر موضعاً. وقوله: (ورُوِيَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ دُونَ ثَانِيَةِ الْحَجٌ). وقوله: (قَالَ ابْنُ وَهْبٍ) هما قولان
مقابلان للمشهور. وبعدم السجود في المفصل قال ابن عمر وابن عباس، وابن المسيب، وغيرهم. وفي أبي داود عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة. وفي حديث زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم النجم ولم يسجد.
اللخمي وغيره: والاعتراض بهذين الحديثين لا يصح. أما حديث ابن عباس فقد لا يثبت لأنه لم يشهد جميع إقامته صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وإنما كان قدومه سنة ثمان بعد الفتح، ومعارض بحديث أبي هريرة وانه سجد في الانشقاق، والأخذ به أولى لأنه أسلم عام خيبر بعد الهجرة، ولصحة سنده، ولأن من أثبت أولى ممن نفي. والنسخ لا يصح إلا بأمر لا شك فيه مع تأخير الناسخ، ولو ثبت التأخير لأمكن أن يكون ذلك في غير وقت صلاة، أو لكون القارئ لم يسجد. وقال صاحب التهذيب: حديث ابن عباس عندي حديث منكر، يرده حديث أبي هريرة، ولم يصحبه أبو هريرة إلا بالمدينة. اللخمي: وإثبات ثانية الحج ليس بحسن؛ لأن المفهوم: والمراد بها الركوع والسجود. قال: وإثبات الثلاث التي في المفصل أحسن لحديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} خرجه البخاري ومسلم. وزاد مسلم عنه أنه قال: "في {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . سجدت فيها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجدها حتى ألقاه. وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه سجد بمكة في النجم. انتهى بمعناه.
وأمر عمر بن عبد العزيز بالسجود في الانشقاق. قال مالك: وليس العمل عليه. ونقل عن الأبهري أنه خير في السجود في المفصل. قال اللخمي: ولمالك في المبسوط نحوه.
وقوله: (الأَعْرَافُ) إلى آخره، اكتفى رحمه الله في ذكر السجدة الواحدة التي لا خلاف فيها بذكر السورة، وإن كان في المحل إشكال أو خلاف مذهبي أو خارجي ذكره. فالأولى: كـ: {يُؤْمَرُونَ} لأن ظاهر الأمر عند من لا يعرف طلب السجود عند {يَسْتَكْبِرُونَ} لكنهم راعوا- والله أعلم- إتمام الكلام لأن {يَخَافُونَ} حال من {يَسْتَكْبِرُونَ} .
والثاني: كصاد وفصلت فإن فيهما خلافاً مذهبياً، وكالنمل فإن الشافعي رأي أن السجدة عند {وَمَا يُعْلِنُونَ} ، وروى أهل المذهب أن قوله:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} كالمتمم لقوله: {لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} ، وكان الكلام تاماً بتأخره، فإن قيل: لِمَ لَمْ يَعتبروا آخر الكلام في صاد كما في النحل والنمل، فإن المشهور على ما قاله المصنف أن سجودها أولاً. قيل: لأن قوله: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} كالجزاء على السجود، فكان بعد السجود فوجب تقديم السجود عليه، وكذلك فصلت لأن قوله:{وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي} ، إلى قوله:{تَعْبُدُونَ} ، طلب للسجود. وقوله بعد ذلك:{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} إلى آخره؛ ذم لمن لم يسجد استكباراً، وإنما يكون ذماً إذا مضى محل السجود. وما قدمه المصنف في صاد ذكر صاحب اللباب، وصاحب الذخيرة أنه المذهب. وهو الذي يؤخذ من الرسالة لتصديره به، وعطفه عليه بقيل. والقول بأن السجود عند {لَا يَسْئَمُونَ} ، لابن وهب، وحماد- وهو أخو القاضي إسماعيل- قاله المازري. وإلى طريقة من حمل الرواية على الوفاق ذهب عبد الوهاب، وجمهور الأصحاب على حملها على الخلاف.
ويَسْجُدُ الْقَارِئُ وقَاصِدُ الاسْتِمَاعِ إِنْ كَانَ الْقَارِئُ صَالِحاً لِلإِمَامَةِ، فَإِنْ تَرَكَهُ الْقَارِئُ فَفِي الْمُسْتَمِعِ قَوْلانِ
…
أي: إنما يسجد من قصد الاستماع لا السامع. ابن عبد السلام: وهذه التفرقة مروية في الصحيح عن سلمان، وعثمان، وغيرهما. وقوله:(إِنْ كَانَ الْقَارِئُ صَالِحاً لِلإِمَامَةِ) أي: يكون ذكراً بالغاً متوضئاً، فإن كان القارئ امرأة أو غير بالغ لم يسجد بقراءته. وعلى القول بإجازة [102/ب] إمامة الصبي في النافلة، ينبغي أن يسجد.
واختلف إذا كان على غير وضوء أو كان ولم يسجد، وإليه أشار بقوله:(فَإِنْ تَرَكَهُ الْقَارِئُ فَفِي الْمُسْتَمِعِ قَوْلانِ) والمشهور الأمر لأن كباَ منهما مأمور، فليس ترك القارئ بالذي يسقطه عن المستمع. وقال ابن حبيب: لا يسجد. وصوبه ابن يونس وغيره، لقوله
عليه الصلاة والسلام لقارئ لم يسجد: "كنت إماماً، فلو سجدت لسجدنا"، وقال بعض الشافعية: إنما تركه صلى الله عليه وسلم لينبه القارئ على أنه أخطأ بتركه، وأنه هو كان المأمور به أولاً، وهو غير واجب على المستمع فلا يبعد تركه لقصد البيان، وفي المسألة قول ثالث بالتخيير لأشهب. ونقل عياض: إذا جلس ليسمع الناس حسن قراءته، وفعل هذا المكروه وسجد أو لم يسجد، خلاف في سجود مستمعه.
اللخمي: وأرى أن يسجد لأن الظاهر أنه في طاعة، والسرائر إلى الله تعالى. ونص مالك أنه لا يجلس إليه قال: وإن جلس إليه، وعلم أنه يريد قراءة سجدة، فليقم عنه. وقسم في البيان الجلوس إلى القارئ على ثلاثة أقسام:
أحدها: أنه يجلس إليه للتعليم، فهذا جائز أن يجلس إليه ويسجد لسجوده، واختلف إذا لم يسجد القارئ، هل يسجد السامع؟ فذكر القولين، قال: واختلف في المقرئ الذي يقرأ القرآن، فقيل: إنه يسجد لسجود القارئ إذا كان بالغاً في أول ما يمر بسجدة، وليس عليه السجود فيما بعد ذلك. وقيل: ليس عليه السجود بحال.
والثاني: أن يجلسوا إليه ليسمعوا قراءته ابتغاء الثواب من الله تعالى في استماع القرآن، فهذا جائز أن يجلسوا إليه، ويختلف هل يسجدون بسجوده إذا مر بسجدة؟ ففي العتبية: لا يسجدون، وقال ابن حبيب: يسجدون غلا أن يكون ممن لا يصح أن يؤتم به من صبي أو امرأة. والذي في المدونة محتمل للتأويل، والأظهر منها أنهم لا يسجدون بسجوده.
والثالث: أن يجلسوا إليه لأن يسجدوا بسجوده، فهذا يكره أن يجلسوا إليه، وأن يسجدوا بسجوده؛ وهو نص المدونة، ومعنى العتبية، وزاد فيها ونهى عن ذلك. انتهى بمعناه. قال في المدونة: ويقام الذي يقعد في المساجد يوم الخميس وغيره لقراءة القرآن. وما ذكره من تقسيم المسألة على ثلاثة أقسام، خالف في ذلك طريق الأكثر فإنهم قالوا: متى لم يجلس للتعليم فلا يسجد، سجد القارئ أم لا. ولم يفرقوا بين أن يقصد الثواب أم
لا، ذكره في التنبيهات. وقال المازري: إذا قرأ آية سجدة بعدما سجد فإنه يسجد عندنا وعند الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يسجد. قال: وهذا الذي ذكرته من تكرار السجود هو أصل المذهب عندي إلا أن يكون القارئ ممن يتكرر ذلك علي غالباً كالمعلم والمتعلم، ففيه قولان: إذا كانا بالغين، قال مالك وابن القاسم: يسجدان أول مرة لا غير. وقال أصبغ وابن عبد الحكم: لا سجود عليهما ولا في أول مرة. وأما قارئ القرآن فإنه يسجد جميع سجداته.
ويَسْجُدُ الْمُصَلِّي فِي النَّفْلِ مُطْلَقَاً. وقِيلَ: إِنْ أَمِنَ التَّخْلِيطَ. وفِي الْفَرْضِ تُكْرَهُ قِرَاءَتُهَا عَلَى الْمَشْهُورِ جَهْراً أَوْ سِرّاً، فَإِنْ قَرَأَ فَقَوْلانِ، وعَلَى الْمَشْهُورِ إِذَا عَزَمَ جَهْرَ لِيُعْلِمَ فَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ وسَجَدَ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُتْبَعُ. وقالَ سَحْنُونٌ: لا يُتْبَعُ لاحْتِمَالِ السَّهْوِ
…
قال ابن بشير وابن شاس: وهل تجوز قراءة السورة التي فيها السجدة؟ فأما صلاة النافلة فلم يختلف المذهب في جواز ذلك. وهذا إذا كان فذاً أو في جماعة يأمن التخليط فظاهر، وإن كان في جماعة لا يأمن ذلك فيها فالمنصوص أيضاً جوازه، لما ثبت في فعل الأولين في قراءة السجدة في قيام رمضان. انتهى. ومفهوم قوله في الجلاب: ولا بأس بقراءة السجدة في النافلة والمكتوبة إذا لم يخف أن يخلط على من خلفه عدم الجواز مع عدم أمن التخليط. والمشهور الكراهة في الفريضة مطلقاً لأنه إذا قرأها فإن لم يسجد دخل في الوعيد، وإن سجد زاد في أعداد سجود الفريضة. ومقابل المشهور بالجواز رواية ابن وهب عن مالك. وصوبه ابن يونس واللخمي وابن بشير وغيرهم. ابن بشير لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يداوم على قراءة السجدة في الركعة الأولى من صلاة الصبح. وعلى ذلك يواظب الأخيار من أشياخي وأشياخهم. انتهى.
قوله: (فَإِنْ قَرَأَ فَقَوْلانِ) السجود وهو المشهور، وعليه فإذا كانت صلاتهم سرية جهر ليعلم الناس، فإن لم يجهر وسجد فقال ابن القاسم: يتبع لأن الأصل عدم السهو.
وقال سحنون: لا يتبع لأن أكثر الناس لا يقرؤونها في الفريضة، وإذا قرأ بها جهراً كان الغالب عليه السهو.
فرع:
قال أشهب: ولا يقرأ الخطيب [103/أ] سجدة على المنبر. وكأنه رأى أن النزول للسجدة يؤثر في نظام الخطبة، فإن قرأها فقال أشهب: ينزل ويسجد مع الناس، وإن لم يفعل فليسجدوا، ولهم في الترك سعة. وينبغي أن يعيد قراءتها في الصلاة ويسجد. وقال مالك في المجموعة: لا ينزل ولا يسجد، وإن العمل على آخر فعل عمر في تركه السجود. وقال: على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا.
وشُرُطُهَا كَالصَّلاةِ إِلا الإِحْرَامَ والسَّلامَ، وفِي التَّكْبِيرِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلاةٍ: ثَالِثُهَا: خَيَّرَ ابْنُ الْقَاسِمِ ....
تصوره واضح. قال ابن وهب: يسلم منها. والظاهر أن الاستثناء في قوله: (إِلا الإِحْرَامَ والسَّلامَ) منقطع.
خليل: وفي النفس من عدم الإحرام والسلام شيء. وقوله: (إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلاةِ). أي؛ إن كان في صلاة كبر في خفضه ورفعه اتفاقاً كسائر الالتفاتات في الصلاة. والثلاثة الأقوال في المدونة. قال ابن القاسم: وكل ذلك واسع. وفي الرسالة رابع: يكبر في خفضها. وفي التكبير في الرفع منها سعة. والذي رجع إليه مالك التكبير، واختاره ابن يونس.
فرع:
إذا قرأ الماشي السجدة سجد، وينزل الراكب إلا في سفر القصر؛ قاله في الواضحة.
ولَوْ جَاوَزَهَا بِيَسِيرٍ سَجَدَ، وبكَثِيرٍ يُعِيدُ قِرَاءَتَهَا ويَسْجُدُ. وفِيهَا: إِنْ رَفَعَ الْمُصَلِّي رَاسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي فَرْضٍ لَمْ يُعِدْ. ورَوَى ابْنُ حَبِيبٍ: يَعُودُ فِي الثَّانِيَةِ، ويَسْجُدُ ....
واليسير مثل أن يقرأ الآية والآيتين. ابن عبد السلام: وهذا بين؛ لأن ما قارب الشيء يعطَى حكمُه. وقوله: (وبِكَثِيرٍ يُعِيدُ قِرَاءَتَهَا ويَسْجُدُ) زاد في الجواهر بعد قوله: (ويَسْجُدُ) ثم يعود إلى حيث انتهى في القراءة. وقوله: (وفِيهَا: إِنْ رَفَعَ
…
) إلى آخره.
اين عبد السلام: الموجب لذكر هذه المسألة رواية ابن حبيب، وإلا فسيذكر أنها تفوت بوضع اليدين على الركبتين.
وفِي النَّافِلَةِ يَعُودُ
أي: وإن ذكر بعد رفع رأسه من الركوع في النافلة عاد إلى قراءتها وسجد.
ابن عبد السلام: وهو استحسان. والأصل أن محلها قد فات إلا أن يريد قراءتها إن شاء لأن ذلك سائغ في النافلة. انتهى. وإذا قلنا أنه يعود إليها فهل قبل الفاتحة أو بعدها؟ قولان، أشار إليهما بقوله:
وفِي فِعْلِهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةٍ أَوْ قَبْلَهُا قَوْلانٍ، فَإِنْ ذَكَرَ رَاكِعاًَ فَكَذَلِكَ، وقِيلَ: يَخِرُّ سَاجِداً.
القول بأنه يعيدها قبل الفاتحة لأبي بكر بن عبد الرحمن؛ لأن المانع من الإتيان بها إنما هو فوت القيام، وقد وجد فلا معنى للتأخير، والقول بأنه يعيدها بعد الفاتحة لابن أبي زيد، لأنها قراءة فتشرع بعد الفاتحة كغيرها. وقوله:(فَإِنْ ذَكَرَهَا رَاكِعاً فَكَذَلِكَ) يريد: وإن ذكر في النافلة بعد وضع اليدين على الركبتين فكذلك؛ أي: هو بمنزلة ما لو ذكر بعد أن رفع رأسه من الركوع فيمضي على ركوعه، ويقرأها في الثانية. وهذا القول نقله اللخمي عن مالك في العتبية، وتأوله ابن يونس على المدونة، ويريد تأويله أنه نص
فيها على الفوات إذا ذكر وهو راكع في الثانية. وقوله: (وقِيلَ: يَخِرُّ) أي: إذا ذكر راكعاً، وهذا القول لأشهب. زاد اللخمي وصاحب الجواهر عنه: ويسجد إذا حصل له ذلك في الثانية، ولو ذكر وهو جالس قبل أن يسلم أو بعد السلام سجد. وبنى التونسي وابن بشير الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في عقد الركعة، وأبى ذلك عبد الحق وابن يونس وقالا: بل ابن القاسم جعل وضع اليدين على الركبتين تنعقد به الركعة في أربعة مسائل منها هذه، وقد تقدم التنبيه عليها. وعلى هذا فيكون كلامه هنا عائد إلى مسألة النافلة، وقول ابن عبد السلام المتقدم والموجب لذكر هذه المسألة رواية ابن حبيب إلى آخره يدل على أنه جعل هذه المسألة عائدة إلى الفريضة، لكن لم أر المسألة في كتب الأصحاب إلا على الوجه الأول.
ولَوْ قَصَدَ السُّجُودَ فَرَكَعَ نَاسِياً، فَقَالَ مَالِكٌ: يَعْتَدُّ بِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ مُنْحَنِياً رَفَعَ لِرَكْعَتِهِ، وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا يَعْتَدُّ بِهِ فَإِنْ ذَكَرَ مُنْحَنِياً خَرَّ، فَإِنْ رَفَعَ سَاهِياً لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ بنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَرَكَةَ إلَى الأَرْكَانِ مَقْصُودَةٌ أَوَّلاً، وعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِنْ أَطَالَ الرُّكُوعَ أَوْ رَكَعَ أَوْ رَفَعَ سَاهَياً سَجَدَ بَعْدَ السَّلامِ. وعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ قَوْلانِِ
يعني: إذا قصد سجود التلاوة فلما وصل إلى الركوع نسي. وقول ابن القاسم منصوص في العتبية والواضحة. وقول مالك في المجموعة، ورواه أشهب في العتبية. وقوله:(فَإِنْ ذَكَرَ مُنْحَنِياً رَفَعَ لِرَكْعَتِهِ)، من تمام قول مالك. وقوله:(فَإِنْ ذَكَرَ مُنْحَنِياً خَرَّ)؛ من تمام قول ابن القاسم، وكذلك قوله:(فَإِنْ رَفَعَ سَاهِياً لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ).
تنبيهات:
أحدها: ما وقع بعد قوله: (فَإِنْ رَفَعَ سَاهِياً لَمْ يَعْتَدَّ بهِ) زيادة على المشهور وليست صحيحة، لأنها ليست قول مالك.
ثانيها: [103/ب] جعل الأول من التعليل للثاني من القولين عكس غالب اصطلاحه.
ثالثها: تأول الشيخ أبو محمد قوله: فركع ساهياً على أن المراد منها عن السجدة وقصد الركعة، وأما لو خر للسجدة فلا يجزئه ذلك الركوع؛ لأنه نوى بانحطاطه ما ليس بفرض، إلا على قول من يرى أنه إذا ظن أنه في نافلة فصلى ركعة أنه يجزئه. ابن يونس: وعلى هذا التأويل يكون وفاقاً لابن القاسم قال: وظهر في الإجزاء على قول مالك؛ وإن انحط للسجدة فلا تضره النية لانعقادها من أول الفريضة، وليس عليه تجديدها في كل ركعة. وهل يسجد أم لا؟ أما على قول ابن القاسم فليسجد بعد السلام إن طال ركوعه، أو رفع ساهياً لتحقيق الزيادة والطول هو الطمأنينة فما فوقها. واختلف على قول مالك، والظاهر سقوطه لعدم الزيادة؛ قاله المغيرة. والثاني: أنه يسجد بعد السلام؛ قاله مالك في المجموعة، لأنه أخل بنية الانحطاط فكان حقه قبل، لكن لما ضعف مدرك السجود أخر، كذا قال المازري.
فرع:
قال مالك في المجموعة: ولو سجد في آية قبلها يظنها السجدة فليقرأ السجدة في باقي صلاته، ويسجد لها ويسجد بعد السلام.
ويُكْرَهُ سُجُودُ الشُّكْرِ عَلَى الْمَشْهُورِ
وجه المشهور العمل؛ ولهذا لما قيل لمالك في العتبية أن أبا بكر الصديق فيما يذكر سجد بعد فتح اليمامة شكراً، قال: ما سمعت ذلك. وأنا أرى أنهم كذبوا على أبي بكر في هذا الضلال. وقد فتح الله على رسوله وعلى المسلمين، فما سمعت أن أحداً منهم سجد. انتهى. والشاذ رواه ابن القصار عن مالك وبه قال ابن حبيب.
اللخمي: وهو الصواب لحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في سجدة ص: "سجدها داود توبة، وأسجدها شكراً". وحديث أبي بكر أتى النبي صلى الله عليه وسلم أمر سره فخر ساجداً. ذكره الترمذي. وحديث كعب بن مالك لما بشر بتوبة الله عليه خر ساجداً. أخرجه البخاري. انتهى.
فرع:
كره في المدونة الاقتصار على قراءة السجدة مجردة عما قبلها وما بعدها، واختلف الأشياخ فحملها بعضهم على أن المراد نفس السجدة دون جملة الآية التي هي منها. وحملها بعضهم على أن المراد به جملة آية السجدة. المازري: وهو الأشبه لأنه لا فرق بين قراءة كلمة السجدة أو جملة الآية.
الْجَنَائِزُ: وتَوْجِيهُ الْمُحْتَضِرِ إِلَى الْقِبْلَةِ مُسْتَحَبُّ غَيْرُ مَكْرُوهٍ عَلَى الأَصَحِّ
الجنازة بفتح الجيم وكسرها، للميت والسرير، وقيل: للميت بالفتح، وللسرير بالكسر، الأعلى للأعلى والأسفل للأسفل. والاستحباب رواه ابن القاسم وابن وهب عن مالك، والكراهة رواها ابن القاسم أيضاً في المجموعة قال: وما علمته من الأمر القديم. قال ابن حبيب: إنما كره استناناً. وروي عن ابن المسيب إنكاره حتى قيل لما أغمي عليه: فلما أفاق قال لبنيه: ليهنني مضجعي ما دمت بين أظهركم، لا أبالي على أي جهة مت إذا مت مسلماً. وزاد:(غَيْرُ مَكْرُوهٍ) ليعلم أن مقابل الأصح الكراهة. ابن حبيب: ولا أحب أن يوجه إلا أن يغلب ويعاين وذلك عند إحداد نظره، وشخوص بصره.
وكَذَلِكَ قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ عِنْدَه
أي: ويستحب. وتبع المصنف في هذا ابن بشير، وإنما هو قول ابن حبيب. وقال: إنما كره مالك ذلك استناناً. والكراهة لمالك في رواية أشهب. واحتج على ذلك بأن عمل
السلف اتصل على ترك ذلك. وذكر ذلك صاحب البيان وغيره، وصاحب الرسالة فقال: وأرخص بعض العلماء في القراءة عند رأسه بسورة يس، ولم يكن ذلك عند مالك أمراً معمولاً به. انتهى. وهذا هو الظاهر، وفي حمل ابن حبيب نظر، إذ ليس لنا أن نرتب الأسباب والمسببات، وما حده الشرع وقفنا عنده، وما أطلقه ولم يخصه بسبب أطلقناه، وما تركه السلف تركناه وإن كان أصله مشهوداً له بالمشروعية كهذه القراءة. وللشرع حكمة في الفعل والترك، وتخصيص بعض الأحوال بالترك كالنهي عن القراءة في الركوع، وطلبها في القيام، فتمسك بهذه القاعدة الجليلة؛ فإنها دستور للمتمسك بالسنة، وقاعدة مالك والله أعلم.
وكَيْفِيَّةُ التَّوْجِيهِ كَالْقَوْلَيْنِ فِي صَلاةٍ الْمَرِيضِ
أي: في تقديم الأيمن وإلا استلقى على ما تقدم، وأما بين الأيسر والأيمن فبعيد.
ويُسْتَحَبُّ تَلْقِينُهُ الشَّهَادَةَ، وتَغْمِيضُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ
لقوله عليه الصلاة والسلام: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله". أخرجه مسلم، والترمذي.
ولقوله عليه الصلاة والسلام: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة". رواه أبو داود، والترمذي. وقال عبد الحق فيه: حسن صحيح. وظاهره الاقتصار على لا إله إلا الله. وقال بعضهم: تلقين الشهادتين. ابن الفاكهاني: ومراد الشارع والأصحاب الشهادتان معاً، واكتفى بذكر إحداهما. ووقع في بعض [104/أ] النسخ الشهادتين. وإذا قالها مرة ثم تكلم أعيد تلقينه وإلا ترك لأن القصد أن يكون آخر كلامه. قالوا: ولا يقال له: قل بل يقال عنده لا إله إلا الله، ويستحب تغميضه إذا قضى لا قبل ذلك، وتمد رجلاه، وتلين مفاصله برفق لئلا يبقى مشوه الخلقة. قال مالك في المختصر: ولا بأس أن
تغمضه الحائض والجنب. قال ابن حبيب: يستحب ألا يجلس عنده إلا أفضل أهله وأحسنهم هدياً وقولاً، ولا يكون عليه وقربه ثوب غير طاهر، ولا تحضره الحائض والكافر. وفي اللخمي: تجتنبه الحائض والجنب. واختلف في ذلك والمنع أولى لما روي أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جنب. ابن حبيب: ويستحب أن يقال عنده {وسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ* والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} ، {ذَلِكَ وعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}. ويقال عند إغماضه: بسم الله، وعلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم يسر عليه أمره، وسهل عليه موته، وأسعده بلقائك واجعل ما خرج إليه خيراً مما خرج عنه.
وإِذَا رُجِيَ الْوَلَدُ فَفِي جَوَازِ بَقْرِ الْبَطْنِ قَوْلانِ
المشهور: لا يبقر. وقال أشهب وسحنون وأصبغ: يبقر إذا تيقن حياته، قال محمد بن عبد الحكم: رأيت بمصر رجلاً مبقوراً على رمكة مبقورة. وحمل عبد الوهاب قول سحنون على أنه تفسير لقول ابن القاسم. قال: وإنما قال ذلك ابن القاسم إذا لم تتيقن حياته.
تنبيه:
وهذا الخلاف حيث يتعذر على النساء إخراج الولد من مخرجه، وأما إن أمكن ذلك بعلاج فحسن؛ قاله مالك في المبسوط.
وكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي بَطْنِهِ مَالٌ لَهُ بَالٌ بِبَيِّنَةٍ
أي: فيختلف فيه. قال ابن القاسم، وأصبغ، وسحنون: يبقر إذا كان فيه دنانير. قال ابن القاسم: وكذلك إذ ابتلع جوهرة نفيسة أو وديعة. وقال ابن حبيب: لا يبقر. ولو كانت جوهرة تساوي ألف دينار. قال شيخنا رحمه الله: ينبغي أن يكون الخلاف إذا ابتلعه لقصد صحيح. وأما إن قصد قصداً مذموماً فينبغي أن يبقر لأنه كالغاضب، وقيد ابن
بشير الخلاف في الوديعة بما إذا كان له مال يؤدي منه قال: وإلا فلا ينبغي أن يختلف في وجوب استخراجه. انتهى. وقال ابن القاسم هنا بالبقر دون الأول لتحقق المال هنا بخلاف حياة الجنين فإنها موهومة. والبقر مقيد كما قال المصنف بما إذا قامت له البينة بابتلاعه، ولو شهد بذلك عدل فأجراه أبو عمران على الخلاف في القصاص في الجراح بشاهد واحد. ابن يونس: والصواب البقر لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال، والميت لا يملك ذلك.
وخُرِّجَ الْمُضْطَرُّ إِلَى أَكْلِ مَيْتَةِ الآدَمِيِّ عَلَى ذَلِكَ
أكثر نصوصهم أن المضطر لا يأكل ميتة الآدمي، ومنهم من أجازه. ابن عبد السلام: وهو الظاهر. وخرج الجواز على القول بجواز البقر، والجواز هنا أولى لأن حياة الآدمي محققة بخلاف الجنين. لكن هنا إذهاب جزء من الآدمي وليس في البقر إلا الشق، فينظر هل ذهاب الجزء مع تحقق الحياة يوازي الشق مع عدم تحقق الحياة؟
وغُسْلُ الْمَيِّتِ وَاجِبٌ عَلَى الأَصَحِّ
الأصح قول عبد الوهاب، وابن محرز، وابن عبد البر. وحكى ابن أبي زيد وابن الجلاب، وابن يونس: ابن بزيزة: وهو المشهور. وسبب الخلاف قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم عطية: "اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكتر إن رأيتن ذلك" هل معناه رأيتن الغسل أو الزيادة. المازري: وهذا على اختلاف الأصوليين في الاستثناء، والشرط إذا تعقب الجمل، هل يرجع إلى الجميع أو إلى الأقرب.
خليل: وعود التخيير إلى نفس الغسل بعيد جداً، وفي الغسل فوائد منها إكرام الملكين، ومنها تنبيه العبيد على أن المولى أكرمهم أحياء وأمواتاً، ومنها أن يعلموا أن من تأهب للقدوم على مولاه أنه لا يقدم إلا طاهر القلب من المعاصي متفرغاً مما سوى الله تعالى،
لأنه إذا اعتنى المولى بتطهير جسد فإن في التراب تنبه العبد إلى ما هو باق؛ وهو النفس.
ومنها إعلام العبد بالاعتناء به لأنه إذا اعتنى بتطهير الجسد الفاني فلأن يعتني بتطهير النفس من باب أولى. فنسأله عز وجل أن يطهر قلوبنا من رعونات البشر وأن يفرغها من غيره. ويملأها من ذكره، وأن يقدمنا عليه وهو راض عنا.
ولا يُغَسَّلُ مَنْ لا يُصَلِّي عَلَيْهِ لِنَقْصٍ أَوْ كَمَالٍ، ومَنْ تَعَذَّرَ غُسْلُهُ يُمِّمَ كَعَدَمِ المْاءِ، وتَقْطِيعِ الْجَسَدِ، وكَرَجُلٍ مَعَ نِسَاءٍ غَيْرِ مَحَارِمَ
سيأتي من لا يغسل لنقص أو كمال. وجعل تعذر الغسل من ثلاثة أوجه. وهو ظاهر.
وفِي الْمَحَارِمِ قَوْلانِ، وعَلَى غُسْلِهِنُّ فَفِي كَوْنِهِ مِنْ فَوْقِ ثَوْبٍ أَوْ مِنْ تَحْتِهِ قَوْلانِ
المشهور أن ذوات المحارم يغسلنه. وقال أشهب: ييممنه فقط. وقوله: (في كَوْنِهِ .....) إلخ؛ قال في المدونة: يغسلنه. ولم يشترط من فوق ثوب. زاد في المختصر: وتستر عورته. وقال ابن القاسم في سماع موسى بن معاوية: إنما يغسلنه من فوق ثوب. كما قال في المدونة في غسل الرجل ذات محارمه: ولم أر القول بأنها تغسله [104/ ب] من تحت ثوب منصوصاً، نعم خرجه صاحب التنبيهات على قول ابن حبيب في عكس هذه المسألة وسيأتي.
وأَمَّا صَغِيرٌ لا يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ فَيُغَسِّلْنَهُ
قال في المدونة: كابن سبع سنين. قال المازري: وروى عن مالك إجازة غسل المرأة لابن تسع.
والْمَرْأَةُ مَعَ رِجَالٍ غَيْرِ مَحَارِمَ كَذَلِكَ إِلا أنهّا تُيَمَّمُ إِلَى الْكُوعِ
لأن ذراعها عورة بخلاف وجهها وكفيها بدليل إظهارهما في الصلاة والإحرام. وجاز لكل واحد منهما أن ينظر وجه صاحبه، وإن كان ممنوعاً في الحياة للضرورة، والله أعلم.
وفِي الْمَحَارِمِ ثَالِثُهَا: يُغَسِّلُهَا مَحَارِمُ النَّسَبِ لا الصِّهْرِ
مذهب المدونة أنه يغسلها من فوق ثوب، ولا يفضي بيده إلى جسدها. والقول بالتيمم لأشهب قاله صاحب البيان قال: وروى أشهب أنه يصب الماء عليها صباً، ولا يباشر جسدها بيده من فوق الثوب ولا من تحته. قال: وفي المسألة قول لابن حبيب أنه يغسلها وعليها ثوب، ويصب الماء فيما بينه وبينها، لئلا يلصق بجسدها، فيصف بابتلاله عورتها. قال: وظاهره أنه يفضي بيده في غسله إياها إلى جسدها، ومعنى ذلك عندي فيما عدا السرة والركبة، فلا يفضي بيده إلى ذلك منها دون أن يجعل عليه خرقة، إلا أن يضطر إلى ذلك كما يفعل الرجل بفرج الرجل في غسله؛ إذ لا يختلف في أن الفخذ والسرة من المرأة عورة، لا يحل أن ينظر إلى ذلك من لا يحل له الفرج باتفاق. انتهى. وانظر هل يتخرج في غسلها القول الثالث الذي ذكره المصنف؟
وفِي صَغِيرَةٍ بَيْنَ إِطَاقَةِ الْوَطْءِ وبَيْنَ الرَّضِيعَةِ ونَحْوِهَا قَوْلانِ
أي: إذا كانت مطيقة للوطء لم يجز الغسل اتفاقاً، وإن كانت رضيعة جاز اتفاقاً. واختلف فيما بينهما، فمذهب ابن القاسم أنه لا يغسلها، ومذهب أشهب أنه يغسلها.
ابن الفاكهاني: والأول مذهب المدونة. ابن أبي زيد: وهو أحب إلينا. واختلف هنا ولم يختلف في عكسها لأن تطلع الرجال على الصغيرة أقوى من تطلع النساء على الصغير.
ويُغَسَّلُ كَالْجَنَابَةِ، وفِي اسْتِحْبَابِ تَوْضِئَتِهِ قَوْلانِ، وعَلَى الْمَشْهُورِ فِي تَكْرَارِهِ بِتَكْرَارِ الغُسْلِ قَوْلانِ ....
فهم من قوله: (وعَلَى الْمَشْهُورِ) أن المشهور أنه يوضأ. وقال أشهب: في ترك وضوئه سعة. ابن حبيب: ويوضأ كما يوضأ الحي. التونسي: وأنكر سحنون تكرار وضوئه.
الباجي: وينبغي على القول بتكرار الوضوء ألا يغسل ثلاثاً بل مرة واحدة حتى لا يقع التكرار المنهي عنه. وإذا لم نقل بتكريره هل يثلث أو لا؟ وحكى الباجي عن ابن حبيب أن الوضوء يكون في الغسلة الثانية؛ لأن الأولى تنظيف، فينبغي أن يكون الوضوء بعد حصول النظافة.
فرع:
ويعصر بطنه عصراً رفيقاً. أشهب: وإذا عصر بطنه فيؤمر من يصب عليه الماء، ولا يقطع ما دام ذلك. ويغسل ما أقبل منه وما أدبر. ويلف على يده شيئاً كثيفاً لا يجد معه لين ما تمر عليه اليد، ثم يغسل تلك الخرقة ويغسل يده. ويأخذ خرقة أخرى على يده، ويدخلها في فمه لتنظيف أسنانه، قال: ويمضمض. ابن حبيب: ويدخل الماء في أنفه ثلاثاً.
فرع:
ولو غسل ثم خرج منه شيء لم يعد غسله، ولا وضوءه، بل يغسل المحل فقط.
المازري: وقال أشهب: يعيد الوضوء.
وفِي كَوْنِهِ تَعَبُّداً أَوْ لِلنَّظَافَةِ قَوْلانِ، وعَلَيْهِمَا اخْتُلفِ فِي غُسْلِ الذِّمِّيِّ، واخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ غُسْلِهِ بِالْمُطَهِّرِ دُونَ سِدْرٍ وكَافُورٍ وغَيْرِهِمَا .....
الظاهر: التعبد بدليل التيمم عند عدم الماء. والقول بالنظافة لابن شعبان، قال: ويجوز غسله بماء الورد، وماء القرنفل.
وقوله: (غُسْلِ الذِّمِّيِّ) أي: في تغسيل الذمي المسلم إذا لم يكن مسلم ولا امرأة من محارمه، فعلى التعبد لا يغسله، وهو قول أشهب، وعلى التنظيف يغسله. وعليه فقال مالك: يعلم النساء الذمي الغسل ويغسله. وقال سحنون: يغسل الكافر المسلم والكافرة المسلمة، ثم يحتاطون بالتيمم.
تنبيه:
وعلى القول بأن الغسل للتعبد فلا يحتاج إلى نية، وإنما يحتاج التعبد إلى نية إذا كان مما تفعله في نفسك، ذكره الباجي وابن رشد وابن راشد.
فرعان:
الأول: اختلفت إذا مات النصراني، هل لابنه المسلم أن يقوم بأموره ويتبعه إلى قبره؟ فقال مالك في العتيبية: لا أرى أن يقوم في أموره ولا يتبعه إلى قبره، وقد ذهب الحق الذي
كان يلزمه إلا أن يخاف أن يضيع. ابن القاسم: وهذا [105/ أ] أثبت ما سمعت من قول مالك، وبه آخذ. وقال ابن حبيب: لا يحمل المسلم نعش الكافر ولا يمشي معه ولا يقوم على قبره، ولو مات لمسلم كافر يلزمه أمره مثل الأبوين، والأخ، وشبه ذلك، فلا بأس أن يحضره ويلي أمره، ويكفنه حتى يخرج به إلى دفنه. وإن كفي دفنه وأمن الضيعة عليه فلا يتبعه، وإن خشي ذلك فليتقدمهم إلى قبره. وإن لم يخش ضيعته وأحب أن يحضر دفنه فليتقدم أمام جنازته، وإذا خشي عليه تقدمها، ولا يُدخلها قبرها إلا ألا يجد من يكفيه ذلك.
الفرع الثاني: قال في العتيبية: لا يعجبني أن يعزي المسلم في أبيه الكافر لقوله تعالى: {مَا لَكُم مِّن ولايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} . فلم يكن لهم أن يرثوهم وقد أسلموا حتى يهاجروا. وروى عن مالك أنه يعزي جاره الكافر بموت أبيه الكافر لذمام الجار، فيقول إذا مر به: بلغني الذي كان من مصابك، ألحقه الله بأكابر دينه، وخيار ذوي ملته. وقال سحنون: يقول له: أخلف الله لك المصيبة، وجزاك أفضل ما جزى به أحداً من أهل دينك. قال في البيان: وإذا جازت تعزية الكافر بالكافر، فتعزية المسلم بالكافر من باب أولى. خلاف ما قاله في التعبية قال: والتعزية لثلاثة أمور:
أحدها: تهوين المصيبة على المعزي وتسكينه وتسليته وتحضيضه على الصبر.
والثاني: أن يعوض الله من مصابه جزيل الثواب.
والثالث: الدعاء للميت. والكافر يمتنع في حقه الأخير. فيعزي المسلم في وليه الكافر، هذا معنى كلامه. قال: والآية التي احتج بها مالك على ترك التعزية منسوخة. قال عكرمة: أقام الناس برهة لا يرث المهاجر الأعرابي، ولا الأعرابي المهاجر لقوله تعالى:{مَا لَكُم مِّن ولايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}
حتى نزل: {وأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} ، فاحتج بالمنسوخ كما احتج لما اختاره من الإطعام في الفطر في رمضان بقوله تعالى:{وعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ، وهي منسوخة، وذلك إنما يجوز على القول بأن الأمر إذا نسخ وجوبه جاز أن يحتج به على
الجواز، وذلك مما اختلف فيه، واعتلاله بمنع الميراث ضعيف؛ إذا قد يعزي الحر بالعبد، ولا يتوارثان. انتهى.
قال مالك في المدونة: وإذا مات كافر بين مسلمين لا كافر معهم لفوه بشيء وواروه.
قال الليث وربيعة: لا يستقبل به قبلتنا ولا قبلتهم. ابن حبيب: وإذا ماتت ذمية حامل من مسلم فلتدفن مع أهل دينها، وإنما ولدها عضو منها حتى يزايلها. نقله ابن يونس.
وفِي كَرَاهَةِ غُسْلِهِ بِمَاءِ زَمْزَمَ قَوْلانِ، إِلا أَنْ تَكُونَ فِيهِ نَجَاسَةٌ
قال ابن شعبان: لا يغسل بماء زمزم ميت ولا نجاسة، وإنما يكره غسل الميت بماء الورد وماء القرنفل من ناحية السرف، وإلا فهو جائز. وقال ابن أبي زيد: ما ذكر في ماء زمزم لا وجه له عند مالك وأصحابه. وما ذكر في القرنفل ليس هو قول أهل المدينة، إن أراد أن يغسل بذلك وحده.
وقوله: (إِلا أَنْ تَكُونَ فِيهِ نَجَاسَةٌ) أعاده شيخنا وابن عبد السلام على قوله: (وفي وجوب غسله بالمطهر) أي: إلا أن تكون فيه نجاسة فلابد من المطهر، وكأنهما فرا من إعادته على ماء زمزم؛ إذ لو أعيد عليه لفهم على أنه اتفق على المنع منه، وليس كذلك؛ إذ ظاهر المذهب الجواز على ما قاله ابن أبي زيد. ومن المعلوم أن أم إسماعيل وابنها عليهما السلام ومن نزل عليهما من العرب حين لم يكن بمكة ماء غيره، لم يستعملوا في كل ما يحتاجون إليه سواه. قال اللخمي: وما ذكره ابن شعبان من أنه لا يجوز أن يغسل الميت بماء زمزم هو مبني على أصله أن الميت نجس.
والْوَاحِدَةُ تُجْزِئُ، وُيسْتَحَبُّ التِّكْرَارُ وِتْراً إِلَى سَبْعٍ، وإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الإِنْقَاءُ زِيدَ
قال ابن حبيب: السنة أن يكون وتراً. وكذلك غسل النبي صلى الله عليه وسلم، لم يحصل الإنقاء بسبع زيد على السبع من غير مراعاة وتر، قال مالك في الواضحة: ولا
يستحب اغتسال غاسل الميت. ونقل في النوادر عن مالك وابن القاسم وأشهب استحباب اغتسال غاسل الميت. وحكى في البيان قولاً ثالثاً بإيجاب الغسل، قال مالك في المختصر: وليس على حامل الميت وضوء. قال في كتاب ابن القرطي: من اغتسل عند الميت لم يكتف بذلك الغسل إن مات. قال مالك: ولا أحب للجنب غسل الميت، وذلك جائز للحائض. وأجاز محمد بن عبد الحكم للجنب أن يغسله، ورواه ابن نافع عن مالك.
قال في البيان: والأظهر الكراهة؛ لما جاء أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جنب، ولأنه يمكن طهره، قال ابن شعبان: وليكثر الغاسل من ذكر الله تعالى.
والتَّجْرِيدُ مِنَ الثِّيَابِ مَشْرُوعٌ
أي: مستحب؛ لأنه أنقى، ونبه به على خلاف الشافعية أن الميت لا ينزع قميصه.
[105/ ب] وفي أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي أراد أصحابه غسله.
قالوا: والله ما ندري أنجرده من ثيابه كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه؟ فقولهم: كما نجرد موتانا، دليل على أن ذلك عادتهم، وأن عدم تجريد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مخصوص به لشرفه ورفعته عن جميع خلق الله كلهم. قال ابن يونس: قال أصحابنا: واختلف لما غسل بالقميص، هل بقى عليه أو نزعوه؟ والحديث يدل على أنهم نزعوه، وهو قوله: كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة. انتهى.
وتُسْتَرُ الْعَوْرَةُ
هكذا قال في المدونة، وفهم اللخمي منه أن المراد السوءتان خاصة، قال: وقال ابن حبيب: من السرة إلى الركبة. واستضعف في التنبيهات قول اللخمي قال: وليس في الكتاب ما يدل على ما قاله. بل لو قيل فيه ما يدل على قول ابن حبيب لكان له وجه؛ لأنه قال بإثر ذلك: ويفضي بيده إلى فرجه إن احتاج إلى ذلك، فلو كانت العورة هي نفس
الفرج كما قال لما جاء بذكر الفرج بلفظ آخر. انتهى. واستحب ابن سحنون أن تُجعل على صدره خرقه. قال اللخمي: وهو أحسن فيمن طال مرضه. المازري: وأما غسل المرأةِ المرأةَ فالظاهر من المذهب أنها تستر منها ما يستر الرجل من الرجل من السرة إلى الركبة، وعلى قول سحنون تستر جميع جسدها؛ لأنه قال في المرأة تدخل الحمام أنها تدخل في ثوب يستر جميع جسدها انتهى.
والأَشْهَرُ أَنْ يُفْضِيَ الْغَاسِلُ بِيَدِهِ إِلَيْهَا إِنِ احْتِيجَ وإِلا فَبِخِرْقَةٍ وهِيَ مَسْتُورَةٌ
إن أمكن أن يغسل ما هنالك بخرقة فلا خلاف في منع المباشرة، وإن لم يمكن فقال ابن القاسم: يباشر باليد. وقال ابن حبيب: لا يباشرها إلا وبيده خرقة. وقول ابن حبيب أقرب، والقول بالإفضاء إنما يأتي على القول بوجوب بالغسل. والواو من قوله:(وهِيَ مَسْتُورَةٌ) للحال، ولفظة (هِيَ) عائدة على العورة. قيل: والخلاف إنما هو في غير الزوجين، وأما الزوجان فيباشر أحدهما عورة الآخر عند الضرورة.
ولا يُؤْخَذُ لَهُ ظُفْرٌ ولا شَعْرٌ
زاد في المدونة: وذلك بدعة ممن فعله. وصرح المازري بكراهيته، قال ابن حبيب وغيره: وإن سقط من ذلك شيء جعل في أكفانه. قال أصبغ وغيره: وينقي ما تحت الظفر من وسخ بعود أو غيره. سحنون: ويجوز قص أظفار المريض إذا كان يتأذى منه، وإن كان يُتَهَيَّأ بذلك إلى الموت فلا يفعل.
فرع:
قال ابن القاسم في العتبية: ويعمل بشعر المرأة ما أحبوا من لفه، وأما الظفر فلا أعرفه. وقال ابن حبيب: لا بأس بظفره. وقالت أم عطية: قد ضفرنا شعر بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث ضفائر، ناصيتها وقرنيها وألقي من خلفها.
والْمُقَدَّمُ الزَّوْجُ والزَّوْجَةُ ولَوْ كَانَ الْخِيَارُ لأَحَدِهِمَا عَلَى الْمَنْصُوصِ. وخَرَّجَهَا اللَّخْمِيُّ عَلَى الْخِلافِ فِي الْفَوْتِ بِالْمَوْتِ .....
لأن أسماء بنت عميس غسَّلت زوجها أبا بكر رضي الله عنهما، وغسَّلت أبا موسى زوجته، وغسَّل عليُّ فاطمة، وقالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل النبي صلى الله عليه وسلم إلا أزواجه. رواه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم ينكر عليها أحد.
أشهب: وتغسله زوجته وإن لم يبن بها. سحنون: وكذلك يغسلها هو. وهذا حكم النكاح الصحيح، وأما الفاسد مما يفسخ قبل البناء وبعده كالشغار فلا يغسل أحدهما الآخر، وإن كان مما يفسخ قبل البناء فقط غسل أحدهما صاحبه بعد البناء لا قبله.
وقوله: (ولَوْ كَانَ الْخِيَارُ لأَحَدِهِمَا) يريد: بشرط الإسلام. قال في النوادر: وليس للمسلم غسل زوجته النصرانية، ظ ولا تغسله هي إلا بحضرة المسلمين؛ إذ لا تؤمن من إذا خلت به، ونقله المازري أيضاً. قوله (وخَرُّجَهَا) أي: المسألة. ولفظ اللخمي: وإن ظهر بأحدهما عيب جنون أو جذام أو برص فلا غسل بينهما. وهذا يصح على قول ابن القاسم؛ لأنه يقول: إذا وقع الطلاق والموت فات موضع الرد. وأما على قول عبد الملك فإنه إذا مات الزوج وكان العيب به غسلته؛ لأن الإجازة خير لها فتأخذ الصداق من الميت والميراث، وإن كان العيب بها كان لأوليائه أن يقوموا بالعيب، ويمنعوها الميراث والصداق فلا تغسله، وإن كانت هي الميتة والعيب بها، وقام الزوج بالعيب ليسقط عن نفسه الصداق وكانت فقيرة لم يغسلها، وكذلك إذا كان العيب به وقام أولياؤها بالعيب ليمنعوه الميراث لم يغسلها.
المازري: في هذا التخريج عندي نظر؛ لأن الخيار إذا وقع برد العصمة بعد الموت، فهل يكون [106/ أ] رافعاً لها الآن، أو رافعاً لها من حين العقد؟ هذا أصل مختلف فيه،
فيخرج على هذه الطريقة الاختلاف في هذا الأصل، إلا أن يحتاط للغسل، فيرفع منه الخلاف فلا يباح. والظاهر من نصوص أصحاب هذه الطريقة أنهم يرون الاختيار إذا وقع بالرد، فكأن العصمة لم تكن في منع الميراث، وما في معناه من حقوق الزوجية. انتهى.
وكلام المصنف واللخمي يقتضي عموم الخلاف. وقال ابن عات: إن كان العيب بالحي لم يغسل الميت، وإن كان بالميت ففيه تنازع، والقياس منع الغسل. نقله ابن هارون.
فرع:
وفي حكم الزوجين، السيد وأمته، ومدبرته، وأم ولده، وضابطه أن إباحة الضبط إلى حين الموت يبيح الغسل من الجانبين، بخلاف المكاتبة والمعتق بعضها والمعتقة إلى أجل، ولا يقضي للأمة المدبرة على الأولياء باتفاق. وإذ قلنا بالغسل فالمشهور: يستر كل واحد منهما عورة صاحبه، خلافاً لابن حبيب: إلا أن يحتاج الغاسل منهما إلى معونة غيره، فليستر حينئذ بلا خلاف.
فرعان:
الأول: نص علماؤنا على أنه لا ينبغي أن يحضر مع الغاسل إلا من يعنيه.
الثاني: إذا أجزنا للمرأة غسل زوجها، فقال ابن الماجشون: لها أن تجففه وتكفنه، ولا تحنطه؛ إذ هي حاد إلا أن تضع حملها قبل ذلك إن كانت حاملا، أو تكون بموضع ليس فيه من يحنطه فلتفعل، ولا تمس الطيب إلا الميت.
وفِي الطَّلاقِ الرَّجْعِيِّ قَوْلانِ
المشهور: المنع. وقال ابن نافع بالجواز. واعلم أن الخلاف جار ولو قلنا أن الرجعية محرمة الوطء. ابن شاس: وروي عن ابن القاسم في العتبية أنه يغسلها وأنه يحدث بالموت
من إباحة الرؤية لها ما لم يكن في حال الحياة لحق الموارثة. ولو تزوج أخت زوجته فأجاز ابن القاسم في المجموعة أن يغسلها، ثم كرهه. وقال أشهب: أحب إلي ألا يفعل. وقال ابن حبيب: وللزوجة أن تغسل زوجها. وإن وضعت ما في بطنها وانقضت عدتها. قال ابن الماجشون: إذا وضعت على سريره فيجوز لها أن تنكح زوجاً غيره، ويجوز لها أن تغسله. انتهى. وانظر كلام ابن عبد السلام.
وفِي الْقَضَاءِ لَهُمَا: ثَالِثُهَا: يُقْضَى لِلزَّوْج دُونَهَا. وعَلَى الْقَضَاء لَوْ كَانَ الزَّوْجُ رَقِيقاً وأَذِنَ السَّيِّدُ فَقَوْلانِ .....
القضاء لابن القاسم وهو الظاهر؛ لأن من ثبت له حق فالأصل أن يقضي له به.
والثاني حكاه ابن بشير ولم يعزه. والتفرقة لسحنون؛ لأن الرجل له أولياء يغسلونه، فلو قضينا للزوجة لأسقطنا حقهم بخلاف العكس، فإن أولياءها لا يغسلونها.
اللخمي: وإن لم يكن للزوج ولي أو كان وعجز عن الغسل، أو أحب أن يجعل إلى غيره كانت الزوجة أحق، وقضى لها قولاً واحداً. انتهى.
قوله: (وعَلَى الْقَضَاء لَوْ كَانَ الزَّوْجُ رَقِيقاً) القضاء في العبد أيضاً لابن القاسم، ونفى القضاء لسحنون نظراً إلى عدم التوارث.
وإِذَا امْتَنَعَا أَنْ يُغَسِّلا أَوْ غَابَا فَلِلأَوْلِيَاء عَلَى تَرْتِيبِ الْوِلايَةِ
يعني: الزوج، والزوجة. وكلامه ظاهر
والْبِنْتُ وبِنْتُ الابْنِ لِلْمَرْأَةِ كَالابْنِ وابْنِهِ لِلرَّجُلِ
وهكذا ذكر المسألة اللخمي، وابن شاس، وابن بشير. وفي بعض النسخ: والبنت وبنت البنت، وعليها تكلم ابن راشد.
خليل: والنسخة الأولى أحسن؛ لأنه لا شك أن بنت الابن أولى من بنت البنت؛ لأنها تتوصل بالبنوة.
فروع:
الأول: قال سحنون: واسع غسل الميت بالماء وحده سخناً وبارداً.
الثاني: استحب أشهب السدر في تنظيف لحيته ورأسه على الغاسول، وغيره.
الثالث: قال ابن القاسم في المجدور ومن غمرته الجراح، ومن إذا مس انسلخ جلده: إنه يصب عليه الماء صباً، ويرفق به. قاله مالك. وقال مالك: ومن وجد تحت الهدم قد تهشم رأسه وعظامه، والمجرور، والمنسلخ فليُغسلا ما لم يتفاحش ذلك منهما. وإذا لم يوجد من الميت إلا مثل الرأس أو الرجل فلا يغسل، ولا يغسل إلا ما يصلي عليه. قاله مالك.
الرابع: قال ابن حبيب: لا بأس عند الوباء وما يشق على الناس من غسل الموتى لكثرتهم أن يجتزئوا بغسلة واحدة بغير وضوء، يصب عليه الماء صباً. ولو نزل الأمر الفظيع وكثر الوباء جداً وموت الغرباء فلا بأس أن يقبروا بغير غسل إذا لم يوجد من يغسلهم، ويجعل منهم النفر في قبر. وقاله أصبغ وغيره من أصحاب مالك.
المازري: وهذا الذي قاله ابن حبيب صحيح.
الخامس: لابد من تنشيف الميت قبل تكفينه، وهل ينجس الثوب الذي ينشف به أو لا؟ قولان مبنيان على نجاسة الميت. قال صاحب البيان وصاحب التنبيهات: والصحيح أن الآدمي لا ينجس بالموت.
السادس: [106/ ب] يستحب التكفين إثر الغسل، فإن غسل بالعشي وأخر التكفين إلى الغد فلا يعاد غسله وقد ترك الأولى. قاله ابن القاسم في العتبية.
ويَجِبُ تَكْفِينُ الْمَيِّتِ بِسَاتِرٍ لِجَمِيعِهِ، ويُوَارَي شَهِيدُ قِتَالِ الْعَدُوِّ فِي الْمُعْتَرَكِ فِي ثِيَابِه الَّتِي مَاتَ فِيهَا، فَإِنْ قَصَرَت عَنِ السَّتْرِ زِيدَ
…
أما وجوب التكفين فنص عليه المازري وصاحب المقدمات وغير واحد.
وأما قوله (لِجَمِيعِهِ) فهو ظاهر كلامهم. وفي التقييد والتقسيم أن الزائد على ستر العورة سنة.
وقوله (ويُوَارَي
…
) إلى آخره، أي: من غير غسل ولا صلاة. فإن قيل: فَلِمَ غُسِّلَ الأنبياءُ وصلي عليهم مع أنهم أكمل؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أن المزية بأمر لا تقتضي الأفضلية، ألا ترى ما ورد من أنه إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط، فإذا صلى أقبل يوسوسه. الثاني: أن الصحابة فهموا الخصوصية في شهيد المعترك فبقي ما عداه على الأصل، ولأن للشرع في إبقائهم على حالهم غرضاً، وهو البعث عليها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:"زملوهم بكلومهم، فإنهم يبعثون يوم القيامة، اللون لون دم، والريح ريح مسك". الثالث: تشريع وأسوة.
ودليل قوله: (فَإِن قَصَرتْ عَنِ السِّتْرِ زِيدَ) حديث مصعب بن عمير أنه قتل يوم أحد، ولم يترك إلا نمرة، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا بها رجليه بدا رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه شيئاً من الإذخر".
وفِي الدِّرْعِ والْخُفَّيْنِ والْقُلُنْسُوَةِ والْمِنْطَقَةِ قَوْلانِ
اتفق المذهب على أنهم لا يدفنون بالسلاح كالسيف والرمح والسكين. واختلف فيما ذكر. فرأى ابنُ القاسمِ الدرعَ من السلاح. فقال: ينزع. ولم يره مالك منه فقال: لا ينزع الثوب من الحديد الذى يقيه، ويدفن به إلا المنطقة. قال ابن القاسم: لا ينزع الفرو، ولا القنسوة، ولا الخفاف. وفى العتبية عن مطرف: ولا المنطقة إلا أن يكون لها خطب. وقال
أشهب: ينزع القنسوة والخفاف. قال فى البيان: ذهب مالك وابن نافع ومطرف إلى أنه لا يُنزع منهم شئٌ مما هو فى معنى اللباس، وإن لم يكن من الثياب قياساً على الثياب حاشا درع الحديد؛ لأنها من السلاح. وذهب ابن القاسم إلى أنه ينزع منهم ما عدا الثياب تعلقاً بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام:"زملوهم بثيابهم". انتهى.
ويُنْزَعُ الْخَاتَمُ بِفَصِّ ثَمِينٍ، وخَرَّجَهُ اللَّخْمِىُّ عَلَى الْمِنْطَقَةِ
تصوره ظاهر، وظاهر قوله:(بِفَصِّ ثَمِينٍ) أنه لا ينزع إذا كان فصه لا خطب له. وقد نص عليه ابن نافع في العتبية. ويتعرض على تخريج اللخمي بأن الخاتم ليس من السلاح في شيء، وأما المنطقة ففيها معونة على القتال، فأشبهت الدرع. ونص التونسي على أن النفقة اليسيرة في المنطقة لا تنزع، بخلاف الكثيرة كفص الخاتم.
وأَمَّا الْمَطْعُونُ والْغَرِيقُ وصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ والْمَبْطُونُ والْحَرِيقُ وذُو الْهَدْمِ وذَاتُ الْحَمْلِ فَكَغَيْرِهِمْ وإِنْ كَانُوا شُهَدَاءَ
…
أي: يغسلون ويكفنون، وهو ظاهر.
وقوله: (وذَاتُ الْحَمْلِ) يدل على أنه ينحو منحى من فسر قوله عليه الصلاة والسلام: "والمرأة تموت بجمع النفاس" وهو الأكثر والأظهر. قاله ابن عبد البر، قال: واختلف على هذا القول، هل ذلك سواء ماتت والولد في بطنها أم لا؟ ويشترط أن تموت والولد في بطنها وقد تم خلقه. وقيل: هي التي تموت بكراً لم يمسها الرجل. وقيل: هي التي تموت قبل أن تحيض وتطمث. وجمع بضم الجيم وكسرها.
وأَمَّا الْمُحْرِمُ فَكَغَيْرِهِ ويُطَيَّبُ
زاد في الجواهر: وكذلك المعتدة فهي كغيرها، فلا تصان عن الطيب. والأصل فيه العمل وانقطاع التكليف، وتعليله في الحديث بأنه يبعث ملبياً لا يأخذ منه تعميم ذلك
الحكم؛ لأن ذلك لا يعلم إلا بالوحي، والنبي صلى الله عليه وسلم لما علم أن ذلك المحرم يبعث ملبياً أمر بما أمر، ونحن لا نعلم ذلك. قال المازري وغيره: فيه تنبيه على خلاف الشافعي.
وأَقّلُّهُ ثَوْبٌ سَاتِرٌ لِجَمِيعِهِ، وأَكْثَرُهُ سَبْعَةٌ، ولا يُقْضَى بِالزَّائِدِ مَعَ مُشَاحَّةِ الْوَرَثَةِ إِلا أَنْ يُوصِيَ بِهِ، ولا دَيْنَ مُسْتَغْرِقٌ فَيَكُونَ فِي ثُلُثِهِ. وقِيلَ: يُقْضَى بِثَلاثَةٍ مُطْلَقاً.
الكفن من رأس المال، ويقدم على الدين. قال مالك: وإن كان الكفن مرهوناً فالراهن أحق به. قال في البيان: ولا خلاف في ذلك، والزائد على السبعة سرف. ولا يقضي بالزائد على الواحد مع مشاحة الورثة؛ لأن الزائد مستحب، والمستحب لا يقضى به. وقال عيسى: يجبر الغرماء والورثة على ثلاثة أثواب.
المازري: وهذا لا يقتضيه نظر إلا أن تجري به عادة. وقال ابن عبد السلام: هو الظاهر؛ لأنه غالب كفن الناس، وهو كلباسه في الحياة. ووقع لسحنون أنه قال إذا [107/ أ] أوصى بثوب واحد، فزاد بعض الورثة ثانياً أنه لا ضمان عليه إن كان في المال محمل. ابن بشير: وهو يشعر بأن الاقتصار على الواحد منهي عنه.
قال في البيان: ويكفن في مثل ما كان يلبسه في الْجُمَع والأعياد في حياته، ويقضى به عند اختلاف الورثة فيه.
قوله: (إِلا أَنْ يُوصِيَ بِهِ) فيكون في ثلثه. قال في الجواهر: لو أوصى بسرف في عدد الكفن، أو جنسه أو الحنوط أو غير ذلك، كان السداد في رأس المال. واختلفت الرواية في الزائد هل يسقط أو يلزم من الثلث؟ انتهى. واختار التونسي وغيره السقوط. قال صاحب البيان: وهو الصواب.
وخُشُونَتُهُ ورِقَّتُهُ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ، والاثْنَانِ أَوْلَى مِنْ الْوَاحِدِ، والثَّلاثَةُ أَوْلَى مِنَ الأَرْبَعَةِ
أي: يكفن بما جرت به عادته يلبسه في حياته؛ لأن النقص من ذلك، والزيادة عليه خروج عن المعتاد، وينبغي أن يكون الحكم كذلك في الحنوط، وما يتعلق بالدفن. ولما كان المطلوب في الكفن شيئين: الستر، والوتر، وكان الستر واجباً، والوتر مندوباً كان الاثنان أولى من الواحد؛ لأن الثاني مكمل للواجب، فإن كمال الستر لا يحصل بالواحد، وكانت الثلاثة أولى من الأربعة؛ لحصول الستر، والوتر في الثلاثة.
ولَوْ سُرِقَ بَعْدَ دَفْنِهِ فَثَالِثُهَا: إِنْ لَمْ يُقْسَمْ مَالُهُ أُعِيدَ
القول بلزوم الإعادة لابن القاسم، قال: علي ورثته أن يكفنوه من بقية تركته، وإن كان عليه دين محيط. ومقابله لأصبغ، والثالث لسحنون، ونص ابن عبد الحكم وابن سحنون على أنه إذا كفن ثم وجد الكفن الأول أنه ميراث. قال محمد بن عبد الحكم: إلا أن يكون على الميت دين فيكون للغرماء. وكذلك نص أبو العلاء البصري على عكس هذه المسألة، وهو إذا عدم الميت، وبقي الكفن كما لو أكلته السباع، أن يرجع للورثة.
وفِي الزَّوْجَةِ: ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَتْ فَقِيرَةً فَعَلَى الزَّوْجِ
أي: وفي كفن الزوجة. والقول بأنه على الزوج- وإن كانت موسرة- لمالك في الواضحة. وجعله من ملازم العصمة كالنفقة. والقول بأنه لا شيء عليه مطلقاً لابن القاسم. ونسبه ابن شاس لسحنون نظراً إلى انقطاع العصمة. والقول الثالث نسبه ابن شاس وابن راشد لمالك في العتيبة. ونسبه في الرسالة لسحنون، وهو استحسان غير قياس. قاله غير واحد.
وفِي كَفَنِ مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ كَالأَبِ والابْنِ قَوْلانِ
اللزوم لابن القاسم وابن الماجشون تبعاً للنفقة. وقال المازري: لا يتبع ذلك الإنفاق. وقال أصبغ: لا يلزمه ذلك إلا في عبيده. وصوَّب ابن حبيب اللزوم.
ويُكَفَّنُ الْفَقِيرُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ
هذا ظاهر، فإن لم يكن أو كان ولم يتوصل إليه فعلى المسلمين كسائر فروض الكفاية.
وفِي الْحَرِيرِ: ثَالِثُهَا: يَجُوزُ لِلنِّسَاء
يعني: أنه اختلف في جواز التكفين بالحرير وكراهته. والتفصيل على ثلاثة أقوال: والكراهة مذهب المدونة، ولفظها: يكره في كفن الرجالِ والنساءِ الخزُّ، والمعصفر، والحرير، ويكفن في العصب، وهو الحبر. والجواز رواه ابن وهب عن مالك. والتفصيل لابن حبيب. ولا يخفى عليك وجه كل قول، وانظر هل الكراهة التي في المدونة على المنع أو لا؟ وحمله اللخمي على المنع؛ لأنه نسب للمدونة المنع، وهو ظاهر كلام المصنف؛ لأنه لا يؤخذ من كلامه الكراهة. وهو أيضاً ظاهر كلام ابن الجلاب لقوله: ولا يكفن في خز، ولا وشي، ولا في ثوب نجس. أما العلم الحرير في الثوب فلا بأس بالتكفين فيه. رواه ابن القاسم.
وأَفْضَلُهُ الْبَيَاضُ والْقُطْنُ والكتان، ويَجُوزُ بِالْمَلْبُوسِ السَّاتِرِ ويُكْرَهُ السَّوَادُ
البياض أفضل لموافقته صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال الأصحاب: إن القطن أفضل؛ لأنه به كفن صلى الله عليه وسلم. فقد روى مالك أنه كفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية. والسحولية منسوبة إلى سحول؛ بلد باليمن. وقيل: سحول هو القطن. وقيل: السحولية: البيض. وفي حديث آخر يذكر البيض فيكون هو المراد. قوله أبي بكر رضي الله عنه: الحي أولى بالجديد من الميت؛ يوضح لك إجازة الملبوس.
أشهب: والكفن الخلق والجديد سواء. ابن عات وابن راشد: ونحو الأسودِ الأزرقُ والأخضر.
وفِي الْمُعَصْفَرِ قِوْلان
كرهه في المدونة؛ لأنه ليس بطيب، ومخالف للمشروع في الكفن وهو البياض، وأجازه في المجموعة. وأجازه ابن حبيب للنساء، وكرهه للرجال.
ويَجُوزُ بِالْوَرْسِ والزَّعْفَرَانِ
لأنهما من أنواع الطيب.
والْقَمِيصُ والْعِمَامَةُ مُبَاحٌ
المشهور من المذهب أن الميت يقمص ويعمم. وروى يحيى بن يحيى أن المستحب لا يقمص، ولا يعمم [107/ب] وحكى ابن القصار عن مالك كراهة التقميص، نقله المازري. وعلى المشهور، وظاهر الرسالة أن التعميم من قبيل الجائز؛ لقوله: ولا بأس أن يقمص الميت ويعمم. قال اللخمي وابن يونس: ومن المدونة قال مالك: من شأن الميت عندنا أن يعمم. فمقتضاه الاستحباب، وعليه فهمها اللخمي. مطرف: ويعمم تحت لحيته كما يعمم الحي، ويترك منها قدر الذراع ذؤابة تطرح على وجهه. وكذلك يفعل بخمار المرأة لأنه كالعمامة للرجل. وروى مطرف عن مالك أن أبلغ الأكفان وأحبها خمسة أثواب: قميص، وعمامة، ومئزر، ومدرجان. وروي عن مالك أنه استحب التكفين في ثلاثة أثواب؛ يريد غير العمامة والمئزر. قال: ولم يؤزر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عمم، وإنما كفن في ثلاثة أثواب، أدرج فيها إدراجاً. قال ابن القاسم في العتبية: وهو أحب إليّ. نقله ابن يونس. وفي كتاب ابن شعبان: ويخاط الكفن على الميت، ولا يترك بغير خياطة. أشهب: ويشد الكفن عند رأسه ورجليه، ثم يحل ذلك في القبر، وإن ترك عقده فلا بأس، ما لم تنتشر أكفانه.
ويُسْتَحَبُّ الْحَنُوطُ والْكَافُورُ أَوْلاً
الحنوط: ما يطيب به الميت، ولا بأس فيه بالمسك والعنبر والكافور أولاً، لأنه مع كونه طيباً يشد الأ‘ضاء.
ومَحَلُّهُ مَوْضِعُ السُّجُودِ ومَغَابِنُ الْبَدَنِ ومَرَاقُّهُ وحَوَاسُّهُ ورَاسُهُ ثُمَّ سَائِرُ الْجَسَدِ مِنْ تَحْتِ الْكَفَنِ لا فَوْقِهِ ....
فعل في مواضع السجود تشريعاً لها، وهي السبعة. ومغابن البدن لسرعة تغيرها وهي ما خفي من الجسد كالإبطين وتحت الركبتين، والمراق قريبة من المغابن.
عياض: وهي بفتح الميم وتشديد القاف: ما رق من جلده، كالمغابن، والإبط، وعكن البطن. وقال ابن اللباد: المراق: مخرج الأذى. وقال العتبي: هي ما بين الإليتين والدبر. وقال الهروي: هي ما سفل من بطنه ورفغيه، وما هنالك والمواضع التي رق جلدها. قال: وهذا قريب بعضه من بعض. والرفغ- بضم الراء وفتحها- أصل الفخذ، وما بينه وبين الفرج. انتهى. والحواس: الأذنان، والعينان، والفم، والأنف لما قد يخرج منها، ولهذا يلصق عليها القطن. قال سحنون: ويسد دبره بقطنة فيها طيب ويبالغ فيها برفق، وإن لم يكفِ الطيب جميع المواضع. فنقل ابن مزين عن ابن القاسم أنه يبدأ بالسواجد، والحذر الحذر مما يفعله بعض الجهلة من إدخال القطن داخل دبره. وكذلك يحشون أنفه، وفمه، وذلك لا يجوز.
ولا يُسْتَحَبُّ حَمْلُ أَرْبَعَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ
مذهب المدونة جواز حمل السرير على ما أمكن، ولا مزية لعدد على عدد. والشاذ لابن حبيب، وأشهب: يستحب حمل أربعة لئلا يميل. قال ابن حبيب: يستحب أن يحمل من الجوانب الأربعة، ويبدأ بمقدم السرير الأيسر- وهو يمين الميت- فيضعه على منكبه الأيمن، ثم يختمه بمقدمه الأيمن- وهو يسار الميت- قال: وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة. ونقل المازري عن أشهب أنه قال: يبدأ بمقدم الأيمن من الجانب الأيمن ثم المؤخر. قال المازري: يريد الأيمن، ثم المقدم الأيسر، ثم المؤخر الأيسر. انتهى.
ابن القاسم: ولا يترك ستر المرأة بقبة في حضر أو سفر إن أمكن. قال مالك: وأول من فعل بها ذلك زينب زوج النبي صلى الله عليه وسلم، واستحسنه عمر إذ ذاك. وقال الواقدي: أول من فعل به ذلك فاطمة رضي الله عنها.
ابن حبيب: ولا بأس بحملها على دابة إذا لم يوجد من يحملها.
أشهب: وحمل الصبي على الكف أحب إلي من حمله على الدابة والنعش. قال ابن القاسم في العتبية: كره مالك لمن على غير وضوء أن يحمل الجنازة، لينصرف إذا بلغت. ويكره إعظام النعش، وأن يفرش تحت الميت قطيفة حرير، ولا بأس بستر الكفن بثوب ساج، ولا بأس أن يجعل على كفن المرأة الرداء الوشي وغيره، ولا أحب الأحمر والملون. ولا يمشي بالجنازة الهويني، ولكن مشية الرجل الشاب في حاجته. ويكره أن يتبع الميت بمجمر. ولا يقرأ على الجنازة، ولا يصاح خلفها، ولا ينادى استغفروا لها. وسمع سعيد ابن جبير شخصاً يقول ذلك، فقال: لا غفر الله لك. قال مطرف عن مالك: ولم يزل شأن الناس الازدحام على حمل جنازة الرجل الصالح. ولقد انكسر تحت سالم بن عبد الله نعشان، وتحت عائشة ثلاثة.
ابن وهب: ولا بأس بحمل الميت من البادية إلى الحاضرة، ومن موضع إلى موضع آخر يدفن فيه. قال المازري: ظاهر المذهب جواز نقل الميت. وقد مات سعيد بن [108/أ] زيد، وسعد بن أبي وقاص، فحمل إلى المدينة؛ وهذه الفروع كلها من النوادر، وذكر ابن عبد البر أن سعد بن أبي وقاص حمل من قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، وحمل على أعناق الرجال. قال في البيان: والنداء بالجنازة في المسجد لا ينبغي، ولا يجوز باتفاق؛ لكراهة رفع الصوت في المسجد، وأما النداء على باب المسجد فكرهه مالك في العتبية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إياكم والنعي، فإن النعي من عمل الجاهلية". والنعي عندهم أن ينادَى في الناس: ألا إن فلاناً قد مات. واستخفه ابن وهب، وأما الأذان بها والإعلام من غير نداء فذلك جائز بإجماع. انتهى.
وفِي التَّشْييعِ: ثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ: الْمُشَاةُ يَتَقَدَّمُونَ، وأَمَّا النَّسَاءُ فَيَتَأَخَّرْنَ
يعني أنه اختلف: هل الأفضل المشي أمامها لأنهم شفعاء، أو خلفها لأن يعتبر في الموت أو يفصل –وهو المشهور- فيتقدم المشاة ويتأخر الركبان. قال ابن شهاب: المشي خلفها من خطأ السنة، وعليه العمل كالخلفاء. وحكى بعضهم رابعاً بالمشي أمامها إلى المصلى، ثم خلفها إلى القبر. وحكى في البيان خامساً بالتسوية، وهو قول أبي مصعب. وسادسها بأنهم يمشون خلفها إلا أن يكون ثم نساء فيمشون أمامها لئلا يختلط النساء والرجال، وأما النساء فيتأخرن باتفاق.
فرع:
قال في الجلاب: ولا بأس بالجلوس قبل وضع الجنازة، وليس على من مرت به جنازة أن يقوم. ومن صحبها فلا ينصرف حتى يأذن له أهل الميت، إلا أن يطول ذلك، فينصرف قبل الإذن. انتهى. والدليل على الفرع الأول ما قاله سحنون أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجلسون قبل أن توضع الجنازة عن الرقاب. ونبه بالفرع الثاني على خلاف من قال أنه يقوم لها.
التلمساني: وقال ابن الماجشون: القيام لها من عمل البر، ولا شيء على من تركه. قال في البيان: وكان في الأول يقومون للجنازة ثم نسخ. فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم للجنازة ثم جلس، ثم أمرهم بالجلوس. قال: وذهب ابن حبيب إلى أنه إنما نسخ الوجوب، فمن جلس فهو في سعة، ومن قام فمأجور، وأما القيام على الجنازة حتى تدفن فلا بأس وليس مما نسخ. انتهى. وأما كراهة الانصراف عنها قبل الصلاة فهو ظاهر المذهب، ورواه ابن القاسم عن مالك في العتبية. وفي البيان: وقال في سماع أشهب: لا بأس أن يحمل الرجل الجنازة فينصرف، ولا يصلي وهو اختلاف من قوله. انتهى.
ويَجُوزُ لِلْقَوَاعِدِ، ويَحْرُمُ عَلَى مَخْشِيَّةِ الْفِتْنَةِ، وفيهِمَا بَيْنَهُمَا الْكَرَاهَةُ إِلا فِي الْقَرِيبِ جِدّاً كَالأَبِ والابْنِ والزَّوْجِ ....
يعني: حكم النساء في التشييع على ثلاثة أقسام: يجوز للقواعد، وهن من قعدن عن المحيض لعلو السن، ويحرم على من خشي منها الفتنة، ويكره لمن فقد منها الوصفان؛ أي: قصر سنها عن القسم الأول، ولا يخشى منها الفتنة إلا أن تعظم مصيبتها لموت أبيها، أو أخيها، أو زوجها فتنتفي الكراهة، هذا قوله في المدونة، وشرط فيها إذا كان مثلها يخرج على مثله، وكره ابن حبيب خروج النساء مطلقاً.
خليل: وهذا عندي أصوب في زماننا.
والصَّلاةُ عَلَى الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ غَيْرِ الشَّهِيدِ وَاجِبَةً عَلَى الأَصَحِّ
أي: واجبة على الكفاية؛ وهو قول سحنون، وعبد الوهاب، ومحمد بن عبد الحكم، ومذهب الرسالة. قال القابسي: لم أجد لمالك فيها نصاً إلا أن إجازة مالك أن تصلى بتيمم الفريضة يدل على أنها ليست كالفرائض التي فرضها القرآن والسنة. قول أصبغ.
ابن محرز: والوجوب هو الأظهر من المذهب. المازري: وحكى ابن الجلاب أن مالكاً قال أنها واجبة. ولعل أبا الحسن لم يقف على هذا الذي حكاه ابن الجلاب. انتهى. وفي تلقين الشارقي أنها مستحبة؛ وحكاه ابن عيشون عن مالك. وإذا حمل على ظاهره كان في المسألة ثلاثة أقوال.
فرع:
إذا سقط حضور الجنازة لقيام غيره بها فذهب سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم إلى أن صلاة النوافل والجلوس في المساجد أفضل من شهود الجنازة مطلقاً. وذهب سليمان ابن يسار إلى عكسه مطلقاً. وفصل مالك فقال: الجلوس في المسجد أفضل، إلا أن يكون ممن له حق من جوار أو أحد ترجى بركة شهوده. قال ابن القاسم: وذلك في سائر المساجد. قال في البيان: وتفصيل مالك هو عين الفقه.
ولا يُصَلَّى عَلَى شَهِدٍ قَتَلَهُ الْعَدُوُّ
تصوره ظاهر. قال أصبغ وغيره: والمرأة [108/ب] والصبي كالذكر البالغ.
وإِنْ كَانَ فِي بلادِ الإِسْلامِ عَلَى الأَصَحِّ
يعني: لا يصلى على الشهيد إن قتله العدو في بلاد الإسلام على أصح القولين، وهو قول ابن القاسم، وابن وهب، وأشهب، وظاهر المدونة. ابن بشير: وهو المشهور. ورأى مقابل الأصح أن هؤلاء انحطت درجتهم عن درجة من دخل من المسلمين بلاد العدو، ونقله في الجواهر عن ابن القاسم، والمازري عن ابن شعبان.
ولَوْ كَانُوا نِيَاماً عَلَى الأَصَحِّ
يعني أنه اختلف: هل من شرط ترك الصلاة أن يحاربوا عن أنفسهم أولاً؟ فلا يصلى عليهم، ولو قتلوا نياماً على الأصح، وهو قول ابن وهب وأصبغ. ومقابله لابن القاسم في العتبية. ابن يونس: وبالأول أقول، وسواء كانت امرأة، أو صبي، أو صبية. وقاله سحنون، وهو وفاق لما في المدونة. انتهى.
ومَنْ أُنْفِذَتْ مَقَاتِلُهُ ولَمْ يَحْيَ حَيَاةً بَيِّنَةً فَكَذَلِكَ
أي: كالشهيد المقتول في المعترك لا يصلى عليه؛ لأن موته إنما كان من العدو.
وإِنْ لَمْ تَنْفُذْ فَكَفَيْرِ الشَّهِيدِ
أي: فيصلى عليه لاحتمال أن يكون موته من غير القتال.
وفِيمَا بَيْنَهُمَا قَوْلانِ
أنفذت ولكن حيا حياة بينة كاليوم وشبهه. قال في الجواهر: فإن رفع من المعترك ثم مات فالمشهور من قول ابن القاسم أنه يغسل ويصلى عليه، إلا أن يكون لم يبق فيه إلا ما
يكون من غمرة الموت، ولم يأكل، ولم يشرب. وقال سحنون: إن كان على حال يقتل قاتله بغير قسامة فهو في معنى الميت في المعترك، وإن كان لا يقتل قاتله إلا بقسامة غسل وصلي عليه. انتهى.
ونقل المازري عن أشهب أن الشهيد الذي لا يغسل ولا يصلى عليه من مات في المعترك، وأما من حمل إلى أهله فمات فيهم، أو حمل فمات في أيدي الرجال، أو بقي في المعترك حتى مات، فإنه يغسل ويصلى عليه. قال: وقال مالك: فإن عاش فأكل وشرب غسل وصلي عليه. وقال ابن القصار: إذا عاش يوماً فأكثر فأكل وشرب غسل وصلي عليه. ثم نقل عن سحنون القول المتقدم، ثم قال: فتلخص من هذا في أشكال الحياة اختلاف، فأشهب اعتبرها وأخرجه بها عن حكم الشهداء، وسحنون لم يعتبرها. وما حكيناه عن مالك وابن القصار متقارب. لكن ابن القصار لم يجعل مجرد الأكل والشرب علماً على الحياة هنا كما جعله مالك حتى حدده، فيمكن أن يكون مالك رأى مجرد الأكل والشرب كافياً في ثبوت الحياة، ولم يره ابن القصار حتى يقدر إليه الزمن الذي ذكره. انتهى.
ولَوْ كَانَ الشَّهِيدُ جُنُباً فَقَوْلانِ
يعني: أن سحنوناً اشترط في ترك الصلاة على الشهيد سلامته من الجنابة، وأما الجنب فيغسل ويصلى عليه. وقال أشهب وابن الماجشون: لا يشترط ذلك، فلا يغسل ولا يصلى عليه مطلقاً. قيل: وهو الأقرب.
فرع:
ولو وُجد بأرض العدو قتيل لا يدرون من قتله، فقال أشهب: يغسل ويصلى عليه.
سحنون: وإذا رموهم بأحجار أو نار، فوجد في المعترك من مات بأحد هذه الوجوه، ولا يدري هل قتله المسلمون أو المشركون هو محمول على أنه من فعل المشركين حتى يظهر خلافه.
ولا يُصَلَّى عَلَى مَنْ قَدْ صُلِّي عَلَيْهِ
هو المشهور. المازري: وقال الشافعي: تجوز إعادة الصلاة، كمن لم يصل عليه. وحكى ابن القصار ذلك عن مالك. ومال ابن العربي إلى الجواز.
ولا عَلَى مَنْ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ صَغِيراً كَانَ أَوْ كَبيِراً
قال في المدونة: ومن اشتَرى صغيراً من العدو أو وقع في سهمه، ثم مات صغيراً فإنه لا يصلى عليه، وإن نوى به سيده الإسلام إلا أن يجيب إلى الإسلام بأمر يعرف. انتهى. وذكر في البيان في الصغير من سبي أهل الكتاب هل يجبر على الإسلام أقوالاً.
مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك: لا يجبر، ولا يحكم له بحكم الإسلام حتى يجيب. قال: وقيل: إنه يجبر على الإسلام، وإن كان معه أبوه. وهو قول الأوزاعي، والثوري، وظاهر رواية ابن نافع عن مالك في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة. واختيار أبي عبيد، قال: لأن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه. وقيل: يجبر على الإسلام إلا أن يكون سُبي معه أبوه –كانا في بلد واحد أو لم يكونا- ولا يلتفت في ذلك إلى أمه؛ وهو قول المدنيين، وروايته عن مالك، ورواية معن بن عيسى. وقيل: إنه يجبر على الإسلام إلا أن يكون معه أحد أبويه فيكون تبعاً له ما لم تفرق بينهما الأملاك. وهو قول ابن الماجشون، قال: فإن مات قبل أن يجبر على الإسلام في الموضع الذي يجبر فيه فقيل: يحكم له بحكم الإسلام [109/ أ] لملك سيده إياه، وهو قول ابن دينار، ورواية معن بن عيسى عن مالك. وقيل: لا يحكم له بحكم بالإسلام حتى ينويه به سيده. قاله ابن وهب. وقيل: لا يحكم له بحكم الإسلام حتى يرتفع عن حداثة الملك شيئاً، ويزينه سيده بزي الإسلام، ويشرعه بشرائعه؛ وهو قول ابن نافع. وقيل: لا يحكم له بحكم الإسلام حتى يجيب إليه، ويعقل الإجابة ببلوغه حد الإثغار ونحو ذلك. وقيل: لا يحكم له بحكم الإسلام حتى يجيب إليه بعد البلوغ؛ وهو مذهب سحنون.
وأما الصغير من سبي المجوس فلا اختلاف أنه يجبر على الإسلام، إلا أن يكون معه أبواه، أو أحدهما في ملك واحد، أو أملاك متفرقة. وعلى ما تقدم من الخلاف في سبي أهل الكتاب فإن مات قبل الجبر فعلى ما تقدم من الاختلاف. واختلف في الكبير من سبي المجوس، هل يجبر على الإسلام أم لا؟ على القولين. ولم يختلف في الكبير من سبي أهل الكتاب أنه لا يجبر على الإسلام. ومذهب ابن حبيب فيما ولد للنصراني في ملك المسلمين مثل قول ابن القاسم أنه لا يجبر على الإسلام بخلاف السبي. وذهب أبو مصعب إلى أنه لا يجبر بالسبي، ويجبر فيما ولد في ملك المسلمين، عكس تفرقة ابن حبيب، فهذا تحصيل الخلاف في هذه المسألة. انتهى.
ولَوِ ارْتَدَّ مُمَيَّزْ فَقَوْلانِ، ولَوْ أَسْلَمَ ونَفَرَ مِنْ أَبَوَيْهِ فَقَولانِ
هذا الفرع كالبعض من الذي قبله. وفي المدونة قال: ومن ارتد قبل البلوغ لم تؤكل ذبيحته، ولا يصلى عليه بناء على الحكم بكفره. وقال سحنون: يصلى عليه لأنه يجبر على الإسلام ويورث. ونقل ابن عبدوس اتفاق الأصحاب على قتل أولاد المسلمين إذا ارتدوا وتمادوا على الردة بعد البلوغ؛ ذكره المازري. وقوله: (ولَوْ أَسْلَمَ) أي: أسلم ولد الكافر قبل بلوغه، (ونَفَرَ مِنْ أَبَوَيْهِ) فقيل: يصلى عليه نظراً لحالته الآن. وقيل: لا لأنه لو رجع إلى دين أبويه لم يقتل. وذكر المصنف في باب الردة أن الأصح الحكم بإسلام المميز.
وفِي الْمُبْتَدِعَةِ قَوْلانِ
قد تقدم في كفرهم وفسقهم قولان، ولا إشكال على القول بالتفكير أنه لا يصلى عليهم. ووقع لمالك أنه لا يصلى على القدرية والإباضية وقتلى الخوارج، ولا تتبع جنائزهم، ولا تعاد مرضاهم، وهذا إما لأنهم عنده كفار- وإلى تأويل المدونة على هذا ذهب بعضهم- أو لأنهم فساق، ولكن تركت الصلاة تأديباً لهم. وهو تأويل سحنون
وغير واحد، وهو أظهر في مختصر ابن شعبان؛ أنه لا يصلى على من ذكر بالفسق والشر، وروى بعض المدنيين عن مالك أنه قال: من ترك الجمعة لم أرغب في الصلاة عليه إذا مات. وفي المجموعة عن مالك يصلى على كل مسلم، ولا يخرجه من دين الإسلام حدث أحدثه، ولا جرم اجترمه.
وكذلك قال ابن حبيب: يصلى على كل موحد، وإن أسرف على نفسه بالكبائر. وأشار المازري إلى أن القول بأنه لا يصلى عليهم محمول على أنه نهي عن الرغبة في الصلاة على مثل هؤلاء، إذا قام يفرض الصلاة غيره، ولهذا قال مالك في رواية ابن وهب في الميت المعروف بالفسق والشر: لا تصلِّ عليه واتركه لغيرك. قال: وأما إن كان المراد نهي الكل عن الصلاة على مثل هؤلاء فهو خلاف مذهب الأئمة، فلا تحمل هذه الرواية عليه. وروى ابن شعبان بسنده في مختصره عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله، وصلوا على من قال: لا إله إلا الله. وذكر أيضاً بسنده عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال: من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله فصلِّ عليه، واستغفر له، وحسابه على الله. ولهذا الذي أشار إليه المازري أشار المصنف.
ويَنْبَغِي لأَهْلِ الْفَضْلِ اجْتِنَابُ الصَّلاةِ عَلَى مُظْهِرِ الْكَبَائِرِ
فخصص ذلك بأهل الفصل، وهذا هو قول مالك المتقدم خلافاً لابن حبيب. وإنما لم يصل عليهم أهل الفضل غيرة لله، وردعاً لأمثالهم.
وفِي الإِمَامِ فِيمَنْ قُتِلَ حَدّاً قَوْلانِ
يعني: وفي صلاة الإمام. والمشهور: العدم. والشاذ لابن نافع، وابن عبد الحكم. وسبب الخلاف: هل صلى عليه الصلاة والسلام على الغامدية؟ وروى اللخمي عكس المشهور، فأشار إلى أنه إذا أقيم عليه الحد فقد حصل له الردع، ومن مات ولم يحد فذلك
الذي يستحب للإمام التخلف عن الصلاة إليه. ونص أبو عمران على أن الإمام يصلي عليه إذا مات هذا المقدم للقتل خوفاً من القتل قبل إقامة الحد؛ لأن ترك الصلاة من توابع الحد. [109/ب] ونص في المدونة على أن الناس إذا قتلوا المحارب دون الإمام أن الإمام لا يصلي عليه.
ابن عبد السلام: وكلام المصنف غير واف بالمسألة؛ لأن من قتل قصاصاً يشارك المقتول حداً في هذا الحكم، وكلامه لا يعطي ذلك. فإن قيل: بل يعطيه لأن مراده بالحد العقوبة، وكأنه يقول من قتل عقوبة. قيل: الحد حقيقة عرفية في المعنى الذي ذكرناه، فمن أراد استعمالها في غير ذلك وجب عليه البيان. انتهى. وقوله:(قُتِلَ حَدّاً) يخرج من لم يكن حده القتل كالزاني البكر، والقاذف، ونحوهما، يموت بسبب ذلك، فقد نص في المدونة على أن الإمام يصلي عليه. قال المازري: وقد يتخرج على قول من يقول بترك الصلاة على أهل المعاصي ترك الصلاة على هذا. واختلف في علة ترك الإمام الصلاة على المشهور. فقيل: للردع والزجر، كما يكره لمن سواه من أهل الفضل الصلاة على أهل الكبائر. وقيده أنه ينتقم له بقتله، فلا يكون شافعاً له بالصلاة. انتهى.
قال في البيان: والأول: صحيح في المعنى إلا أنه لا يساعده قوله؛ لتفرقته فيه بين القتل وغيره. وفي الثاني نظر؛ إذ لا بعد في أنه ينتقم له منه بما شرعه في الدنيا، ويشفع له في العاقبة في الدار الآخرة.
ولا يُصَلَّى عَلَى سِقْطٍ مَا لَمْ تُعْلَمْ حَيَاتُهُ بَعْد انْفِصَالِهِ بِالصُّرَاخِ. وفِي الْعُطَاسِ، والْحَرَكةِ الْكَثِيرَةِ، والرَّضَاعِ الْيَسِيرِ قَوْلانِ. وأَمَّا الرَّضَاعُ الْمُتَحَقَّقُ، والْحَيَاةُ الْمَعْلُومَةُ بِطُولِ الْمُكْثِ فَكَالصُّرَاخِ ....
السقط: بضم السين، وفتحها، وكسرها، ثلاث لغات مشهورات، قاله غير واحد. قال في الجواهر: يورى بخرقة ويدفن. والخلاف فيما ذكره مبني على خلاف في حال. والمنصوص عن مالك أنه إذا عطس، أو تحرك، أو رضع لا يحكم له بالحياة.
ابن حبيب: ولو أقام يتنفس يوماً، ويفتح عينيه، حتى يسمع له صوت. وفيه نظر. وأشكل من ذلك قول يحيى بن عمران: إن أقام عشرين يوماً أو أكثر لم يصرخ ثم مات، فلا يغسل ولا يصلى عليه؛ لأن الميت يتغير في أقل من ذلك. ويسير الحركة لا تعتبر اتفاقاً، وكثير الرضاع يعتبر اتفاقاً. وقطع المازري بأن الرضاع لا يكون إلا من حي، وأنكره غيره. ابن الماجشون: والبول لا يدل على الحياة لاحتمال أن يكون من استرخاء.
ويُصَلَّى عَلَى جُلَّهِ، وفِيَمَا دُونَهُ قَوْلانِ
يصلى على الجل بلا إشكال. ووقع لأشهب: إن وجد بعض بدن مع الرأس لم يغسل ولم يكفن، ولم يصلَّ عليه، حتى يوجد أكثر بدنه. ونقله المازري. وقال ابن بشير: لا خلاف أنه يصلى على الجل، إلا ما عند ابن حبيب، فإنه قال: إذا كان الجسد مقطعاً فلا يصلى عليه. وعلل ذلك بأن الصلاة لا تكون إلا بعد الغسل، وهذا لا يمكن غسله. وقوله:(وفِيَمَا دُونَهُ قَوْلانِ) يشمل النصف ودون. وحكى ابن بشير الخلاف فيهما. ومذهب المدونة أنه لا يصلى على ما دون الجل.
المازري: وهو المشهور. والشاذ لابن حبيب جواز تغسيل العضو والصلاة عليه، ووجهه ما ذكره عيسى بن دينار في كتاب ابن مزين أن أبا عبيدة رضي الله عنه صلى على رأس وأيد بالشام. وقال ابن الماجشون: يصلى على الرأس إذا وجد. قال: لأن فيه أكثر الديات. واستشكل التونسي ترك الصلاة على النصف، فإن ذلك يؤدي إلى ترك الصلاة على النصف بأن ذلك مؤدٍّ لترك الصلاة بالكلية. قال في البيان: والعلة في ترك الصلاة على بعض الجسد عند مالك وأصحابه أن الصلاة لا تجوز على غائب، ويستخفوا إذا غاب منه اليسير؛ الثلث فما دون. انتهى. وبما علل صاحب البيان يندفع ما قاله التونسي. والله أعلم.
وفِي الصَّلاةِ عَلَى الْمَفْقُودِ مِنَ الْغَرِيقِ، ومَاكُولِ السَّبُعِ وشِبْهِهِ قَوْلانِ
القول بالصلاة لابن حبيب. واحتج بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي. وقال غيره من أصحابنا: لا يصلى عليه. قال في الجواهر: ويشترط حضور الجنازة، ولا يصلى على غائب. وقال ابن حبيب: يصلى على من أكلته السباع أو غرق.
ولا يُصَلَّى عَلَى قَبْرٍ
وفي بعض النسخ زيادة على المشهور. واحتج في المدونة بالعمل، ووجه الشاذ حديث المسكينة، وذكر في الجواهر رواية. وقال في البيان: وروى ابن القصار عن مالك إجازة ذلك ما لم يطل، [110/أ] وأقصى ما قيل فيه الشهر، وهو شذوذ في المذهب. انتهى. وعلى هذا فالشاذ الذي حكاه المصنف مقيد بما إذا لم يطل. وفي الاستذكار: روى ابن وهب: من فاتته الجنازة فليصلِّ على القبر إذا كان قريباً اليوم والليلة. على حديث المسكينة.
فَإِنْ دُفِنَ بِغَيْرِ صَلاةٍ فَقَوْلانِ، وعَلَى النَّفْيِ: فَثَالِثُهَا: يُخْرَجُ مَا لَمْ يَطُلْ
القول بالمنع لمالك في المبسوط، وقاله أشهب، وسحنون. سحنون: ولا أجعل ذلك وسيلة إلى الصلاة على القبر. وعلى الجواز جمهور أصحابنا، وهو مذهب الرسالة؛ لأن فيها: ومن دفن ولم يصل عليه. وروي فإنه يصلى على قبره. وعلى نفي الصلاة فقال مالك في المبسوط: لا يخرج، ويدعون له. والقول بأنه يخرج ولو بعد الطول لا أعلمه، وهو مشكل.
والذي حكاه ابن بشير أن هذا القول مقيد بما إذا لم يخش عليه التغيير، وهو قول سحنون، وقول عيسى، وروايته عن ابن القاسم. وكذلك حكى الباجي الثلاثة. والظاهر أنه لا يخرج مطلقاً كما اختار اللخمي؛ لإمكان أن يكون حدث من الله شيء.
ابن حبيب: ولو وضع الميت على شقه الأيسر، أو الحدوه على غير القبلة، أو ألحدوه منعكساً؛ رجلاه موضع رأسه، فإن عثر عليه بحدثان دفنه وقبل أن يخاف التغيير عليه
يحول، وإن لم يعثر عليه ولم يعلم حتى طال أمره وخيف عليه التغيير ترك. قاله ابن القاسم وأصبغ. ولو ذكر الإمام أنه صلى وهو جنب فإنها لا تعاد كالفريضة، ويكتفى بصلاة المأمومين لأنها تامة، ولا تعاد عليه من الإمام ولا من غ يره؛ لأنه لما صحت صلاة المأمومين لزم ألا تعاد على قاعدة المذهب، هكذا قال في العتبية. قال في البيان: ويدخل هنا من الخلاف ما في صلاة الفريضة إذا صلى الإمام ثم تبين له أنه حدث. ونص ابن القاسم في العتبية في امرأة نصرانية أسلمت وماتـ، فدفنت في قبور النصارى، على أنها تنبش وتخرج إلا أن تكون تغيرت. قال في البيان: وهذا لأن الكفار يعذبون في قبورهم وهي تتأذى بمجاورتهم؛ فوجب أن تنبش وتنقل لمقابر المسلمين.
وكَذَلِكَ مَنْ دُفِنَ ومَعَهُ مَالٌ لَهُ بَالٌ
أي: فتأتي الثلاثة الأقوال. وهكذا قال ابن بشير، فإنه قال بعد ذكره الخلاف المتقدم: ويلحق بهذا حكم من معه مال معتبر ثمنه، أو تمس الحاجة إليه. انتهى.
ويُكَبِّرُ أَرْبَعاً فَإِنْ زَادَ الإِمَامُ فَفِي التَّسْلِيمِ أَوِ الانْتِظَارِ قَوْلانِ
الذي أخذ به علماء الأمصار أربع تكبيرات حتى صارت الزيادة شعاراً لأهل البدع. قال في البيان: وانعقد الإجماع على ذلك في زمن عمر رضي الله عنه. قال ابن حبيب: واستقر فعله صلى الله عليه وسلم على الأربع، ومضى عليه عمل الصحابة. والقول بالسلام إذا زاد الإمام لمالك في العتبية. والآخر له في الواضحة، وقاله ابن وهب وابن الماجشون وأشهب.
فرع:
ولو أن مسبوقاً فاته بعض التكبير، فهل يتبع الإمام في هذه الخامسة معتداً بها قضاء لما فاته؟ فقال أصبغ: يكبر معه، ويحتسب بها. وقال أشهب: لا يكبر معه، وإن كبر فلا
يحتسب بها ويقضي جميع ما فاته. قال في البيان: وقول أشهب هو القياس على مذهب مالك. وقول أصبغ استحسان على غير قياس.
فَإِنْ سَلَّمَ بَعْدَ ثَلاثٍ كَبَّرَهَا مَا لَمْ يَطُلْ فَتُعَادُ مَا لَمْ يُدْفَنْ فَتَجِيءُ الأَقْوَالُ
لأن كلاً من الأربع تكبيرات ركن، فإذا رجع لإصلاح الصلاة مع القرب اقتصر على النية. ولا يكبر لئلا تلزم الزيادة في عدده، فإن كبر حسبها في الأربع. وقوله:(فَتَجِيءُ الأَقْوَالُ) أي: فيمن دفن ولم يصلَّ عليه، هل يصلى على قبره أم لا؟ وعلى النفي هل يخرج أم لا؟
وفِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ: ثَالِثُهَا: الشَّاذُ لا يُرْفَعُ فِي الْجَمِيعِ
تصوره ظاهر؛ يعني أنه اختلف هل يرفع المصلي يديه في التكبير على الجنازة على ثلاثة أقوال: الرفع في الجميع. وعدمه في الجميع. وفي الأول دون ما بقي. وقوله: (الشاذ) يقتضي أن القولين الباقيين مشهوران. وهكذا قال ابن بشير؛ لأنه قال: والقول بأنه لا يرفع في الجميع شاذ، والقولان الآخران في المدونة. انتهى. والرفع في الأولى أشهر من الرفع في الجميع، وهو قول ابن القاسم. والقول بالرفع في الجميع رواية ابن وهب، واختاره ابن حبيب قال: وكان مطرف، وأصبغ، وابن الماجشون يرون أنه يرفع في أول تكبيرة من غير كراهة للرفع فيها كلها. والقول بأنه لا يرفع في الجميع حكاه ابن شعبان.
وفِي دُخُولِ الْمَسْبُوقِ بَيْنَ التَّكْبيرَتَيْنِ أَوِ انْتِظَارِ التَّكْبيرِ قَوْلانِ
يعني: إذا وجد مسبوق الإمام قد كبر [110/ ب] وتباعد ذلك فهل يكبر ويدخل مع الإمام، أو ينتظر الإمام؟ فإذا كبر كبر معه. مذهب المدونة الانتظار، ورواه ابن الماجشون أيضاً وقال به، والآخر رواه مطرف وأشهب وقالا به. واختاره ابن حبيب بناء على أنه هل تتنزل التكبيرات منزلة الركعات في غير هذه الصلاة، فيكون الداخل حينئذٍ كالقاضي في حكم الإمام أم لا؟ فيدخل كما يدخل في صلاة العيد. وقال مالك في
المختصر: يدخل في الصلاة بالنية بغير تكبير، فإذا كبر الإمام كبر معه. المازري: واختار القابسي أن يكبر إن أدرك بعد تكبيرة تحميد الله، والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم، والدعاء بما تيسر قبل أن يكبر الإمام، وإن لم يمكنه ذلك ولو خفف فيه لم يكبر وانتظر الإمام. واعتل بأنه إذا لم يمكنه ذلك فإنه لم يحصل له سوى التكبير من غير دعاء. وإن استوى الحال كان التأخير أولى؛ ليقع القضاء بعد فراغ الإمام متوالياً.
وتعقب اللخمي هذا بقوله في المدونة: إن من فاته بعض التكبير يقضيه بعد فراغ الإمام متوالياً من غير دعاء، وإن كان كذلك كان التكبير وإدراك شيء من الدعاء الآن أولى من التأخير. اللخمي: وأما على القول بأنه يصلَّى على الغائب فيمهل حتى يكبر الإمام، فيكبر بتكبيره، فإذا سلم الإمام قضى ما فاته، ويدعو فيما بين ذلك وإن غابت الجنازة عنه.
ورد المازري الأول بأن مالكاً إ نما قال: يكبر تباعاً؛ لأنه لو لم يفعل ذلك فإذا ارتفعت عنه الجنازة كان في معنى الصلاة على الغائب، وإن لم ترتفع كان في معنى تكرير الصلاة على الميت بخلاف الآتي، وقد سبقه ببعض التكبير. فإن القابسي إنما اختار التكبير إذا أدرك ما أدرك لحصول المقصود من الصلاة، بخلاف ما إذا لم يدرك المقصود منها. ورد الثاني بأن من منع الصلاة على الغائب إنما قال ذلك إذا افتتحت الصلاة أولاً على الغائب بخلاف هذه.
خليل: وفي قول المازري وإن لم ترفع كان في معنى تكرير الصلاة على الميت نظر. فإن المنصوص في الجلاب وغيره أن من سبق ببعض التكبير إذا تركت له الجنازة لا يكبر تباعاً، بل يدعو كما قال يفعل أولاً. وعلى المشهور فقال في المجموعة: يدعو في انتظاره.
وفِي اسْتِحْبَابِ الابْتِداَءِ بِالْحمْدِ والصَّلاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَوْلانِ
المراد بالحمد هنا الثناء على الله تعالى لا سورة الحمد، والذي في الجلاب والرسالة وغيرهما من المختصرات الابتداء بالحمد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
والقول بنفي الاستحباب ذكره ابن بشير، وكذلك الشوشاوي فإنه قال: قال مالك مرة: ليس فيه إلا الدعاء من غير حمد، ولا ثناء لقوله عليه الصلاة والسلام:"أخلصوا له الدعاء". ثم رجع فاستحب دعاء أبي هريرة، وفيه حمد وثناء. انتهى.
وكذلك ذكر المازري عن بعض شيوخه أنه اعتقد أن المذهب على قولين. قال: وقد خرج مسلم حديث عوف بن مالك وليس فيه إلا الدعاء خاصة. ووجه إثباته أن الشرع ورد بأن يبتدئ كل أمر ذي بال بالتحميد. وفي الترمذي أنه عليه الصلاة والسلام أمر من يريد الدعاء أن يبتدئ بالحمد لله عز وجل والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو. وقد قال عمر رضي الله عنه: الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد منه شيء حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم.
المازري: وإذا قلنا بالبداية بالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فأشار بعض المتأخرين إلى أنه لا يقتصر فيه على التكبيرة الأولى. وقال بعضهم: واسع أن يقتصر عليه بعد الأولى وأن يعاد بعد كل تكبيرة. انتهى. ونقل ابن زرقون عن أبي بكر الوقار أنه قال: يحمد الله في الأولى، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية، ويشفع للميت في الثالثة.
وفِي الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ قَوْلانِ
قال ابن حبيب: يسلم من غير دعاء. وقال سحنون: يدعو ثم يسلم. وخيره صاحب الرسالة.
ولا يُسْتَحَبُّ دُعَاءٌ مُعَيَّنٌ اتِّفَاقاً ولا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ
هكذا قال ابن بشير أنه لا يستحب دعاء معين بلا خلاف. فإن قلت: يعارضه قول ابن أبي زيد: ومن مستحسن ما قيل في ذلك. وقوله في المدونة: أحب ما سمعته إلي. فالجواب: أما الرسالة فليس فيها دعاء مخصوص؛ إذ قال فيها قبله: ويقال في ذلك غير شيء، وذلك كله واسع. وأيضاً فالمستحب ما ثبت بنص، والمستحسن ما أخذ من
القواعد الكلية، وأما المدونة فإنما رجحه ولم يعينه. قوله:(ولا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ) أي: ولا تستحب قراءة الفاتحة على المشهور، والشاذ استحبابها. وفي الجواهر: لهذه الصلاة أربعة أركان: النية، والتكبيرات، والدعاء للميت، والسلام. وزاد أشهب وابن مسلمة قراءة الفاتحة عقيب التكبيرة الأولى.
ابن رشد: وكان شيخنا القرافي يحكي عن أشهب الوجوب، ويقول: إنه يفعله. [111/ أ] واحتج بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". انتهى. ودليلنا ما قاله مالك: ليس العمل على القراءة فيها. قال ابن حبيب، والمازري، وغيرهما: روي ترك القراءة عن عمر، وعلي، وابن عمر، وجابر، وأبي هريرة، وكثير من الصحابة، والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.
فروع:
الأول: إذا والى التكبير ولم يدع. فقال مالك في العتيبة: تعاد الصلاة ما لم يدفن، كالذي يترك القراءة في الصلاة. ابن حبيب: إلا أن يكون بينهما دعاء وإن قل.
الثاني: إذا صلى على جنازة يظنها امرأة فإذا هي رجل أو العكس، فدعا على ما يظنه، فصلاته تامة.
الثالث: لو صلى على الميت ونعشه منكوس –رأسه مكان رجليه- لم تعد الصلاة عليه.
الرابع: لو ذكر إمام الجنازة أنه جنب، أو رعف، فحكمه حكم المكتوبة في الاستخلاف، وقاله في العتبية.
الخامس: إذا ذكر صلاة في صلاة الجنازة، فقال ابن القاسم: لا يقطع. وفرق في البيان بين هذه وبين من ذكر صلاة في صلاة أن الترتيب فيما قل لازم، ولا ترتيب فيما بين صلاة الفريضة وصلاة الجنازة. ومثل قول ابن القاسم هذا حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون، ولم يحك في ذلك خلافاً.
السادس: إذا قهقه الإمام أبطل عليه وعليهم، قاله في العتبية.
السابع: إذا جهلوا القبلة، ثم علموا بذلك قبل دفنها أو بعده، فقال ابن القاسم في العتبية: إن دفنوها فلا شيء عليهم، وإن لم يدفنوها فإني أستحسن أن يصلى عليها قبل الدفن، وليس بواجب. وفي البيان: رأى أشهب الإعادة ما لم تدفن. وسحنون لا يرى ذلك، ويرى أن بالسلام منها قد انقضت، ومن جهل القبلة يعيد في الوقت، ولا وقت هنا. ورأى أشهب أن حضور الجنازة كحضور الوقت ودفنه كفواته، واستحبّاب ابن القاسم الإعادة ما لم تدفن راجع إلى إسقاط وجوب الإعادة كقول سحنون. انتهى بالمعنى.
الثامن: من مات في البحر غسل وكفن، وصلي عليه، وأُنْظِرَ به البر إن طمع في إدراك ذلك اليوم وشبهه ليدفنوه، وإن كان البر بعيداً، وخافوا عليه التغيير، رمي في البحر مستقبل القبلة منحرفاً على شقه الأيمن. قال ابن حبيب: وتشد عليه أكفانه. قال ابن القاسم وأشهب: ولا يثقلوا رجليه بشيء ليغرق، كما يفعل من لا يعرف. وقال سحنون: يثقل بشيء إن قُدر. واحتج من لم ير التثقيل بأنه ربما ألقاه البحر إلى الساحل فيدفنه المسلمون، وفي تثقيله قطع لما يرجى له من الدفن.
وفِي الْجَهْرِ بالسَّلامِ قَوْلانِ
هذا الخلاف إنما هو في حق الإمام، وأما المأموم فإنه يسر. والمشهور: الجهر. قال في المدونة: ويسلم إمام الجنازة واحدة عن يمينه يسمع نفسه ومن يليه، ويسلم المأموم واحدة يسمع نفسه فقط، وغن أسمع من يليه فلا بأس. وروي عن مالك أن الإمام يسر أيضاً.
المازري: ووجهه أن صلاة الجنازة ركن جرد عن الصلاة المعهودة، فلم يجهر فيها بالسلام؛ كسجود التلاوة، وعلى هذا فيعرف المأموم انقضاء صلاته بانصراف الإمام. وقال أشهب: يسلم الإمام تسليمتين عن يمينه وعن يساره، ويسلم القوم كذلك. والمشهور أنه
لا يرد المأموم على الإمام، وهو مذهب المدونة. وروى ابن غانم في العتبية، وابن حبيب في الواضحة أنه لا يرد على الإمام إلا من سمعه. المازري: وأشار بعض المتأخرين إلى أنه يمكن إجراء هذا الخلاف على جهر الإمام وإسراره، فعلى الجهر يرد عليه وإلا فلا.
وإِذَا اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُ جَازَ أَنْ تُجْمَعَ فَيُجْعَلَ الذُّكُورُ الأَحْرَارُ البَالِغُونَ مِمَّا يَلِي الإمَامُ، الأَفْضَلُ فَالأَفْضَلُ ثُمَّ الصِّغَارُ ثُمَّ الأَرِقَّاءَ ثُمَّ الخَنَاثّى ثُمَّ أَحْرَارُ النِّسَاء ثُمَّ صِغَارُهُنَّ ثُمَّ أَرِقّاؤُهُنَّ كَذَلِك.
قوله: (وإِذَا اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُ) يريد: والأجناس مختلفة؛ لأنه سيتكلم على الجنس الواحد. وقوله: (جَازَ أَنْ تُجْمَعَ) يعني في صلاة واحدة. قال في الجواهر: ويجوز أن تفرد كل جنازة بصلاة. وقوله: (الأَفْضَلُ فَالأَفْضَلُ) قال في الجواهر: ويقدم بالخصال الدينية التي ترغب في الصلاة عليه، فإن تساووا في الفضل رجح بالسن، فإن تساووا أقرع بينهم إلا أن يتراضى الأولياء على أمر. وقوله:(ثُمَّ الصِّغَارُ) اعلم أن المراتب اثنا عشر، وهذه كيفيتها:
أحرار
…
أحرار
…
خنثى
…
خنثى
…
خنثى
…
خنثى
…
نساء
…
نساء
إمام
…
ذكور
…
ذكور
…
عبيد
…
عبيد
…
أحرار
…
أحرار
…
عبيد
…
عبيد
…
حرائر
…
حرائر
…
إماء
…
إماء
بالغون
…
صغار
…
بالغون
…
صغار
…
بالغون
…
صغار
…
بالغون
…
صغار
…
بالغات
…
صغار
…
كبار
…
صغار
[111/ب] وهذه الاثنا عشر ذكرها صحاب البيان هكذا. وذكر المازري أنه يقدم الخصي على الخناثي فتكون ست عشرة مرتبة، ونقل عن ابن القاسم تقديم بالغي العبيد على صغار الأحرار لجواز إمامتهم، ونقل أيضاً عنه تأخير صغار الذكور الأرقاء عن الحرائر، وهذا الترتيب من المستحبات.
فَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحدٍ جَازَ أَيْضاً أَنْ تُجْعَلَ صَفّاً واحداً
يعني: أن الجنائز إذا كانت جنساً واحداً جاز فيها واحداً جاز فيها ذلك، وجاز فيها أيضاً أن تجعل صفاً واحداً، ويقف الإمام عند أفضلهم، وعن يمين المصلي الذي يليه في الفضل؛ رجل
المفضول عند رأس الأفضل، ومن دونهما في الفضل عن شماله؛ رأٍه عند رجلي الأفضل، فإن كان رابعاً دون هذه الثلاثة جعل عن يساره رأسه عند رجلي الثالث في الذكر، ومقتضى كلام المصنف وصاحب الجواهر أن الصف مختص بالصنف الواحد، وكذلك قال اللخمي. وقال في البيان: إن كثرت جنائز الرجال أو النساء، أو الرجال والنساء، فإنهم يجعلون سطرين أو أكثر قولاً واحداً. وإن كانت الأسطر وتراً وهو الاختيار قام الإمام في وسط الأوسط منها، وإن كانت شفعاً قام فيها بين رجلي الذي عن يمينه، ورأس الذي عن يساره، ويكون الأفضل منهم الذي عن يمينه، ثم الذي يليه في الفضل عن شماله، ثم ينتقل إلى الصف الذي أمامه على هذا الترتيب، ثم إلى الذي بعده على هذا أبداً. وأما إذا قل عدد الجنائز، فكانوا اثنين، أو ثلاثة، أو نحو ذلك. وقال ابن حبيب: إلى ما دون العشرين. فكان مالك أول زمانه يرى الأحسن أن يجعل واحداً أمام واحد إلى القبلة؛ وهي رواية ابن كنانة، ثم رأى ذلك كله سواء أن يجعلوا سطراً واحداً من المشرق إلى المغرب، أو يجعل واحداً أمام واحد إلى القبلة، ولم يفضل إحدى الصورتين على الأخرى، وهذا الاختلاف قائم من المدونة. انتهى.
ويُقَدَّمُ الأَفْضَلُ مِنْ أَوْلِيَائِهَا، فَإِنْ تَسَاوَوْا فَالْقُرْعَةُ
وهو ظاهر. وهو يشمل ما إذا اتحدت الجنائز، أو تعددت بدليل قوله:
وفِي تَقْدِيمِ وَلِيِّ الذَّكَرِ وإِنْ كَانَ مَفْضُولاً قَوْلانِ. قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: مَاتَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِي امَرَأَةُ عُمَرَ وابْنُهَا زَيْدٌ رضي الله عنهم فِي فَوْرِ وَاحِدٍ، فَكَانَ فِيهِمَا ثلاثُ سُنَنٍ لَمْ يُوّرَّثَا، وحُمِلا مَعاً، وجُعِلَ الْغُلامُ مِمَّا يَلِي الإِمَامَ، وقَالَ الْحَسَنُ لابْنِ عُمَرَ: صَلِّ. لأَنَّهُ أَخُو زَيْدٍ ......
إذا اجتمعت جنازة رجل وجنازة أنثى فإن كان ولي الذكر أفضل فلا خلاف في تقديمه، وإن كان مفضولاً فالمنقول عن مالك تقديم ولي المرأة الأفضل. وقدم ابن
الماجشون ولي الرجل، واحتج بتقديم الحسن لعبد الله في الصلاة. ومنشأ الخلاف هل يرجح الولي نفسه أو الميت؟ وقول مالك أولى. ولو كان المعتبر فضل الميت لقدم ولي أفضل الذكرين وإن كان مفضولاً، وإنما يتم احتجاج عبد الملك؛ لو كان قوله:(لأَنَّهُ أَخُو زَيْدٍ) من كلام الحسن، وبه يتم أربع سنن، قال صاحب البيان وغيره: ولا حجة في القصة المذكورة، وإنما تحصل الحجة لو كان المقدم لعبد الله غير الحسن، كالخليفة أو غيره من الصحابة، وإلا فالحسن لكماله في الفضل يرى لعبد الله فضلاً عليه، ولا يرى لنفسه فضلاً، ويحضره في باله حينئذٍ سن ابن عمر وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالصلاح، وحضور المشاهد له في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، وزهده في الخلافة بعد أن عرضت عليه مرتين. ابن راشد: وكلثوم مأخوذ من الكثلمة؛ وهي الحسن. وما ذكره من أن السنن ثلاثة ذكره غيره أنها خمس. قال: لأنهما دفنا في قبر واحد، وجعل الولد مما يلي القبلة.
فرع:
ولو سها الإمام فنوى إحدى الجنازتين، ونواهما من خلفه، فقال في العتبية: تُعاد الصلاة على من لم ينوها الإمام، دفنت أو لم تدفن.
ويُقَامُ عِنْدَ وَسَطِ الْجِنَازَةِ، وفِي مَنْكِبَي الْمَرْأَةِ قِوْلانِ
المشهور عند منكبيها. ومقابل المشهور قول ابن مسعود؛ ذكره في المدونة، والقول بأنه يقف عند وسط المرأة أيضاً لمالك. وكذلك روى البخاري عنه عليه الصلاة والسلام. وقال ابن شعبان: حيث وقف الإمام من الجنازة في الرجل والمرأة جاز. قال القابسي: والذي في المدونة عن ابن مسعود في إسناده نظر، وفيه رجل مجهول، عن إبراهيم، وإبراهيم لم يدرك ابن مسعود، وهو مخالف للحديث الذي أخرجه أهل الصحيح. ويقال وسط بسكون السين، وفتحها.
ويُجْعَلُ رَاسُهُ عَنْ يَمِينِ الْمُصَلَّى
واضح
ووَصَيٌّ الْمَيِّتِ أَوْلَى بالصَّلآةِ إِنْ قُصِدَ الْخَيْرُ وإِلا فَالْوَلِيُّ
يعني: أن الوصية بالصلاة على الميت لها مدخل في ذلك، وزيادة التقدم على الأولياء، لكن بشرط أن يقصد الميت الخير في الموصى له وبركة دعائه فحينئذٍ يكون مقدماً على الولي، لا إن قصد مراغمة الولي لعداوة [112/أ] بينهما ونحوها. مالك وسحنون، وابن حبيب، وغيرهم: ويقدم الوصي على الولي. وما زال الناس يختارون بجنائزهم أهل الفضل من الصحابة والتابعين.
وإِذَا اجْتَمَعَ الْوَلِيُّ والْوَالِي فَالْوَالِي الأَصْلُ –لا الْفَرْعُ- أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ الْخُطْبَةِ فَقَوْلانِ لابْنُ الْقَاسِمِ وغَيْرِهِ
…
لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤَمَّنَّ أحدُكُمْ في سُلْطانِه". ولا إشكال في هذا في الخليفة، وأما الفرع فلا إلا أن يكون صاحب الخطبة. فمذهب ابن القاسم وروايته عن مالك؛ وهو قول سحنون تقدمته حينئذٍز ولا يقدم أيضاً عندهما إذا كانت له الخطبة والصلاة دون أن يكون أميراً، أو قاضياً، أو صاحب شرطة، أو أميراً على الجند.
وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أن ذلك لكل من الخطبة إليه واصللاة، وإن لم يكن إليه حكم. قال في البيان: ولا يوجد ذلك لابن القاسم نصاً، وظاهر ما في سماع أبي الحسن عن ابن وهب أن القاضي أحق بالصلاة على الجنازة من الأولياء وإن لم تكن إليه الصلاة. وقال مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ: ليس للواحد من هؤلاء في الصلاة على الجنازة حق سوى الأمير الذي تؤدي إليه الطاعة. قال في البيان بعد ذكر هذه الأربعة الأقوال: ولا اختلاف في أنه لا حق في الصلاة على الجنائز لمن انفرد بالصلاة دون الخطبة والقضاء، أو بالحكم دون القضاء والخطبة والصلاة. انتهى.
ابن عبد السلام: والظاهر أن الأولياء إذا أحضروا الجنازة موضع الصلاة والخطبة فإنه يقدم الوالي، وإن لم يحضروها هنالك بل صلوا عليها في موضع في محل الدفن أو غيره فحضر الوالي الفرع فهم أولى منه.
وإِذَاَ لَمْ يَكُنْ إِلا نِسَاءً صَلَّيْنَ أَفْذَاذاً عَلَى الأَصَحِّ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ عَلَى الأَصَحِّ
يعني: إذا لم يحضر الميت إلا نساء فالأصح أنهن يصلين أفذاذاً، ومقابله نقله اللخمي عن أشهب أنهن يصلين جماعة، وهو إما على رواية ابن أيمن، وإما لأنهن محل ضرورة، وإذا قلنا بصلاتهن أفذاذاً فهل واحدة بعد واحدة أو مجتمعات؟ قولان: قال المصنف: أصحهما الأول. والذي يظهر الثاني؛ لأن فيما اختاره المصنف تأخيراً للميت والسنة تعجيله؛ ولأن صلاة واحدة بعد واحدة في معنى تكرير الصلاة على الميت، والمذهب خلافه.
وتَرْتِيبُ الْوِلايَةِ كَالنِّكَاحِ
تصوره ظاهر. فلو رد الأقعد الصلاة إلى أجنبي، وأبى ذلك من دونه، فقال ابن حبيب: لا كلام للأبعد كالنكاح. وقال أصبغ، وابن الماجشون، وابن عبد الحكم: له الكلام. واحتج له بعض الناس بالحضانة.
واللَّحْدُ أَفْضَلُ مِنَ الشَّقِّ إِنْ أَمْكَنَ
اللحد أفضل؛ لأنه الذي اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم. وقوله: (إن أمكن) أي: بأن تكون تربةً صلبة لا تتهيل. واللحد معلوم، قال في الجواهر: وليكن في جهة القبلة. والشق: أن يحفر في وسط القبر قدر ما يسع الميت.
ويُكْرَهُ بِنَاءُ الْقُبُورِ فَإنْ كَانَ لِلْمُبَاهَاةِ حَرُمَ، وأَمَّا الْبِنَاءُ لِقَصْدِ التَّمْييزِ فَقَوْلانِ
يعني: أن البناء إما أن يكون لقصد المباهاة أو التمييز أو لا يقصد به شيئاً، فالأول: حرام، وهكذا نص عليه الباجي. والثالث: مكروه. والثاني: مختلف فيه بالجواز والكراهة.
قال ابن بشير: القولان حكامهما اللخمي. وأخذ الكراهة من إطلاقه في المدونة، والجواز في غيرها، قال: والظاهر أن القصد للتمييز غير مكروه، وإنما كره في المدونة البناء الذي لا تقصد به العلامة. وإلا فكيف يكره ما قصد به معرفة قبر وليه؟! ولم يصرح ابن بشير بتحريم القسم الأول، بل قال: والظاهر أنه محرم مع هذا القصد.
ووقع لمحمد بن عبد الحكم فيمن أوصى أن يبنى على قبره بيتاً، أنه تبطل وصيته. وقال: لا تجوز وصيته وأكرهه. وظاهر هذا التحريم، وإلا لو كان مكروهاً لنفذت وصيته، وأجاز علماؤنا ركز حجر أو خشبة عند رأس الميت ما لم يكن منقوشاً. المازري: لأنه صلى الله عليه وسلم وضع بيده الكريمة حجراً عند رأس عثمان بن مظعون. وقال: "أعرف بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي". وكره ابن القاسم أن تجعل على القبر بلاطة ويكتب فيها. وأما تحويز موضع الدفن بناءً فقالوا: جائز ما لم يرفع فيه إلى قدر يأوي إليه بسبب ذلك أهل الفساد، وإن فعل ذلك أزيل منه ما يستر أهل الفساد ويترك باقيه كذا نقل ابن عبد السلام. وفي التنبيهات: اختلف في بناء البيوت عليها، إذا كانت في أرض غير محبسة، وفي المواضع المباحة، وفي ملك الإنسان فأباح ذلك ابن القصار، وقال غيره: ظاهر المذهب خلافه. انتهى.
وأما الموقوف كالقرافة التي بمصر فلا يحل فيها البناء مطلقاً، ويجب على ولي الأمر أن يأمرهم بهدمها حتى يصير طولها عرضاً، وسماؤها أرضاً.
وإِذَا حُفِرَ قَبْرٌ فِي مِلْكٍ أَصْلِيٍّ فَدُفِنَ مُتَعَدِّ فِيهِ فَلِلمالِكَ إِخْرَاجُهُ
يعني: من حفر قبراً في أرض [112/ ب] مملوكة فتعدى أجنبي فدفن فيها، فإنه يخرجه المالك إن شاء. ابن هارون: وإنما يخرج بالفور، فإن طال لم يخرج.
وإِنْ كَانَ فِيمَا يُمْلَكُ فِيهِ الدَّفْنُ خَاصَّةً لَمْ يُخْرَجْ. وثَالِثُهَا: يَجِبُ عَلَيْهِمْ مَا يَخْتَارُونَهُ مِنْ حَفْرٍ أَوْ قِيمَةِ حَفْرٍ. ورَابُعهَا: مَا يُخْتَارُ عَلَيْهِمْ.
يعني: إن كانت الأرض حبساً للدفن فحفر فيها رجل قبراً، وجاء آخر فدفن فيه، فإنه لا يخرجه ولا إشكال، واختلف فيما يجب عليه على أربعة أقوال: الأول: أن عليهم قيمة الحفر. والثاني: أن عليهم حفر قبر آخر مثله. والثالث: أن عليهم ما يختاره أهل الميت منهما. وإليه أشار بقوله: (وثَالِثُهَا: يَجِبُ عَلَيْهِمْ مَا يَخْتَارُونَهُ مِنْ حَفْرِ أَوْ قِيمَةِ حَفْرٍ) ففهم منه أن الأول وجوب القيمة، والثاني وجوب الحفر، والثالث أن عليهم ما يختاره أهل القبر. والقول بقيمة الحفر لابن اللباد، والقول بأنعليهم حفر قبر آخر مثله لسحنون، والقول بالأقل للقابسي، والقول بالأكثر للخمي قال: والقياس أن يكون عليه الأكثر. قال ابن بشير: وأصل المذهب القيمة.
خليل: انظر هل يجوز ذلك ابتداء أو لا؟ والأقرب عدم جوازه؛ لأنه لا يدري هل يموت هنالك أو لا؟ وقد يموت بغيره، ويحسب غيره أن في هذا القبر أحداً فيكون غاصباً ذلك، وقد ورد أن من غصب شبراً من أرض طوقه سبع أرضين.
وإِذَا دُفِنَ مَيِّتٌ فَمَوْضِعُهُ حَبْسٌ
يعني: إذا دفن في مكان غير مغصوب فموضعه حبسٌ عليه، لا يجوز نقله عنه، ولا أن يتصرف فيه ولا يباع.
ابن عبد السلام: ووقع في كتب أهل المذهب عن بعضهم أنه يجوز حرث البقيع بعد عشرة أعوام. ورفع أيضاً لبعضهم أنه إذا حرثت المقابر أخذ كرائها ممن حرثها وصرف في جهاز الموتى.
ولَوْ دُفِنَ فِي دَارٍ فَبِيعَتْ ولَمْ يُعْلَمْ فَالْخِيَارُ عَلَى الْمَنْصُوصِ، واعْتَرَضَهُ عَبْدُ الْحَقِّ بأَنَّهُ يَسِيرٌ فِي الْقِيمَة، وأُجِيبَ بأَنَّهُ لا تُمْكِنُ إِزَالَتُهُ .....
يعني: إذا لم يعلم المشتري بذلك فهو عيب يوجب الخيار في الرد أو التماسك. واعترض ذلك عبد الحق فقال: موضع الحفر يسيرٌ، والعيب اليسير في الدار لا يوجب الرد كما سيأتي. ورده ابن بشير بأن العيب إذا لم تمكن إزالته صار ضرره كثيراً.
وفِي دَفْنِ السَّقْطِ فِي الْبُيُوتِ قَوْلانِ
المشهور الكراهة في الدور، وأجازه في الواضحة. والقولان: في كونه عيباً، حكاهما ابن بشير. والمنصوص لمالك أنه ليس بعيب.
فرع:
ولا بد في القبر من حفرة تحرس الميت عن السباع، وتكتم رائحته. ابن حبيب: يستحب ألا يعمق القبر جداً، وأن يكون عمقه على قدر الذراع فقط. قال: وبلغني عن عمر بن عبد العزيز لما حضرته الوفاة، قال: احفروا لي، ولا تعمقوا، فإن خير الأرض أعلاها، وشرها أسفلها. وفي المبسوط عن مالك: لم يبلغني في عمق حفرة القبر شيء موقوف عليه، وأحب إلي أن تكون مقتصدة، لا عميقة جداً، ولا قريبة من أعلى الأرض.
الباجي: ولعل ابن حبيب أراد بقوله: قدر الذراع الشقَّ الذي هو نفس اللحد، وأما نفس القبر فإنه يكون مثل ذلك وأكثر منه. ابن حبيب: ولا بأس أن يدخل قبره من ناحية القبلة، أو من ناحية الشرق، ومن ناحية القبلة أحب إلي؛ لأنه أمكن وأهيأ وأيسر على من تولاه.
وفي المبسوط: لا بأس أن يدخل الميت في قبره من رأس القبر، أو رجليه، أو وسطه، ويضع الميت في قبره الرجال، فإن كانت امرأة يتولى ذلك زوجها من أسفلها، ومحارمها من أعلاها، فإن لم يكن فصالح المؤمنين، إلا أن يوجد من القواعد من له قوة على ذلك،
ولا مضرة عليهن فيه، ولا كشف عورة، فهي أولى به من الأجانب، وليستر عليها بثوب حتى توارى في لحدها، وليس لعدد من يلي ذلك حدٌّ، شفع أو وتر، ثم يوضع الميت على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، ويمد يده اليمنى مع جسده، ويحل العقدة من عند رأسه ورجليه، ويعدل رأسه بالتراب لئلا يتصوب، وكذلك رجلاه بحيث لا ينكب ولا يستلقى، ويرفق به في ذلك كله كأنه حي. واستحب أشهب أن يقال عند وضعه في اللحد: بسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم تقبله بأحسن قبول. قال: وإذا دعا له بغير ذلك فحسن.
وإن تركه فواسع، ثم تنصب اللبن على فتح اللحد. وتسد الفرج بما يمنع من التراب.
ابن حبيب: أفضل ما يسد به اللبن، ثم اللوح، ثم القراميد، ثم الآجر، ثم الحجارة، ثم القصب، ثم سن التراب خير من التابوت، ثم قال: يحثي كل من دنا حثيات. وروى سحنون أن ذلك غير مستحب، ثم يهال التراب عليه، ولا يرفع القبر إلا بقدر شبر، ولا يجصص، ولا يطين. وقال أشهب: ويسنم القبر أحب إلى، وإن رفع فلا بأس. قال محمد ابن مسلمة: لا بأس بذلك. قال: وقبور النبي صلى الله عليه وسلم [113/أ]، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما مسنمة.
قال في التنبيهات: والمعروف من مذهبنا جواز تسنيمها، وهو صفة قبره صلى الله عليه وسلم، وقبور أصحابه، وهو المنصوص في الأمهات، ولم ينص فيها على خلاف ذلك. ولأشهب ما يدل على جواز تعظيم القبر والزيادة فيه على التسنيم. انتهى. وفي الجلاب: يسطح ولا يسند، ويرفع من القبر قليلاً بقدر ما يعرف. ولا يدفن في قبر واحد ميتان إلا لحاجة، ثم يرتبهم في اللحد إلى القبلة بالفضيلة كترتيبهم إلى الإمام في الصلاة، والقبر يحرم أن يمشي عليه إذا كان مسنماً والطريق دونه، فأما إذا عفا فواسع، ولا تنبش عظام الموتى عند حفر القبور ولا تزاح عن مواضعها، ومن وافى قبراً عند حفره فليرده، وليرد
عليه ترابه، ولا يزاد من قبر على قبر وليتق كسر شيء من عظامه، ولا ينبش القبر إلا إذا كان شيء من الكفن مغصوباً وشح فيه ربه أو نسي معه مالاً في القبر. ولو دفن بغير غسل أخرج إن كان قريباً، وقيل: لا يخرج.
والتعزية: سنة؛ وهي الحمل على الصبر بوعد الأجر، والدعاء للميت والمصاب. وذكر ابن حبيب ألفاظ التعزية عن جماعة من السلف، ثم قال: والقول في ذلك واسع، إنما هو على قدر منطق الرجل، وما يحضره من ذلك القول. وقد استحسن أن يقال: أعظم الله أجرك على مصيبتك، وأحسن عزاك عنها، وعقباك منها خيراً وغفر لميتك ورحمه، وجعل ما خرج إليه خيراً مما خرج عنه. وتستحب تهيئة الطعام لأهل الميت ما لم يكن اجتماعهن لنياحة وشبهها، والبكاء جائز من غير نياحة وندب من غير جزع، وضرب خد، وشق ثوب، فذلك حرام، ولا يعذب الميت بنياحة أهله عليه إلا إذا كان أوصى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .
فرع:
قال في البيان: ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل ابن بيضاء في المسجد. وروى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له". فمنهم من أجاز الصلاة في المسجد وتأول: فلا شيء له بمعنى فلا شيء عليه، بمنزلة قوله تعالى:{وَإِنْ أَسَاتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] وهو قول الشافعي وغيره، ومنهم من كره الصلاة فيه، ورأى أن ما جاء من الصلاة على سهيل أمر قد ترك، وأن حديث "لا شيء له" ناسخ له. قال في البيان: ولأنه متأخر. واستدل على ذلك بعمل الصحابة؛ وهو قول مالك في المدونة: ولا توضع الجنازة في المسجد، وإن وضعت قريباً لم يصل عليها من في المسجد، إلا أن يضيق خارج المسجد بأهله، وهو مذهب أبي حنيفة، ومنهم من كره أن يصلى على الجنازة في المسجد؛ وأجاز إذا وضعت الجنازة خارجه أن تمتد الصفوف بالناس
في المسجد، وإلى هذا ذهب ابن حبيب وعزاه لمالك، وقال: هو من رأيه لو صلى عليها في المسجد ما كان ضيقاً. قال في البيان: ولا فرق على المذهب في الكراهة بين أن يكون الميت فيه أو خارجاً عنه، وهو مذهب مالك في المدونة، وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام:"من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له". إذ لم يفرق بين أن تكون الجنازة فيه أو خارجه. انتهى. ولأصحابنا في تعليل الكراهة مسلكان: أولهما: أنه خلاف العمل. ثانيهما: أنه مبني على نجاسة الميت. والله أعلم.
****
الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ. الْمُخْرَجُ مِنْهُ: الْعَيْنُ، وَالْحَرْثُ، وَالْمَاشِيَةُ
لا شك في وجوبها، والذي تؤخذ منه الزكاة ثلاثة كما ذُكر.
فَشَرْطُ الْعَيْنِ -غَيْرُ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ- أَنْ يَكُونَ نِصَاباً مَمْلُوكاً حَوْلاً كَامِلاً، مِلْكاً كَامِلاً غَيْرَ مَعجُوزٍ عَنْ إِنْمَائِهِ
…
أي: شرط وجوب الزكاة (الْعَيْنِ). فأخرج المعدن من العين؛ لعدم شرط الحول فيه، وكذلك الركاز؛ لأنه في بعض صوره تؤخذ منه الزكاة، أي؛ فيما إذا وجد بنفقة أو كبير عمل. هكذا كان شيخنا -رحمه الله تعالى- يقول، وبه تعلم أن قول ابن عبد السلام: وأما الركاز فلا معنى للاحتراز منه، إلا لو كان اسم الزكاة ينطلق على ما يؤخذ منه ليس بظاهر.
قوله: (نِصَاباً). يريد أو ما هو أصل له، كدينار وماحد بيع آخر الحول بمائتي درهم أو اشترى به سلعة فبيعت بذلك، واحترزنا بالمملوك من غير المملوك، كالمال المغصوب بالنسبة إلى الغاصب، والمودع والملتقط بالنسبة إلى الحافظ، وبالحول الكامل من بعضه، وبالملك الكامل من العبد، والمديان بالنسبة إلى العين، وغير معجوز عن إنمائه من العين المغصوبة بالنسبة إلى المغصوب منه، ومن المدفون والموروث إذا لم يعلم به على ما سيأتي.
فَنِصَابُ الذَّهَبِ عِشْرُونَ دِينَاراً، وَالْوَرِقِ مِئَتَا دِرْهَمٍ بِالْوَزْنِ الأَوَّلِ
هذا هو المعروف. وحكى الباجي وتبعه صاحب المقدمات عن ابن حبيب أن المعتبر وزن كل بلد، ولو كان أنقص من الوزن الأول. قال صاحب المقدمات [113/ب] وغيره: وهو بعيد جداً. وأشار الباجي إلى مخالفته للإجماع. ورد المازري ما فهمه الباجي عن ابن حبيب، وقال: لا يحسن عندي أن يظن بابن حبيب ولا غيره هذا؛ لأنه يؤدي إلى وجوب الزكاة في الأرباع والأثمان إذا جرت مجرى المثاقيل. وقد ذكر ابن حبيب إِثرَ ما نقله الباجي عنه ما يؤخذ منه اعتبار الوزن الأول.
فَإِنْ نَقَصَتْ وَزْناً لا يَحُطُّهَا، فَالزَّكَاةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَثَالِثُهَا إِنْ كانَ يَسِيراً جِدّاً كَالْحَبَّةِ فَإِنْ حَطَّهَا فَلا زَكَاةَ .....
يعني: فإن نقصت العشرون أو المائتان فلا يخلوا؛ إما أن تنقص وزناً أو صفة، وعلى التقديرين فإما أن يحطها أولاً، وقد تكلم المصنف رحمه الله على الأقسام الأربعة.
ومعنى الحط: كونها لا تجوز بجواز الوازنة، وعدم الحط: عكسه.
واختلف الأشياخ في معنى قول مالك: تجوز بجواز الوازنة، فقال ابن القصار، والأبهري: أن تكون وازنة في ميزان وناقصة في آخر. وقال عبد الوهاب: بل أراد بالنقص اليسير كالحبة والحبتين في جميع الموازين مما جرت العادة بالتسامح في مثله في اليباعات.
الباجي: وهو الأظهري عندي وعليه جمهور أصحابنا؛ لأنه على الوجه الأول ليس ثَمَّ نقص. ويدل عليه ما في الموازية: إذا نقصت نقصاً بيناً فلا زكاة فيها إلا أن تجوز بجواز الوازنة. انتهى. ابن زرقون: ويظهر لي أن قول ابن القصار، والأبهري في الموازية، وقول عبد الوهاب في المعدودة فلا يكون اختلافاً.
الباجي: وحمل العراقيون قول مالك: تجوز بجواز الوازنة، على الدنانير والدراهم الموزونة. قال: والأظهر عندي أن يكون ذلك في المعدودة كالفرادى. وتقدير كلام المصنف: فإن نقصت وزناً غير حاط، فالزكاة على المشهور اتفاقاً، إلا أن الأغراض تحصل فيها كما تحصل بالكاملة.
والثاني: لا تجب. وهو قول ابن لبابة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ".
والثالث: إن كان غير الحاط يسيراً جداً فكالأول، وإلا فكالثاني، وهو لمالك في العتبية وغيرها.
وقوله: (فَإِنْ حَطَّهَا فَلا زَكَاةَ). أي: فإن كان النقص حاطاً لم تجب الزكاة، زاد ابن بشير: باتفاق. وحكى صاحب المقدمات في ذلك خلافاً، ولفظه: وأما إن لم تجز بجواز الوازنة، فلا تجب فيه الزكاة، قل النصاب أو كثر. وقيل: إن الزكاة تجب فيها إن كان النقصان يسيراً، وإن لم تجز بجواز الوازنة. انتهى.
وهذا إذا كان التعامل بالوزن، وأما إذا كان التعامل بالعدد، فقال ابن بشير: لا يخلو أن ينتقص في العدد أو في الوزن، فإن نقصت في العدد، فلا خلاف في سقوطها، وإن نقصت في الوزن –بأن لم تجز بجواز الوازنة- فلا خلاف في سقوط الزكاة. وإن جازت؛ فثلاثة أقوال: أ؛ دها: أنها تجب فيها الزكاة، وهو ظاهر الموطأ. والثاني: أنها لا تجب فيها الزكاة، قاله ابن لبابة. والثالث لسحنون: الفرق بين أن يكون النقصان يسيراً لا تتفق عليه الموازين، أو كثيراً تتفق عليه الموازين، ونحوه لابن رشد. وحكى صاحب اللباب وغيره عن محمد بن مسلمة أنه قال: إذا نقص نصاب الوزن ثلاثة دراهم ففيه الزكاة.
فَإِنْ نَقَصَتْ صِفَةً بِغِشِّ أَصْلِيِّ أَوْ مُضَافٍ لا يَحُطَّهَا كَالْمُرَابطِةِ فَكَالْخَالِصَةِ
يعني: فإن لم تنقص وزناً بل نقصت صفة بسبب غش من أصل المعدن، أو مضاف لا يحظها، فإن جرى أمر الناس على ترك مراعاته. قال المصنف وغيره: كالدنانير المرابطية، وكذلك قال ابن بشير.
وقوله: (فَكَالْخَالِصَةِ). أي: فحكمها حكم الخالصة. والأحسن لو قال: نقصت صفة برداءة في الأصل؛ لأن الغش حقيقة إنما يستعمل فيما كان من فعل الآدمي لا فيما كان من أصل الخلقة، وكأنه –والله أعلم- أطلقه مجازاً.
تنبيه:
ما ذكره المصنف في الغش المضاف نص عليه غير واحد. وأما ما ذكره في الغش الأصلي فأصله للباجي، وذكر أنه لم ير فيه نصاً. قال: وعندي أنه إذا كان فيه من النحاس
أو غيره المقدار اليسير الذي جرت عادة الناس به في دنانيرهم ودراهمهم الطيبة الموصوفة بالخالصة، أنه لا اعتبار به وإن أمكن تخليصه واستخراجه.
فَإِنْ حَطَّهَا، فَالْمَشْهُوُ يُحْسَبُ الْخَالِصُ، وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ الأَكْثَرُ
يعني: فإن حطها ذلك النقص، اعتبر الخالص منها خاصة وصار النقص كأنه في القدر، وهذا هو المشهور، وسواء كان مساوياً أو أقل أو أكثر، وعليه فيعتبر ما فيها من النحاس اعتبار العروض، قاله اللخمي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ". خرجه مسلم. والقول باعتبار [114/أ] الأكثر لابن الفخار، وعليه فتجب الزكاة في مائتين من فضة مصر؛ لأن فضتها أكثر لا فضة الإسكندرية. نعم يعتبر خالصها؛ هكذا صرح به الباجي وغيره ممن يوثق بنقله. أما الكثرة فتعتبر في جانب الوجوب لا السقوط. وكلام ابن بشير يوهم اعتبار الأكثر في جانب السقوط على هذا القول، وأنه لا تجب عليه الزكاة في مثل فضة الإسكندرية وإن كثرت، وليس بجيد.
وقوله: (فَإِنْ حَطَّهَا). ظاهره النقص المضاف والأصلي وهو منقول في المضاف كما ذكر، والحق الباجي به الغش الأصلي، وتعقبه سند، فقال: الغش من أصل المعدن كالتبع.
فَإِنْ كَانَتْ سَكَّةً أَوْ جَوْدَةٌ إِنْ تُصُوِّرَتْ تَجْبُرُ النَّقْصَ لَمْ تُعْتَبَرِ اتِّفَاقاً
كما لو كانت عنده مائة وتسعون وسكتها أو جودتها تساوي مائتين، فإن تلك الجودة والسكة غير معتبرة اتفاقاً، وإنما ينظر إلى الوزن الحاصل بجودته وسكته، وكان هنا تامة، ومعنى (تُصُوِّرَتُ). أي: وجدت. وفاعل تصورت ضمير يعود على أحدهما لا على التعيين. أي: إن تصورت إحداهما. ورأى بعضهم عوده على الجودة فقط؛ لأن السكة موجودة، ولا يقال في الموجود إن وجد، بخلاف الجودة فإنها خفية، ورأيت من شيخنا ميلاً إليه وفيه نظر؛ لأن كلاً من السكة والجودة حاصل. فإن قلت: على هذا في قوله: إن
تصورت نظر؛ لأن الأصل في أن عدم الجزم بوقوع الشرط وهما حاصلان. قيل: لما قال المصنف: تجبر النقص اندفع هذا؛ لأن كون السكة أو الجودة جائزة ليس محقق. والله أعلم.
وَما حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ مِنْ مائة وخَمْسِينَ تُسَاوِي مِائَتَيْنِ قِرَاضَةً لا نَعْرِفُهُ
هذا جواب عن سؤال مقدر توجيهه أن يقال: حكايتك الاتفاق ليس بصحيح؛ لأن الغزالي حكى عن مالك أنه إذا كان نقد البلد قراضة ومعه مائة وخمسون تساوي مائتين قراضة وجوب الزكاة. فأجاب عنه بأن ما حكاه لا يعرفه أهل المذهب، ولا يقال من حفظ مقدم؛ لأنا نقول أهل كل مذهب أقعد بمذهبهم إثباتاً ونفياً، إطلاقاً وتقييداً، ومن تأمل ما يحكيه أهل المذهب بعضهم عن بعض وجد الغلط كثيراً.
وَفِي الصِّيَاغَةِ الْجَائِزَةِ قَوْلانِ
يعني: أنه اختلف هل تلغى الصياغة فلا يعتبر إلا وزن المصوغ وهو المشهور، أو يعتبر المصوغ اعتبار العين، وتعتبر الصياغة اعتبار العرض، قولان. وعلى الأول فلا تفريغ، وعلى الثاني فيظهر أثره في المدين والمحتكر.
وَالْحَرَامُ مُلْغَاةً اتِّفَاقاً
لأن أخذ الزكاة عنها إقرار لها وهي لا تقر.
وَعَلَى المشهورِ الْمَنْصُوصِ كَالْعَرْضِ، وَخُرِّجَ التَّكْميلُ عَلَى الْحُلِيِّ بأَحْجَارٍ لا تتخَلْصُ
لهذه المسألة صورتان: إحداهما: ألا يكون المصوغ نصاباً، لكنه بقيمة الصياغة يكمل النصاب، فهذه لا يكمل بها اتفاقاً؛ وهو معنى قوله:(كَالْعَرْضِ). أي لا يكمل بها كما لا يكمل بالعرض، ويقع بعد هذا في بعض النسخ: ولا يكمل بها كالجودة، وهي تكرار؛ لأن ذلك معلوم من التشبيه بالعرض، وفي بعض النسخ: المنصوص كالجودة، وهي كالأولى.
الصورة الثانية: أن يكون المصوغ نصاباً فأكثر، كما لو كان زنة المصوغ ألفاً وقيمة الصياغة مائتين فهذه محل الخلاف. ومقابل المنصوص ما أشار إليه بقوله:(وَخُرِّجَ التَّكْمِيلُ). أي: خرج قول في الصورة الأولى بالتكميل من القول: بأن الحكم للأكثر من مسألة الحلي المزكى المنظوم بالجوهر وسيأتي. وهذا التخريج لابن بشير. ووجهه أن يقال: كما كمل بالعرض في مسألة الحلي فكذلك يكمل بالصياغة؛ لأنها جعلت كالعرض على أحد القولين، وهذا التخريج إنما يتم لو اتحد القائل؛ لجواز أن يكون من قال: بأن العرض يكمل به، لا يرى الصياغة كالعرض.
وَيُكَمَّلُ أَحَدُ النَّقْدَيْنِ بالآخَرِ بالْجُزْء لا بالْقَيمَةِ اتِّفاقاً
النقدان: الذهب والقضة. وقوله: (بالْجُزْء) أي بأن يجعل كل دينار بعشرة دراهم، ولو كانت قيمته أضعافاً، كما لو كانت عنده مائة درهم وعشرة دنانير، أو مائة وخمسون وخمسة دنانير. (لا بالْقَيمَةِ) كما لو كان عنده مائة وثمانون ودينار يساوي عشرين. وحكي عن ابن لبابة أن الذهب والفضة لا يجمعان في الزكاة، وعلى هذا فالاتفاق راجع إلى قوله:(لا بالقيمة). وخالفنا الشافعي في الجزء الأول فنفى الضم، وأبو حنيفة في الثاني فضم القيمة [114/ب].
فائدة:
الدنانير خمسة: دينار الجزية، ودينار الزكاة، كل منهما عشرة ويعبر عنهما بديناري الزاي، ودينار النكاح، والدية، والسرقة، كل منهم اثني عشر ويعبر عنهم بدينار الدم.
وَالْحُلِيُّ الْجَائِزُ إِنِ اتُخِّذَ لِلِّبَاسِ، فَلا زَكَاةَ وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ
الحلي إن اتخذ للباس لمن يجوز له لبسه، فإن ذلك يلحقه بعرض القنية فليس فيه زكاة. قال في الجواهر: وإن كان على قصد استعمال محظور، كما لو قصد الرجل بالسوار أو الحلي
أن يلبسه، أو قصدت المرأة ذلك في السيف، لم تسقط الزكاة؛ لأن المحظور شرعاً كالمعدوم حساً. انتهى.
وقوله: (وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ) مبالغة. أي: وإن كان الحلي مملوكاً لرجل وأعطاه لنسائه أو إمائه يلبسنه. وعارض الأبهري هذه المسألة بإيجاب الزكاة في النعم وإن لم تكن سائمة، ورأى أن الاتخاذ للاستعمال إن كان كافياً في إخراج ما أصله الزكاة إلى ما لا زكاة فيه وإلحاقه بالعرض، لم تجب فيه. وفرق بأن النعم تنمو بنفسها وإن لم تكن سائمة، بخلاف العين فإنه لا نماء فيها مع القنية.
وظاهر المذهب سقوط الزكاة في الحلي الجائز ولو تكسر. واشترط بعض المتأخرين في هذا أن يكون التكسير لم يبلغ به إلى حد التهشم، وأما إن بلغ ذلك فهو كالتبر، وهو تأويل ابن يونس على المدونة.
وَإِنِ اتُّخِذَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ كَانَ حَرَاماً فَالزَّكَاةُ كُلَّ عَامٍ كَالنَّقْدِ
هذا لا خلاف فيه عندنا بوجوب الزكاة؛ لأن المانع من تعلق الزكاة كونه غير معد للنماء، وأما إن اتخذ للتجارة فهو معد للنماء، وذلك لأن جوهريته تقتضي وجوب الزكاة ما لم يعرض لاستعمال المباح؛ لشبهه إذ ذاك بعروض القنية.
وقوله: (أَوْ كَانَ حَرَاماً) اسم كان عائد على الحلي.
وَإِنِ اتُّخِذَ لِلْكِرَاء أَوْ لِصَدَاقٍ أَوْ لِعَاقِبَةٍ، فَثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ لا يُزَكَّى مَا لِلْكِرَاء
ما ذكره المصنف هنا هو من أقسام القنية، ومعنى كلامه: أن الحلي الجائز إن اتخذ لأن يكرى، أو لأن يصدقه لامرأة يريد أن يتزوجها، وألحق به أن يشتريه لابنته إن تزايدت له، أو أمة يشتريها للتسري أو للإعارة، أو العاقبة، أي: يتخذ لحاجة إن عرضت. وأكثرهم لا يجعل في هذا القسم خلافاً في وجوب الزكاة؛ منهم ابن يونس، وابن شاس.
وجعله المصنف وابن بشير من محل الخلاف. وحكى المصنف ثلاثة أقوال: سقوط الزكاة، ووجوبها، والفرق بين ما اتخذ للكراء فتسقط، وبين غيره فتجب وهو المشهور، وهو مذهب المدونة.
والباجي يرى أن الخلاف في الكراء إنما هو إذا اتخذه لذلك من لا يجوز له لبسه، كما إذا اتخذ الرجل حلي النساء للكراء، أو اتخذت المرأة السيوف ونحوها للكراء. وأما إن اتخذت المرأة حلي النساء، فلا يدخله خلاف في سقوط الزكاة.
خليل: ولو قيل بعكس المشهور ما بعُد؛ لأن الكراء ضرب من التجارة.
فرع:
ذكر ابن حبيب خلافاً في المرأة إذا كان لها حلي تلبسه ثم لم تبق تلبسه، واختار هو الوجوب احتياطاً.
وَإِذَا نَوَى بِحُلِيٍّ الِْنْيَةِ أَوِ الْمِيَراثِ التِّجَارَة، فَالمْشَهُورُ انْتِقَالُهَا بِخِلافِ الْعُرُوضِ
لما كانت النية سبباً ضعيفاً ناسب أن تنقل إلى الأصل ولا تنقل عنه، فلذلك إذا كان عنده حلي قنية ونوى به التجارة ينتقل؛ لأن الأصل في الحلي وجوب الزكاة، إذ جوهريته تقتضي وجوب ذلك. ومقابل المشهور يرى أن النية لا تنقله كالعرض، فلا زكاة فيه إلا بعد حول من يوم قبض ثمنه، بناءً على أن نية القنية تأصل القنية في الحلي. ولا فرق في حلي القنية بين أن يكون حصل بعوض أو غيره، كما لو وهب له أو ورثه، ولعل هذا- والله أعلم- هو الذي لأجله عطف المصنف الميراث على القنية، وإلا فهو أحد أفراد القنية، وعلى هذا فهو من باب عطف الخاص على العام، وينبغي على هذا أنه إذا اشترى الحلي بنية التجارة ثم نوى به القنية، أن النية لا تؤثر؛ لكونها ناقلة عن الأصل.
وقوله: (بِخِلافِ الْعُرُوضِ) أي: فإنها إذا كانت للقنية ونوى بها التجارة، فإنها لا تنتقل؛ لأن الأصل فيها عدم الزكاة والنية لا تنقل عن الأصل.
وَالْمَصُوغُ الْجَائِزُ حُلِيُّ النِّسَاء وَمَا فِي مَعْنَاهُ، كَالأَزْرَارِ وَحِلْيَةِ الْمُصْحَفِ مُطلْقَاً
لما ذكر أولاً أن الحكم مفترق بسبب الصياغة الجائزة وغيرها أخذ يبين ذلك وكلامه ظاهر.
وقوله: (مُطلْقَاً) أي: بالذهب والفضة. وحكى ابن رشد عن ابن عبد الحكم كراهية تحليته بالذهب.
فرع:
وأما تحلية الكعبة والمساجد بالقناديل وعلائقها، والصفائح على الأبواب [115/أ] والجدار وما أشبه ذلك بالذهب والورق. فقال ابن شعبان: يزكيه الإمام لكل عام كالمحبس الموقوف من الأنعام، والموقوف من المال العين للقرض. قال: وأعرف في المال لإصلاح المساجد، والغلات المحبسة في مثل هذا اختلافاً بين المتأخرين في زكاة ذلك. قال: والصواب في ذلك عندي ألا زكاة في شيء موقوف على من لا عبادة عليه من مسجد وغيره. والله أعلم. انتهى.
وروي في الجواهر عن ابن شعبان: يزكيه الإمام لكل عام كالمحبس الموقوف من الأنعام، والموقوف من المال العين للقرض. قال: وأعرف في المال لإصلاح المساجد، والغلات المحبسة في مثل هذا اختلافاً بين المتأخرين في زكاة ذلك. قال: والصواب في ذلك عندي ألا زكاة في شيء موقوف على من لا عبادة عليه من مسجد وغيره. والله أعلم. انتهى.
وروي في الجواهر عن ابن شعبان: وما جعل في ثياب الرجال، وفي الجدار من تثبيت الورق، فإن كان يمكن أن يخرج منه قدر يفضل عن أجرة عامله، زُكي إن كان فيه نصاب أو كمل به النصاب، ذهباً كان أو ورقاً. وحلية غير المصحب من الكتب لا تجوز أصلاً. انتهى.
وَالْخَاتَمُ الْفِضَّةُ لا الذَّهَبُ لِلرِّجَالِ
ظاهر التصور.
وَحِلْيَةُ السَّيْفِ الْفِضَّة، وَفِي الذّهَبِ قَوْلانِ
تجوز حلية السيف اتصلت بالنصل كالقبضة أم لا كالغمد، والمشهور في الذهب الجواز، حكاه سند والتلمساني.
وَفِي حِلْيَةِ بَاقِي آلَةِ الْحَرْبِ. ثَالِثُهَا: يَجُوزُ فِيمَأ يُطَاعَنُ بِهِ وَيُضَارَبُ، لا فِيمَا يُتَّقَى بِهِ وَيُتَحَرزُ ....
يعني: أنه اختلف في جواز تحلية ما عدا السيف من آلة الحرب على ثلاثة أقوال: الجواز، وهو لابن وهب قياساً على السيف بجامع الإرهاب. والمنع، وهو المشهور. والثالث: لابن حبيب.
قال ابن شاس: وقال ابن حبيب: لا بأس باتخاذ المنطقة المفضضة والأسلحة كلها، ومنع ذلك في السرج واللجام والمهاميز وما يتقى به ويتحرز. انتهى.
ويقع في بعض النسخ عوض قوله: (وَيُتَحَرزُ) يتحزم. وهي وإن كانت أولى لعدم التكرار بخلاف الأولى، فإن ما يتقى به يتحرز به؛ لكنها غير موافقة للنقل فتعين النسخة الأولى. (وما يطاعن به) الرمح وما في معناه. (وَيُضَارَبُ) الدبوس ونحوه.
وَالْحَرَامُ مَا عَدَاهُ مِنْ حُلِيِّ الرِّجَالِ والأَوَانِي
أي: ما عدا المذكور.
تنبيه:
أجاز علماؤنا لمن قطع أنفه أن يتخذه من ذهب وغيره، وأن يربط أسنانه بخيوط الذهب.
قال اللخمي: ويختلف في زكاة حلي الصبيان، فقال ابن شعبان: فيه الزكاة. قال: والظاهر من قول مالك أنه لا زكاة فيه؛ لأنه قال: لا بأس أن يحرموا وعليهم الأسورة. قال: وإذا جاز لهم لباسه لم يكن فيه زكاة.
وعلى هذا فقول المصنف: (وَالْحَرَامُ مَا عَدَاهُ) ليس كما ينبغي، وفهم عياض المدونة على منع تحلية الصبيان، وسيأتي كلامه في الحج إن شاء الله تعالى. وأخرج ابن راشد حلي الصبيان من قول المصنف (حُلِيِّ الرِّجَالِ) فقال: واحترز بالرجال عن الصبيان.
والْحُلِيُّ الْمُزَكَّى مَنْظُوماً بِالْجَوْهَرِ إِنْ أَمْكَنَ نَزْعُهُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ، فَالْحُلِيُّ نَقْدٌ والْجَوْهَرُ عَرْضٌ ....
لما قدم الكلام على الحلي بانفراده تكلم هنا عليه إذا اختلط بشيء من الجواهر. ومعنى كلامه أن لهذه المسألة صورتين: إحداهما: أن يمكن نزعه بغير ضرر. والثانية: أن لا يمكن إلا بضرر. فالأول يزكى النقد كل عام، والجوهر يزكى زكاة العروض من إدارة واحتكار، وهو معنى قوله:(فَالْحُلِيُّ نَقْدٌ والْجَوْهَرُ عَرْضٌ) و (مَنْظُوماً) حال من الضمير في المزكى، لا ما قاله ابن راشد: أنه خبر كان تقديره: والحلي المزكى إن كان منظوماً.
وإِلا فَثَلاثَةٌ كَالْعَرَضِ، ويُتَحَرَّى ويُرَاعَى الأَكْثَرُ
هذه هي الصورة الثانية. أي: وإن لم يكن نزعه إلا بضرر، وهو إما فساد أو خسارة أجرة على ذلك، ففي المسألة ثلاثة أقوال:
الأول: أن الحلي كالعرض سواء كان وزنه أكثر من قيمة الجوهر أو لا، وهو مذهب العتبية والموازية؛ لأنه لما خالطه الجوهر وهو عرض ولم يمكن نزعه أعطي حكمه، وعلى هذا فيقومه المدين كل عام، ويزكيه المحتكر لعام بعد البيع.
القول الثاني: أنه يتحرى ما فيه ويزكيه، والجوهر على حكمه، وهو مذهب المدون. قال في البيان: ولم يختلف قول مالك في رواية ابن القاسم: أنه يتحرى في الحلي المنظوم بالجوهر، ورواه أيضاً ابن وهب.
والثالث: أن الأقل منهما يعطى حكم الأكثر.
ابن راشد: ولم أره معزواً. وحكاه صاحب اللباب، فقال: وقيل في هذا الأصل يراعى الأكثر، فإن كان الذهب والفضة الأكثر زكى جميع ذلك، وإن كان اللؤلؤ والزبرجد الأكثر لم يزك، وهذا القول رواية لابن القاسم منصوصاً في السيف والمصحف، والباب واحد، وروي عن مالك. انتهى.
خليل: ونقله أبو الحسن الصغير عن مالك في مسألة الحلي المنظوم من رواية ابن عبد الحكم، وحكاه أيضاً المازري رواية، وعليه فلو كان وزن الحلي مثلاً مائة وخمسين وقيمة [115/ب] الجوهر خمسين زكى، ولو كان بالعكس سقطت وصار حكمه كسائر العروض، والأولان يعمان جميع صور المسألة بخلاف الثالث، إذ قد يكونان متساويين، وهذا القول الثالث: هو الذي خرج منه في مسألة الصياغة.
والْحَوْلُ شَرْطٌ إِلا فِي الْمَعَادِنِ والْمُعَشَّرَاتِ
لما قدم الكلام على ما يتعلق بقوله نصاباً أتبعه بالكلام على الحول، أي الحول شرط في وجوب الزكاة إلا في شيئين: المعدن، والزرع؛ لأن الله سبحانه أوجب فيه الزكاة يوم الحصاد، وزمان الزراعة إلى يوم الحصاد يتنزل منزلة الحول. والمعدن ملحق بالزرع؛ لأنهما معاً خارجان من الأرض. قوله:(والْمُعَشَّرَاتِ) أي: ماله تعلق بالعشر، أي سواء كان فيه العشر أو نصفه.
وَلوْ ضَاعَ جُزْءٌ مِنَ النِّصَابِ وَلَمْ يُمْكِنِ الأَدَاءُ، فَقَوْلانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ كَالشُّرَكَاء أولاً، وَلِذَلك قَالَ: الْمُوجَبُ برُبُعِ عُشْرِ الْبَاقِي .....
لا شك إذا تلف النصاب أو جزؤه قبل الحول ولو بيوم في سقوط الزكاة. وكذلك إن تلف النصاب بعد الحول وقبل الإمكان. واختلف إذا تلف بعضه، وإليه أشار بقوله:(وَلوْ ضَاعَ جُزْءٌ مِنَ النِّصَابِ).
وقوله: (وَلَمْ يُمْكِنِ الأَدَاءُ) كما لو تعذر الوصول إلى المال بسبب من الأسباب. والمشهور: السقوط. وأوجبها ابن الجهم. ومنشأ الخلاف: هل الفقراء شركاء في النصاب بربع العشر أو ليسوا كذلك؟ وإنما المقصود إرفاقهم بشرط النصاب، ألا ترى أنه يجوز دفع العشر من غير النصاب ولا حق لهم في عين المال بخلاف الشركاء؛ ولذلك أدخل المصنف كاف التشبيه على الشركاء.
قوله: (وَلِذَلِكَ) أي: ولأجل أنهم كالشركاء. قال: من أوجب الزكاة في الباقي، قال: إنما يجب ربع عشر الباقي تحقيقاً للشركة. فالباء في (برُبُعِ) تتعلق بـ (قَالَ). وقال ابن راشد: هي تتعلق بمحذوف تقديره: ولذلك قال الموجب هم شركاء بربع عشر الباقي. وفي كلامه فائدة أخرى وهي: دفع وهم من يتوهم على الشاذ وجوب زكاة جميع النصاب.
فَلَوْ أَخْرَجَهَا عِنْدَ مَحِلِّهَا فَضَاعَتْ لَمْ يَضْمَنْ
يعني: ولو أخرج الزكاة بأن عزلها عند حولها فضاعت من غير تفريط لم يضمن. واحترز بقوله: (عِنْدَ مَحِلِّهَا) مما لو أخرجها قبله بيوم أو بيومين وفي الوقت الذي لو أخرجها فيه لأجزأته، وأما لو أخرجها بعد محلها وقد كان فرط في تأخيرها فإنه يضمن.
قال في المدونة: ولو كان قد أخرجها بعد إبانها وقد كان فرط فيها فضاعت قبل أن ينفذها بغير تفريط، كان ضامناً لها.
وزعم ابن راشد أن المشهور إذا ضاعت بغير تفريط لا شيء عليه، سواء أخرجها عند محلها أو بعده، وفيه نظر؛ لمخالفته للمدونة.
وَيَجِبُ إِنْفَاذُهَا وَإِنْ ضَاعَ الأَصْلُ
أي: إذا أخرجها بعد محلها ولم يفرط، فتارة تضيع الزكاة وهو في الفرع الذي قبل هذا، وتارة يضيع المزكي وهو هذا، فيجب عليه دفع الزكاة.
أَمَّا لَوْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ مَحِلِّهَا مُفَرِّطاً فَضَاعَتْ ضَمِنَ
لا إشكال في الضمان مع التفريط، وإذا ضمن بالتفريط بعد المحل فلأن يضمن إذا فرط قبله من باب أولى.
وَنَمَاءُ النَّقْدِ رِبْحٌ، وفَائِدةٌ وغَلَّةً
ووقع في نسخة ابن عبد السلام: ونماء المال؛ لأنه قال: إنما أضاف النماء إلى المال وهو أعم من العين، مع أن كلامه في زكاة العين؛ لأن الغلة لا تدخل تحت نماء العين، وإن دخل بعض أنواعها لم يدخل جميع أنواعها، كغلة الرقيق والدواب وغير ذلك. قال: ثم جعل النماء جنساً لهذه الأنواع الثلاثة يوجب كونها غير جامعة؛ لأنها تدخل تحتها الفوائد التي يملكها الإنسان ابتداء؛ لأنها ليست نماء. انتهى.
خليل: وقد يقال: إن النسخة التي قدمناها في متن كلام المصنف أرجح؛ لأن نسخة نماء النقد يرد عليها عدم دخول بعض الغلات وعدم دخول بعض الفوائد؛ أعني الفوائد المملوكة ابتداء كالموهوبة أو الموروثة، ونسخة نماء المال يرد عليها عدم دخول بعض الفوائد وعدم مساعدة السياق لها، فقد حصل في كل منهما اعتراضان ولا ترجيح. ولكن يرد على نسخة نماء المال نتاج الماشية، ولا يرد على نماء النقد؛ لأنه يؤخذ من كلام المصنف أن النتاج ليس واحداً من الثلاثة؛ لأنه شبه الربح به فلا يكون ربحاً، ولو كان فائدة أو غلة لاستقبل به وليس كذلك، ووجه حصر نماء النقد في الثلاثة الاستقراء؛ لأنَّا استقرأناه فوجدناه منحصراً فيها.
وقال ابن عبد السلام: النماء: الزيادة، ثم لا يخلو إما أن يكون من جنس الأصل الذي يكثر به أو لا. الثاني: الغلة، والأول لا يخلو إما أن يلزم من طريانه وحدوثه تغير الأصل أو لا. والأول الربح، والثاني الفائدة، وفيه نظر؛ إذ يرد عليه ما أورده على [116/أ] المصنف، فإن قوله: إما أن يكون من جنس الأصل. لا يصدق على الفوائد التي يملكها الإنسان ابتداء، وتقديره النماء بالزيادة حسن، فإنه يندفع به ما قاله ابن راشد. الظاهر أنه أراد بالنماء، النماء الذي هو نقده، فأضاف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ كمسجد الجامع. انتهى.
فَالرِّبْحُ يُزَكَّى لِحَوْلِ الأَصْلِ عَلَى الْمَعْرُوفِ كَالنَّتَاجِ لا كَالْفَوَائِدِ. وَرُويَ فِي مَسْأَلَةٍ مَا لَوْ أَخَّرَ خَاصَّةً كَالْفَوَائِدِ، وَقِيلَ: كَالأَصْلِ بَعْدَ الشِّرَاءِ لَا قَبْلَهُ.
يعني: أن الأرباح تزكى لحول أصلها، كان أصلها نصاباً أو لا؟ كما لو كان عنده دينار أقام عنده أحد عشر شهراً، ثم اشترى به سلعة باعها بعد شهر بعشرين، فإنه يزكي الآن، وهذا هو المعروف.
وقوله: (كَالنَّتَاجِ) تشبيه إما لإفادة الحكم، وإما للاستدلال. وقوله:(لا كَالْفَوَائِدِ) أي فلا يستقبل. وقوله: (وَرُويَ) هو مقابل للمعروف، يعني أن ابن عبد الحكم روى عن مالك: فيمن كان عنده عشرون فحال حولها فلم يزكها حتى اشترى بها سلعة فباعها بعد حول آخر بأربعين، أنه يزكي العشرين للعامين ويستقبل بالريح، وهو تسعة عشر ونصف، وعلى المشهور يزكي عن أربعين بعد أن يزكي العشرين الأولى إن كان عنده عرض يساوي نصف دينار فأكثر، وإلا زكى عن تسعة وثلاثين ونصف.
وجعل المصنف الشاذ غير المعروف؛ لأن ابن المواز وسحنون أنكراه وقالا: ليس ذلك بقول مالك ولا أصحابه.
ابن راشد: وعجبت من إنكار ذلك، وقد قال ابن حبيب: اختلف في ذلك قول مالك. وحكى صاحب اللباب عن أشهب وابن عبد الحكم أنهما حكيا ذلك عن مالك ولم يخصاه بمسألة التأخير. انتهى.
وقوله: (كَالأَصْلِ) يعني أن في المسألة قولاً ثالثاً، وهو أن يضم إلى أصله من يوم الشراء لا من يوم ملك؛ لأنه حصل بسبب الشراء فلا يضاف لما قبل ذلك.
وَعَلَى الْمَشْهُورَ فِي تَقْديرِهِ مَوْجُوداً مَعَ مَالٍ أُنْفِقَ بَعْدَ أَنْ حِالَ حَوْلُه مَعَ أَصْلِهُ حِينَ الشِّرَاءِ، أَوْ حِينَ الحصول، أَوْ حِينَ الْحَوْلِ، ثَلاثَةٌ لابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبَ، والمغيرةِ، كَذِي عَشَرَةٍ حالَ عَلَيهَا الْحَوْلِ، فَأَنْفَقَ خَمْسَةً ثَمَّ اشْتَرَى مَا بَاعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ .......
يعني: وعلى المعروف من أن الربح يضم إلى أصله، اختلف في تقدير الربح موجوداً مع مال أنفق بعد أن حال حول المال المنفق مع أصل الربح على ثلاثة أقوال.
وقوله: (كَذِي عُشُرَةٍ ....) إلخ. أي: كصاحب عشرة حال عليها الحول، فأنفق خمسة ثم اشترى سلعة باعها بخمسة عشر، أو اشترى قبل الإنفاق.
فذهب المغيرة إلى وجوب الزكاة في الوجهين؛ لأنه يقدر وجود الربح مع المنفق حين الحول فيزكى؛ لأنا إن قدرنا عشرة الربح موجودة حين الحول كان مالكاً للعشرين.
وقال أشهب بسقوطها في الوجهين؛ لأنه يقدر وجود الربح حين حصوله، وهذا إذ ذاك لم يحصل بيده إلا خمسة عشر.
وقال ابن القاسم بسقوطها في الوجه الأول ووجوبها في الثاني؛ لأنه يقدر وجود الربح حين الشراء، فإذا تقدم الإنفاق على الشراء لم يكن معه عشرون بخلاف العكس.
وقول ابن عبد السلام: وهذا البناء ليس بسديد؛ لأن المعروف أن نماء الأرباح على أصلها من غير نظر إلى يوم الشراء، فكيف يبنى عليه القول بعدم الضم، والقول بالضم من يوم الشراء فقط ليس بظاهر؛ لأن هنا مسألتان؛ إحداهما: ضم الأرباح إلى أصولها. والثانية: ضم الأرباح إلى ما أنفق بعد أن حال حوله مع أصله. فالمعروف إنما هو في الأولى دون الثانية، ألا ترى أنه لو باع بعشرين لاتفق ابن القاسم وأشهب والمغيرة على الزكاة.
وحاصل كلام المصنف: أن القائلين بأن الأرباح مضمومة إلى أصولها اختلفوا في ضم الربح وأصله إلى مال حال حوله مع الأصل، ولا منافاة في هذا الكلام، فإذاً كلام المصنف صحيح وبناؤه سديد، هكذا كان شيخنا رحمه الله تعالى يجيب.
وقد ذكر الباجي هذه المسألة بعينها وذكر فيها الأقوال الثلاثة ووجه الأقال بما ذكره المصنف، فيسقط الاعتراض المذكور بالكلية، واعترض عليه ابن راشد في قوله: ثم اشترى؛ إذ لا تتأتى الثلاثة معها. قال: وإنما كان ينبغي أ، يقول: فلو اشترى وأنفق؛ لكون الواو لا تقتضي الترتيب.
وَفِي رِبْحِ سَلَفِ مَا لَا عِوَضَ لَهُ عِنْدَه. ثَالِثُهَا: إِنْ نَقَدَ شَيئَا مِنْ مَالِهِ مَعَه فَمِنَ الشِّرَاءِ وَإلّا اِسْتَقْبَلَ .....
صورة المسألة: رجل تسلف عشرين ديناراً، فاشترى بها سلعة أقامت حولاً ثم باعها بأربعين، ولم يكن عنده عوض للعشرين المتسلفة [116/ب]. والاتفاق أنه لا زكاة عليه في العشرين؛ لأنها عليه دين. واختلف في زكاة الربح، فقال ابن القاسم: يزكي. ورواه أشهب وعلي عن مالك، وسحنون عن ابن نافع؛ لأنه مالكٌ الأربعين عليه منها عشرون، وقال المغيرة: لا زكاة عليه فيها؛ لأنه إذا أسقطت الزكاة على أصل المال الذي أسند الربح إليه، فالربح أحرى.
وقال مطرف: إن نقد من ماله فيها ديناراً أو أقل، لم يختلف قول مالك أنه يزكي الربح، وتغلب الزكاة حينئذٍ، وإن لم ينقد شيئاً فكالقول الثاني.
وفِي رِبْحِ الْمُشْتَرَى بدَيْنِ يَمْلِكُ مِثلَهُ وَلَمْ يُنقّدْهُ ثَلاثَةٌ: الأَصْلُ، والشِّرَاءُ، وَالاسْتِقْبَالُ
كما لو كان عنده عشرون ديناراً، فاشترى بها سلعة على أن ينقدها، فلم ينقدها حتى حال الحول فباع السلعة بأربعين، فاختلف في عشرين الربح على ثلاثة أقوال: الأول: أنه
يزكي لحول الأصل، رواه ابن القاسم. ابن بزيزة: وهو المشهور. والقول الثاني: أنه يزكي من يوم الشراء، قاله ابن القاسم. وإلى هذا رجع مالك، نقله صاحب النوادر. والقول الثالث: يستقبل بالربح، رواه أشهب عن مالك، وهذه الصورة منطبقة على كلامه؛ إذ يصدق على العشرين أنها ربح مشترى بدين يملك مثله ولم ينقده، ولم يخالف هذا الفرع الذي قبله إلا بملكه مثله. وقوله:(ثَلاثَةً) أي ثلاثة أقوال.
وَيُسْتَقْبَلُ بِالْفَوَائِدِ بَعْدَ قَبْضِهَا، وَهِيَ مَا يُتَجدَّدُ لا عَنْ مَالٍ مُزَكَّى كَالْعَطَايَا وَالْمِيرَاثِ وَثَمَنِ سِلْعِ الْقِنْيَةِ ....
لما تكلم على الربح أتبعه بالكلام على الفوائد، ولا خلاف في الاستقبال بها. واعلم أن الأموال الحادثة على ثلاثة أقسام، منها: ما حدث لا عن مال كالعطايا والميراث. ومنها: ما حدث عن مال غير مزكى كثمن سلع القنية. ومنها: ما حدث عن مال مزكى كثمن سلع التجارة.
وبقي المتجدد عن غير مال، والمتجدد من مال غير مزكى. ووقع في بعض النسخ: وهو ماتجدد؛ أي: والمذكور كقوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] أي مما ذكر.
وَتُضَمُّ أُولاهُمَا نَاقِصَةً إِلَى الثَّانِيَةِ اتِّفَاقاً
إذا استفاد فائدة بعد أخرى، فإما أن يكون كل منهما نصاباً أو ما دون النصاب، وإما أن تكون الأولى نصاباً والثانية دونه أو العكس، وضابط زكاتهما أن تقول: إن كانت الأولى نصاباً زكي كلُّ مالٍ على حوله ولم يُضم إلى الآخر، كانت الثانية نصاباً أو دونه، وإن كانت الأولى ناقصة تضم للثانية؛ كانت الثانية ناقصة أو كاملة. وإلى هاتين الصورتين الأخيرتين أشار بقوله:(وَتُضَمُّ أُولاهُمَا نَاقِصَةً) وسيتكلم رحمه الله على الأولتين.
فَلَوْ ضَاعَتِ الأُولَى أَوْ أَنْفَقَهَا بَعْدَ حَوْلٍ ثُمَّ حَالَ حَوْلُ الثَّانِيَةِ نَاقِصَةٌ، فَفِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا قَوْلانِ لابْنِ الْقاسِمِ وَأَشْهَبَ، بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ حَوْلٍ وَاحِدٍ يَجْمَعُهُمَأ أوْ لَا ....
كما لو ملك عشرة في المحرم وعشرة في رجب، فحال حول المحرمية ثم أنفقها أو ضاعت، ثم حال حول الثانية ناقصة عن النصاب، فهل تسقط الزكاة عنهما أو لا؟ فقال ابن القاسم بالسقوط؟ لأنه يشترط اجتماعهما في الملك وكل الحول، ويلزم من اجتماعهما في الحول اجتماعهما في الملك، ولذلك اقتصر المصنف على ذكر الحول في منشأ الخلاف. وقال أشهب بوجوب الزكاة فيهما؛ لأنه إنما يشترط اجتماعهما في الملك وبعض الحول؛ لأن أشهب يرى أن زكاة كل فائدة على حولها، وإنما أخرت زكاة الأولى خشية ألا تبقى الثانية، فإذا تبين البقاء زكيتا.
واحترز بقوله: (ضَاعَتِ الأُولَى) مما إذا ضاعت الثانية، فإنهما يتفقان على سقوط الزكاة، و (بَعْدَ حَوْلٍ) مما إذا كان ذلك قبل حولها، فإنه لا خلاف في سقوط الزكاة؛ لفقدان الحول، وبنقصان الثانية مما إذا حال حول الثانية كاملة، فإنهما يتفقان حينئذٍ على وجوب الزكاة في الثانية ويختلفان في الأولى، وبهذه الفوائد يظهر أن قول ابن عبد السلام: تقييد المؤلف الثانية بالنقص مستغنى عنه؛ لأن كلامه في زكاة الأولى والثانية معاً. ليس بظاهر؛ لبيان ما احترز عنه.
فَإِنْ كَانَتِ الأُولَى كَامِلَةً زُكِّيَتَا عَلَى حَوْلَيْهِمَا، فَإِنْ نَقَصَتِ الأُولَى قَبْلَ حَوْلِهَا فَكَالنَّاقِصَةِ ....
قوله: (كَانَتِ الأُولَى كَامِلَةً) أي: سواء كانت الثانية كاملة أو ناقصة، وهما الصورتان الأوليان من الأربع صور المتقدمة. وقوله:(فَإِنْ نَقَصَتِ الأُولَى) كما لو كانت عشرين ثم صارت عشرة (فَكَالنَّاقِصَةِ).
فَلَوْ حَالَ حَوْلُ الأُولَى ثَانِياً نَاقِصَةً وَفِيهَا مَعَ [117/ أ] الثَّانِيَةِ نِصَابٌ، فَالْمَشْهُورُ بَقَاؤُهَا لا انْتِقَالُهَا إِلَى الثَّانِيَةِ ....
يعني: لو حال حول الفائدة الأولى في ثاني عام ناقصة بعد أن حال حول الأولى وهي كاملة، وجبت فيها الزكاة، فالمشهور أن كل فائدة تزكى على حولها، فلا تنقل الأولى إلى الثانية؛ لأن حولها قد تقرر بوجوب الزكاة فيها، والشاذ لابن مسلمة تنتقل كما لو نقصت بعد حولها. خليل: وهو الظاهر خلافاً لما رجح ابن راشد وابن عبد السلام؛ لأنا إذا لم نقل بانتقال الأولى إلى الثانية لزم أحد أمرين: إما زكاة دون النصاب، أو زكاة مال قبل حوله، وكلاهما لا يصح؛ لأنهما إما أن يقولا بزكاة الفائدة الأولى مع قطع النظر إلى الثانية أو لا. فإن قالوا بها مع قطع النظر لزم زكاة دون النصاب، وإن قالوا بها لا مع قطع النظر لزم تزكية المال قبل حوله؛ إذ الفرض أن الثانية لم يحل حولها. والله أعلم.
وَعَليْهِ لَوْ نَقَصَتَا مَعاً عن نِصَابٍ ثُمَّ رَبِحَ فِيهِمَ أَوْ فِي إِحْدَاهُمَا مَا يُكَمِّلُ بِهِ عِنْدَ حَوْلِ الأُولَى، رَجَعَ كُلُّ مَالٍ إِلى حَوْلِهِ وَقَبَضَ الرِّبْحَ إِنْ كَانَ فِيهِمَا، فَلَوْ كَانَ بَعْدَ شَهْرٍ فَمِنْهُ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى حَوْلِهِمَا، فَلَوْ كَانَ عِنْدَ حَوْلِ الثَّانِيَةِ أَوْ بَعْدَهُ رَجَعَتَا مَعاً مِنْهُ .....
أي: وعلى المشهور لو نقص مجموع الفائدتين عن نصاب فتجر في إحداهما، إما الأولى أو الثانية، فربح ما يكمل به النصاب عند حول الأولى، فإن كل مال يبقى على حوله؛ لأن كل مال مضموم إلى أصله. وإن كان التَّجْرُ فيهما معاً فكذلك، وفض ربحهما بالنسبة ليزكي ربح كل فائدة معها. كما لو بقيت كل واحدة منهما خمسة وتجر فيهما فصارتا عشرين. واعلم أن كمال النصاب في هذه المسألأة له خمس حالات: تارة قبل حول الأولى، وتارة عند حول الأولى، وتارة بين حول الأولى والثانية، وإليه أشار بقوله: (فَلَوْ كَانَ
بَعْدَ شَهْرٍ فَمِنْهُ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى حَوْلِهِمَا)، وتارة بعد حول الثانية، وتارة عنده، وإليهما أشار بقوله:(فَلَوْ كَانَ عِنْدَ حَوْلِ الثَّانِيَةِ أَوْ بَعْدَهُ رَجَعَتَا مَعاً مِنْهُ)، والضمير في كان عائد على النصاب.
وَلَوْ كَان بِيَدِه خَمْسَةٌ مَحْرَمِيَّةٌ ثُمَّ خَمْسَةٌ رَجَبِيَّةٌ فَتَجِرَ فِيهِمَا فَصَارَتَا أَرْبَعِينَ فِي الْمُحَرَّمِ فَضَّ الرِّبْحُ، فَيُزَكّي عِشْرِينَ فِي الْمُحَرَّمِ وَعِشْرِينَ فِي رَجَبٍ
…
يعني: أفاد خمسة محرمية ثم خمسة رجبية، فتجر فيهما فصارتا أربعين في محرم السنة الثانية، فإنه يفض الربح عليهما، فتكون كل واحدة بربحها عشرين، فتزكى المحرمية في المحرم وينتظر بالرجبية حولها.
فرع:
أما لو تجر بخمسة منهما ولم يدر هل من الأولى أو من الثانية، فإنه يضم الأولى إلى الثانية، قاله ابن راشد. زاد ابن عبد السلام: ولو خلط الخمستين ثم أخذ منهما خمسة، فتجر فيها، فلا زكاة حتى تبلغ بربحها أربعين، فيزكي عشرين في المحرم وعشرين في رجب، إن كان أنفق الخمسة التي لم يتجر فيها قبل نضوض ربح هذه السلعة.
وَالْمَضْمُومَتَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّالِثَةِ كَالأُولَى بالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّانِيَةِ
يعني: أن الفوائد إذا تعددت فكانت ثلاثاً، فإن كانت الأولى نصاباً بقي كل مال على حوله، وإن كانت دون النصاب ضمت إلى الثانية ثم صارت هاتان المضمومتان كالفائدة الواحدة أولاً وتصير الثالثة كالثانية، فإن حصل من مجموع الأولى والثانية نصاباً كانا على حول الثانية والثالثة على حولها، وإلا ضم الجميع وزكي إن كان فيه نصاب، وقس على هذا فيما زاد.
وَفِي إِلْحَاقِ غَلَّةِ سِلَعِ التِّجَارَةِ بالرِّبْحِ أَوْ بالْفَوَائِدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي عَيْنِهَا زَكَاةٌ قَوْلانِ
يعني: وفي إلحاق ثمن الغلة الناشئة عن سلع التجارة بشرط ألا يكون في عين الغلة الزكاة بالربح أو بالفوائد قولان. المشهور: كالفوائد. ولذلك أدخل المصنف هذا الفرع في فصل الفوائد، وإلا ففصل الغلات أليق به.
واحترز بقوله: (سِلَعِ التِّجَارَةِ) من غلة سلع القنية، فإن غلتها يستقبل بها اتفاقاً.
واحترز بقوله: (إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي عَيْنِهَا زَكَاةٌ) مما لو كان في عينها زكاة، كما لو اغتل نصاباً من الثمر أو الحب، فإنه يزكيه زكاة الثمر اتفاقاً، ثم إن باعه استقبل بثمنه اتفاقاً، ودخل في قوله: إذا لم يكن في عينها زكاة. ما لا تجب في عينه زكاة أصلاً، أو تجب ولكنه دون النصاب. ابن عبد السلام: وبقي هنا شيء، وذلك أن فائدة الشرط:[117/ب] إنما هي في انتفاء المشروط؛ لانتفائه. والخلاف المذكور موجود في الأعراض وإن كانت في غلة سلع التجارة الزكاة كما بينه المصنف الآن في فصل الغلات، وإذا كان الخلاف موجوداً مطلقاً فلا فائدة في الشرط. انتهى. وفيه نظر؛ لأن المصنف لم يحكِ في فصل الغلات خلافاً فيما إذا كان في عينها زكاة.
وَالْغَلَّةُ: النَّمَاءُ عَنِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَضَةٍ
النماء: جنس يشمل الثلاث، وقوله:(عَنِ الْمَالِ) يخرج نوعاً من الفوائد كالعطايا والميراث، ودخل في كلامه الناشئ عن مال قنية أو تجارة، وأخرجهما بقوله:(مِنْ غَيْرِ مُعَاوَضَةٍ) إذ ثمن سلع القنية وثمن سلع التجارة إنما يحصل بعد المعاوضة، وعلى هذا فقول ابن عبد السلام: وقد أخرج المؤلف الفائدة بقوله: عن المال. فإن الفائدة وإن كانت نماء لكنها ليست ناشئة عن المال، وإنما حصلت بميراث أو عطية، ليس بظاهر.
كَمَنِ اشْتَرَى أُصُولاً لِلتِّجَارَةِ فَأَثْمَرَتْ، فَالْمَشْهُورُ كَفَائِدَةٍ، وَكَذَلِكَ غَلَّةُ دُورِ التِّجَارَةِ وَعَبِيدُهَا وَغَنَمُهَا
…
تصوره ظاهر، ولا يقال: قوله: (فَالْمَشْهُورُ كَفَائِدَةٍ) يقتضي تعميم الخلاف كما أشار إليه ابن عبد السلام في الفرع السابق؛ لأنا نقول كلامه محمول على ما إذا لم يكن في عين الغلة زكاة، وأما لو وجبت في عينها زكاة فإنها تزكى، نص عليه غير واحد ولم يذكروا في ذلك خلافاً، وقد صرح ابن هارون بالاتفاق على ذلك.
فرع:
قال في النوادر: ومن الموازية قال مالك: وما اتخذته المرأة من الحلي لتكريه فغلته فائدة، وكذلك غلة ما اشتري للتجارة والقنية من رباع وغيرها. قال: وأما من اكترى داراً ليكريها، فما اغتل من هذه فليزكِّه لحول من يوم زكى ما تقدم من كراتها لا من يوم اكتراها، وهذا إذا اكتراها للتجارة أو للغلة؛ لأن هذا متجر، وأما إن اكتراها للسكنى فأكراها لأمر حدث له، فلا يزكي غلتها وإن كثرت، إلا لحول من يوم يقبضها.
وقال أشهب: لا زكاة عليه في غلتها، وإن اكتراها للتجارة كغلة ما اشترى.
التونسي: وقول ابن القاسم أبين؛ لأنه إنما اشترى منافع الدار لقصد الربح والتجارة، فإذا اكتراها فقد باع ما اشتراه بخلاف غلة ما اشترى.
وَلوِ اشْتَرَاهَا مَعَهَا قَبْلَ طِيبِهَا، فَكَذَلِكَ كَالْعَبْدِ بِمَاله ثُمَّ يَنْتَزِعُهُ
اعلم أن الثمرة لا يجوز بيعها قبل صلاحها إلا على القطع أو مع أصولها. ومعنى كلامه: أنه اشترى الثمرة مع الأصول الأول قبل طيب الثمرة وباعها بعد طيبها، بشرط ألا يكون نصاباً، أو قبل طيبها على القطع، فثمنها فائدة على المشهور. وذكر هذا الفرع لتوهم دخوله في الأرباح؛ لأن الثمرة قد باشرها العقد، فإذا باعها بثمن فكأنه نشأ عن
المال بعد المعاوضة له، فرفع هذا التوهم بقوله:(فَكَذَلِكَ) ووجهه أن مباشرة العقد للثمرة هنا كان بطريق التبع فلم تكن مقصودة فلم تحصل معاوضة، ويبين لك هذا أنه لو كانت الثمرة مأبورة حين العقد لزكى ثمنها لحول الأصل.
ففي النكت قال بعض شيوخنا: إذا اشترى غنماً للتجارة عليها صوف تام يوم عقد البيع ثم بعد ذلك جزه فباعه، فهذا الصوف كسلعة ثانية اشتراها للتجارة، إن أقام هذا الصوف عنده حولاً زكى ثمنه، ولا يكون ثمنه غلة يستقبل بها حولاً. وكذلك النخل يشتريها وفيها ثمر مأبور يوم عقد البيع، هذا على مذهب ابن القاسم، وعلى قول أشهب يكون غلة، وإن كان الصوف يوم عقد البيع تاماً والثمر مأبوراً. ويؤخذ جواب ابن القاسم فيما وصفناه من مسألة كتاب العيوب إذا رد النخل والغنم بعيب، وكان يوم عقد البيع في النخل تمراً مؤبراً، وعلى ظهور الغنم صوف تام. انتهى.
وذكر ابن محرز أن أهل المذهب قالوا أنه يستقبل بثمن الثمرة وإن كانت مأبورة يوم شراء الأصل. قال: والقياس أن يزكيه على مذهب ابن القاسم، فأشار إلى ما ذكره عبد الحق.
وقوله: (كَالْعَبْدِ بِمَاله ثُمَّ يَنْتَزِعُهُ) تنظير. أي: كما أن العبد إذا اشتراه بماله ثم انتزعه المشتري، يكون ماله فائدة، فكذلك ثمن الثمرة.
وَلوْ بَاعَهَا قَبْلَ طِيبهَا ضَمَّهَا كَالرِّبْحِ
أي: باعها بأصولها كما لو اشتراها. وصرح المصنف بهذا دفعاً للتوهم، وهو أن يقال: لم لا يستقبل بما قابل الغلة؛ لأن الحكم في الغلات [118/أ] الاستقبال. فإن قلت: فهل يتناول ما إذا باعها مفردة قبل طيبها؟ فالجواب: لا. أما أولاً: فلأن قوله: (ضَمَّهَا) لا يصدق على الصورة المذكورة؛ لأن الضم إنما يكون حيث يكون هناك شيء يضم إليه. وأما ثانياً: فلأنه إذا باعها مفردة قبل الطيب، فلا شك أنها غلة سلع للتجارة، وقد قدم
المصنف أن غلة ما اشتري للتجارة فائدة على المشهور. وأيضاً فإنه لم يفرض صاحب النوادر وغيره المسألة إلا على الوجه الذي ذكرناه أولاً.
تنبيه:
وقع هنا في بعض النسخ ما نصه:
فَإِنْ وَجَبَتْ زَكَاةٌ فِي عَيْنِهَا، زَكَّى الثَّمَنَ بَعْدَ حَوْلٍ مِنْ تَزْكِيَتِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ
ومعناها: فإن وجبت زكاة في عين الغلة، وهذا معنى قوله:(بَعْدَ حَوْلٍ مِنْ تَزْكِيَتِهِ) أي: ما ذكر. ولو قال بعد تزكيتها لكان أحسن. والمشهور نقله ابن يونس عن مالك؛ لكنه إنما نقله فيما إذا اكترى أرضاً فزرع فيها للتجارة، وقيده هو فقال: يريد إذا اكترى الأرض للتجارة، واشترى طعاماً للتجارة، وزرعه فيها للتجارة. وأما لو اكترى أرضاً ليزرع فيها طعاماً لقوته، ثم بدا له فزرع فيها للتجارة، فإنه إذا زكى الحب ثم باعه، فإنه فائدة ويستقبل بثمنه حولاً من يوم باعه. انتهى.
والشاذ لأشهب؛ لأنه يستقبل بثمنه، وكان الأحسن على تقدير ثبوت هذه النسخة أن تؤخر عن قوله: ولو اشترى أو اكترى أرضاً للتجارة، وزرعها للتجارة. وكذلك وقع في بعض النسخ. والله أعلمز
ولَوِ اشْتَرَى أَوِ اكْتَرَى أَرْضاً لِلتِّجَارَةِ وَزَرَعَهَا لِلتِّجَارَةِ فَغَلْتُهَا كَالرِّبْحِ
يريد: إذا كان الخارج دون النصاب كما تقدم. ومعنى كلامه: أنه إذا اشترى أرضاً للتجارة وزرعها قاصداً بها التجارة، أو اكتراها للتجارة وزرعها كذلك، فإن غلتها كالربح يزكى ثمنها لحول الأصل. واعلم أنه إنما فرض المسألة في المدونة في الكراء، وكذلك كل من تكلم عليها فيما رأيت كالتونسي، وابن يونس، واللخمي، وعياض، وابن بشير، ولم أر من سوى بين الكراء والشراء كما فعل المصنف. وكذلك ابن شاس إنما
فرضها في الكراء، ولهذا اعترض عليه ابن عبد السلام، وقال: قوله فيما اكترى صحيح، وأما فيما اشترى فليس كذلك؛ لأنه قدم أن غلة ما اشترى للتجارة المشهورة أنه كفائدة، فأشار إلى التناقض في كلامه.
واختلف هل يشترط مع ذلك أن يكون البذر مشترى للتجارة؟ طريقان: ذهب إلى الاشتراط ابن شبلون وغير واحد من القرويين، ورأوا أنه متى ما دخل فصل من فصول القنية بقي حكمها في الزرع على حكم الفائدة؛ إذ الأصل في الغلات الاستقبال. وذهب أبو عمران إلى عدم الاشتراط. وظاهر كلام المصنف نفي الاشتراط، وكذلك هو ظاهر المدونة؛ لأن كلامه فيها مثل كلام المصنف. وصوب بعضهم ما ذهب إليه ابن شبلون. قال في التنبيهات بعد ذكر الطريقين: والمسألة إنما هي إذا كانت الأرض مكتراة للتجارة، وهو معنى مسألة المدونة على مذهب ابن القاسم، وأما على مذهب أشهب فعلى كل وجه من وجوه المسألة، الزرع غلة لا يزكى ثمنه حتى يستقبل به حولاً، قاله في المجموعة.
إذا اكترها للتجارة واشترى قمحاً فزرعه فيها للتجارة وزكى الحب ثم باعه لحول أو أحوال، فلا يزكيه وليأتنف حولاً من يوم يقبضه مديراً كان أو غير مدير، وهذا على أصله في غلة ما اكترى للتجارة، وهو قول ابن نافع في المبسوط. كما قال أشهب: في الزرع سواء. وإليه ذهب سحنون فيما حكاه عنه فضل بن مسلمة، وإن كان الباجي وغيره قالوا: إذا اجتمعت الوجوه الثلاثة للتجارة، اكترى الأرض، واشترى الحب، والزراعة، فلا خلاف أنه يزكي الحب على التجارة، ولم يبلغ قائل هذا قول أشهب. انتهى.
ويمكن أن يوجه كلام المصنف لو ساعدته الأنقال بأن يقال: غلة ما اشترى للتجارة قسمان: قسم لا يضم مع الشراء للتجارة: إخراج مال كغلة دون التجارة، فإن غلتها نشأت عن غير مال فصدق عليها أنها نماء عن المال من غير معاوضة به. وقسم يضم مع الشراء: إخراج مال وعمل وهو الزرع، إذ لابد أن يشتري بذراً ويعمل فيها فأشبه الربح؛ لأن غلتها كأنها نماء عن المال بعد المعاوضة.
وإِنْ كَانَ الأَمْرَانِ لا لِلتِّجَارَةِ اسْتَقْبَلَ بِثَمَنِهَا
يعني بالأمرين الاكتراء والزرع، والاشتراء والزرع. وقوله:(لا لِلتِّجَارَةِ) يدخل فيه ما إذا نوى القنية أو لم ينو شيئاً، إذ الأصل القنية. وقوله:(بِثَمَنِهَا) أي: بثمن الغلة إذا لم يكن في عينها زكاة كما تقدم. ووقع في نسخة ابن عبد السلام: بثمنهما. قال: وثنى الضمير لأنه راجع إلى الأرض والزرع.
وإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا للِتِّجَارَةِ، فَأَرْبَعَةٌ: الْمَشْهُورُ يُسْتَقْبَلُ بِالثَّمَنِ، والْحُكْمُ لِلأَرْضِ، والْحُكْمُ لِلبَذْرِ والْعَمَلِ، وَيَسْقُطُ عَلَى الثَّلاثَةِ ....
يعني: وإن كان أحد الأمرين للتجارة فأربعة أقوال. وهذه المسألة فيها موجب وهو الذي للتجارة، ومسقط وهو الذي لغيره. ففي المشهور رجح المسقط؛ لأن الأصل عدم الزيادة.
والقول الثاني: أن الحكم للأرض ولا ينظر إلى البذر والعمل وهو قول أبي عمران. فإن كانت الأرض للقنية استقبل بالثمن حولاً، وغلا زكى الثمن لحول من يوم زكى عين الطعام وإن كان فيه نصاب، وإن قصر عن النصاب زكى الثمن لحول من يوم زكى ما اكترى به الأرض.
الثالث: أن الحكم للبذر والعمل.
الرابع: لعبد الحميد: أنه يسقط الثمن على الثلاثة؛ الأرض والبذر والعمل. فلو كانت الأرض للتجارة واكتراها بمائتين والبذر للقنية واشتراها بمائة وكذلك العمل، وباع بثمانمائة، فإنه يزكى أربعمائة لحول الأصل ويستقبل بأربعمائة، هذا إذا لم يكن في عين الغلة نصاب.
وفِي إِلْحَاقِ كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ بِالثَّمَنِ أَوْ بِالْغَلَّةِ قَوْلانِ
يعني: من اشترى عبداً للتجارة وكاتبه، فهل يلحق ما يأخذه من الكتابة بالثمن وكأنه اشترى نفسه فيزكى لحول ثمنه، أو بالغلة فيستقبل به؛ لأن هذا ليس بمعاوضة
حقيقة. ألا ترى أنه لو عجز ولو عن قليل أنه يرق ولا يعتق منه شيء، وهذا الثاني هو المشهور ولم يَحْكِ ابن يونس غيره، نعم حكى ابن بشير القولين، ولو كان العبد للقنية استقبل بثمنه اتفاقاً. ولما فرغ من الربح والفائدة والغلة تكلم على الدين، فقال:
وَالدَّيْنُ إِنْ كَانَ أَصْلُهُ بيَدِهِ عَيْناً، أَوْ عَرَضَ زَكَاةٍ وَقَبَضَهُ عَيْناً زَكَّاهُ عِنْدَ قَبْضِهِ بَعْدَ حَوْلِهِ أَوْ أَحْوَالِهِ زَكَاةً وَاحِدَةً إِنْ تَمَّ الْمَقْبُوضُ نِصَاباً بِنَفْسِهِ، أَوْ بِعَيْنٍ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَجَمَعَهُ وَإِيَّاهُ مِلْكٌ وَحَوْلٌ .......
يعني: أن الزكاة تجب في الدين بأربعة شروط:
أولها: أن يكون أصله بيده عيناً، أو عرض زكاة. أي: عرض احتكار. وأما دين المدير، فسيتكلم المصنف عليه في بابه.
ثانيها: أن يقبض، فلو لم يقبض لم يزكِّ. وفيه تنبيه على مذهب الشافعي فإنه أوجب الزكاة فيه وهو على الغريم.
ثالثها: أن يكون المقبوض عيناً، فلو قبضه عرضاً لم تجب الزكاة فيه، إلا أن يكون مديراً.
وقوله: (زَكَّاهُ عِنْدَ قَبْضِهِ) جواب الشرط، وهو بيان لكيفية زكاته. أي: إذا حصلت شروط زكاة الدين فإنما يزكى زكاة واحدة. وقوله: (بَعْدَ حَوْلِهِ أَوْ أَحْوَالِهِ) أي: بعد مضي حول أصل الدين لا الدين، فلو كان عنده نصاب ثمانية أشهر ثم داينه شخص فأقام عنده أربعة أشهر ثم اقتضاه، زكاه إذ ذاك.
رابعها: أن يتم المقبوض نصاباً بنفسه، أو بعين قبل القبض، أو معه أو بعده، يعني: حال حولها قبض القبض، أو مع القبض، أو بعد القبض.
وقوله: (وَجَمَعَهُ وَإِيَّاهُ مِلْكٌ وَحَوْلٌ) شرط العين التي يتم بها المقتضى. والظاهر أن قوله: وجمعه وإياه ملك وحول. مستغنى عنه. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن يقال: إنما يتم
الاستغناء عنه على ما قدرت من أن قوله: قبل القبض أو معه. عائد على الحول، أي: حال حولها قبل القبض أو معه. وأما إذا قدرت بعين حصلت قبل القبض أو معه أو بعده فلا، وهو ظاهر. والواو في قوله:(ومعه) بمعنى (أو). وقد وقع التصريح بـ (أو) في بعض النسخ. والله أعلم.
وقوله: (زَكَّاهُ عِنْدَ قَبْضِهِ) لا يلتئم مع قوله: (بعده) وإنما هو راجع إلى قوله: (قبل القبض أو معه). فإن قلت: لم لا جعلت قوله: (بَعْدَ حَوْلِهِ أَوْ أَحْوَالِهِ) شرطاً؟ قيل: لأن الحول شرط في كل ما زكاه وليس خاصاً بالدين، ولا ينبغي أن يضاف من الشروط إلى الدين إلا ما كان خاصاً به.
وَفِي إِتْمَامِهِ بالْمَعْدِنِ قَوْلانِ
كما لو اقتضى من دينه عشرة وأخرج من معدنه عشرة، ففي التلقين: يضمان؛ لأن المعدن لما لم يشترط فيه الحول صار [119/أ] بمنزلة مال قد حل حوله، وهو الظاهر، واستحسنه المازري. ولم أر القول بعدم الضم، لكنه يأتي على ما فهمه ابن يونس من المدونة أن المعدن لا يضم إلى عين حال حوله عنده كما سيأتي.
ثُمَّ يُزّكَّي مَا يَقْبِضُ مِنْهُ بَعْدُ وَإِنْ قَلَّ
أي: بعد النصاب. وقوله: (وَإِنْ قَلَّ) أي: ولو كان درهماً.
وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ مَا لَمْ يُؤَخِّرْ قَبِّضَهُ فِرَاراً، وَخُولِفَ
هذا راجع إلى قوله: (زَكَاةً وَاحِدَةً). أي: وقال ابن القاسم: يزكيه لكل حول إذا أخر قبضه لأجل الفرار من الزكاة. وقد ألزمه ابن يونس لأشهب من تعليله بأن الزكاة وجبت فيه وهو على الغريم، وإنما منعناه من إلزامه بها خشية ألا يقبض الدين.
وقوله: (وَخُولِفَ) يقتضي أنه انفرد بذلك، وذلك لأن العاقل لا يؤخر قبض دينه لأجل الزكاة، بل لو اشترى به أي شيء لكان استفاد به مقدار الزكاة وزيادة. واعلم أن مخالفة ابن القاسم ليست مطلقة، بل يتفق في بعض أنواع الدين على مثله. ففي المقدمات: الدين أربعة أقسام:
أولها: أن يكون من ميراث، أو عطية، أو أرش جناية، أو مهر امرأة، أو نحو ذلك. فهذا لا زكاة فيه ويستقبل به حولاً بعد قبضه، وإن ترك قبضه فراراً.
ثانيها: أن يكن من ثمن عرض أفاده، فهو كذلك إن باعه بنقد، وكذلك إن باعه بمؤجل، خلافاً لابن الماجشون. وإن أخر قبضه فراراً، فيتخرج على قولين: أحدهما: زكاته لماضي الأعوام. والثاني: أنه باقٍ على حكمه ويستقبل به.
وثالثها: أن يكون من ثمن عرض اشتراه بنقد للقنية، فإن باعه بنقد استقبل به، وإلى أجل زكاه لعام بعد قبضه. وإن أخر قبضه فراراً، زكاه لماضي الأعوام اتفاقاً.
رابعاً: أن يكون الدين من كراء أو إجارة، فإن قبضه بعد استيفاء السكنى والخدمة فحكمه كالقسم الثاني. انتهى بمعناه.
وقال ابن يونس –وهو في المدونة-: وكل سلعة أفادها الرجل بميراث، أو هبة، أو صدقة، أو اشتراها رجل للقنية –داراً كانت أو غيرها من السلع- فأقامت بيده سنين أو لم تقم، ثم باعها بنقد فمطل بالنقد، أو باعها إلى أجل فمطل الثمن سنين، أو أخره بعد الأجل، فليستقبل به حولاً بعد قبضه. انتهي.
فانظر هذا مع ما حكاه صاحب المقدمات من الاتفاق في القسم الثالث، فإن ظاهره ينافيه؛ إلا أن يحمل كلام ابن يونس على ما إذا أخره غير قاصد الفرار. والله أعلم.
فَلَوْ تَلِفَ الْمُتِمُّ اعْتُبِرَ عَلَى الأَصَحِّ بِخِلافِ الْفَائِدَتَيْنِ، كَمَا لَوْ قَبَضَ عَشَرَةً لا يَمْلِكُ غَيْرَهَا فَضَاعَتْ ثُمَّ عَشَرَةً
…
لو تلف الْمُتِمُّ، وهي العشرة الأولى في مثال المصنف بأن ضاعت أو سرقت، ففي المسألة قولان: القول بالزكاة وهو الذي صححه المصنف، عزاه صاحب النوادر وغيره لابن القاسم، وأشهب، وسحنون. والقول بعدم الزكاة لابن المواز.
وجه القول الأول: أن العشرين قد اجتمعتا في الملك والحول، وإنما منع من الزكاة عن العشرة الأولى خشية ألا يقتضي غيرها. ووجه مقابل الأصح: القياس على الفائدتين. وهي المسألة التي أشار المصنف إليها بقوله: (بِخِلافِ الْفَائِدَتَيْنِ) وهو ما تقدم من قوله: (فلو ضاعت الأولى أو أنفقها بعد حول، ثم حال حول الثانية ناقصة، ففي سقوط الزكاة
…
) إلى آخر. ابن عبد السلام: وقيل سقوطها هو الأصح؛ لأن النصاب ضاع بعضه قبل التمكن من إخراج الزكاة، إذ الضياع هنا قبل كمال النصاب. والجمهور ما عدا ابن الجهم على سقوط الزكاة فيما إذا ضاع جزء من النصاب بعد الحول وقبل التمكن، كما تقدم. انتهى.
ويمكن أن يفرق بينهما بقوة تعلق الزكاة بالدين، إذ من العلماء من ذهب إلى وجوبها قبل القبض فكيف بعده؟
وقوله: (لا يَمْلِكُ غَيْرَهَا) ليس من باب الحصر بل تمثيل، إذ الحكم جار سواء ملك غيرها أو لم يملك، ولكن ليس فيه مع العشرة المقتضاة كمال النصاب.
فَلَوْ أَنْفَقَهَا فَالِّرَوايَاتُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى الزَّكَاةِ
يعني: فلو أنفق العشرة المفروض ضياعها في الفرع السابق، فالروايات متفقة على وجوب الزكاة؛ لأن العشرين قد اجتمعتا في الملك والحول مع الانتفاع بكل منهما. وأشار
بقوله: (فَالرِّوايَاتُ) إلى ما نقل ابن بشير، وابن شاس: أن بعض المتأخرين رأى أن الخلاف المتقدم جارٍ هنا أيضاً، وكان ينبغي على هذا أن يقول على المنصوص جرياً على عادته.
وَفُرِّقَ للِشَّاذِّ بالتَّسَبُّبِ وَالانْتِفَاعِ
(الشَّاذِّ) هو مقابل الأصح في قوله: (فَلَوْ تَلِفَ الْمُتِمُّ). أي: وفرق لمقابل الأصح في إيجابه الزكاة مع الإنفاق، وإسقاطه الزكاة في الضياع بالتسبب والانتفاع. وفي كلامه فائدتان:
إحداهما: عدم [119/ ب] صحة التخريج.
والثانية: أن الشاذ صحيح، وأن الأصح مشهور، إذ الشاذ إنما يقابله المشهور والله أعلم.
وَفِي أَوَّلِيَّةِ حَوْلِ الْمُتِمِّ بَعْدَ تَمَامِهِ أَوْ حِينَ قَبْضِهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَاَشْهَبَ
صورتها: أن يقتضي عشرة في المحرم ثم عشرة في رجب، فهل ينتقل حول المحرمية المقتضاة أولاً إلى الرجبية كما في الفوائد- وهو قول ابن القاسم، وهو المشهور- أو لا ينتقل، بل حول كل واحدة من يوم اقتضائه وهو قول أشهب، ولا يخفى عليك توجيهها.
وَلَوْ زَكَّى نِصَاباً أَوَّلاً ثُمَّ حَالَ حَوْلُهُ نَاقِصاً وَفِيهِ مَعَ الثَّانِي نِصَابٌ، فَكَالْفَائِدَتَيْنِ مِثْلُهُمَا
…
يعني: لو قبض من دينه نصاباً فزكاه أول الأمر، ثم قبض من دينه دون النصاب فزكاه، ثم حال حول الثاني وليس في الأول نصاب لكن فيه مع المقتضى ثانياً نصاب، فهل يزكي المقتضى أولاً قبل الحول الثاني- وهو المشهور- أو ينتظر به حول الثاني؟ وفي بعض النسخ (أول) ظرف مقطوع عن الإضافة، وفي بعضهما (أولاً) ظرف متعلق بـ (زكى).
وقوله: (فَكَالْفَائِدَتَيْنِ) أي: أن الحكم في الاقتضاءين كالحكم في الفائدتين. وقد تقدم من قوله: (ولو حال حول الأولى ثانياً وفيها مع الثانية نصاب، فالمشهور بقاؤها لا انتقالها إلى الثانية). والضمير المجرور بـ (مثل) عائد على الفائدتين، وهو بدل أو عطف بيان. ولو حذف قوله:(وفيه مع الثاني نصاب) لفهم المعنى من التشبيه.
ولَوِ اقْتَضَى دِينَاراً ثُمَّ آخَرَ، فَاشْتَرَى بكُلِّ سِلْعَةٍ بَاعَهَا بِعِشْرِينَ، فَإِنْ بَاعَهُمَا مَعاً، أَوْ بَاعَ إِحْدَاهُمَا قَبْلَ اشْتِرَاءِ الأُخْرَى فَوَاضِحٌ، وإِلا فَطَرِيقَانِ: الأُولَى: يُزَكَّي الْمَبِيعَ أَوَّلاً مِنْهُمَا مَعَ الدِينَارِ الآخَرِ فَقَطْ. والثَّانِيَةُ: فِي تَزْكِيَةِ رِبْحِ الأُخْرَى قَوْلانِ عَلَى أَصْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَاَشْهَبَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ مِنْ حِينِ الشَّراء أَوْ مِنْ حِينِ الحُصُولِ
…
يعني: أن من له دين لا يملك غيره، أو يملك ما لا يكمل النصاب به، فاقتضى منه ديناراً ثم ديناراً آخر واشترى بكل واحد منهما سلعة باعها بعشرين، وظاهر كلام المصنف التسوية بين شرائهما في وقت واحد أو وقتين.
وقوله: (فَإِنْ بَاعَهُمَا) أي: لبيعهما ثلاث حالات:
الأولى: أن يبيعهما معاً.
الثانية: أن يبيع إحداهما قبل شراء الأخرى. قال المصنف: (فواضح). أي: الحكم واضح. أي: يزكي في الصورة الأولى أربعين وفي الثانية إحدى وعشرين، ولا خفاء فيه.
وقد نبه على الصورة الثالثة بقوله: (وإِلا فَطَرِيقَانِ) أي: وإن لم يبيعهما معاً ولا باع إحداهما قبل شراء الأخرى، بل باع إحداهما بعد أن اشترى الأخرى، وسواء بدأ بيع المشتراة أولاً أو آخراً، ففي المسألة طريقان:
الأولى: لأبي بكر بن عبد الرحمن، يزكي المبيع أولاً منهما مع الدينار والآخر فقط؛ أي: ثمن السلعة المبيعة والدينار الذي هو ثمن السلعة التي لم يبعها بعد. وأفلاد بقوله: (فقط) أنه على هذه الطريقة الأولى لا يزكي غير الإحدى والعشرين.
والطريقة الثانية: يزكي الإحدى والعشرين اتفاقاً. وفي تزكية ربح الأخرى- أي: التسعة عشر- قولان: أحدهما: مثل الطريقة الأولى. والثاني: يزكي الأربعين. وبناها المصنف على أصل قول ابن القاسم وأشهب المتقدم في الربح مع المغيرة، هل يضم الربح من حين الشراء فيزكي الأربعين، أو من حين الحصول فلا يزكي غير الإحدى والعشرين؟ وبيان هذا أنك إذا قدرت ربح السلعة الثانية موجوداً مع أصله حين شرائها فيزكي؛ لأنه يكون مالكاً لأربعين. وإن قدرت الربح موجوداً مع أصله حين حصوله، والفرض أن أصله زكي، أي: الدينار، فيكون ربح مال قد زكي فيستقبل به، وهذه الطريقة لابن بشير، وذكر أن المشهور زكاة الأربعين، وتبعه صاحب الجواهر، وصاحب الذخيرة، واقتصر اللخمي على زكاة الأربعين.
وَلَوْ وُهِبَ الدَّيْنُ لِغَيْرِ الْمِدْياَنِ فَقَبَضَهُ، فَفِي تَزْكِيَةِ الْوَاهِبِ قَوْلانِ كَالْمُحِيلِ الْمَلِيء
…
القول بالوجوب لابن القاسم في الموازية والعتبية، ورأى أن قبض الموهوب له كقبض الوكيل، وبه علل محمد وأصبغ مسألة الإحالة قالا: لأن قبض المحال كقبض محيله. والقول بعدمها لأشهب، ولم ير قبض الموهوب له، والمحال كقبض الوكيل؛ لأنهما إنما قبضا لأنفسهما. خليل: ولعله الجاري على مذهب المدونة؛ لأنه نص فيها على عدم زكاة الواهب إذا وهب الدين للمدين، إلا أن يفرق بينهما بتحقق قبض العين في هبته، فيكون كالوكيل بخلاف المدين، وهذا هو الأقرب في كلام المصنف؛ لتقييده بغير المديان.
محمد: والأول أحب إلينا. قال: وتؤخذ الزكاة منها لا من غيرها.
ابن محرز: قال شيخنا أبو الحسن: وإنما تؤخذ الزكاة إذا قال الواهب أردت هذا، وإن لم [120/أ] يكن أراد ذلك، فقد قال ابن القاسم في بائع الزرع بعد وجوب الزكاة: إن الزكاة على البائع إن لم يشترط ذلك على المشتري. وقال أشهب: ينقض البيع في حصة الزكاة، يريد إذا عدم البائع،.
قال صاحب البيان: وتأول ابن لبابة على أصبغ أن الزكاة لا تجب على المحيل بنفس الإحالة حتى يقبضها المحتال بها؛ لقوله: فإن قبض المحال بها كقبضه. قال: مجمله على الخلاف لقول ابن القاسم، وهو تأويل فاسد، إذ لا وجه لمراعاة قبض المحتال فيما يجب على المحيل من الزكاة، وإنما يراعى قبضه في خاصة نفسه. ومعنى قول أصبغ: لأنه كقبضه، يريد أن الإحالة كقبضها؛ أي: قبضها من صاحبها. انتهى.
ففهم عن ابن القاسم وجوب الزكاة وإن لم يقبض المحال الدين، وهو ظاهر لفظه في العتبية؛ لقوله: وسئل عن الرجل له على رجل مائة دينار وقد حال عليها الحول، فأحاله على الذي عليه المائة، أعلى المحيل بها فيها زكاة؟ قال: نعم يزكيها. قال أصبغ: لأنه كقبضه إياها من صاحبها.
وصورة الإحالة: أن يكون لشخص عند آخر دين وعليه دين، فأحاله الذي له الدين على الذي له عنده الدين، ووصف المحيل بالملاء احترازاً مما إذا لم يكن ملياً، فإنه إذ ذاك لا زكاة عليه؛ لكونه مديناً غير مليء.
وقوله: (الْمَلِيء) أي بقدر الدين، كما لو كان عنده من عروض القنية أو غيرها ما يجعله في الدين.
وَعَلَى تَزْكِيَةِ الْمُحِيلِ، فَهُوَ نِصَابُ يُزَكِّيهِ ثَلاثَةُ إِنْ كَانُوا أَمْلِيَاءَ
يعني: إذا قلنا بتزكية المحيل ما أحال به، فهو مال يزكيه ثلاثة رجال؛ أحدهم: المحيل. والثاني: المحال لأنه قابض لدينه، وكذلك المحال عليه؛ لأن الإنسان إذا كان عنده مال حال عليه الحول وهو مليء وعليه دين فلا يعطيه في دينه حتى يزكيه.
وقوله: (إِنْ كَانُوا أَمْلِيَاءَ) ظاهر، إذ لو كان أحدهما غير مليء بأن يكون مدياناً، لم يزكه. وهذه المسألة مما تلقى في المعاياة. فإن قلت: لا نسلم أنه يزكيه ثلاثة، وإنما يزكيه المحال والمحال عليه، وأما المحيل فإنما يزكى عنه؛ فجوابك أن معنى زكاه. أي: خوطب بزكاته ثلاثة. والله أعلم.
إِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ عَيْناً بِيَدِهِ فَكَالْفَائِدَة ِبَعْدَ قَبْضِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ عَنْ سِلْعَةِ قُنْيَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ
…
هذا راجع إلى قوله: (إن كان أصله بيده عيناً) وقوله: (عَيْناً) يريد أو عرض زكاة؛ لأن حكمهما واحد (فَكَالْفَائِدَة) أي: يستقبل به. قوله: (وَكَذَلِكَ
…
) إلخ. أي أن الدين الذي ليس أصله عيناً ولا عرض زكاة قسمان:
إن نشأ عن غير سلعة، كدية جرحه، ودية عبده ووليه، والميراث، استقبل به اتفاقاً.
وإن نشأ عن سلعة قنية، فإن باعها بنقد استقبل به اتفاقاً. صرح بذل ابن بشير، وابن شاس.
ابن عبد السلام، وابن هارون: وإنما الخلاف إذا باعها نسيئة، فالمشهور الاستقبال. وروى ابن نافع وجوب الزكاة، وسلك بالأجل نوعاً من التجارة، وقاله المغيرة وابن الماجشون، فليس الخلاف كما أطلقه المصنف. والله تعالى أعلم.
وَلا زَكَاةَ فِي صَدَاقِ عَيْنٍ إِلا بَعْدَ حَوْلٍ مِنْ قَبْضِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَاشِيَةُ غَيْرُ الْمُعَيَّنَةِ، فَأَمَّا الْمُعَيَّنَةُ مِنَ الْمَاشِيَةِ أَوِ الشَّجَرِ، فَعَلَيْهَا زَكَاتُهُ وَإنْ لَمْ يَقْبضْهُ؛ لأَنَّ ضَمَانَهُ مِنْهاَ
لا زكاة في صداق عين، أي: اتفاقاً. قال أشهب في المجموعة: ولو كانت الدنانير والدراهم معينة.
وقوله: (غَيْرُ الْمُعَيَّنَةِ) أي: لأن ضمانها من الزوج. وقوله: (فَأَمَّا الْمُعَيَّنَةُ مِنَ الْمَاشِيَةِ أَوِ الشَّجَرِ، فَعَلَيْهَا زَكَاتُهُ) يريد بشرط النصاب؛ لأن لها التصرف التام بالبيع والهبة.
وإِذَا اخْتَلَطَتْ أَحْوالُ الاقْتِضَاءِ، ضُمَّ الأخِيْرَ إلَى الأَولِ، وفي الفَوَائِدِ: الْمَشْهُورُ الْعَكْسُ. واسْتَحْسَنَ اللَّخْمِيُ حَولاً وَسَطاً، كَمَالٍ تَنَازَعَهُ اثْنَانِ
…
يعني: إذا التبست أحوال الاقتضاء ولم تعلم أحواله، فإنه يضم الآخر منهما إلى الأول. مثاله: لو اقتضى أول المحرم نصاباً ثم صار يقتضي قليلاً قليلاً إلى رجب، ثم نسي في العالم الثاني حول كل مال، فإنه يجعل حول الجميع من المحرم احتياطاً للفقراء. وأما في الفوائد: فالمشهور العكس، يضم الأول إلى الآخر. وقال ابن حبيب: بل يضم الآخر إلى الأول كالاقتضاء، ورواه عن مالك.
والفرق على المشهور أن الأصل في الدين أن يزكى بمرور الحول، ولذلك قال كثير من العلماء بالزكاة وهو على الغريم، لكن إنما منع من إخراجها على المذهب خوف عدم القبض، فإذا قبض كان ينبغي أن يرد إلى الحول الذي [120/ ب] كان عليه وهو على المديان، فإذا حصل الاختلاط رد الآخر إلى الأول؛ لأن الحول قد مر عليه بخلاف الفوائد فإن الأصل فيها عدم الزكاة، فيناسب ذلك ضم الأول إلى الآخر.
ابن بشير: واستحسن اللخمي أن يجعل في الجميع حولاً وسطاً لا يبنى على أول الاقتضاءات والفوائد ولا على آخرها. انتهى. وما فهمه ابن بشير عنه هو الذي يؤخذ من كلامه في التبصرة، وكلام ابن عبد السلام يقتضي أنه خصص ذلك بالفوائد، وليس بظاهر.
وَيُضَمُّ الاقْتِضَاءُ إلَى الفَائِدَة قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ
كما لو كان عنده عشرة فائدة حال حولها ثم اقتضى عشرة، وهذا ضم الاقتضاء إلى الفائدة قبله، أي: حال حولها قبل الاقتضاء.
وقوله: (أَوْ بَعْدَهُ) كما لو اقتضى عشرة ثم استفاد عشرة وكان لم يحل حولها، فإذا حل حولها والمقتضى باقٍ زكى الجميع.
قال ابن القاسم: ولو اقتضى عشرة دنانير من دين حال حولها فأنفقها، ثم حال حول الفائدة فزكاها، ثم اقتضى خمسة من دينه، فإنه يزكي هذه الخمسة؛ لكونها مقتضاة بعد حول الفائدة، ولا يزكي العشرة الأولى؛ لكونها لم تجتمع مع الفائدة، لكن لو اقتضى خمسة أخرى بعد الخمسة التي قبضها، زكى العشرة السابقة؛ لحصول النصاب من دينه.
المازري: وهذا يلهج به المدرسون، فيقولون: الفوائد تضاف إلى ما بعدها من الاقتضاءات ولا تضاف إلى ما قبلها، والاقتضاءات يضاف بعضها إلى بعض.
ولو اقتضى من دين حال حوله خمسة فأنفقها، ثم استفاد عشرة فأنفقها بعد حولها، ثم اقتضى عشرة، فإنه يزكي العشرة الفائدة والعشرة التي بعدها من الاقتضاء؛ لإضافة الفائدة لما بعدها، ولا يزكي الخمسة الأولى؛ لكونها لا تضاف إلى الفائدة، فإذا اقتضى خمسة أخرى زكى حينئذٍ عن الخمسة الأولى وعن هذه الخمسة؛ لكمال النصاب من الدين.
واختلف الأشياخ إذا اقتضى من دينه الذي حال حوله خمسة فأنفها، ثم استفاد عشرة فأنفقها بعد حولها، ثم استفاد عشرة أخرى فأنفقها بعد حولها، ثم اقتضى خمسة، فقال أبوبكر بن عبد الرحمن: يزكي هذه الخمسة؛ لأنها تستحق الإضافة لكل من الفائدتين، والفائدتان لا تضاف الخمسة الأولى إليهما، ولا تضاف إحداهما إلى الأخرى، وذهب غيره إلى عدم زكاة الخمسة الأخيرة؛ لأنها وإن وجب أن تضم لكل من الفائدتين لكونها بعدهما وإلى الخمسة السابقة لكون الاقتضاءات يضم بعضها إلى بعض، فإن كل واحدة من هذه الثلاثة لا تضم إحداهما إلى الأخرى.
فَإِنْ كَمُلَ باقْتِضَاءٍ قَبْلَ حَوْلِهَا تَفَرَّقَا، وقِيلَ كَالْخَلِيطِ الْوَسَطِ
يعني: وإن كمل النصاب من اقتضاءين وفائدة والفائدة بينهما، تفرق الاقتضاء من الفائدة ولم يجمعا.
قال ابن بشير وابن شاس مثاله: لو اقتضى عشرة ثم استفاد عشرة، ثم اقتضى خمسة بعد أن أنفق العشرة التي اقتضى أولاً. انتهى.
وقال ابن هارون مثاله: لو اقتضى أولاً عشرة، ثم أفاد خمسة وأنفق العشرة المقتضاة واقتضى قبل حول الفائدة خمسة. انتهى. والمثال الأول هو الذي يتكلم الناس فيه، والقولان للمتأخرين؛ أحدهما: نفي الزكاة، وإليه أشار بقوله:(تَفَرَّقَا) أي: تفرق الاقتضاء من الفائدة، ومعنى (تفرقا) أي: بقيا على افتراقهما.
والقول الثاني: وجوب الزكاة؛ لأن الخمسة المقتضاة آخراً قد اجتمعت مع كل من العشرتين في الملك والحول، فصارت بالنسبة إلى كل واحد منهما كخليط وسط.
فإن قلنا: إن خليط الخليط خليط، جاء منه القول الثاني. وإن قلنا: إنه ليس كالخليط لم تجب الزكاة، وهو القول الأول.
ابن بشير: لكن اختلفوا هل تجب الزكاة في الخمسة المقتضاة خاصة لأنها تزكى بالمالين، وسمعنى في المذكرات وجوب الزكاة في الجميع عند بعض الأشياخ. انتهى. وهذا القول الذي سمعه ابن بشير في المذاكرات هو مقتضى كلام المصنف، وأما الأول فلا؛ لأن مسألة الخليط الوسط لا خلاف أن الزكاة تجب في الطرفين والوسط، وإنما الخلاف في كيفية ذلك الوجوب.
قال شيخنا رحمه الله: والقول بزكاة الخمسة مشكل، ويتحصل في المسألة ثلاثة أقوال.
وفرض ابن عبد السلام المسألة أنه أنفق المقتضى أولاً قبل الاستفادة، فعلى فرضه يتفق ابن القاسم وأشهب على سقوط الزكاة؛ لأن العشرة الأولى لم تجتمع مع الفائدة
أصلاً، ويمكن أن تفرض على أنه أنفق بعد الاستفادة، فيختلف فيها على قولهما. فعلى قول ابن القاسم باشتراط الاجتماع في الملك وكل الحول، لا زكاة. وعلى قول أشهب باشتراط الملك وبعض الحول، تجب الزكاة.
ولَوْ تَلِفَ الْمُقْتَضَى ثُمَّ حَالَ حَوْلُهَا، فَقَوْلانِ كَالْفَائِدَتَيْنِ
[121/أ] كما لو اقتضى عشرة حال حولها، واستفاد عشرة لم يحل حولها حتى تلف المقتضى بأن سرق مثلاً، فابن القاسم يسقطها، وأشهب يوجبها.
وقوله: (كَالْفَائِدَتَيْنِ) أي: كالمسألة المتقدمة، وهي قوله: فلو ضاعت الأولى أو أنفقها بعد حول، ثم حال حول الثانية ناقصة، والتعليل كالتعليل. وقوله:(تَلِفَ الْمُقْتَضَى) يريد وأحرى لو أنفقه، فنبه بالأخف على الأشد.
ثُمَّ إِنِ اِقْتَضَى مَا يَكْمُلُ بِهِ إِحْدَاهُمَا، زَكَّاهُمَا، وفِي تَزْكِيَةِ مَا لا يَكْمُلُ بِهِ الْقَوْلانِ
يعني: لو كان المقتضى آخراً تكمل به الفائدة نصاباً ولا يكمل به الاقتضاء الأول، أو بالعكس، زكاهما؛ أي: اللذين يكمل منهما النصاب.
مثال الأولى: أن يقتضي أولاً خمسة عشر ثم يستفيد عشرة، ثم تهلك الخمسة عشر المقتضاة أولاً أو ينفقها، ثم يقتضي خمسة، فالمقتضى ثانياً يكمل النصاب المقتضى أولاً ولا يكمل الفائدة، فيزكي الاقتضاءين.
ومثال الثانية: أن يكون الاقتضاء أولاً عشرة والفائدة خمسة عشر، والاقتضاء الأخير خمسة، فيزكي الفائدة مع الاقتضاء الأخير.
وقوله: (وفِي تَزْكِيَةِ مَا لا يَكْمُلُ بِهِ الْقَوْلانِ) أي: الفائدة في الصورة الأولى، والاقتضاء في الصورة الثانية. والألف واللام في القولين للعهد، أي: قول ابن القاسم وأشهب: هل يشترط الاجتماع في الملك وكل الحول، أو في الملك وبعض الحول؟ فعلى
قول ابن القاسم: لا تجب الزكاة في الفائدة في الصورة الأولى، والاقتضاء في الثانية؛ لعدم الاجتماع في الملك وكل الحول. وعلى قول أشهب: يزكيهما؛ لأنه إنما يشترط الاجتماع في الملك وبعض الحول وقد حصل ذلك، ويحتمل أن يريد بالقول في أن خليط الخليط هل هو كالخليط أو لا؟ ويرجحه قرب هذين القولين؛ لكن الظاهر الأول؛ لأن وجوب الزكاة في الفائدة في المثال الأول إنما يتم إذا بنينا على أن خليط الخليط كالخليط، وعلى الاكتفاء في الملك وبعض الحول. والله أعلم.
وإِنْ كَمُلَ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا، زَكَّى الْجَمِيعَ
أي: وإن كمل باقتضاء الأخير كل واحد من الاقتضاء الأول والفائدة، زكى الفائدة والاقتضاءين، إذ الاقتضاء الثاني اجتمع مع كل واحد من الاقتضاء الأول والفائدة في الملك والحول. وبهذا يعلم أن المقتضى أولاً لا فرق فيه بين أن يضيع أو ينفقه، بخلاف الفوائد، والفرق بينهما ما قلناه من اجتماع الاقتضاءين هنا في الملك والحول، ومثاله: لو اقتضى عشرة ثم استفاد عشرة، فأنفق المقتضى أولاً أو ضاع ثم اقتضى عشرة، زكى الجميع. أي: الثلاثين.
وَالْعَرَضُ الْمَمْلُوكُ بمُعَاوَضَةٍ بِنِيَّةِ التَّجَارَةِ إِنْ كَانَ أَصْلُهُ بِيَدِهِ عَيْناً أَوْ عَرْضاً للِتِّجَارَةِ وَرَصَدَ بِهِ السُّوق وَبِيعَ بالْعَيْنِ، فَكَالدَّيْنِ ..
هذا شروع في زكاة العروض، ولا اختلاف في سقوط الزكاة عن عرض القنية.
ابن بشير: وقد فهمته الأئمة من قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم زكاة في فرسه وعبده". وأما عروض التجارة، فالزكاة تتعلق بها عند الجمهور خلافاً للظاهرية. والتجارة قسمان: إدارة، واحتكار. وبدأ المصنف بالاحتكار، وشرط في تعلق الزكاة بعرض الاحتكار خمسة شروط:
الأول: أن يملك بمعاوضة، فلا زكاة في عرض الميراث والهبة.
ثانيها: أن ينوي به التجارة، واحترز به من عدم نيتها، سواء نوى القنية أو لم ينو شيئاً، فإن الأصل فيه القنية.
ثالثها: أن يكون أصل هذا العرض المحتكر إما عيناً أو عرض تجارة، فلو كان أصله عرض قنية، استقبل بثمنه.
رابعها: أن يرصد به السوق، وهو أن يمسكه إلى أن يجد فيه ربحاً جيداً، احترازاً من المدير، فإنه لا يرصد الأسواق بل يكتفي بالربح القليل، وربما باع بغير ربح.
خامسها: أن يباع بعين، فلو باعه بعرض، فلا زكاة.
وقوله: (فَكَالدَّيْنِ) أي: فيزكيه لحوله أو أحواله زكاة واحدة، وهو جواب الشرط، والشرط وجوابه خبر المبتدأ، وهو العرض.
والْقَمْحُ ونَحْوُهُ عَرْضٌ، بِخِلافِ نِصَابِ الْمَاشِيَةِ
نحوه جميع الحبوب والثمار التي تتعلق بعينها الزكاة، وخص هذا النوع بالذكر- وإن كان من العرض- لأنه لما كانت الزكاة تتعلق بعينه قد يوهم ذلك خروجه من العروض. وقوله:(بِخِلافِ نِصَابِ الْمَاشِيَةِ) يعني: أن الماشية إذا قصرت عن نصاب فكالعروض، وإن كانت نصاباً زكيت من جنسها؛ لأن زكاتها من جنسها أصل فلا يعدل عنه.
فَإِنْ نَوَى الْغَلَّةَ فَفِي ثَمَنِهِ إِنْ بِيعَ قَوْلانِ
يعني: فإن نوى بالعرض عند شرائحه أن يستغله، كما لو نوى إكراءه. وقوله:(فَفِي ثَمَنِهِ إِنْ بِيعَ قَوْلانِ) أحدهما: سقوط الزكاة، وهو المشهور، وهو الذي رجع إليه مالك، وبه أخذ ابن القاسم وابن وهب؛ لأن الغلة [121/ ب] موجودة في عرض القنية.
والقول بالوجوب هو قول مالك الأول، وبه أخذ ابن نافع؛ لأن الغلة نوع من التجارة، ولعل سبب الخلاف هل نية الغلة كالتجارة أم لا؟
فَإِنْ نَوَى التِّجَارَةَ والْقُنْيَةَ، فَقَوْلانِ
يعني: فإن اشترى عرضاً ينوي الانتفاع بعينه، وهي القنية، وإن وجد ربحاً باعه، وهو التجارة، فهل ترجح نية القنية لأنها الأصل في العروض، أو ترجح نية التجارة احتياطاً للفقراء؟ ورجح اللخمي وابن يونس القول بالوجوب، وقاسه ابن يونس على قول مالك فيمن تمتع وله أهل بمكة وأهل بغيرها أنه يهدي احتياطاً.
فَإِنْ نَوَى الْغَلَّةَ والتِّجَارَةَ أَوِ الْقِنْيَةَ، احْتَمَلَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الأَوْلَوِيَّة فِيهِمَا
يعني: فإن نوى الغلة مع التجارة أو الغلة مع القنية، فإن في مجموع المسألتين قولين. وليس المعنى أن في كل واحدة قولين كما قال ابن عبد السلام؛ لما سيأتي.
وقوله: (الْقَوْلَيْنِ) يحتمل أن يريد المتقدمين فيما إذا نوى التجارة والقنية، ويحتمل أن يريد القولين المتقدمين فيما إذا نوى الغلة فقط.
وبيان الأولوية التي أشار إليها المصنف على الاحتمال الأول أن يقال: إذا قيل فيما إذا نوى القنية والتجارة بسقوط الزكاة تغليباً لنية القنية، فلأن يقال بسقوطها فيما إذا نوى الغلة والقنية من باب أولى، إذ الغلة أقرب إلى القنية من التجارة في سقوط الزكاة، وهذا بيان أحد القولين في إحدى الصورتين.
وتقرير الأولوية في الصورة الأخرى أن يقال: إذا قيل بوجوب الزكاة فيما إذا نوى القنية والتجارة، فلأن تجب فيما إذا نوى الغلة والتجارة من باب أولى، إذ الغلة أقرب إلى التجارة من القنية في وجوب الزكاة.
وأما بيان الأولوية على الاحتمال الثاني، يعني أولوية القولين فيما إذا نوى الغلة في مسألة نية القنية والغلة، ونية التجارة والغلة على المعنى المتقدم، فهذا الذي يؤخذ من كلام ابن بشير فإنه قال: فإن نوى القنية والغلة، فعلى قول من يسقط الزكاة من المغتل يسقطها هنا، وعلى قول من يوجبها يجتمع موجب ومسقط، فقد يختلف قوله إلا أن يراعي الخلاف.
وإن نوى الغلة والتجارة، فعلى مذهب من يزكي المغهتل تجب هنا بلا شك، وعلى مذهب من لا يزكيه يجتمع موجب ومسقط، فقد يختلف فيه إلا أن يراعي الخلاف فيوجب. انتهى.
وإنما قلنا أن الأولوية إنما هي في مجموع المسألتين لا في كل مسألة بانفرادها؛ لأنه لا يمكن بيان أولوية القولين في كل من المسألتين؛ لأنها لا تخلو إما أن تجعل (أل) عائدة على القولين فيما إذا نوى التجارة والقنية، أو نوى الغلة فقط، والأول غير مستقيم؛ لأنه لا يصح أن يقال: إذا قلنا بالوجوب في نية القنية والتجارة، فلأن نقول به في مسألة القنية والغلة من باب الأولى؛ لأن الغلة أقرب إلى القنية في سقوط الزكاة.
وكذلك لا يمكن أن يقال: إذا قلنا بالسقوط في القنية والتجارة، أن نقول به في مسألة الغلة والتجارة؛ لأن الغلة أقرب إلى التجارة في وجوب الزكاة. والثاني: أن بيان الأولوية من مسألة الغلة لا يصح أيضاً، وهو ظاهر لمن تأمله.
ولم يحك اللخمي في مسألة من نوى القنية والغلة خلافاً في أن الزكاة تسقط، وحكى في مسألة من نوى الغلة والتجارة قولين:
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيئْاً، فَكَنِيَّةِ الْقُنْيَةِ
قوله: (وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيئْاً) أي: لم ينو القنية ولا التجارة، وإنما كان كنية القنية؛ لأن القنية هي الأصل.
فَإِنْ كَانَ بمُعَاوَضَةٍ للِتِّجَارَةِ بعَرْضِ الْقُنْيَةِ، فَقَوْلانِ
الباء في (بعَرْضِ) تتعلق بمعاوضة؛ يعني: فإن كان عنده عرض قنية فباعه بعرض ينوي به التجارة ثم باعه، ففي ثمنه إذا بيع قولان: قيل: يزكى لحول أصله، وهو المشهور وقيل: يستقبل به حولاً، بناء على أن الثمن هل يعطى حكم أصله الثاني فيزكى، أو أصله الأول فلا زكاة لأنه عرض قنية.
وَالنِّيَّة تَنْقُلُ عَرْضَ التِّجَارَةِ إِلَى الْقُنْيَةِ وَلا تَنْقُلُ عَرْضَ الْقُنْيَةِ إِلَى التِّجَارَةِ
لأن النية لما كانت سبباً ضعيفاً نقلت إلى الأصل ولم تنقل عنه، كالقصر في الصلاة لا ينتقل إليه بالنية، بخلاف الإتمام فإنه يكتفي فيه بنية الإقامة، وذكر ابن الجلاب رواية بعدم النقل في المسألة الأولى وأنه يزكي الثمن، وذكر في الجواهر في الثانية قولاً آخر بانتقال عرض القنية إلى التجارة بالنية، وعلى هذا فما ذكره المصنف هو المشهور في المسألتين.
إِلا أَنْ يَكُونَ أولاً بمُعَاوَضَةٍ للِتِّجَارَة، فَقَوْلانِ
هذا الاستثناء عائد إلى قوله: (ولا تنقل عرض القنية إلى التجارة) أي: أن النية لا تنقل عرض القنية للتجارة، إلا أن يكون هذا العرض المقتنى الذي نوى به التجارة ملكه أولاً، أي: قبل نية الاقتناء بمعاوضة على نية التجارة، ثم بنى على أن نية الاقتناء المتوسطة نسخت النية الأولى أم لا. فعلى النسخ لا تنقل، وهو قول ابن القاسم ومالك، والقول بالانتقال إلى التجارة [122/ أ] لأشهب. والله أعلم.
وأَمَّا عَرْضُ الْمِيرَاثِ والْهِبَةِ ودَيْنُهُمَا، فَلا زَكَاةَ فِيهِمَا إِلا بَعْدَ حَوْلٍ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ عَيْناً بِيَدِهِ، ولَوْ نَوَى بهِ التِّجَارَةَ
…
يعني: إذا ورث عرضاً أو وهب له، أو ورث ديناً أو وهب له، فلا زكاة عليه في شيء من ذلك، بل يستقبل به حولاً بعد قبضه.
وقوله: (فِيهِمَا) أي: في كل واحد منهما، ولذلك أفرد الضمير في صيرورته. وقوله:(عَيْناً) احترازاً مما إذا قبضه عرضاً، فإنه لا زكاة عليه فيه، وقوله:(بِيَدِهِ) احترازاً مما إذا داينه هذا الوارث أو الموهوب له لشخص وقبضه ذلك الشخص، فإنه لا زكاة عليه إلا بعد أن يصير بيده ويستقبل به حولاً. وقوله:(ولَوْ نَوَى بهِ التِّجَارَةَ) مبالغة، وهو ظاهر؛ لأن عرض القنية لا ينقل بالنية إلى التجارة.
وَعَبْدُ التِّجَارَةِ يُكَاتَبُ فَيَعْجِزُ فَيُبَاعُ، مِثْلُهُ لَوْ لَمْ يُكَاتَبْ
يعني: لو اشترى عبداً للتجارة وكاتبه ثم عجز، فإنه مثل عبد التجارة الذي لم يكاتب، فإذا بيع زكى ثمنه لحول أصله.
ابن عبد السلام- بعد كلام المصنف-: يعني أن الكتابة كالاستغلال، وعجزه عنها ليس باستئناف ملك، لكن اختلف الشيوخ في العبد المأذون له في التجارة إذا كوتب ثم عجز، هل يعود بعد عجزه مأذوناً، أو يعود محجوراً عليه، أو يعود منتزع المال؟ والأول من هذه الأقوال هو الذي يشبه الحكم في الفرع الذي ذكره المؤلف. انتهى.
وإِنْ لَمْ يُرصَدْ وكَانَ مُدَاراً، فَالزَّكَاةُ بِالتَّقْوِيمِ كُلَّ عَامٍ إِنْ نَضَّ فِيهِ شَيْءُ، ولَوْ دِرْهَمُ فِي أَوَّلِهِ، ولَوْ زَادَ بَعْدُ، بِخِلافِ حُلِيِّ التَّحَرِّي، ثُمَّ يُوْجَدُ أكثَرُ
…
هذا هو القسم الثاني من التجارة وهو الإدارة. وقوله: (وكَانَ مُدَاراً) زيادة بيان، إذ الكلام في عرض التجارة، وهو إذا لم يرصد به السوق يلزم قطعاً أن يكون مداراً، وذلك كأرباب الحوانيت والجالبين للسلع من البلدان.
وقوله: (بِالتَّقْوِيمِ) أي: يقومه ليخرج الزكاة عن قيمته، لكن بشرط أن ينض من أثمان العروض شيء ما. وقال ابن حبيب: لا يشترط النضوض، ورواه مطرف عن مالك – وسيأتي هذا القول من كلام المصنف- وهل يعتبر أن ينض له نصاب؟ المشهور: لا
يشترط ذلك، خلافاً لأشهب، وعلى المشهور، فالمشهور: لا فرق في ذلك بين أن ينض في أول الحول أو في آخره. وقال عبد الوهاب: يراعى النضوض في آخر الحول؛ لأنه وقت تعلق الزكاة. الباجي: وهو أظهر.
قوله: (ولَوْ زَادَ) أي: المعتبر القيمة، ولو زاد ثمن العرض بعد ذلك، بخلاف حلي التحري؛ أي: الحلي المنظوم بالجواهر، إذا بنينا على القول بالتحري فتحريت زنته وزكيت، ثم فصل فوجدت زنته أكثر زكيت الزيادة. والفرق: أن الحلي علم فيه الخطأ قطعاً بخلاف العرض، لجواز أن يكون ذلك لارتفاع المسوق أو جودة بيعه. والله أعلم.
ويُضَمُّ الْحُلِيُّ وزْناً مَعَهُ
أي: المدير إذا كان يدير سلعاً وحلياً، فإنه يقوم العروض ويزكي الحلي بالوزن. أي: تعتبر الصياغة كما تقدم. فإن ظاهر المدونة عدم اعتبار الصياغة ولو كان مديراً، قاله في المقدمات.
تنبيه:
وقع في نسخة ابن راشد هنا ما نصه: وقيل لا يزكى حتى ينضَّ مقدار النصاب فيزكيه، ثم مهما نض شيء زكاه. وقال في كلامه عليه: هذا القول حكاه ابن بشير ولم يعزه، وهو شاذ، وحكاه ابن شاس فيما إذا كان مديراً بالعروض ثم وقع النضوض، وسيأتي. انتهى.
وَأَوَّلُ الْحَوْلِ أَوَّلُ حَوْلِ نَقْدِهِ لا حِينَ إِدَارَتِهِ، خِلافاً لأَشْهَبَ
كما لو ملك ألفاً في المحرم ثم أدار بها عروضاً في رجب، فأول حوله أول حول النقد – وهو المحرم- لا حين إدارته، خلافاً لأشهب. والمدونة ليس فيها التصريح بالأول؛ لأنه قال فيها: ويجعل المدير لنفسه شهراً يقوم فيه. وحملها الباجي على المعنى الذي ذكره المصنف، واللخمي على أنه يجعل له حولاً وسطاً؛ لأنه قال- بعد ذكر لفظ المدونة-: يريد أنه لا يجب عليه أن يقوم عند تمام الحول على أصل المال؛ لأن ما بيده إن كان عرضاً
فلا زكاة فيه. وكذلك إن كان دون النصاب، فلا يؤمر بالتقويم حينئذ؛ لأنه على يقين أنه لم تجب عليه زكاة جميع ذلك، فجاز له أن يؤخر التقويم على رأس الحول؛ لأن في إلزامه التقويم حينئذ ظلماً عليه، ولا يؤخر لحول آخر؛ لأن فيه ظلماً على المساكين، فأمره أن يجعل لنفسه حولاً يكون عدلاً بينه وبين المساكين. انتهى.
المازري: ولعمري أن ظاهر الروايات مع شيخنا؛ لأن قوله: ثم يجعل لنفسه شهراً. لا تحسن هذه العبارة في شهر معلوم قد جعله الله للزكاة قبل أن يجعله، هذا وما قاله أبو الوليد أسعد بظاهر الشرع، لقوله: لا زكاةفي مال حتى يحول عليه الحول.
فَلَوْ كَانَ مُدَاراً بالْعَرَضِ وَلا يَنِضُّ شَيْءُ، فَالْمَشْهُورُ: لا تَجِبُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَانَ لاخْتِلاطِ [122/ ب] الأَحْوَالِ أَوْ لِصَيْرُورَتِهِ بِالإدَارَة كَالنَّقْدِ
…
يعني: لو كان يدير العروض بعضها ببعض ولا يبيع بشيء من العين، فالمشهور عدم التقويم؛ بناء على اشتراط النضوض، والشاذ لابن حبيب. ولمالك من رواية مطرف وابن الماجشون، والأحسن أن يقول: فلو كان مديراً؛ لقوله بالعرض.
وقوله: (بنَاءً) أي: سبب الخلاف هل كان الحكم بتقويم المدير أولاً في زمن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه لما أمر من يبيع الجلود به لأجل اختلاط الأحوال عليه فيما يحصل له من النقد، فلا يزكى هذا إذ لا نقد، أو لأن العروض في حقه كالعين فيزكى. فاسم (كان) عائد على التقويم، والضمير في صيرورته عائد على العرض.
وعَلَى الْوُجُوبِ فِي إِخْرَاجِ الْعَرَضِ قَوْلانِ
هذا تفريغ على الشاذ. فقيل: يجوز له أن يخرج عرضاً، وهو القياس على هذا القول؛ لأن العرض صار في حقه كالعين، وهو قول مالك في رواية ابن نافع. وقيل: لابد من
إخراج العين رعياً للأصل؛ لئلا يبعد عنه بالكلية، وهو قول سحنون. وحكاه عبد الوهاب عن مالك أيضاً.
وَعَلَى الْمَشْهُورِ: إِنْ نَضَّ شَيْءُ بَعْدَ الْحَوْلِ، قُوِّمَ الْجَمِيعُ حِينَئذٍ وَكَانَ أَوَّلَ حَوْلِهِ وَأُلْغِىَ الزَّائِدُ
…
أي: وعلى سقوط التقويم إذا لم ينض له شيء، لو نض بعد الحول بستة أشهر مثلاً، فإنه يقوم حينئذ وانتقل حوله من ذلك الوقت وألغي الزائد على الحول.
فرع:
إذا قلنا بالمشهور أنه لا تجب الزكاة إلا بالنضوض، وأنها لا تجب إذا باع العرض بالعرض، فهل يخرج بيع العرض بالعرض عن حكم الإدارة؟ قال في الجواهر: لا يخرجه ذلك. وروى أشهب وابن نافع: أنه يخرج بذلك عن حكمها. وفهم صاحب الجواهر أن مقتضى هذا القول إلغاء الزائد إذا نض له شيء كالمشهور. ابن راشد: وفيه نظر. والذي حكاه ابن يونس واللخمي عن أشهب: أنه لا يقوم حتى يمضي له حول من يوم بيعه بذلك النقد. انتهى.
وَفِي جَعْل الْبَوَارِ فِي عَرَضِ الإِدَارَةِ كَالنِّيَّةِ فِي نَقْلِهِ إِلَى حُكْمِ التِّجَارَةِ طَرِيقَانِ؛ الأُولَى: قَوْلانِ. الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّخْمِيُّ: إِنْ بَارَ الأَقَلُّ، فَقَوْلانِ
…
يعني: إذا كسرت سلع المدير فلم يبعها فانتظر سوقها لذلك، فهل ينتقل إلى الاحتكار أو لا؟ طريقان. واعلم أنه لو نوى الاحتكار انتقل إليه؛ لأنه أقرب إلى الأصل. اللخمي: واختلف فيما بار، فقال ابن القاسم: يقوم ذلك. وقال ابن نافع وسحنون: لا يقوم، وهذا إذا بار الأقل، فإن بار النصف لم يقوم اتفاقاً. وقال ابن بشير: بل الخلاف مطلقاً بناء على أن الحكم للنية؛ لأنه لو وجد ربحاً ما لباع، أو للموجود وهو الاحتكار.
وطريق ابن بشير هي الطريق الأولى في كلام المصنف، وذكر ابن شاس أن قول ابن القاسم هو النص في المذهب، ثم ذكر قول ابن الماجشون وسحنون.
وفِي تَحْدِيدِ الْمُدَّةِ بِالْعَادَة ِأَوْ بِعَامَيْنِ قَوْلانِ
أي: مدة البوار. والقول بالعادة لابن الماجشون، وهو الأظهر. والقول بعامين لسحنون وابن نافع
وَإِذَا اجْتَمَعَ نَوْعَا الْعُرُوضِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا فَعَلَى حُكْمَيهِمَا، وإِلا فَثَالِثُهَا يَتْبَعُ الأَقَلُّ الأَكْثَرَ إِنْ كَانَ أَحْوَطَ
…
يريد بـ (نوعي العروض) أن يكون بعضها إدارة وبعضها احتكاراً، ثم إن تساويا فكل واحد على حكمه، فالمدار يقوم كل عام، والمحتكر يزكى لعام واحد بعد البيع.
ابن بشير: ولا خلاف في ذلك. ونقل غيره قولاً بإعطاء الجميع حكم الإدارة مطلقاً، وهو تأويل ابن لبابة على المدونة، فإن كان أحدهما أكثر، فهل يتبع الأقل الأكثر أو لا يتبعه ويكون كل منهما على حكمه، أو يفرق، فيقال بالتبعية إن كانت أحوط للفقراء- أي: إن كان المدار أكثر- وبعدمها إن كان المحتكر أكثر، ثلاثة أقوال: والقول الألو: لابن الماجشون. والثاني: له أيضاً. ولمطرف قال في البيان: والثالث لابن القاسم وعيسى بن دينار في العتيبة. ابن رشد: وقد تأول ابن لبابة ما في المدونة على أنهما يزكيان جميعاً على الإدارة، كان الذي يدار هو الأقل أو الأكثر، وهو ظاهر ما في سماع أصبغ. انتهى.
ونقل ابن يونس عن أصبغ: أنه يزكى الجميع للإدارة، وإن أدار نصفه أو ثلثه، إذا نوى في الباقي كذلك، وإن عزم ألا يدخله في الإدارة، فلا يزكيه حتى يبيع. قال: ولا معنى له. قال: وقول ابن الماجشون أعدل، وقول ابن القاسم أحوط.
وَلا يُقَوِّمُ الْمُدِيرُ مَاشِيَةَ التِّجَارَة ِويُزَكِّي رِقَابَهَا بَعْدَ حَوْلٍ مِنْ يَوْمِ شِرَائِهَا، إِلا أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَهُ أَوْ قَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي، فَيُزَكّي الثَّمَنَ لأَوَّلِ حَوْلِهِ
…
يعني: إن [123/ أ] كان ما يديره نصاب ماشية، فإنه لا يقومها ويزكي رقابها؛ لأنه الأصل فلا يعدل عنه إلى غيره، وكذلك ثمرة الحوائط، فإن لم يكن فيها نصاب قومها كسائر سلعه.
وقوله: (إِلا أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَهُ ..) إلى آخره. أي: قبل الحول أو قبل مجيء الساعي، فيزكي الثمن إذا مضى لأصله حول.
ودَيْنُ الْمُدِيرِ إِنْ كَانَ للنَّمَاءِ مَرْجُوّاً، فَالْمَشْهُورُ كَسِلْعَةٍ لا كَالدَّيْنِ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ إنْ كَان نَقْداً حَالاً زَكَّى عَدَدَهُ، وإِنْ كَانَ مُؤَجَّلاً زَكَّى قِيمَتُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ
…
احترز بـ (النماء) من القرض، وسيأتي. وبـ (المرجو) مما على معدم، فإنه كالعدم على المشهور، خلافاً لابن حبيب في قوله: إنه يزكي قيمته. وقوله: (فَالْمَشْهُورُ كَسِلْعَةٍ) أي: من سلع الإدارة فيزكيه كل عام. ومقابل المشهور للمغيرة بأنه يزكيه كالدين بالنسبة إلى غير المدين، فيزكيه لحوله أو أحواله زكاة واحدة.
وعلى المشهور: من أن يزكي كل عام، إن كان نقداً حالاً يزكي عدده.
ابن راشد: وقيل يزكي قيمته كالمؤجل. انتهى. واحترز بـ (النقد) من العرض، وسيأتي.
وأما المؤجل: فقال ابن بشير وغيره كالمصنف: أنه إنما يزكي قيمته على المشهور، خلافاً لابن حبيب في قوله: إنه يزكي عدده كالحال.
وقال عياض: ظاهر المدونة تقويم جميع ما يرجى قضاؤه من الديون، وعلى هذا اختصرها أكثر المختصرين، ولم يفرقوا بين الحال وغيره، خلافاً لابن القاسم في رواية محمد وسماع أبي زيد. انتهى.
وكيفية تقويمه: أن يقوم بعرض، ثم العرض بنقد حالِّ؛ لأن الدين لا يقوم إلا بما يباع به، ومثاله: لو كان دينه ألف درهم، فيقال: لو بيع هذا الدين بقمح لبيع بمائة إردب، والمائة تساوي تسعمائة، فتخرج الزكاة عنها.
ابن عبد السلام: وفي هذا الكلام لبس؛ لأنه ينبغي أن يكون المثبت والمنفي من باب واحد، وأيضاً فتشبيهه بسلع الإدارة يقتضي أنه يزكي زكاتها فيقوم مطلقاً. والمصنف قال: كسلعة ويزكى عدده. انتهى. وفيه نظر.
أما قوله: (ينبغي أن يكون المثبت والمنفي من باب واحد) فممنوع، فإن العلماء يشبهون مسألة من باب بأخرى وهي في باب آخر وليقيد الشاذ. وأما قوله:(وأيضاً فتشبيهه) إلى آخره. قلنا: التشبيه في الزكاة لا في كيفيتها.
وَفِي تَقْوِيمِ طَعَامٍ مَنْ بِيعٍ قَوْلانِ
القول بالتقويم لأبي بكر بن عبد الرحمن، وهو الظاهر، وصوبه ابن يونس وغيره، ورأى في القول الآخر أن ذلك تقدير بيع وهو ممتنع، وهو قول الإبياني وفيه نظر؛ ٍلأنا نقوم أم الولد إذا قتلت، وكذلك الكلب وغيرهما.
وإِنْ كَانَ لِغَيْرِ النَّمَاءِ كَالسَّلَفِ، فَطَريِقَانِ كَالدَّيْنِ، وقَوْلانِ
عزا ابن بشير الطريقين للمتأخرين. عياض: وظاهر المدونة أن المدير يزكي جميع ديونه من قرض أو غيره. وعلى هذا حمل المسألة شيخنا القاضي أبو الوليد. وقال الباجي: لا خلاف في القرض أنه لا يزكى. وخرج اللخمي فيه خلافاً. انتهى. ونَصُّ اللخمي: ويختلف فيما أقرضه من مال الإدارة، فقال ابن حبيب: لا زكاة على المدير فيما أقرضه من مال الإدارة، يريد لأنه خرج به عن التجارة، وعلى أصل ابن القاسم: يزكيه إذا كان القرض أقل ماله. انتهى. وكلامه ظاهر التصور.
فرع:
فإن أخر المدير ما أقرضه فراراً من الزكاة، فإنه يزكيه لكل سنة اتفاقاً، قاله عبد الحق في تهذيبه.
ولا زَكَاة َعَلَى الْعَبْدِ وَشِبْههِ؛ لأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ كَامِلٍ، ولا عَلَى سَيِّدِهِ؛ لأَنَّهُ إنْمَاءُ مِلْكٍ أَنْ يَمْلِكَ
…
شبه العبد: كل من فيه عقد حرية. وقوله: (غَيْرُ كَامِلٍ) أي: من جهة أنه لا يتصرف فيه التصرف التام. وليس المراد بعدم الكمال كون السيد قادراً على انتزاع ماله – كما قال ابن عبد السلام- لعدم شمول العلة حينئذٍ المكاتب ومن في معناه ممن ليس للسيد انتزاع ماله، ولم يرد المصنف إجراء الخلاف بقوله:(لأَنَّهُ إنْمَاءُ مِلْكٍ أَنْ يَمْلِكَ) فإنه لا خلاف أنه لا تجب عليه، وإنما قصد بيان نقص ملك السيد، قاله ابن عبد السلام. وقال ابن راشد: كثيراً ما يجري ابن بشير وغيره خلافاً فيمن ملك أن يملك، هل يعد مالكاً أم لا؟ ويلزم القائل بأنه يعد مالكاً أن يقول بوجوب الزكاة هنا على السيد.
فَإِنْ أُعْتِقَ اسْتَقْبَلَ حَوْلاً بالنَّقْدِ والْمَاشِيَةِ، كَمَا لَو انْتَزَعَهُ سَيِّدُهُ
هذا ظاهر إذا مِلكُ العبد في العتق، والسيدُ في الانتزاع، إنما تَحقق بعد العتق والانتزاع، فيستقبل كل منهما حولاً؛ لأنه فائدة.
ابن راشد: ويمكن أن يجري قول بالزكاة فيما إذا عتق العبد. ومسألة من عنده مائة لا يملك غيرها وعليه مائة فحال عليه الحول فوهبها له ربها، فقد قيل بوجوب الزكاة؛ لأن العيب كشف أن المانع من زكاتها ليس بمانع. انتهى.
وأَمَّا غَيْرُهُمَا، فَعَلَى الْخِلافِ فِيمَا تَجِبُ بِهِ مِنَ الطِّيبِ، أَوِ الْيُبْسِ، أَوِ الْجُذَاذِ
أي: وأما غير النقد والماشية- وهو الحب والثمار- فإن أعتق قبل الوجوب زكى، وإلا استقبل. وسيأتي الخلاف المذكور في [123/ ب] بابه إن شاء الله.
وتَجِبُ فِي مَالِ الأَطْفَالِ والْمَجَانِينِ اتِّفَاقاً عَيْناً، أَوْ حَرْثاً، أَوْ مَاشِيَةً
لما في الوطأ عن عمر- رضي الله عنه: اتجروا في مال اليتامى لا تأكلها الزكاة. وعن عائشة- رضي الله عنها: أنها كانت تخرج الزكاة من مال يتيمين في حجرها. وصرح بالاتفاق لعدم صحة تخريج اللخمي، وإلا لقال على المنصوص.
وتَخْرِيجُ اللَّخْمِيِّ النَّقْد الْمَتْرُوك عَلَى الْمَعْجُوزِ عَنْ إِنْمَائِهِ ضَعِيفٌ
يعني: أن أموال اليتامى إن كانت تنمو بنفسها كالحرث والماشية، أو كان نقداً ينمو بالتجارة، وجبت فيه الزكاة ولا تخريج فيه. وإن كان نقداً غير منمَّى، فالمذهب وجوب الزكاة فيه أيضاً.
وخرج اللخمي خلافاً من مسائل وهي: ما إذا سقط المال منه ثم وجده بعد أعوام، أو دفنه فنسي موضعه، أو ورث مالاً فلم يعلم به إلا بعد أعوام، فقد اختلف في هؤلاء هل يزكون لسنة واحدة، أو لجميع الأعوام، أو يستأنفون الحول. ورده ابن بشير بما حاصله أن العجز في مسألة الصغير من قبل المالك خاصة مع التمكن من التصرف، والعجز في هذه المسائل من جهة المملوك وهو المال، فلا يمكن التصرف فيه ألبتة. ويلزم اللخمي على تخريجه إسقاط الزكاة عن مال الرشيد العاجز عن التنمية، وإليه أشار بقوله:(ضَعِيفُ).
ولا زَكَاةَ عَلَى الْمِدْيَانِ بِعَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِ حَالِّ أَوْ مُؤَجَّل فِي الْعَيْن الْحَوْلِيِّ، بخِلافِ الْمَعْدِنِ والْمَاشِيَةِ والْحَرْثِ، ولَوْ كَانَ الدَّيْنُ مِثلَ صِفَتِهاَ
…
لم تجب الزكاة على المديان لعدم كمال ملكه؛ إذ هو بصدد الانتزاع، ولكونه غير كامل التصرف كالعبد، ولما في الوطأ عن عثمان رضي الله عنه أن الدين يسقط الزكاة. قال صاحب اللباب: وقال ذلك بمحضر الصحابة- رضي الله عنهم ولم ينكر عليه أحد.
وقوله: (بِعَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِ) متعلق بالمديان؛ يعني: أن الدين المسقط للزكاة لا تبال به على أي حال كان، سواء كان عيناً أو عرضاً، حالاً أو مؤجلاً.
وأخرج بـ (الْحَوْلِيِّ) المعدن، فإنه ملحق بالحرث، والفرق بين الحولية وغيرها، أن الحرث، والمعدن، والماشية من الأموال الظاهرة، وزكاتها موكولة إلى الأئمة يأخذونها قهراً. ومن شأن النفوس كراهية ما يؤخذ منها قهراً. فلو قلنا: إن الدين يسقط الزكاة عن الحرث والماشية، لعمل الناس الحيل في إسقاط المأخوذ على هذا الوجه، بخلاف العين فإنها تخفي وزكاتها موكولة إلى أمانة أربابها.
وقوله: (ولَوْ كَانَ الدَّيْنُ مِثلَ صِفَتِهاَ) مبالغة؛ أي: أن الدين لا يسقط الزكاة عن الحرث والماشية ولو كان مديناً بمثلها، كما لو كان عنده أربعون شاة وعليه أربعون.
فرع:
لو كان عنده عبد وعليه عبد، فقال ابن القاسم: لا تجب عليه فيه زكاة الفطر. وقال أشهب: تجب.
ولِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ فِي مَالِ الْمَفْقُودِ والأَسِيرِ؛ لإِمْكَانِ دَيْنٍ أَوْ مَوْتٍ
أي: ولأجل أن الدين يسقط الزكاة لا تجب الزكاة في مال المفقود والأسير؛ لاحتمال طروء دين عليهما.
وقوله: (فِي مَالِ الْمَفْقُودِ والأَسِيرِ). يحتمل أن يريد بالمال العين؛ لأنها هي التي تقدم إسقاط الزكاة عنها، ويحتمل العموم وهو ظاهر لفظه، لكن يلزم عليه مخالفة النقل؛ إذ الزكاة إنما تسقط عن عينها، وأما ماشيتهما وزرعهما فيزكيان، قاله أبو القاسم في المجموعة هكذا نقل صاحب النوادر واللخمي وغيرهما.
اللخمي: فحمل أمرهما على الحياة فزكى ما كان النماء موجوداً فيه، وهو الماشية والحرث، وأسقطها من العين؛ لأنهما غلبا على تنميته. ولو حمل أمرهما على الوفاة لم يزكِ عينهما من ذلك؛ لإمكان أن يقع لكل وارث دون النصاب. انتهى.
وعلى هذا فقول المصنف: (أَوْ مَوْتٍ). ليس كما ينبغي؛ لأنه إن أراد (أو موت) بالنسبة إلى عينهما، فقوله:(لِإمْكَانِ دَيْنٍ). يغني عنه، وإن أراد بالنسبة إلى جميع أموالهما، فهو خلاف النقل. والله أعلم.
وفِي دَيْنِ الزَّكَاةِ قَوْلانِ
القول بأن دين الزكاة كسائر الديون يسقط الزكاة عن العين الحولي لابن القاسم في المدونة، وهو المشهور. والقول بأنه لا يسقط لابن حبيب، ووجهه ضعف هذا الدين؛ لأن طالبه غير معين. فلو اجتمع عليه دين من الزكاة مائتان ولم يكن عنده غيرهما، فعلى المشهور يخرج المائتين ولا يبقى في ذمته شيء، وعلى القول الآخر يخرج أولاً خمسة، ثم يخرج الباقي ويبقى في ذمته خمسة. ولابن القاسم قول آخر في دين الزكاة: أنه أقوى من سائر الديون؛ لأنه جعله يسقط الزكاة. ولو كان له عرض يجعل فيه مثل مذهب ابن عبد الحكم في دين الآدميين.
وعَلَيْهِمَا لَوْ أَخَّرَ زَكَاةَ نِصَابٍ فَصَارَ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي أَرْبَعِينَ، ورَوَى أَشْهَبُ وابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يَسْتَقْبلُ بالرِّبْحِ كُلِّهِ، وهُوَ غَرِيبُ
…
أي: القولين في دين الزكاة، لو كان عنده عشرون ديناً حال حولها فلم [124/ أ] يخرج زكاتها واشترى بها سلعة باعها في الحول الثاني بأربعين.
فعلى الإسقاط يخرج نصفاً عن العشرين الأولى، ثم يخرج عن تسعة وثلاثين، ونصف للعام الثاني، إلا أن يكون عنده عرض يساوي نصف دينار فيزكي الأربعين.
وعلى عدم الإسقاط يخرج عن ستين، وإن لم يكن عنده عرض. وروى أشهب وابن عبد الحكم: أنه يزكي عشرين للعام الأول، وعشرين للعام الثاني ويستقبل بالربح، وهذه المسألة هي المشار إليها في الربح بقوله: وروي في مسألة ما لو أخر خاصة كالفوائد.
فرع:
إذا كان عليه دين من كفارة لم تسقط الزكاة بلا خلاف أعلمه في المذهب. والفرق بينه وبين دين الزكاة، أن دين الزكاة تتوجه المطالبة به من الإمام العادل، وإن منعها أهل بلد قاتلهم عليها. والله أعلم.
وفِي نَفَقَةِ الْوَلَدِ إِنْ لَمْ يُقْضَ بِهَا قَوْلانِ، بِخِلافِ الزَّوْجَةِ. وفِي نَفَقَةِ الأَبَوَيْنِ إِنْ قُضِيَ بِهَا قَوْلَانِ. والإِسْقَاطُ بِهِ لأَشْهَبَ
…
حاصله: أن النفقة بالنسبة إلى إسقاط الزكاة ثلاثة أقسام:
الأول: نفقة الولد إن قضي بها؛ أي حكم بها حاكم أسقطت، وإن لم يقض بها، فمذهب المدونة وابن حبيب أنها لا تسقط؛ لأن العادة جرت بالمسامحة فيه بخلاف غيره. وقال أشهب: تسقط. ابن المواز: وبه أقول. وقيد بعض القرويين قول ابن القاسم في المدونة في الولد بما إذا كانت نفقته قد سقطت عنه ليسر حدث له ثم ذهب فرجعت النفقة عليه. فأما إذا لم يتقدم للولد يسر قط، فالأمر كما قال أشهب أن النفقة تسقط الزكاة؛ لأنها لم تزل واجبة كنفقة الزوجة التي لم تزل.
عبد الحق: فقول أشهب على هذا التأويل ليس بخلاف، وإنما تكلم على وجه لم يتكلم عليه ابن القاسم، وهندي أن قول أشهب خلاف، فلا فرق على قول ابن القاسم بين أن يتقدم للولد يسر أو لا. انتهى.
ونقل اللخمي عن ابن القاسم: أن نفقة الولد والأبوين لا تسقط الزكاة، وإن كانت بفريضة من القاضي.
القسم الثاني: نفقة الزوجة؛ وهي تسقط مطلقاً قضي بها أم لا؛ لأنها عوض عن الاستمتاع. وأيضاً فإن نفقة الزوجة إذا عجز الزوج طلقت نفسها عليه إذا شاءت بخلاف الولد والأب.
القسم الثالث: نفقة الأبوين- وهي عكس نفقة الولد- إن لم يقض بها لم تسقط اتفاقاً، وإن قضي بها فمذهب المدونة أنها لا تسقط. وقال أشهب: تسقط ابن أبي زيد: ومعنى قول ابن القاسم أن الأبوين أنفقوا من عند أنفسهم، وأما لو أنفقوا واستسلفوا ليرجعوا عليه، لكان ديناً من الديون. وقال ابن محرز: معنى ما في المدونة أن نفقة الوالدين لا تسقط الزكاة إذا كانت بغير قضية أو بقضية وأنفقا بسؤال أو عمل، وأما لو قضي لهما، فقاما بما قضي لهما به عند الحول، لأسقط ذلك الزكاة. قال: وهذا معنى ما عند ابن المواز. انتهى.
وقال أبو عمران: معنى ما في الكتاب أنهما لم يقوما بطلبها عند القاضي وأنفقا على أنفسهما من مال وهب لهما أو تحيلا فيه، ولو كانا استلفاه لسقطت به الزكاة. انتهى.
وهذه مخالفة لما قال ابن أبي زيد في التحيل، وإنما كانت نفقة الوالدين أخف من نفقة الولد؛ لأن الوالد يسامح ولده أكثر من مسامحة الولد لوالديه. وفرق في المدونة بفرق آخر، فقال: لأن نفقة الأبناء لم تسقط عن الأب المليء مذ كانوا حتى يبلغوا، ونفقة الأبوين كانت ساقة عنه، وإنما تلزمه بالقضاء.
وفِي الْمَهْرِ وشَبَهِهِ مِنَ الْمُعْتَادِ بَقَاؤه إِلَى مَوْتٍ أَوْ فِرَاقٍ قَوْلانِ
أي: اختلف في الدين الذي جرت العادة بتأخيره إلى موت أو فراق، كمهر الزوجة ودينها في بعض الأحوال، والمشهور الإسقاط، ومقابله لابن حبيب. كذا نقل ابن شاس وابن رشد، وما شهراه هو مذهب المدونة. وقال ابن بزيزة: المشهور أن المشهر غير مسقط اعتباراً بالعادة، من حيث أنها لا تطلبه غالباً إلا وقت المشاحة أو الموت، ولأنها ليست عوضاً محققاً، وفيه نظر؛ لمخالفة ما شهره في المدونة.
وفِيَما يُقْبَضُ أُجْرَةً لِلْمُسْتَقْبَلِ قَوْلانِ
أي: وفيما يقبض بعمل يعمله في المستقبل فمضى له حول واستوفى العمل، هل تسقط عنه الزكاة في العام الماضي ويستقبلبه لأنه الآن كما تم ملكه، أو تجب عليه لأنه انكشف أنه كان ملك المال من يوم القبض؟ وكان الأول أقرب إلى قواعد المذهب، ألا ترى أن عند الاختلاف في قبض الأجرة إنما يقضي بدفعها شيئاً فشيئاً إذا لم تكن عادة، ولا يقضي بدفعها للصانع إلا بعد تمام العمل على المشهور.
وقال ابن راشد: الثاني أقيس؛ لأن تعذر المنافع أمر متوقع فلا تسقط الزكاة لأجله انتهى. قيل: [124/ ب] وهو الذي يأتي على مذهب المدونة في مسألة هبة الدين، كما سيأتي.
فَإِنْ كَانَ عَرَضُ يُبَاعُ مِثْلُهُ فِي دَيْنِهِ كَدَارِهِ، وسِلاحِهِ، وخَاتَمِهِ، وثَوْبَيْ جُمُعَتِهِ إِنْ كَانَت لَهُمَا قِيمَةٌ، بخِلافِ ثِيَابِ جَسَدِهِ وما يَعِيشُ بِهِ الأَيَّامَ هُوَ وأَهْلُهُ، وبِخِلافِ عَبْدٍ آبِقٍ، وكَذلِكَ رِقَابُ مُدَبَّرِيهِ وقِيمَةُ الْكِتَابَةِ، وكَذَلِكَ دَيْنُهُ الْمَرْجُوُّ، فَالْمَشْهُورُ جَعْلُ الدَّيْنِ فِيهِ لا فِي الْعَيْنِ
…
(كَانَ) هنا تامة. وقوله: (فَالْمَشْهُورُ) جواب الشرط؛ يعني: أن المديان إذا حصلت عنده عروض تباع عليه في فلسه وعنده من العين نصاب فأكثر، فالمشهور أنه يجعل الدين في ذلك العروض ويزكي العين. والشاذ لابن عبد الحكم: أنه يجعل الدين في العين؛ لأنه الذي لو رفع إلى الحاكم لم يقض له إلا به.
وقوله: (يُبَاعُ مِثْلُهُ) احترازاً مما لا يباع في الدين، كثوبي جمعته إذا لم تكن لهما قيمة. ولمالك في الموازية في ثوبي جمعته إذا كان لباس مثلهما سرفاً، بيعا في الدين. وكذلك قيد عبد الوهاب الدار بما إذا كان لها قيمة. قال: وأما إذا كانت قريبة الثمن وكان ذا عيال ولم يكن لها خطب وبال فلا.
وقوله: (بِخِلافِ عَبْدٍ آبِقٍ). أي: أنه يجعل الدين في العرض ما لم يمنع من ذلك مانع له عادي؛ أعني: إذا كان الشيء قليل الثمن كثوبي الجمعة إذا لم تكن لهما قيمة، أو كثياب جسده، أو لمانع شرعي كالعبد الآبق. وما ذكره في الخاتم هو المشهور. وقال أشهب: لا يجعل فيه.
وقوله: (وأَهْلُهُ) أي: زوجته وأولاده. وقوله: (الأَيَّامَ) أي: الشهر ونحوه، كما ذكر في باب الفلس. وقوله: (وكَذلِكَ رِقَابُ مُدَبَّرِيهِ
…
) إلى آخره. أي: فيجعل الدين في هذه الأشياء، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
وعَلَى الْمَشْهُورِ فِي مُرَاعَاةِ حَوْلِ الْعَرَضِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وأَشْهَبَ
يعني: وإذا فرعنا على المشهور من أن الدين يجعل في العرض، فهل يشترط في هذا العرض أن يمر له عنده حول أم لا؟ اشترطه ابن القاسم ولم يشترطه أشهب، إلا كونه مملوكاً في آخر الحول.
محمد: واختاره ابن القاسم بناء على أن ملك العرض في آخر الحول منشئ لملك العين التي بيده، فلا زكاة عليه فيها، أو كاشف أنه كان مالكاً فيزكي.
ويُقَوِّمُ وقْتُ الوُجُوبِ فِيهِمَا
يعني: أن العرض في القولين- أي: عليهما – إنما تعتبر قيمته وقت وجوب الزكاة، وهو آخر الحول، وسواء زادت أو نقصت.
ومِنْهُ جُعِلَ لابْنِ الْقَاسِمِ قَوْلانِ
أي: من أجل أن المعتبر في قيمة العرض إنما هو وقت الوجوب، أخذ لابن القاسم قول آخر بعدم مراعاة حول العرض، فإن زيادة قيمة العرض في آخر الحول على أوله لم يمر لها حول، فكما لم يشترط مرور الحول عليها كذلك لا يشترط في نفس العروض،
وأصل هذا التخريج لابن المواز، فإنه لما ذكر قول ابن القاسم أشار إلى المناقضة فيه، ورد بأن الزيادة المذكورة مضمومة إلى أصل الحول كما في أصل الحول في الأرباح. واعلم أن هذا التخريج على تقدير صحته لا يحتاج إليه، فإن القولين منصوصان لابن القاسم، نقلهما صاحب الجواهر وابن الجلاب.
وعَلَيْهِمَا فِي الْمَوْهُوبِ هُوَ أَوْ مَا يُجْعَلُ فِيهِ قَوْلانِ
أي: وعلى القولين في مراعاة حول العرض، اختلف إذا وهب له الدين، وهو معنى قوله:(الْمَوْهُوبِ هُوَ) أو وهب له عرض يجعل فيه الدين. فعلى قول ابن القاسم لا يزكي فيهما خلافاً لأشهب. وأبرز الضمير لصحة العطف؛ لأنه لا يعطف على الضمير المرفوع المتصل إلا بشرط الفصل.
وفِي الرِّبْحِ قَوْلانِ
يحتمل أن يريد- والله أعلم- المسألة المتقدمة؛ وهي قوله: (وفي ربح سلف ما لا عوض له عنده). وتقدير كلامه: وفي ربح ما استدانه وليس له عرض يجعل فيه الدين قولان، وقد تقدما وتقدم توجيههما.
وقال ابن هارون: يعني: هل يجعل دينه فيه أم لا؟ والقياس أن يجعله؛ لأن حوله حول أصله. والقول بنفي جعله فيه بناء على رواية الاستقبال، أو على القول باشتراط الحول فيما يجعل فيه الدين.
أَمَّا لَوْ كَانَ لَهُ مِائَةُ مُحَرَّمِيِّةٌ، ومِائَةٌ رَجَبيَّةٌ، وعَلَيْهِ مِائَةٌ، فَالْمَشْهُورُ زَكَاةُ مِائَةٍ
يعني: لو ملك مائة دينار في المحرم، ومائة دينار في رجب، وعليه مائة، فالمشهور يزكي أولاهما فقط؛ وهي المحرمية. وفي الواضحة: يزكي المائتين؛ لأنه إذا حال حول المحرمية جعل دينه في الرجبية، وإذا حال حول الرجبية جعل دينه في المحرمية، ورد بأنه
لو كان هذا المعنى صحيحاً لوجب مثله في المائتين إذا كان حولهما واحداً وليس كذلك، على أن اللخمي حكى قولاً بأنه يزكي المائتين وإن كان حولهما واحداً، وجعل في المسألة ثلاثة أقوال، ثالثها الفرق، فإن كان حولهما واحداً زكى مائة، وإلا زكى مائتين. وفي قوله:(زكى مائة) نظر؛ لعدم نصه على أن المراد المائة الأولى، ومراده ما قدمناه.
وَلَوْ آجَرَ نَفْسَهُ [125/ أ] لثَلاثِ سِنِينَ بسِتِّينَ دِينَاراً فَقَبَضَهَا بَعْدَ حَوْلٍ، فَرَابعُهَا: يُزَكَّى الْجَمِيعَ
…
فرض المسألة في نفسه؛ لأنه لو فرضها في عبده ودابته لكان له شيء يجعله في دينه كله أو بعضه. واستغنى بذكره الرابع عن بقية الأقوال للحصر فيها.
فيكون الأول: لا زكاة عليه في الجميع؛ لأن العشرين في السنة الماضية لم يتحقق ملكه لها إلى الآن، والأربعون إلى الآن دين عليه. قال في البيان: وهو الذي يأتي على مذهب مالك في المدونة في الذي وهب له الدين بعد حلول الحول على المال الذي بيده، أو أفاد مالاً، أنه يستقبل.
والقول الثاني: عليه زكاة العشرين؛ لأنها تخص العام الأول. قال في المقدمات: وهو الذي يأتي على ما في سماع سحنون عن ابن القاسم، وعلى قياس قول غير ابن القاسم في المدونة في هبة الدين.
ابن رشد: والقول الثالث لابن المواز: يزكي مع هذه العشرين تسعة عشر ونصف؛ لأنه إذا أخرج من عشرين نصف دينار بقي معه تسعة وخمسون ونصف، عليه منها أربعون، فتفضل له تسعة عشر ونصف، فيزكيها لسلامتها من الدين. وفي أخذ هذا من كلامه نظر. والله أعلم. قال ابن يونس: والصواب زكاة الجميع.
تنبيه:
ما ذكرناه من أنه يزكي على القول الثاني عشرين، وعلى الثالث تسعة وثلاثين ونصف، كذلك قاله جماعة.
خليل: وينبغي أن يقول يزكي أكثر من عشرين للسنة الأولى؛ لقرب سلامتها من العقد. كما قالوا: إذا اشترى عروضاً وسمى لكل عرض شيئاً ثم استحق بعضها، فإنهم قالوا: يقوم العروض وتسقط القيمة؛ لاحتمال أن يكون اغتفر بعضها لبعض. والله أعلم.
وَلَوْ آجَرَ دَارَهُ كَذَلِكَ، فَخَامِسُهَا: تُقَوَّمُ سَالِمَةً. وَسَادِسُهَا: تُقَوَّمُ مَهْدُومَةً
قوله: (كَذَلِكَ) أي: آجرها ثلاث سنين وقبضها ومر حول. وقرر الشراح الثلاثة هذه المسألة هكذا، ولابن بشير نحوه. وقال شيخنا- رحمه الله: فيه نظر. ولا يمكن أن يأتي في هذه المسألة ستة أقوال؛ إذ الدار لا شك أنها عرض، وقد نص المصنف على ذلك أول كلامه في قوله:(كداره) وحينئذ إما أن يقول بجعل الدين في الدار، أو لا يجعله إلا في العين. فإن قلنا بالأول، فإنما يختلف هل يجعله في قيمتها سالمة أو مهدومة بناء على مراعاة الطوارئ، وإن قلنا بالثاني، فلا يأتي في المسألة إلا الأربعة الأقوال المتقدمة؛ إذ الدار عند هذا القائل كالعدم، فيكون كمن آجر نفسه. والقول بأنها تقوم مهدومة لابن القاسم. والقول بأنها تقوم سالمة لسحنون.
قال عبد الحق في تهذيبه: يحتمل أن يكون موضع الخلاف في دار يخشى سقوطها في المدة، وأما إن لم يخشَ، فيتفق على تقويمها سالمة، ويحتمل أن يقيد قول ابن القاسم بما إذا خشي هدمها. وقول سحنون بما إذا لم يخشَ، ولا يكون بينهما خلاف. انتهى بمعناه.
وَغَيْرُ الْحَوْلِيِّ وَإِنْ زُكَّيَ كَالْعَرْضِ
(غَيْرُ الْحَوْلِيِّ) الحبوب والثمار. يعني: أن الحبوب والثمار إذا زكيت، فهي كالعرضو يجعل الدين فيها على المشهور. وقوله:(وَإِنْ زُكَّيَ) مبالغة تقتضي أن يجعل الدين فيه مع
عدم الزكاة من باب أولى، وهو كذلك إذا كان دون النصاب. واختلف إذا كانت نصاباً، فقال ابن القاسم: يزكي عينها ويجعل دينه فيها، وهو المشهور. وقيل: لا يجعل دينه فيها؛ لتعلق الزكاة بعينها. فإن قيل: كلامه قاصر؛ لأن كلامه لا يتناول الماشية، إذ هي حولية وهي مساوية لما ذكر في جعل الدين فيها. قيل: الجواب: المراد بالحول ما كان مرور الحول مع الملك التام كافياً في وجوب الزكاة فيه، والماشية وإن كان فيه الحول إلا أنه لا بد مع ذلك من قدوم الساعي، فصار مرور الحول غير كافٍ، فيدخل بهذا الاعتبار في غير الحولي، ولا يقال هذا غير تام؛ لأن هذا إنما يأتي إذا كان ثَم سعاة، وأما إذا عدموا فلا؛ لأنا نقول هذا الكلام خرج مخرج الغالب، فإن الغالب السعاة.
وَالْمَعْدِنُ اتَّفَاقاً
(الْمَعْدِنُ) مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف؛ أي: المعدن يجعل فيه الدين اتفاقاً، فهو من باب عطف الجمل، ولا يختلف فيه كما اختلف فيما قبله، وكذلك صرح ابن بشير وابن رشد بأنه غير مختلف فيه. وعلى هذا فقول ابن عبد السلام: وبقي في كلام المصنف إشكال من جهة أنه عطف المعدن على العرض الذي شبه به غير الحولي، والمعدن غير حولي. فيكون تشبيه الشيء بنفسه ليس بشيء، ولعله لم يثبت في نسخته اتفاقاً، وهي ثابتة في النسخ. ومراده بـ (المعدن): معدن العين، وإلا فغير العين عرض.
وَالْمُكَاتَبُ كَالْعَرَضِ. وَفِي كَيْفِيَّة جَعْلِهِ، ثَلاثَة ُلابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبَ، وَأَصْبَغَ فِي قِيمَةِ كِتَابَتِهِ أَوْ مُكَاتِبٍ أَوْ [125/ ب] عَبْدٍ
…
يعني: أنه اختلف في المكاتب بالعرض؛ أي: فيجعل الدين فيه على المشهور. وعلى الجعل، فقال ابن القاسم: يجعل الدين في قيمة كتابته إن كانت بعرض قومت بالعين، وإن كانت بالعين قومت بعرض ثم قوم بالعين. وقال أشهب: في قيمته مكاتباً. وقال أصبغ: في قيمته عبداً.
وفرق المصنف بين القائلين وأقوالهم؛ لأنه أقرب إلى الاختصار من جميع ذلك، ورد الأول من الأقوال إلى الأول من القائلين، ثم كذلك إلى آخرها، وأظهرها قول ابن القاسم؛ لأنه إنما يملك الكتابة والرقبة ليس بقادر على التصرف فيها، وكذلك كونه مكاتباً.
وَفِي الْمُدَبَّرِ قَبْلَ الدَّيْنِ قَوْلانِ
هذا الكلام يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يجعل الدين فيه أولاً كالعرض ويكون كقوله: (والمكاتب كالعرض) - وأعاده ليرتب عليه ما بعده- وعلى هذا مشاه ابن عبد السلام.
والثاني: أن يريد بأن القائلين بأن العرض يجعل فيه الدين. اختلفوا في المدبر على قولين: فمنهم من قال: هو كالعرض، ومنهم من قال: لا، ويكون على هذا الوجه خلافاً مركباً. وعلى هذا حمله شيخنا- رحمه الله ويؤيده التفرقة بينه وبين المكاتب في قوله:(والمكاتب كالعرض وفي المدبر قولان). وأيضاً فلأن القول بأن الدين لا يجعل إلا في العين منقول عن ابن عبد الحكم. وهذا القول- أعني: أن المدبر لا يجعل فيه؛ أي: لا في رقبته ولا في خدمته- منقول عن سحنون. كذا نقله صاحب النوادر، واللخمي، وابن شاس وغيرهم. فاختلاف القائل دليل على ما قلناه. ويؤيد هذا قول ابن بشير في توجيه هذا القول، وهذا نظراً إلى أن بيعه لا يمكن من غير التفات إلى إمكان رجوعه إلى الرق. واحترز بقوله:(قَبْلَ الدَّيْنِ) من المدبر بعد الدين، فإنه لا يختلف في أنه يجعل الدين في رقبته؛ إذ التدبير باطل لسبق الدين عليه.
وَعَلَى جَعْلِهِ، فَفِي كَوْنِهِ فِي قِيمَةِ رَقَبَتِهِ أَوْ فِي خِدْمَتِهِ قوَلْانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ
فابن القاسم يقول: يجعل في قيمة رقبته. وأشهب يقول: يجعل في قيمة خدمته. قال ابن الجلاب: وبه أقول. وهو الجاري على قول ابن القاسم في المكاتب؛ لأنه إنما يملك
الخدمة، فكأنه راعى في المشهور قول من قال: يجوز بيعه. وعورض قول ابن القاسم هنا بقوله فيمن حنث باليمين بصدقة ثلث ماله، لا شيء عليه في المدبر وهلاً احتاط في ذلك كما احتاط في الزكاة.
وفِي الْمُعْتَقِ إِلَى أَجَلٍ قَوْلانِ، وَعَلَى جَعْلِهِ فَفِي قِيمَةِ خِدْمَته
القول بالجعل أظهر، والاحتمال في القولين هنا كما في المدبر.
وَالْمُخْدَمُ: الْمَنْصُوصُ جَعْلُ دَيْنِ مَالِكِهِ فِي مَرْجِعِ رَقَبَتِهِ، وَدَيْنُ مَخْدَمِهِ فِي خِدْمَتِهِ
إذا كان لشخص عبد فأخدمه لآخر- أي: أعطى خدمته له- فإن معطي الرقبة يجعل دينه في مرجع رقبته، هذا هو المنصوص.
ابن بشير: وقد يختلف في ذلك؛ لترقب موته قبل الرجوع؛ يعني: لن الخدمة لا شيء له فيها، والرقبة لا يقدر على التصرف فيها؛ لأن رجوعها إليه محتمل لاحتمال موت العبد قبل ذلك، فيكون ملكه لها أضعف من رقبة المدبر، وقد تقدم فيه خلاف. وقوله:(وَدَيْنُ مَخْدَمِهِ فِي خِدْمَتِهِ) يعني: ويجعل الذي أخذ الخدمة دينه في قيمة الخدمة.
ابن عبد السلام: وظاهر كلامه يقتضي أن في آخذ الخدمة خلافاً كما في معطيها. انتهى. وهو مبني على أن قوله: (ودين). معطوف على المضاف إليه في قوله: (جعل دين). ويمكن أن يكون مستأنفاً وهو الظاهر؛ ليكون موافقاً لابن شاس، فإنه قال: ويجعل المخدم دينه في مرجع رقبة العبد على المنصوص، ويجعل المخدم دينه في الخدمة، ومقتضى كلامه أن التخريج إنما هو في معطي الرقبة. وأيضاً فلا يظهر التخريج في جانب المخدم، إذ هو مالك للخدمة. وقد يقال: بل المنصوص عائد عليهما، ويعتمد في ذلك على ما قاله اللخمي.
قال: وقال محمد: لو أخدم رجل رجلاً عبده سنين، أو أُخدم هو عبداً لغيره سنين أو حياته، لحسب في دينه ما يساوي تلك الخدمة أو مرجع ذلك العبد.
قال اللخمي: قوله: (يجعل في الخدمة) إذا كانت حياته ليس بحسن؛ لأن ذلك مما لا يجوز بيعه بنقد ولا بغيره، وأظنه قاس ذلك على المدبر، وليس مثله؛ لأن الجواز في المدبر مراعاة للخلاف في جواز بيعه في الحياة، ولا خلاف أنه لا يجوز للمخدَم أن يبيع تلك الخدمة حياته.
وكذلك المرجع لا يجوز أن يجعل فيه الدين؛ لأن بيعه لا يجوز، وأما إن كانت الخدمة سنين معلومة، فيحسن أن يجعل الدين في قيمتها؛ لأنه يجوز بيعها، ويختلف فيه بعد ذلك؛ لأن حقه متعلق بحياة العبد. انتهى.
وَفِي الآبقِ الْمَرْجُوِّ قَوْلانِ، وَعَلَى جَعْلِهِ فَعَلَى غَرَرِهِ
أي: إن كان غير مرجو لم يجعل دينه فيه اتفاقاً. وأما المرجو، ففي المدونة: لا يجعل فيه، وعلله بعدم جواز بيعه؛ لأنه لا يعلم موضعه، أو يعلم ولكن [126/ أ] لا يقدر عليه، أو يقدر عليه بمشقة، وهو في هذه الوجوه كالعدم. وقال أشهب: يجعل في قيمة رقبته على غررها. وعارض التونسي قوله في المدونة في هذه المسألة بقوله في المدبر، فإنه قال: يجعل الدين فيه مع أنه لا يجوز بيعه. ولعل الفرق بينهما مراعاة الخلاف في بيع المدبر. وأقام بعض الشيوخ من تعليله في الآبق أنه لا يجعل الدين في الطعام الذي له من سلم لعدم جواز بيعه، وكذلك هنا ما لا يجوز بيعه كجلود الضحايا. وقال التونسي: ينبغي أن يجعل الدين في رأس مال السلم؛ لأنه قادر على توليته ولا يقدر على بيعه.
وَالدِّيْنُ لَهُ كَالْعَرْضِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ جَعْلِهِ ثَلاثَةً، أَصَحُّهَا إِنْ كَانَ حَالاًّ مَرْجُوّاً فَبالْعَدَدِ، وَإِلا فَبِالْقَيمةَ
…
يعني: أنه اختلف هل يجعل الدين الذي عليه في الدين الذي له أم لا كالعرض. وإذا فرعنا على المشهور من أنه يجعل، فحكى المصنف تابعاً لابن بشير ثلاثة أقوال: أحدها: أنه
يراعى قيمة دينه. والثاني: عدده. والثالث: إن كان حالاًّ وكان على مليء روعي عدده. وإن كان مؤجلاً أو على غير مليء روعيت قيمته. ابن بشير: وهذا هو الأصل، ويمكن أن يكون تفسيراً للقولين.
خليل: ولا أظن أحداً يوافقهما، إذ مقتضى كلامهما أن في المسألة قولاً باعتبار العدد مطلقاً، وينظر. ويعز وجوده في المذهب، ولم أره بعد البحث عليه، والذي رأيته إن كان الدين على معدم فهو كالعدم على المشهور. ولابن القاسم في العتبية: أنه يحسب قيمته.
وإن كان على مليء، فقال ابن القاسم، وأشهب في المجموعة على ما نقله صاحب النوادر، والباجي: يجعل الدين الذي عليه في الدين الذي له ويزكي ما بيده في الدين الذي يرتجى قضاؤه يحسب عدده. وقال سحنون: بل يجعل قيمة الدين الذي له في عدد الدين الذي عليه. أبو محمد: وما قال ابن القاسم في العتبية: أنه إذا كان الدين على غير مليء يحسب قيمته، يدل على أنه لو كان على مليء حسب عدده. قال: يريد إذا كان حالاًّ، وإن كان إلى أجل فينبغي أن تحسب قيمته؛ لأنه لو فلس بيع بقيمته. انتهى.
وقال اللخمي والتلمساني: وإذا كان دينه على موسر، فلا يخلو إما أن يكون دينه والدين الذي عليه حالين أو مؤجلين، أو أحدهما حالاًّ والآخر مؤجلاً، وفي كل هذه الوجوه لا يختلف الجواب في الدين الذي عليه أنه يحسب عدده. وإنما يفترق الجواب في الدين الذي له؛ فإن كانا حالين جعل العدد في العدد، وإن كان دينه مؤجلاً جعل ما عليه في قيمته. وإن كان الدينان مؤجلين، فإما أن يحل دينه قبل الذي عليه، أو يحل الذي عليه قبل، فإن حل الدين الذي له قبل الذي عليه جعل العدد في العدد، وإن حل الدين الذي عليه قبل دينه جعل عدد ما عليه في قيمة دينه. والله أعلم.
وَالْقِرَاضُ غَيْرُ الْمُدَارِ مُوَافِقاً لِحَالِ رَبِّهِ لا يُزَكَّى قَبْلَ الانْفِصَالِ وَلَوْ طَالَ وَلَوْ نَضَّ، وَأَلْزَمَ اللَّخْمِيُّ كَوْنَهُ إِنْ نَضَّ كَالْمُدَارِ، وَأُجِيبَ بأَنَّهُ كَالدَّيْنِ
…
يعني: أن مال القراض إذا كان العامل محتكراً فيه وكان رب المال محتكراً في بقيته- وهو مراده بالموافق لحال ربه- فلا يزكى ولو طال مقامه بيد العامل أحوالاً كثيرة، ولو نض المال كله.
قوله: (وَأَلْزَمَ
…
) إلى آخره. يعني: ألزم اللخمي من قال في المدار الموافق لرب المال بالتقويم كل عام، أن يقول في المحتكر إذا نض ماله أن يزكي قبل المفاصلة، بجامع أن العين في حق المحتكر كالعرض في حق المدير، ألا ترى أن المحتكر يزكي العين عند الحول كما يقوم المدير عروضه، بل تعلقها بالعين هو الأصل، وتعلقها بالعرض على خلاف الأصل؛ ولأن رب المال لو شاء المفاصلة لمكن من ذلك.
وأجاب ابن بشير: بأن المال بيد العامل شبيه بالدين على الغريم؛ لتعلق حق العامل به، وفي الجواب نظر. فإنه لو كان صحيحاً للزم مثله في المدير؛ لتعلق حق الغير، ولأنه لا يصح قياسه على الدين؛ لأن الدين ضمانه من المديان، والقراض ضمانه من رب المال، والقراض محبوس للتنمية بخلاف الدين.
وَفِي وُجُوبِهِ بَعْدَهُ لِسَنَةٍ أَوْ لِمَا مَضَى قَوْلانِ
الضمير في (وُجُوبِهِ) عائد على الإخراج المفهوم من السياق. ولو قال: وجوبها ليعود إلى الزكاة لكان أحسن. والضمير في (بَعْدَهُ) عائد على الانفصال، والقولان لمالك.
ابن راشد: والصحيح وجوبها لماضي السنين.
ابن عبد السلام: وهو الأقرب؛ لأن العامل نائب عن رب المال في التجر، لكن ظاهر المذهب- الذي اقتصر عليه صاحب المقدمات وغيره- قصر الزكاة على عام واحد.
وَعَلَى مَا مَضَى يُرَاعَى مَا فِي يَدِهِ لِسَنَةٍ وَيَسْقُطُ الزَّائِدُ قَبْلَهُ، وَيُعْتَبَرُ النَّاقِصُ كَذَلِكَ
…
يعني: إذا فرعنا على القول بأنه يزكي لماضي السنين، فيزكي ما حصل في السنة الأخيرة. وهذا معنى قوله:(يُرَاعَى مَا فِي يَدِهِ لِسَنَةٍ وَيَسْقُطُ الزَّائِدُ قَبْلَهُ) أي: ولا تعتبر الزيادة التي حصلت قبل الانفصال، كما لو كان في العام الأول [126/ ب] أربعمائة، وفي الثاني ثلاثمائة، وفي الثالث مائتين وخمسين، فإنه يزكي لعام الانفصال مائتين وخمسين، ثم يزكي ذلك للسنتين الأوليين إلا ما نقصه جزء الزكاة، وإلغاء الزائد لكونه لم يصل إلى رب المال ولم ينتفع به.
وقوله: (وَيُعْتَبَرُ النَّاقِصُ كَذَلِكَ) أي: كما تلغى الزيادة التي قبل الانفصال كذلك يعتبر النقص قبله. أي: قبل الانفصال. مثاله: لو كان في العام الأول مائتان، وفي الثاني ثلاثمائة، وفي الثالث أربعمائة، فإنه يزكي لكل عام ما حصل فيه. وضابط هذا أن يقول: إما أن يتساوى الحاصل في سنة الانفصال مع ما قبله أو لا، فإن استوى زكى الجميع كسنة الانفصال، إلا ما نقصه الزكاة. وأما إن لم يستو، فإما أن يكون الحاصل قبل سنة الانفصال في جميع السنين أكثر منه في سنة الانفصال أو أقل، أو كان الحاصل في بعضها أقل، وفي بعضها أكثر. فإن كان الحاصل قبلها أكثر زكى لجميع السنين كسنة الانفصال، وإن كان في غير سنة الانفصال أقل زكى لكل سنة ما حصل فيها. وقد تقدم تمثيلها.
وإن كان الحاصل في غير سنة الانفصال أقل أو أكثر، زكى الناقصة وما قبلها على حكمها، وزكى الزائدة على حكمها. مثاله: أن يكون في العام الأول خمسمائة، وفي الثاني مائتين، وفي الثالث أربعمائة، فإنه يزكي لعام الانفصال أربعمائة ثم مائتين للعامين الأولين.
وَفِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ بِرِبْحِ الْعَامِلِ قَوْلانِ
التكميل لأشهب، وعدمه لابن القاسم بناء على أنه أجير أو شريك. ومثاله: لو أعطاه مائة وخمسين فصار مائتين.
وَالْمُدَارُ مُوَافِقاً لِحَالِ رَبِّهِ، وَفِي تَزْكِيَتِهِ كُلَّ حَوْلٍ أَوْ جَعْلِهِ كَغَيْرِ الْمُدَارِ قَوْلانِ
يعني: إذا كان العامل يدير في المال وكان رب المال يدير في بقية ماله، ففي تزكية كل حول قولان. أي: هل يقوم عروضه على حكم الإدارة ولا ينتظر المفاصلة- كما لو لم يكن قراضاً، وهو ظاهر المذهب- أو ينتظر المفاصلة؟ وعليه فحكى ابن بشير، وابن شاس في قصر الزكاة على سنة واحدة وإيجابها لما تقدم من السنين قولين، سببهما تشبيه بالدين، أو التفرقة بأن الدين لا نماء فيه وهذا ينمو لربه، وهذا أولى من قول ابن عبد السلام: أنه أراد بقوله: (أَوْ جَعْلِهِ كَغَيْرِ الْمُدَارِ) القول بوجوب الزكاة بعد المفاصلة لماضي الأعوام فقط.
تنبيه:
ما ذكرناه من الخلاف إنما هو إذا كان العامل حاضراً مع رب المال، وأما إن كان غائباً، فلا خلاف أنه لا يزكي حتى يرجع، مديراً كان أو غير مدير، قاله ابن رشد.
وَعَلَى تَزْكِيَتِهِ، فَفِي كَوْنِهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ قَوْلانِ
أي: وإذا قلنا بأنه يزكي كل عام ولا ينتظر المفاصلة، فاختلف من أين يؤدي الزكاة، هل من مال القراض أو من عند رب المال؟ ونسب اللخمي الثاني لابن حبيب، قال: وهو ظاهر قول مالك. لكن اللخمي إنما نقل ذلك في العرض، وأجرى في العين خلافاً. ولهذا قال ابن عبد السلام: ظاهر كلامه أن الخلاف منصوص، واللخمي إنما ذكره تخريجاً على الخلاف المعلوم في ماشية القراض وعبيد القراض في زكاة الفطر، وتبعه على ذلك ابن بشير. انتهى.
وَالْمُخَالِفُ مِنْهُمَا يَجْرِي عَلَى الْمَالَيْنِ أَحَدُهُمَا مُدَارٌ
يعني: فإن اختلف حال العامل ورب المال، فكان أحدهما مديراً والآخر محتكراً، فإن الحكم يجري على الخلاف فيما إذا كان لواحد مالان، أحدهما مدار والآخرة محتكر. وهي التي تقدمت. إن تساويا فعلى حكمهما، وإلا فثالثها: يتبع الأقل الأكثر إن كان أحوط. وأصل هذا الإجزاء لابن محرز، وسلمه ابن بشير على القول بأن العامل تابع لرب المال كالأجير، وكأنه أشار إلى أنه إذا قلنا أنه كالشريك لا يحسن.
ابن عبد السلام: وليس كذلك، فإن رب المال لم يقل أحد أنه تابع للعامل، وإذا كان كذلك لم يكن بد من اعتبار ماله بيد العامل؛ إما لأنه كله ملكه، وإما لأنه له فيه شريك. وانظر إذا كان للعامل مال وهو فيه مخالف لما هو فيه عامل. والظاهر أنه لا يعتبر ما هو فيه عامل إلا على القول بأنه شريك. انتهى.
وَأَمَّا رِبْحُ الْعَامِلِ، فَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِهَا وَهُوَ نِصَابٌ، فَالْمَشْهُورُ عَلَى الْعَامِلِ
أخذ- رحمه الله يتكلم على زكاة ربح العامل، وجعل الأقسام ثلاثة: الأول: أن يكون العامل ورب المال من أهل الزكاة. أي: مسلمين، حرين، لا دين عليهما. فإن ناب العامل نصاباً، فالمشهور على العامل زكاته. والشاذ لمحمد: أن زكاة الجميع على رب المال، بناء على أنه شريك أو أجير، والتمثيل سهل. والخلاف هكذا منقول. ودعوى ابن عبد السلام أن الخلاف لفظي ليس بظاهر. وقد نقل غير واحد من الشيوخ القولين في أنه شريك أو أجير.
ابن يونس: ولا تجب الزكاة على العامل عند ابن القاسم إلا باجتماع خمسة شروط: أن يكونا حرين، مسلمين، لا دين عليهما، وأن يكون في المال وحصة ربه من الربح ما فيه الزكاة، سواء ناب العامل نصاب أو دونه. ولابن القاسم في الموازية: أن [127/ أ] العامل لا يزكي حتى يكون عنده من الربح عشرون ديناراً. أبو إسحاق: وهذا ليس بالمشهور. والخامس: أن يعمل بالمال حولاً. انتهى بمعناه.
وَعَلَى الْمَشْهُورِ: لَوْ تَفَاصَلا قَبْلَ حَوْلٍ مِنَ الْعَمَلِ، فَلا زَكَاةَ فِي رِبْحِ الْعَامِلِ كَفَائِدَةٍ
إذا تفاصلا قبل مرور الحول، فقال ابن القاسم: يستقبل بالربح حولاً، وجعله المصنف مفرعاً على المشهور، وفيه نظر. بل قياس المشهور أن يبني العامل على ما مضى من الحول، قاله ابن رشد وابن عبد السلام.
وبقول ابن القاسم احتج اللخمي للقول بأن الزكاة في الفرع الذي قبل هذا على رب المال، وهو يقوي كلاًّ منهما.
ونص كلام ابن القاسم في المدونة: وإذا عمل المقارض بالمال أقل من حول، ثم اقتسما فزكى رب المال لتمام حوله، فلا يزكي العامل ربحه حتى يحول عليه الحول من يوم اقتسما، وفيما نابه فيه الزكاة. ونص أشهب في هذه المسألة على أنه يزكي لحول من يوم العمل.
وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ، فَالْمَشْهُورُ الوُجُوبُ
أي: وإن كان نصيب العامل أقل من النصاب والمسألة بحالها، فالمشهور الوجوب أيضاً على العامل بقدر حصته. والمشهور مذهب المدونة، ففيها: وإن عملا بالمال سنة ثم اقتسما فناب رب المال بربحه ما فيه الزكاة، فالزكاة عليهما، كان في حظ العامل ما فيه الزكاة أم لا، والمشهور مبني على أنه أجير.
ورأى في الشاذ- وهو في الموازية- أنه شريك. وهذا الفصل مضطرب؛ إذ يتحرون تارة ما يأتي على أنه شريك، وتارة ما يأتي على أنه أجير، والظاهر أنه أجير؛ لعدم تحقق الشركة. ولهذا قيل في حد القراض: إجارة على التجر في مال بجزء من ربحه، وهو قول الأكثر.
ابن عبد السلام: وهو الأشبه، وهو الذي تشهد له المساقاة.
وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ فَقَطْ، فَلا زَكَاةَ عَلَى الْمَشْهُورِ
يعني: وإن كان رب المال من أهل الزكاة دون العامل، لم يزك رب المال عن نصيب العامل وتسقط زكاته على المشهور، بناء على أنه كالشريك. والشاذ: أن رب المال يزكي نصيب العامل، بناء على أنه كالأجير.
وَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ فَقَطْ، فَلا زَكَاةَ عَلَى الْمَنْصُوصِ
أي: وإن كان العامل من أهل الزكاة دون رب المال، فلا زكاة في نصيب العامل، بناء على أنه كالأجير. ونقل ابن محرز في ذلك الاتفاق. وخرج ابن بشير وجوب الزكاة على أنه شريك.
وَمَاشِيَةُ الْقِرَاضِ تُزَكَّى مُعَجَّلاً اتِّفَاقاً، ثُمَّ فِيهِ بَعْدَ الْمُفَاصَلَةِ ثَلاثَةُ، مَشْهُورُهَا عَلَى رَبِّهِ وتُلْغَى كَالْخَسَارَةِ، وَعَلَى الْعَامِلِ رِبْحُهُ ..
أي: أن الماشية ليست كالعين، بل تزكى قبل المفاصلة باتفاق؛ لأن الزكاة متعلقة بعينها، وكذلك النخل إذا أثمرت. ثم اختلف في الوجوب بعد المفاصلة على ثلاثة أقوال: مذهب المدونة: أنه على رب المال بناء على أن العامل كالأجير.
والقول الثاني لابن عبد الحكم وأشهب: أنها تلغى كالخسارة.
والقول الثالث: على العامل ربحه؛ أي قدر ربحه. وفي بعض النسخ: وعلى العامل بقدر ربحه. ويتضح الفرق بينهما بالمثال: لو كان رأس المال أربعين ديناراً فاشترى بها أربعين شاة وأخذ الساعي منها شاة تساوي ديناراً، ثم باع الباقي بستين ديناراً، فعلى المشهور تكون الشاة كلها على رب المال، ويكون رأس المال تسعة وثلاثين ويقتسمان إحدى وعشرين على ما اتفقا عليه، وعلى إلغائها كالخسارة ييقدر كما لو ماتت ويكون
رأس المال أربعين؛ لأن المال يجبر بالربح ويقسمان عشرين ولا شيء على العالم. وعلى الثالث يكون رأس المال تسعة وثلاثين، ويقتسمان الباقي ثم يأخذ رب المال من العامل ما ينوبه ويقسم الدينار على ستين جزءاً، يكون على العامل عشرة ونصف. وهذا القول ليس بمنصوص، بل خرجه اللخمي ولفظه- بعد أن ذكر القولين الأولين-: ويجري فيها قول أنها متى بيعت بربح فضت الزكاة، وكان على العامل منها بقدر ربحه- أي: مما تقدم في مال القراض العين- لأنه إذا ثبت أن الزكاة هناك عليهما فكذلك هنا.
فرع:
وأما عبيد القراض، فيخرج زكاة فطرهم. ابن حبيب: وهي كالنفقة ملغاة، ورأس المال العدد الأول. قال: وأما الغنم فمجتمع عليه في الرواية عن مالك من المدنيين والمصريين أن زكاتها على رب المال من هذه الغنم لا من غيرها، فتطرح فيه الشاة المأخوذة من أصل المال ويكون ما بقي رأس المال. قال: وهي تفارق زكاة الفطر؛ لأن هذه تزكى من رقابها والفطرة مأخوذة من غير العبيد.
ابن يونس: واختلف أصحابنا في قول ابن حبيب هذا، فقال أكثرهم: هو وفاق للمدونة. وظهر لي أنه خلاف، والدليل على ذلك أن الإمام أبا محمد سوى بين ماشية القراض وعبيده في المختصر والنوادر. انتهى.
فرع:
إعطاء المال للتجر ثلاثة أقسام: قسم يعطيه قراضاً، وهو الذي ذكره المصنف. وقسم يعطيه لمن يتجر فيه بأجر، فهذا كالوكيل، فيكون حكمه حكم شرائه بنفسه. وقسم يدفعه على أن يكون الربح كله للعامل ولا ضمان عليه فيه، فهو عند ابن القاسم كالدين يزكيه لعام واحد. وقال ابن شعبان: يزكيه لماضي [127/ ب] الأعوام ولا شيء على العامل.
وَلا زَكاَةَ فِي الْعَيْنِ الْمَغْصُوبِ، وَفِي زَكَاتِهِ لِعَامٍ كَالدَّيْنِ قَوْلانِ
أي: لا زكاة على رب العين المغصوبة قبل رجوعها إليه اتفاقاً؛ للعجز عن التنمية، ثم إذا قبضه ففي المقدمات: يزكيه لعام واحد على المشهور كالدين. وقيل: لا زكاة عليه وهو كالفائدة. والأول أصح.
وفي الموطأ: أن عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه أمر بزكاته لماضي السنين، ثم رجع فأمر بزكاته لعام واحد. وفرق في الشاذ بينه وبين الدين؛ لأن الدين إما مع النماء كما في سلع التجارة، وإما لأنه ترك النماء فيه اختياراً. وحكى ابن بشير الاتفاق على أنها لا تزكى لماضي الأعوام، وفيه نظر. فإن صاحب المقدمات حكى قولاً بوجوب الزكاة لماضي الأعوام.
بِخِلافِ النَّعَمِ الْمَغْصُوبَةِ تَرْجِعُ بأَعْيَانِهَا عَلَى الْمَعْرُوفِ، وَفِي تَزْكِيَتِهَا لِمَا تَقَدَّم أَوْ لِعَامٍ قَوْلانِ
…
قوله: (بِخِلافِ) أي: أن المعروف أنها تزكى ولا يستقبل بها حولاً. والفرق بين الماشية والعين أن الماشية تنمو بنفسها. واحترز بأعيانها مما لو رد بدلها، وسيأتي. ومقابل المعروف مخرج على قول السيوري: أن الولد غلة. ومن القول بأن الغاصب لا يرد الغلة لمساواتها إذ ذاك للعين في عدم النماء. والمشهور أن الولد ليس بغلة، والمشهور أن الغاصب يرد الغلات، فهو مركب من شاذ على شاذ، على أنه لو كان على قولين مشهورين لم يتم؛ لجواز تعدد القائل، والأولى أن يقول على المنصوص.
وقوله: (وَفِي تَزْكِيَتِهَا ..) إلخ. القولان لابن القاسم. وقال أشهب بأحدهما وهو الزكاة لعام. ابن عبد السلام: والصحيح زكاتها لماضي الأعوام؛ لأن زكاتها مردودة معها. والمشهور أيضاً أن غلتها مردودة فصارت كأنها لم تخرج من يد المالك.
وَثَمَرُ الشَّجَرِ الْمَغْصُوبِ يُزَكَّيهِ مَنْ حُكَّمَ لَهُ بِهِ
لا شك أن الثمرة غلة، والمشهور أن الغاصب يردها؛ وعليه فالزكاة على رب الشجر. وأبهم المصنف بقوله:(مَنْ حُكَّمَ لَهُ بِهِ) لاحتمال أن يرفع الأمر لحاكم يرى أن الغلات للغاصب، ثم لا إشكال في وجوب الزكاة على رب الشجر؛ أي: إن حكم له بالغلة؛ لكونها نشأت عن ملكه، وإن حكم بها للغاصب، ففي وجوب الزكاة عليه نظر؛ لأنه لا تحل له الغلات حتى يرد الأصول، وإذا كان كذلك فلم يتحقق ملكه لها إلا بعد رد الأصول، فتكون فائدة فيستقبل به حولاً. غاية ما يقال: الحكم بها للغاصب كاشف لحصول الملك من أول الحول، وذلك لا يوجب الاتفاق على ذلك. ثم إذا حكم بها للمغصوب منه، فإن علم قدرها في كل سنة زكاها على حسب ما فيها، وإن جهل قدرها في كل سنة، فقيل: يقسم على عدد السنين بالسوية، فإن كان لكل سنة نصاب زكى الجميع، وإن كان لكل سنة دون النصاب فلا زكاة عليه، وإن كان لكل سنة نصاب إلا أن الغاصب أتلف بعض الغلَاّت فلم يبقَ ما يخص كل سنة إلا دون النصاب، وكان مجموع المردود على المغصوب منه أكثر من نصاب- كما لو أثمر الشجر في أربع سنين عشرين وسقاً ولم يوجد عند الغاصب إلا عشرة- فقال أبو حفص العطار فيما قيد عنه: إن القياس سقوط الزكاة، والاستحسان وجوب زكاة ما قبض، وذكره عن أبي بكر بن عبد الرحمن. وذكر عن ابن الكاتب: أنه يزكي مما قبض نصاباً، فإن فضل شيء نظر فيه، فإن كان أقل من النصاب فلا زكاة عليه حتى يكمل نصاباً، ثم هكذا.
وَلا زَكَاةَ فِي الْعَيْنِ الْمَوْرُوثِ يُقِيمُ أَعْوَاماً لا يْعَلَمُ بِهِ، وَلَمْ يُوقَفْ عَلَى الْمَنْصُوصِ
أي: إذا ورث شخص مالاً ولم يعلم به ولا وقفه له الحاكم، وهو مراده بقوله:(وَلَمْ يُوقَفْ) فالمنصوص سقوط الزكاة. ويتخرج فيها قول آخر بوجوبها. ولعله من مسألة المغصوب والمدفون، بل هو المنصوص، كما سيأتي من كلام صاحب البيان.
فَإِنْ عَلِمَ بِهِ، فَقَوْلانِ
أي: علم به ولم يوقف، بناء على أن علمه به يصيره بمنزلة المقبوض أم لا. قال في الجواهر: وإذا قلنا بالوجوب، فهل يزكيه لما تقدم، أو لعام؟ قولان. وذكر في البيان في هذه المسألة أربعة أقوال:
الأول: أن على الورثة زكاة ما ورثوه من الناض من حين ورثوه، وإن لم يقبضوه ولا علموا به، صغاراً كانوا أو كباراً.
الثاني لابن القاسم: لا زكاة عليهم فيه حتى يقبضوه ويستقبلوا به حولاً من يوم قبضوه وإن علموا به، صغاراً كانوا أو كباراً.
الثالث لمطرف: إن لم يعلموا استقبلوا به حولاً بعد القبض، وإن علموا ولم يقدروا على التخلص ألبتة زكوه لعام واحد، وإن قدروا على التخلص إليه زكوه لماضي الأعوام.
الرابع: أنهم إن لم يعلموا به زكوه لسنة واحدة، وإن علموا زكوه لماضي الأعوام، وهو مروي عن مالك.
فَإِنْ وُقِفَ، فَثَالِثُهَا: كَالدَّيْنِ. وَالْمَشْهُورُ: لا زَكَاةَ إِلا بَعْدَ حَوْلٍ بَعْدَ قِسْمَتهِ وَقَبْضِهِ إِنْ كَانَ بَعِيداً.
قال في التهذيب: وإذا باع القاضي داراً لقوم ورثوها وأوقف ثمنها حتى يقسم بينهم، ثم قبضوه بعد سنين، فليستقبل به حولاً بعد قبضه، [128/ أ] وإن بعث في طلبه رسولاً بأجر أو بغير أجر، فليحسب له حولاً من يقوم قبضه رسوله وإن لم يصل إليه بعد. انتهى.
والقول بالزكاة لماضي السنين حكاه ابن يونس عن مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ وإن لم يعلم وصوبه؛ لأن يد المودع كيده، وسواء علم أو لم يعلم. والقول بعدم الزكاة هو مذهب المدونة كما ذكرنا. والثالث للمغيرة: يزكيه لعام كالدين، كذا نقل ابن يونس.
وانظر هذا النقل مع ما نقله ابن رشد عنه، فإنه قال: إذا قال بالزكاة لما مضى من الأعوام وإن لم يعلم به، فكيف إذا وقف، ولعل له قولين.
قوله: (وَالْمَشْهُورُ: لا زَكَاةَ إِلا بَعْدَ حَوْلٍ بَعْدَ قِسْمَتهِ وَقَبْضِهِ) يستفاد منه شيئاً: أحدهما: تعيين المشهور في المسألة المتقدمة. وثانيهما: إفادة فرع آخر، وهو أنه لو كان له شريك، فهل يُنَّزل وقفه لهما كوقفه لأحدهما؟ المشهور: لا. فقوله: (المشهور لا زكاة إلا بعد حول بعد قسمته) إشارة لمسألة الشريك، وقوله:(وقبضه) إشارة إلى تعميم الحكم في الاستقبال هنا وفي وجوب المسألة المتقدمة.
وقوله: (إِنْ كَانَ بَعِيداً) هو كقوله في المدونة وكذلك من ورث مالاً بمكان بعيد والله أعلم. وعلى هذا فقوله: (وَالْمَشْهُور) ليس خاصاً بمسألة الوقف، نعم هو أحد الأقوال الثلاثة المذكورة فيها.
وَتُزَكَّى الْمَاشِيَةُ وَالْحَرْثُ مُطْلَقاً
يعني: أن الماشية الموروثة، والحرث المورث قبل بدو صلاحه يزكيان من غير قيود الإيقاف والعلم؛ لأن النماء حاصل فيهما من غير كبير محاولة ففارق العين.
وَفِي الضَّائِعِ يُلْتَقَطُ ثُمَّ يَعُودُ، ثَالِثُهَا: كَالدَّيْنِ
يعني: أنه اختلف في العين الملتقطة ترجع إلى ربها بعد أعوام. فقيل: يزكى لكل عام؛ لأن الملتقط حافظ لها لربها كالوكيل، وهو لمالك في العتبية، والمغيرة، وسحنون. وقيل: لا زكاة عليه ويستقبل به حولاً؛ للعجز عن تنميته، وهو لابن حبيب. وقيل: يزكيه لعام واحد كالدين، وهو أيضاً لمالك. ورواه ابن القاسم، وابن وهب، وعلي بن زياد، وابن نافع.
قال في العتبية: وإن كان الملتقط تسلفها لنفسه حتى تصير في ضمانه، فحكمها حكم الدين يزكيه زكاة واحدة لما مضى من السنين. قال: قلت لأشهب: هل يقبل قول الملتقط
أو المستودع أنه تسلفها؟ قال: نعم يسأل عن ذلك، فما قال قُبِلَ قولُه وكان في أمانته. وأما ما يلتقطه فلا زكاة عليه إن لم ينو إمساكه لنفسه، وإن نوى ذلك ولم يتصرف، ففي ضمانه له قولان: القول بعدم ضمانه لابن القاسم في المجموعة، فإن تصرف فيه ضمنه بلا خلاف.
قال في البيان: فإذا دخلت في ضمانه بحبسه إياها لنفسه أو بتحريكها على الاختلاف المذكور، سقطت عن ربها الزكاة فيها اتفاقاً.
وَفِي الْمَدْفُونِ، ثَالِثُهَا: إِنْ دَفَنَهُ فِي صَحْرَاءَ زَكَّاهُ، وَإِلا فَكَالدَّيْنِ. وَرَابعُهَا: عَكْسُهُ
القول بزكاته لماضي السنين لمالك في الموازية. والقول بوجوبها لعام لمالك في المجموعة. ابن رشد: وهو أصح الأقوال. والقول الثالث: إن دفنه في صحراء زكاه للماضي؛ لتعريضه إياه للضياع، وإن دفنه في بيته زكاه لعام، لابن حبيب. والرابع عكس الثالث.
ابن المواز: إن دفنه في بيته فطلبه فلم يجده، ثم وجده حيث دفنه، فعليه زكاته لماضي السنين. وإن دفنه في صحراء ثم غاب عنه موضعه، فليس عليه فيه إلا زكاة واحدة.
ابن رشد: وله وجه؛ لأنه إذا دفنه في البيت فهو قادر عليه باجتهاده في الكشف عنه. وأجرى بعض المتأخرين قولاً بالاستقبال، قياساً على ما رواه ابن نافع عن مالك في الوديعة: أنه يستقبل بها حولاً بعد قبضها. وقال في البيان: وهو إغراق، إلا أن يكون معنى ذلك أن المودع غائب عنه فيكون لذلك وجه.
وَالْمُخْرَجُ مِنَ النَّقْدَيْنِ رُبُعُ الْعُشْرِ، وَمَا زاَدَ فَبِحِسَابِهِ مَا أَمْكَنَ
لا خلاف أن الواجب في النقدين ربع العشر. ومذهبنا ومذهب الجمهور، كالشافعي، وأحمد، وغيرهما: وجوب الزكاة فيما زاد على النصاب وإن قل، ولا يشترط بلوغه في الفضة أربعين درهماً وفي الذهب أربعة دنانير، خلافاً لأبي حنيفة. ووقع لبعضهم اختلاف عبارات، فقال بعضهم كالمصنف، وقال ابن أبي زيد في الرسالة: وما زاد
فبحساب ذلك وإن قل. ورأى بعض أشياخ ابن عبد السلام: أن ذلك اختلاف حقيقة وأن الإمكان في الأول هو أن الزائد يمكن قسمته إلى جزء الزكاة. وفي الثاني: لا يشترط ذلك، بل إن لم تمكن قسمته اشترى به طعاماً أو غيره مما تمكن قسمته على أربعين جزءاً. والظاهر أنهما بمعنى واحد. والله أعلم.
وَفِي إِخْرَاجِ أَحَدِهِمَا عَنِ الآخَرِ، ثَالِثُهَا: يُخْرَجُ الْوَرِقُ عَنِ الذَّهَبِ، بِخِلافِ الْعَرَضِ وَالطَّعَامِ .....
يعني: أنه اختلف هل يخرج عن الورق ذهباً أو بالعكس على ثلاثة أقوال، وتصورها ظاهر. وظاهر كلامه [128/ ب] أن الخلاف في الجواز والمنع، وكذلك نقل ابن بشير، وبنى الأولين على أنه هل هو من باب إخراج القيمة فيمنع، أو لا فيجوز. ورأى في الثالث أن الورق أيسر على الفقير بخلاف العكس. ومذهب المدونة- وهو المشهور-: الجواز.
ابن راشد: والمنع مطلقاً لم أقف عليه في المذهب.
والذي حكاه الباجي وغيره: أن الجواوز لمالك، والتفصيل لسحنون، وابن لبابة. قال سحنون: إخراج الورق عن الذهب أجوز من العكس.
وقال ابن محرز: لم يختلف علماؤنا في إخراج الدراهم عن الدنانير، ولم يروه من شراء الصدقة. واختلف في إخراج الذهب عن الورق، فأجازه مالك. وذكر عن ابن مزين، وابن كنانة أنهما كرها ذلك. انتهى.
وعلى هذا فالخلاف إنما هو في الكراهة، ألا ترى قول سحنون: إخراج الورق عن الذهب أجوز، فحكم بالاشتراك في الجواز.
وقوله: (بِخِلافِ الْعَرَضِ وَالطَّعَامِ) أي: فلا يجوز إخراج أحدهما عن الورق ولا عن الذهب؛ لأنه من باب إخراج القيمة، ولا يجوز إخراجهما ابتداء، كما سيأتي.
فرع:
فإن أخرج عرضاً أو طعاماً رجع على الفقير به ودفع له ما وجب عليه، فإن فات في يد الفقير لم يكن له عليه شيء؛ لأنه سلطه على ذلك، وذلك إذا أعلمه أنه من زكاته، وإن لم يعلمه لم يرجع مطلقاً؛ لأنه متطوع، قاله مالك.
وَعَلَى الإِخْرَاجِ مَشْهُورُهَا: يُعْتَبَرُ صَرْفُ الْوَقْتِ مَا لَمْ يَنْقُصْ عَنِ الصَّرْفِ الأَوَّلِ
أي: وإذا فرعنا على أنه يخرج أحدهما عن الآخر، فاختلف: هل يعتبر صرف الوقت أو الصرف الأول- وهو كل دينار بعشرة- أو صرف الوقت على ما لم ينقص عن الصرف الأول، وهو قول ابن حبيب. والمشهور: اعتبار صرف الوقت مطلقاً، لا كما قال المصنف.
وَإِذَا وَجَبَ جُزْءٌ عَنِ الْمَسْكُوكِ وَلا يُوجَدُ مَسْكُوكٌ وَأَخْرَجَ مَكْسُوراً، فَقِيمَةُ السَّكَّةِ عَلَى الأَصَحِّ. كَمَا لَوْ أَخْرَجَ وَرِقاً
…
أي: إذا وجب في الزكاة جزء دينار مسكوك، فإن وجد ذلك الجزء مسكوكاً تعين إخراجه، وإلا فلا يخلو أن يريد إخراج الورق أو الذهب، فإن أراد الورق أخرج قيمة ما وجب عليه مسكوكاً اتفاقاً، حكاه ابن راشد. واختلف إذا أراد إخراج الذهب، هل يلزمه إخراج قيمة السكة. قال ابن حبيب: لا يلزمه ذلك؛ لأن الزكاة إنما تعلقت بالعين لا بالسكة، وأوجبه ابن القاسم. قال المصنف: وهو الأصح؛ لأنه لما ثبت للفقراء حق في السكة إذا أخرج ورقاً وجب أن يثبت مثل ذلك في الذهب.
وأشار ابن عبد السلام هنا إلى أنه لا يحمل على المصنف أنه ذكر الخلاف في الورق لتشبيهه، قال: لأنه إنما يشبه بالخلاف حيث يذكره مجرداً عن الترجيح، مثل ما تقدم في الدم المسفوح، وأما إذا رجح بعض الأقوال كما حكم هنا بالأصحِّيَة فإنما يريد بالتشبيه بيان الوجه الذي من أجله كان ما اختاره راجحاً. والله أعلم.
وَلا يُكْسَرُ الْكَامِلُ اتِّفَاقاً، وَفِي كَسْرِ الرُّبَاعِيُّ وَشِبْهِهِ قَوْلانِ
لأن في القطع فساد السكة على المسلمين، وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى:{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48] أنهم كانوا يقطعون السكة. واختار ابن رشد، وابن عبد السلام عدم كسر الرباعي وشبهه؛ لأن العلة كونه مسكوكاً لا كاملاً.
وَإذَا وَجَبَ مَسْكُوكٌ فَأَخْرَجَ أَدْنَى أَوْ أَعْلَى بِالْقَيمَةِ، فَقَوْلانِ
يعني: إذا وجب مسكوك طيب، فأخرج عنه أردأ منه وهو أكثر وزناً بقيمة الطيب أو بالعكس. وحكى ابن بشير القولين عن المتأخرين. ونص ابن المواز في مسألة ما إذا أخرج أقل وزناً وأجود على عدم الإجزاء، ورأى أنه يخر القدر الواجب، وإن نظر إلى الفضل دخله دوران الفضل من الجهتين، هكذا نقله عنه ابن عبد السلام.
ونقل ابن راشد عنه في الصورة الأخرى أنه قال: إذا أخرج أكثر وزناً وأردأ، فينبغي أن يجوز؛ لأنه يخرج من الرديء أكثر مما يخرج من الجيد، ولا ينبغي أن يقتصر في فرض المسألة على المسكوك كما فعله المصنف، قاله ابن عبد السلام.
وَأَمَّا الْمَصُوغُ، فَيُخْرِجُ عَنْهُ الْمَكْسُوَر بِالْوَزْنِ لا بِالْقَيمَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ؛ إِذْ لَهُ كَسْرُهُ
يعني: إذا كان عنده مصوغ وزنه مائة دينار مثلاً وبصياغته يساوي مائة وعشرة، فالمشهور: أنه يخرج عن المائة لا عن المائة والعشرة. ونقله اللخمي، فقال: وإذا كان الحلي للتجارة وهو غير مدين، فقيل: يخرج قيمة ما وجب عليه من ذلك مصوغاً، وقيل: يخرج الذهب دون الصياغة، فيخرج زنة ذلك الجزء ومثله في الجودة على أنه غير مصوغ.
وقوله: (إِذْ لَهُ كَسْرُهُ) جواب عن سؤال مقدر توجيهه أن يقال: ما الفرق على المشهور بين هذه وبين ما إذا وجب جزء من المسكوك، والجامع أن كلاًّ منهما زيادة في
المعنى؟ أجاب بأن المصوغ لصاحبه كسره وإعطاء الجزء الواجب بعد الكسر فلم يكن للفقير [129/ أ] حق في الصياغة، بخلاف السكة؛ إذ ليس له كسرها فلم يأخذ الفقير مثل ما فاته بل دونه.
فَإِنْ أَخْرَجَ وَرِقاً عَنْ مَصُوغٍ جَازَ، وَقُلْنَا: إِنَّهَا مُلْغَاةٌ، فَفِي اعْتِبَارِ قِيمَتِهَا قَوْلانِ لابْنِ الْكَاتِبِ وَأَبِي عِمْرَانَ، وَأَلَّفَ الْقَبِيلانِ فَيهِمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَرِقَ كَالطَّعَامِ فِي جَزَاءٍ الصَّيْدِ، أَوْ لا حَقَّ لِلْمَسَاكِينِ فِي الصِّيَاغَةِ ....
يعني: إذا فرعنا على المشهور من إلغاء الصياغة فيما إذا أخرج ذهباً مكسوراً عن مصوغ وأراد أن يخرج ورقاً، فهل لا بد حينئذ من إخراج قيمة الصياغة، وإليه ذهب ابن الكاتب. أو إنما له أن يخرج قيمة الجزء الواجب عليه غير مصوغ، كما له أن يخرجه مكسوراً، وإليه ذهب أبو عمران. ومنشأهما ما ذكره المصنف بقوله:(بنَاءً ..) إلخ. أي: أن ابن الكاتب ومن قال بقوله قاسوا المسألة على حكم جزاء الصيد؛ إذ المكلف مخير فيه بين أن يخرج المثل من النعم أو الطعام، فإذا اختار المثل أخرجه، وإن اختار إخراج الطعام فإنه يقوم الأصل لا المثل، فكذلك هذا يخير بين أن يخرج قطعة ذهب أو القيمة دراهم، فإن أخرج قطعة ذهب أجزأه، وإن أخرج القيمة رجع إلى الأصل وأخرج قيمة المصوغ.
ورأى أبو عمران ومن قال بقوله: أنه لما ثبت أنه لا حق للفقراء في الصياغة بدليل إخراج ذلك الجزء غير المصوغ، وجب ألا تراعى قيمتها. قال ابن بشير: وهو أقيس. ورد القياس المذكور بالفرق، فإن الطعام والمثل من النعم بدلان عن الصيد فخير فيهما، فلا يقوم أحدهما بصاحبه، بل بالصيد الذي هما بدل عنه، بخلاف الفضة مع الذهب، فإن الذهب إذا خرج عن الذهب صار المخرج كأنه عين الواجب، إذ قد ثبت أنه لا حق للفقراء في الصياغة، فإذا أخرجت القيمة وجب أن يقوم غير المصوغ.
ورد بعضهم أيضاً القياس بوجه آخر: بأن هذا إلحاق باب له خصوصيات بباب له خصوصيات وهو غير جائز، وإلا لزم أن تجب قراءة الفاتحة بالوقوف بعرفة قياساً على الصلاة بجامع الفريضة.
وقوله: (وَأَلَّف الْقَبِيلانِ) تنبيه على أن لكل من القائلين أتباعاً في هذه المسألة، فصار بأتباعه كالقبيل، وأن كل قبيل ألف تأليفاً في هذه المسألة.
وقوله: (فَيهِمَا) أي: في القولين، وفي بعض النسخ:(فيها) فيعود على المسألة. وما ذكره المنصف من ذكر خلاف ابن الكاتب وأبي عمران في المصوغ الجائز تبع فيه ابن بشير.
وإنما نقل ابن يونس كلامهما في المصوغ المحرم، فقال: واختلف ابن الكاتب وأبو عمران في زكاة آنية الفضة، ثم ذكر ما ذكرناه، ولم ينقل عنهما في المصوغ الجائز شيئاً، وإنما نقل فيه أن الشيخين- الشيخ أبا محمد، والشيخ أبا الحسن- سئلا عن الحلي الجائز إذا كان وزنه عشرين ديناراً، هل يخرج ربع عشره على أنه مصوغ، أو أنه إنما يلزمه ربع عشره تبراً، أو قيمة ربع عشره من الفضة على أنه مصوغ؟ فأجابا: بأنه يخرج ربع عشر قيمته على أنه مصوغ؛ لأن الفقراء شركاؤه بربع العشر فيأخذون قيمة ذلك، قَلَّتْ أو كثرت. ابن يونس: يريد فضة، وهو قول جيد. ولكن ظاهر الكتاب خلافه.
وقول ابن عبد السلام: إن ابن بشير ذكر هنا خلافاً عن المتأخرين أن الصياغة هل هي كالعرض، فيسلك بها مسلكه في الإدارة والاحتكار، أم لا؟ ولعل المصنف يريد بقوله:(إِنَّهَا مُلْغَاةُ) هذا، لا ما قلناه من أنه بناه على المشهور في الفرع السابق، فإن كلام المصنف لا يمكن حمله على هذا؛ لأنه بعيد من كلامه. ثم لا ينبغي عزو هذا الكلام لابن بشير، فإن المصنف قد نقله أول الزكاة بقوله:(وفي الصياغة الجائزة قولان) وعلى الاعتبار المنصوص كالعرض.
الْمَعْدِنُ وَالرِّكَازُ. فَأَمَّا الْمَعْدِنُ: فَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَحُكْمُهُ لِلإِمَامِ اتِّفَاقاً ....
(الْمَعْدِنُ) أصله الإقامة، يقال: عدن بالمكان؛ أي: أقام. ومنه جنات عدن؛ أي: جنات إقامة. و (الرِّكَازُ) مأخوذ من قولهم: ركزت الشيء؛ أي: دفنته. قال صاحب العين: الركاز يقال لما وضع في الأرض، ولما يخرج من المعدن من قطع الذهب أو الورق. ولا خفاء في الإتيان بالمعدن هنا؛ إذ المأخوذ منه زكاة. وأما الركاز: فلما قدمناه في أول الزكاة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهما معاً في الحديث الذي هو أصل لهما.
ثم تكلم المصنف على المعدن بقوله: (فَأَمَّا الْمَعْدِنُ ..) إلخ. أي: أن المعدن إذا وجد في أرض غير مملوكة لأحد كالفيافي وما انجلى عنه أهله، فيكون حكمه للإمام اتفاقاً، أي: النظر فيه إما بالإقطاع، وإما أن يوكل من يعمل فيه للمسلمين.
فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ مُعَيِّنٍ، فَقَوْلانِ: للإِمَامِ وَلِلْجَيْشِ ثُمَّ لِوَرَثَتِهِمْ، أَوْ لِلْمُصَالِحِينَ ثُمَّ لِوَرَثَتِهِمْ، وَالْمَشْهُورُ: لِلإِمَامِ فِي أَرْضِ الْعَنْوَةْ، وَلِلْمُصَالِحِينَ فِي أَرْضِ الصُّلْحِ
يعني: أنه اختلف في المعدن الموجود في أرض مملوكة لكن مالكها غير معين على ثلاثة أقوال: [129/ ب]
الأول: أنه للإمام في أرض العنوة والصلح، حكاه ابن حبيب عمن لقي من أصحاب مالك، هكذا حكاه الباجي وغيره.
وقال ابن زرقون: انظر ما حكاه عن ابن حبيب في أرض الصلح، وإنما ذكر ابن حبيب هذا في فيافي أرض الصلح لا في أرضهم المتملكة، ولا خلاف أعلمه في معادن أرض الصلح المتملكة أنها لأهل الصلح. انتهى.
القول الثاني: أنه للمالكين وهم إما مسلمون؛ أي: الجيش الذين افتتحوا الأرض إن كانوا موجودين، أو لورثتهم إن ماتوا. وإما غير مسلمين، وهم المصالحون عن أرضهم أو ورثتهم.
والقول الثالث: وهو المشهور أن النظر للإمام في أرض العنوة، وأن النظر في أرض الصالحين.
وقوله: (لِلإِمَامِ) هو القول الأول. وقوله: (وَلِلْجَيْشِ ثُمَّ لِوَرَثَتِهِمْ، أَوْ لِلْمُصَالِحِينَ ثُمَّ لِوَرَثَتِهِمْ) هو القول الثاني. وقوله: (وَالْمَشْهُورُ) هو القول الثالث.
ومنشأ الخلاف بين الأولين هو ما علم، هل مالك ظاهر الأرض لا يملك باطنها أو يملك؟ وما شهره المصنف هو قول ابن القاسم في المدونة.
خليل: ويناقش المصنف في حكاية الخلاف في أرض العنوة؛ إذ لا خلاف أن النظر فيها للإمام يقطعها لمن رآه. حكى الاتفاق ابن يونس وغيره. وكذلك حكى ابن يونس الاتفاق على ما ظهر من المعادن في أرض الحرب أن النظر فيه للإمام.
وعلى هذا فحاصل المسألة: أن ما حكاه المصنف من الخلاف في أرض الصلح صحيح على كلام الباجي ولا يصح على كلام ابن زرقون، وأما ما حكاه من الخلاف في أرض العنوة فغير صحيح، وإن كان ابن رشد قرره على ظاهره.
وحكى في المقدمات- بعد أن قرر أن الموجود في أرض الصلح لأهل الصلح- قولين: أحدهما: أن أهل الصلح إذا أسلموا رجع النظر في ذلك للإمام، قال: وهو مذهب المدونة. والثاني: أنه يبقى لهم ولا يرجع للإمام، وهو مذهب سحنون. فإن قلت: ما معنى قولكم: إن المالك غير معين مع الحكم لورثتهم، والوارث لابد أن يكون موروثه معيناً؟ فالجواب: أن المراد بعدم التعيين كونه ليس لشخص ولا لأشخاص قليلين، بل لجماعة
كثيرة كأهل الصلح والجيش، وحيئنذ فلا منافاة بين عدم تعيينهم وبين الحكم لورثتهم بالمعدن. وانظر إذا قلنا لورثتهم هل معناه على سبيل الإرفاق فيستوي فيه الذكر والأنثى، أو كالفرائض. والأول أظهر.
وَإِنْ كَانَ لِمُعَيَّنٍ، فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ عَيْناً فَلِلإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَلِلْمَالِكِ
تصور هذه الأقوال واضح، والقولان الأولان لمالك. والذي أخذ به ابن القاسم أن النظر فيه للإمام، قاله في المقدمات، وهو مذهب المدونة. والقول بأنه لمالك الأرض لمالك في الموازية. والثالث لسحنون وبكلامه هنا تعلم منه أن كلامه فيما تقدم شامل للعين وغيره.
وَيُعْتَبَرُ النِّصَابُ دُونَ الْحَوْلِ كَالْحَرْثِ
اختلف العلماء في المعدن، فقال أبو حنيفة: إنما يجب فيه الخمس، وقال مالك والشافعي: تجب فيه الزكاة. لكن مالكاً- رحمه الله لم يشترط فيه الحول واشترطه الشافعي، واستدل في المدونة بحديث معادن القبلية وهو في الموطأ، وفيه:"فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة". قال ابن نافع في كتاب ابن سحنون: والقبلية لم تكن لأحد وإنما كانت بفلاة. ولا خفاء في دلالته على أخذ الزكاة لا الخمس، فإن قلت: لا دلالة فيه على عدم اشتراط الحول، وإذا لم تكن فيه دلالة فلابد من اشتراطه كما قاله الشافعي؛ عملاً بما رواه أبو داود، وابن ماجه، والبيهقي من قوله:"لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول". فجوابك: أن حديث المعادن خاص بالنسبة إلى حديث الحول.
وقوله: "لا يؤخذ منها إلا الزكاة" يقتضي ظاهره عدم اشتراط الحول؛ لأن بمرور الحول لا تبقى بإضافة العين إلى المعدن فائدة، ولاسيما إن كان تجر فيها. ألا ترى أنك لا تقول: لا تجب في العين الموروثة والمتصدق بها أو نحو ذلك إلا الزكاة؛ لاشتراطك الحول في ذلك والله أعلم.
فرع:
قال الباجي: يتعلق وجوب الزكاة في المعدن بنفس خروجه، ويتوقف الإخراج على التصفية. وقال غيره: إنما يتعلق به بالتصفية. وفائدة هذا الخلاف فيما إذا أنفق شيئاً بعد الإخراج وقبل التصفية.
وَفِي ضَمِّ النَّاقِصِ إِلَى عَيْنٍ حَالَ حَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ نَاقِصاً قَوْلانِ
مثاله: لو أخرج من معدنه عشرة وعنده مال حال حوله، نصاباً كان أو غيره، كما لو كان عنده عشرة. والقول بالضم لعبد الوهاب، والقول بعدمه خرجه اللخمي من قول سحنون. وضعف ابن يونس الضم، فإنه قال: وقول عبد الوهاب خلاف للمدونة؛ لأنه يلزم عليه لو أخرج من المعدن عشرة دنانير، ثم انقطع ذلك النيل وابتدأ آخر، فخرجت له عشرة أخرى منه والعشرة الأولى بيده أنه يضيف ذلك ويزكي؛ لأنه يقول: لو [130/ أ] كانت له عشرة دنانير حال حولها لأضافها إلى هذه العشرة التي حال حولها وزكى، فإضافتها إلى هذه المعدنية أولى، وهذا خلاف لقول مالك. انتهى.
ومقتضى كلامه في المقدمات: أن هذه الصورة التي ألزمها ابن يونس لعبد الوهاب يتفق فيها على الزكاة، فإنه قال: إذا انقطع النيل بتمام العرق، ثم وجد عرقاً آخر في المعدن نفسه، فإنه يستأنف مراعاة النصاب. وفي هذا الوصف تفصيل، إذ لا يخلو ما نض له من النيل الأول أن يتلف من يده قبل أن يبتدئ النيل الثاني، أو أن يبقي بيده إلى أن يكمل عليه من النيل الثاني نصاب.
فإن تلف من يده قبل أن يبدأ النيل الثاني، فلا خلاف أنه لا زكاة عليه؛ لأنه بمنزلة فائدة حال حولها وتلفت ثم أفاد ما يكمل به النصاب.
وأما إن تلفت بعد أن بدأ النيل الثاني وقبل أن يكمل النيل الأول، أنه لا زكاة عليه؛ لأنه في التمثيل كمن أفاد عشرة دنانير ثم أفاد بعد ستة أشهر عشرة دنانير أخرى، فحال الحول على العشرة الثانية وقد تلفت العشرة الأولى بعد حلول الحول عليها، فتجب عليه الزكاة عند أشهب، ولا تجب عند ابن القاسم. انتهى.
فمقتضاه أنه لو بقي النيل الأول إلى أن كمل النصاب، لزكى بالاتفاق كما في الفوائد.
وَالْعَمَلُ الْمُتَّصِلُ يُضَمُّ، وَلِذَلِكَ يُزَكَّى مَا اتَّصَلَ بَعْدَ النِّصَابِ وَإِنْ قَلَّ، وَلَوْ انْقَطَعَ النَيْلُ ثُمَّ عَادَ لَمْ يُضَمَّ اتِّفَاقاً ....
هذه المسألة على ثلاثة أوجه: إن اتصل النيل والعمل، ضم بعضه إلى بعض حتى يجتمع منه نصاب فيزكيه، ثم يزكي ما يخرج بعد ذلك وإن قل اتفاقاً. وقوله:(ولذلك) أي: ولأجل أن العمل المتصل، وكلامه واضح.
الثاني: أن ينقطع النيل- أي: ما ينال منه- والعمل ثم يبتدئ الآخر، فلا يضم أحدهما إلى الآخر اتفاقاً.
الثالث: أن يتصل العمل وينقطع النيل، فالمذهب عدم الضم، ولابن مسلمة أنه يضم، نقله عنه التلمساني. وعلى هذا فيحمل كلامه على ما إذا انقطع النيل والعمل ليصح الاتفاق، وليس من صور المسألة العكس أن ينقطع العمل ويتصل النيل، وحد الانقطاع: هو ما نقله صاحب النوادر، ولفظه من الواضحة: وإذا انقطع عرق المعدن قبل بلوغ ما فيه الزكاة وظهر له عرق آخر، فليبتدئ الحكم فيه، قاله مالك، وقاله ابن الماجشون. انتهى. وفي الموطأ نحوه. وظاهره: أنه لو انقطع العرق ثم وجد في تلك الساعة عرقاً آخر، أنه لا يضم أحدهما إلى الآخر.
وَفِي تَكْمِيلِ مَعْدِنٍ بِمَعْدِنٍ فِي وَقْتِهِ قَوْلانِ
القول بالضم نسبه ابن يونس، وابن راشد لابن القاسم، ونسبه صاحب النوادر، والباجي، واللخمي، والتونسي، وصاحب المقدمات لابن مسلمة. قال ابن رشد: وهو عندي تفسير لما في المدونة؛ لأن المعادن بمنزلة الأرضين فكما يضيف زرع أرض الي أرض له أخرى فكذلك المعادن. قال ابن يونس: وهو أقيس. وعدم الضم لسحنون.
وقوله: (فِي وَقْتِهِ) احترازاً مما إذا كانا في وقتين، فإنهما لا يضمان اتفاقاً. وقوله:(في وقته) هو كقول اللخمي. وأما المعدنان: فاختلف إذا ابتدأ في أحدهما فلم ينقطع نيله حتى عمل في الآخر وأدرك نيلاً، فذكر قولين. وكذلك قال في المقدمات.
وَفِي ضَمِّ الذَّهَبِ إِلَى الْفِضَّةِ وَإِنْ كَانَ الْمَعْدِنُ وَاحِداً قَوْلانِ
قال في الجلاب: ومن كان له معدنان ذهب وورق، ضم ما يخرج من أحدهما إلى الآخر وزكاه. قال الباجي: وهو الجاري على قول ابن مسلمة، وأما على قول سحنون فلا. ويبعد أن يوجدا في معدن واحد، وكذلك قال التلمساني.
وَيُعْتَبَرُ الإِسْلامُ وَالْحُرِّيَّةُ بِخِلافِ الرِّكَازِ
لقوله عليه الصلاة والسلام: "وفي الركاز الخمس" وأطلق.
وَلَوْ أَذِنَ لِجَمَاعَةٍ، فَفِي ضَمِّ الْجَمِيعِ قَوْلانِ، وَعَلَيْهِمَا لَوْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، فَفِي وُجُوبِهَا قَوْلانِ .....
أي: إذا أعطى المعدن لجماعة يعملون على أن ما يخرج منه لهم. فقال سحنون: كالشركاء لا تجب إلا على حر مسلم. وقال ابن الماجشون: يضم الجميع ويزكيه رب المال، قال: والعبد كالحر، والكافر كالمسلم، وقاله المغيرة. وقد اتضع لك معنى قوله: (وَعَلَيْهِمَا لَوْ كَانُوا
…
) إلخ.
وحاصل الخلاف: هل يعتبر كل واحد من العاملين، أو لا عبرة بهم وإنما العبرة برب المعدن، والظاهر أنهم كالشركاء.
وَفِي دَفْعِهِ لِعَامِلٍ بِجُزْءٍ كَالْقِرَاضِ قَوْلانِ
الجواز لمالك في كتاب ابن سحنون. وقد ذكر ابن رشد في مقدماته القولين، ونسب القول بالجواز لابن القاسم، قال: وهو اختيار فضل بن مسلمة، قال: لأن المعادن [130/ ب] لما لم يجز بيعها جازت المعاملة فيها على الجزء كالمساقاة والقراض. والقول الآخر: أن ذلك لا يجوز؛ لأنه غرر، وهو قول أصبغ في العتبية، واختيار ابن المواز، وقول أكثر أصحاب مالك.
فرع:
وهل يجوز أن يدفع المعدن ربه للعامل بشيء معلوم ويكون ما يخرج منه للعامل بمنزلة من أكرى أرضه بشيء معلوم؟ قال ابن زرقون: روى ابن نافع عن مالك في كتاب ابن سحنون جوازه، ومنعه سحنون، وروي عن سحنون أيضاً الجواز. وعلى هذا لا يجوز أن يكري بذهب أو فضة، كما لا تكرى الأرض بطعام، ولا بما يخرج منها في المشهور. قال: ولا خلاف في الجواز إذا استؤجر العامل بأجرة معلومة وما يخرج منه لربه، وتكون زكاته حينئذ معتبرة على ملك ربه. انتهى.
وَالْمُخْرَجُ مِنَ الْعَيْنِ خَاصَّةً رُبُعُ الْعُشْرِ
لا إشكال في وجوب ربع العشر؛ لكون المأخوذ زكاة. وقوله: (خَاصَّةً) راجع إلى العين لا إلى ربع العشر؛ أي: إنما يخرج من العين خاصة. قال في المدونة: ولا زكاة في معادن الرصاص، والنحاس، والحديد، والزرنيخ وشبهه.
وَفِي النَّدْرَةِ الْمَشْهُورُ: الْخُمُسُ، وَثَالِثُهَا: إِنْ كَثُرَتْ
(النَّدْرَةِ) ما يوجد في المعدن مجتمعاً. أبو عمران: الندرة: التراب الكثير الذهب السهل التصفية، مأخوذ من الندور. قال في التنبيهات: وهو بفتح النون وسكون الدال. المشهور فيها- كما ذكر- وجوب الخمس، نص عليه في المدونة والموازية.
قال في المدونة: فأما الندرة من ذهب أو فضة، أو الذهب الثابت يوجد بغير عمل أو بعمل يسير ففيه كالركاز. وما نيل من ذلك بتكليف أو مؤنة، ففيه الزكاة. ولفظ الموازية قريب منه.
قال ابن يونس: فظاهر هذا القول أنه يؤخذ منه الخمس وإن كانت أقل من عشرين ديناراً كالركاز. قال: ولو قال قائل: لا تكون ندرة ولا يؤخذ منها الخمس حتى تكون نصاباً لم أعبه؛ لأنه مال معدني. انتهى. والقول الثاني: وجوب الزكاة، رواة ابن نافع. وتفرقة الثالث ظاهرة. ابن عبد السلام: وينبغي أن يرجع في تفريق القليل من الكثير إلى العرف، ولا ينظر فيه إلى ما قاله ابن الجلاب رحمه الله. انتهى.
خليل: وفيه نظر؛ لأن العرف إنما يرجع إليه في الأمور المعتادة التي جرى فيها عرف واستقر، وهذه نادية. ولم يذكر ابن الجلاب ما نسبه إليه في الندرة، وإنما ذكره في قليل الركاز، وسيأتي.
فرع:
إذا قلنا برواية ابن القاسم، فإن العمل المعتبر في تمييز الندرة من غيرها هو التصفية للذهب والتخليص لها دون الحفر والطلب، فإذا كانت القطعة خالصة لا تحتاج إلى تخليص، فهي القطعة المشبهة بالركاز وفيها الخمس، وأما إن كانت ممازجة للتراب وتحتاج إلى تخليص فهي المعدن، وتجب فيها الزكاة، حكاه الباجي عن الشيخ أبي الحسن.
وَمَصَرِفُهُ كَالزَّكَاةِ
أي: لأنه زكاة، وإذا فرعنا على المشهور في الندرة، فمصرفها مصرف الخمس.
وَأَمَّا الرِّكَازُ، فَعُلَمَاءُ الْمَدِينَة عَلَى أَنَّهُ دَفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ يُوجَدُ بغَيرِ نَفَقَةٍ وَلا كَبِيرِ عَمَلٍ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا، فَالزَّكَاةُ ..
معناه: في الموطأ. قال في الواضحة: والركاز: دفن الجاهلية خاصة. والكنز يقع على دفن الجاهلية ودفن الإسلام. وليس المراد بالنفقة وكبير العمل ما يتعلق بالإخراج، بل هو محمول عندهم على نفقة الحفر والتصفية.
ابن عبد السلام: والضمير في (أَحَدُهُمَا) عائد على النفقة وكبير العمل، وليسا بمتلازمين؛ إذ قد يعمل مدة طويلة هو وعبيده ولا ينفق نفقة كثيرة.
وَفِي غَيْرِ الْعَيْنِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَالنُّحَاسِ وَنَحْوِهِ قَوْلانِ، وَرَجَعَ عَنْهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ
قال في المدونة: وما أصيب من دفن الجاهلية من الجوهر، والحديد، والنحاس وشبهه، فقال مالك مرة: فيه الخمس. ثم قال: لا خمس فيه. ثم قال: فيه الخمس. قال ابن القاسم: وبه أقول. انتهى. وما اختاره ابن القاسم هو اختيار مطرف، وابن الماجشون، وابن نافع، وصوبه اللخمي وهو الظاهر؛ لأنه يسمى ركازاً بحسب الاشتقاق، لكن دفن غير العين نادر، فيكون منشأ الخلاف دخول الصور النادرة تحت اللفظ العام. وقوله:(وَرَجَعَ عَنْهُ) أي: رجع عن الخمس، وهو ظاهر.
فَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لِلْجَيْشِ، وَلا لِلْمُصَالِحِينَ، مَمْلُوكَةً أَوْ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ فَلِوَاجِدِهِ الْمَالِكِ اتِّفَاقاً، وَفِي غَيْرِ الْمَالِكِ الْمَشْهُورُ: لَهُمْ
…
الأراضي ثلاثة: أرض عنوة، وأرض صلح، وأرض للمسلمين وهي قسمان: مملوكة لمعين، وغير مملوكة له. وتكلم هنا على القسم الثالث؛ يعني: إن كانت الأرض التي وجد
فيها الركاز غير مملوكة للجيش ولا للمصالحين، سواء كانت مملوكة لمعين أو لا، فإن وجده المالك للأرض [131/ أ] كان له اتفاقاً، وإن وجده غير المالك، فالمشهور أنه للمالك بناء على أن من ملك ظاهر الأرض يملك باطنها، وإليه أشار بقوله:(الْمَشْهُورُ: لَهُمْ) ومهما قال في هذا الفصل لهم، فالمراد المالك. وقيل: للواجد، بناء على عدم ملك باطنها. وقد أجروا جميع ما في هذا الباب على هذه القاعدة، وصحح بعضهم أن من ملك ظاهر الأرض يملك باطنها؛ لقوله عليه السلام:"من غصب قيد شبر من الأرض طوقه الله من سبع أرضين".
وفهم من قوله: أنه إذا وجد في أرض غير مملوكة أنه يكون للواجد اتفاقاً؛ لأنه إذا كان للواجد على أحد القولين مع معارضة الملك، فلأن يكون للواجد مع عدم المعارضة من باب أولى، وكذا حكى الباجي عن مالك أنه للواجد في الأرض غير المملوكة. قال: ولا أعلم فيه خلافاً.
ابن عبد السلام: هكذا يوجد في بعض النسخ وفيه قصور؛ لأن ظاهر قوله: (وَفِي غَيْرِ الْمَالِكِ) يقتضي أن التقسيم في المملوكة إما أن يجده المالك أو غيره، وتبقى غير المملوكة مسكوتاً عنها، ويوجد في بعض النسخ:(وإن كان في موات فلواجده، وفي ملك غير موات فلمالكه الواجد اتفاقاً، وفي غير المالك قولان) وهذا أحسن من الأول. انتهى. ويمكن أن يقال: ليس في كلامه قصور؛ لأنه يؤخذ منه حكم الواجد في أرض الموات كما ذكرنا، مع ما في هذا من تعيين المشهور، فهي أحسن.
فَإِنْ كَانَتْ عُنْوَةً أَوْ صُلْحاً، فَالْمَشْهُورُ: لَهُمْ، وَقِيلَ: لِلْوَاجِدِ
يعني: فإن كانت الأرض التي وجد فيها الركاز عنوة أو صلحاً، فالمشهور: لهم؛ أي: للجيش في العنوة، ولأهل الصلح في أرض الصلح. فإن لم يوجدوا وانقطع نسلهم كان
كمال جهل أصحابه. وقال مطرف، وابن الماجشون، وابن نافع: للواجد، وفي كلامه إطلاق يقيده ما في التهذيب، قال فيه: وإن وجد بأرض الصلح، فهو للذين صالحوا على أرضهم ولا يخمس، وإن وجد في دار أحدهم فهو لجميعهم، إلا أن يجده رب الدار فيكون له خاصة، إلا أن يكون رب الدار ليس من أهل الصلح، فيكون ذلك لأهل الصلح دونه.
وقال في الجلاب: وما وجد في أرض الصلح ففيه الخمس ولا شيء لواجده فيه. قال ابن القاسم: إلا أن يكون واجده من أهل الصلح فيكون ذلك له. وقال غيره: بل هو لأهل الصلح.
فرع:
فإن لم يوجد أحد ممن افتتحها ولا من ورثتهم، فيكون لجماعة المسلمين ما كان لهم وهو أربعة أخماسه، ويوضع خمسه موضع الخمس، قاله ابن القاسم في الموازية.
قال اللخمي، وقال سحنون في العتبية: إذا لم يبق من الذين افتتحوها أحد، ولا من أولادهم، ولا من نسائهم، جعل مثل اللقطة وتصدق به على المساكين. انتهى.
فرع:
وحيث حكمنا به لأهل الصلح، فقال في الجلاب: يخمس. وقال في المدونة: لا يخمس.
فرع:
ولو وجد الركاز في موضع جهل حكمه، فقال سحنون في العتبية: هو لمن أصابه أي: ويخمس.
فَإِنْ كَانَ مِنْ دِفْنِ الْمُصَالِحِينَ، فَلِمَالِكِهِ إِنْ عُلِمَ وَإِلا فَلَهُمْ
ووقع في بعض النسخ هنا ما هذا لفظه: (فإن كان ملكاً عنهما، ففي المالك قولان، وفي غيره ثالثها: للواجد) ومعناها: فإن كان الموضع الذي وجد فيه الزكار ملكاً عنهما؛
أي: عن أهل العنوة أو الصلح بشراء منهم أو هبة، ووجده المشتري فهو له، وقيل: لمن انتقلت عنه، وهذا القدر كافٍ هنا. والله أعلم.
وَإِنْ كَانَ مِنْ دَفْنِ الإِسْلامِ، فَلُقَطَةُ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيِّ
أي: وإن كان من دفن أهل الإسلام، ومراده ما كان محترماً بأهل الإسلام؛ ليعم دفن المسلم والذمي؛ لأن حرمة ماله تابعة لحرمة المسلمين. وقوله:(فَلُقَطَةُ لِمُسْلِمٍ) أي: فيعرف؛ لأن أحاديث اللقطة خاصة بالنسبة إلى أحاديث الركاز.
ابن عبد السلام: قالوا وما لم تظهر عليه أمارة الإسلام أو الكفر حمل على أنه من دفن الكفر؛ لأن الغالب أن الدفن والكنز من شأنهم؛ أي: فيكون لواجده وعليه الخمس.
وقال ابن رشد: إن لم توجد علامة الإسلام أو الكفر، أو كانت عليه وطمست، فقال سند: إنه يكون لمن وجده، قياساً على قول سحنون المتقدم، فيما إذا وجد في أرض مجهولة بجامع، أنه لا يعرف المالك. قال سند: وقال بعض أصحابنا: هو لقطة إذا وجد بأرض الإسلام تغليباً للدار. قال: والأول هو المشهور، وقد اتفقوا على أنه يخمس، ولو كان لقطه ما خمس. قال: وهذا إذا وجد بالفيافي في بلاد الإسلام، وأما إذا وجد في ملك أحد، فإنه له عندهم اتفاقاً، ولو كان لقطة لاختلف حكمه، وحكاه في البيان. انتهى كلام ابن راشد.
خليل: وانظر كيف ذكر سند أولاً أن كونه للواجد مخرج على قول سحنون، ثم إنه قال: إنه المشهور.
وَالْمُخْرَجُ: الْخُمُسُ لِمَصْرِفِهِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وِلا يُعْتَبَرُ الإِسْلامُ وَلا الْحُرِّيَّةُ
…
المشهور لمالك في المدونة، قال فيها: يجب فيه الخمس قليلاً كان أو كثيراً وإن نقص عن مائتي درهم. والشاذ في كتاب ابن سحنون، ورواه [131/ ب] ابن نافع عن مالك،
ولم أر تحديد القليل بدون النصاب في الشاذ، ولهذا قال ابن الجلاب- لما ذكر الروايتين-: ويشبه أن يكون القليل ما دون النصاب، والشاذ مشكل.
وَفِيهَا: كَرِهَ مَالِكٌ حَفْرَ قُبُورِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالطَّلَبَ فِيهَا، وَلَسْتُ أَرَاهُ حَرَاماً
هذه وقعت هنا في بعض النسخ، وهذا الكلام في المدونة. وضمير (لَسْتُ) عائد على ابن القاسم، واختلف في العلة، فقيل: خمشية أن يصادف قبر نبي. وقيل: للنهي الوارد عن دخول قبور الكفار بغير اتعاظ، وطلب الكنوز من أمر الدنيا وهو ينافي الاتعاظ.
وَمَا لَفَظَهُ الْبَحْرُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، فَلِوَاجِدِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْمِيسٍ، وَكَذَلِكَ اللُّؤْلُؤُ وَالْعَنْبَرُ
يعني: أن ما ألقاه البحر ولم يتقدم عليه ملك، فهو لمن وجده من غير تخميس. فلو رآه أولاً ثم سبق إليه آخر كان للسابق. وقوله:(وَكَذَلِكَ اللُّؤْلُؤُ وَالْعَنْبَرُ) من باب عطف الخاص على العام، وخصصهما لنفاستهما وللتنبيه على الخلاف فيهما. فقد حكي عن أبي يوسف: أنه أوجب في العنبر وكل حلية تخرج من البحر الخمس حين خروجها. قال ابن عبد البر: وقاله عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه وبه كان يكتب إلى عماله.
فَإِنْ كَانَ مَمْلُوكاً، فَقَوْلانِ، وَكَذَلِكَ مَا تُرِكَ بِمَضْيَعَةٍ عَجْزاً، وَإِنْ كَانَ لِحَرْبِيِّ فِيهِمَا فَلِوَاجِدِهِ بِغَيْرِ تَخْمِيسٍ
…
أي: إذا لفظ البحر مالاً، وكان مملوكاً، فقيل: هو لواجده؛ لأنه مستهلك. وقيل: لمالكه؛ لأنه لم يتركه اختياراً. قوله: (وَكَذَلِكَ مَا تُرِكَ) أي: وكذلك يجري القولان فيما ترك بمضيعة عجزاً، ومن في البحر وعجز عنه ربه ومر تاركاً له. قال القاضي أبو بكر: إذا ترك الحيوان أهله بمضيعة عجزاً فقام عليه إنسان حتى أحياه، ففيه روايتان: إحداهما: أنه له، قال: وهو الصحيح؛ لأنه لو تركه لغيره بقوله فقبضه كان له، وكذلك إذا تركه بفعله، قال: وأما لو كان تركه بغير اختياره كعطب البحر، فهو لصاحبه وعليه لجالبه كراؤه ومؤنته. انتهى. يريد: أو يدعه لجالبه كما في نظائرها.
وقال في البيان في باب اللقطة: والصواب في الحيوان إذا تركه صاحبه بمضيعة هو على ثلاثة أوجه: الأول: أن يتركه على أن له الرجوع فيه إن أخذه آخذ. والثاني: أن يتركه على أنه لمن وجده. والثالث: أن يتركه ولا نية له.
فأما إن تركه على أن له الرجوع فيه إن أخذه أحد وعاش عنده ولم يشهد على ذلك، فقيل: إنه يصدق في ذلك. وقيل: لا يصدق، إلا أن يكون إرساله إياه في أمن وماء وكلأ. واختلف إذا صدق في ذلك، هل بيمين أو بغير يمين على اختلافهم في يمين التهمة؟ قال: ولا خلاف أنه إذا أرسله في أمن وماء وكلأ أن له الرجوع فيه على ما ذكرناه.
وأما إن تركه على أنه لمن أخذه، فلا سبيل له إلى أخذه ممن أخذه.
وأما إن تركه ولا نية له، فقيل: كالأول. وقيل: كالثانية.
قال في العتبية: ولا أجر للقائم على الدابة. قال في البيان: يريد إذا قام عليها لنفسه لا لصاحبها، ولو أشهد أنه إنما يقوم عليها لصاحبها؛ إن شاء أن يأخذها ويؤدي له أجر قيامه لكان له ذلك، ولو لم يشهد في ذلك وادعاه لصدق، وهل بيمين أو بغير يمين؟ يجري على الخلاف في توجيه يمين التهمة. قال: وأما النفقة فلا شك في رجوعه بها. انتهى.
وقوله: (فَإِنْ كَانَ لِحَرْبِيِّ فِيهِمَا) أي: في الملفوظ وفيما ترك بمضيعة عجزاً وقوله: (بغير تخميس) أي: لأنه لم يوجَف عليه بخيل ولا ركاب.
فَإِنْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ بِقِتَالٍ هُوَ السَّبَبُ فَفِيهِ الْخُمُسُ وَإِلا فَفَيْءٌ
أي: أن أخذ مال الحربي على ثلاثة أقسام:
الأول: إن أخذه بقتال هو السبب؛ أي: في أخذه، كما لو كان الحربي بحيث لا تؤمن منه الغلبة. والباء في (بِقِتَالٍ) للمصاحبة؛ أي: أخذه مصاحباً لقتال.
الثاني: أن يأخذه بغير قتال.
الثالث: أن يأخذه بقتال ليس هو السبب، كما إذا تركوه وقاتلوا للدفع عن أنفسهم، وإلى حكم هاتين الصورتين الأخيرتين أشار بقوله:(وَإِلا فَفَيْءُ)
النَّعَمُ شَرْطُهَا كَالْعَيْنِ، وَمَجِيءُ السَّاعِي إَنْ كَانَ، وَهِيَ: الإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ
استعمل لفظة (النَّعَمُ) في الأنواع الثلاثة؛ لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 94] وقال الجوهري: والنعم واحد الأنعام، وهي الأموال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. قال الفراء: هو مذكر لا يؤنث، يقولون: هذا نعم وارد يجمع على نعمان، مثل جمل وجملان. والأنعام تذكر وتؤنث. انتهى.
وقوله: (شَرْطُهَا كَالْعَيْنِ) أي: أن يكون نصاباً مملوكاً حولاً كاملاً ملكاً كاملاً، ولا يتأتى هاهنا اشتراط عدم العجز كما تقدم في العين؛ إذ الماشية تنمو بنفسها، فهو من باب صرف الكلام لما يصلح له.
وَالْمَعْلُوفَةُ وَالْعَوَامِلُ كَغَيْرِهِا
أي: المعلوفة في وجوب الزكاة كالسائمة، والعوامل كالهوامل في إجاب الزكاة. وقوله عليه الصلاة والسلام:"في سائمة الغنم الزكاة" خرج مخرج [132/ أ] الغالب، ولا مفهوم له.
وَفِي الْمُتَوَلِّدِ مِنْهَا وَمِنَ الْوَحْشِ، ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَتْ الأُمَّهَاتُ مِنَ النَّعَمِ وَجَبَتْ
صرح ابن شاس بالسقوط، وصححه ابن عبد السلام؛ لعدم دخول هذا النوع تحت الأنعام، ونسبه اللخمي لمحمد بن عبد الحكم، والتفصيل لابن القصار، ووجهه أن الولد في الحيوان غير العاقل تابع لأمه. وقال اللخمي: لا أعلمهم يختلفون في عدم تعلق الزكاة إذا كانت الأم وحشية. وقطع بعضهم بعدم الخلاف. وتبع المصنف في حكايته الثلاثة ابن بشير. وقد يقال: إن كلامه وكلام المصنف أولى؛ لأن المثبت أولى من المنفي.
وصورتها: أن تضرب فحول الظباء في إناث المعز أو العكس، وكذلك البقر. قال ابن بشير: وهذه المسألة اجتمع فيها موجب ومسقط. والضمير في (منها) عائد على النعم.
الِإبِلُ: فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةُ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْساً وَعِشْرِينَ فَبِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتاً وَثَلاثِينَ فَبِنْتُ لَبُون، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتّاً وَأَرْبَعِينَ فَحِقَّةُ، فَإِذَا بَلَغَتْ إَحْدَى وَسِتِّينَ فَجَذَعَةُ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتاً وَسَبْعِينَ فَبِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ فَحِقَّتَانِ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمَائِةٍ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةُ، إَلا أَنَّ فِيمَا بَيْنَ الْعِشْرِينَ وَالثَّلاثِينَ رِوَايَتَيْنِ: تَخْبِيرُ السَّاعِي، وِحِقَّتَانِ. وَرَأَى ابْنُ الْقَاسِمِ ثَلاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ
…
هذا ظاهر، وليس فيه إلا الاتباع. وظاهر قوله:(فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةُ) أن الزائد على الخمس معفو لا شيء فيه، وهو خلاف ما رجع إليه مالك من أن الشاة مأخوذة عن الخمس مع ما زاد، ويظهر أثر ذلك في الخلطة.
وقوله: (إَلا أَنَّ فِيمَا بَيْنَ الْعِشْرِينَ ..) إلخ. يعني: أنه لا خلاف أن في مائة وعشرين حقتين؛ لنص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ولا خلاف أن في مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون. واختلف فيما بين العشرين والثلاثين؛ أي: من إحدى وعشرين إلى تمام تسعة وعشرين على ثلاثة أقوال، وتصورها من كلامه ظاهر.
قال في المقدمات: والمشهور عن مالك تخيير الساعي بين أن يأخذ حقتين أو ثلاث بنات لبون. ومنشأ الخلاف قوله صلى الله عليه وسلم بعد حكمه بأن في المائة وعشرين حقتين، فما زاد ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون، هل يحمل على زيادة العشرات، فيستمر فرض الحقتين إلى مائة وثلاثين، أو على مطلق الزيادة، فيؤخذ ثلاث بنات لبون؟
قال ابن بشير: واختلف المتأخرون في توجيه القول بالتخيير، فمنهم من رآه على الشك والتردد لاحتمال الحديث، ومنهم من رآه مبنياً على أنه مقتضى الحديث.
قال في التنبيهات: وبنت المخاض: هي التي كمل سنها سنة فحملت أمها؛ لأن الإبل سنة تحمل وسنة تربي، فأمها حامل وقد مخض بطنها الجنين، أو في حكم الحامل إن لم تحمل، فإذا كمل لها سنتان ووضعت أمه وأرضعت فهي لبون، وابنها المتقدم ابن لبون، فإذا دخل في الرابع فهو حق والأنثى حقة؛ لأنهما استحقا أن يحمل عليهما، واستحق أن يطرق منهما الذكر الأنثى، واستحقت الأنثى أن تطرق ويحمل عليها.
وَعَلَى التَّخْبِيرِ، فَفِي ثُبُوتِهِ مَعَ أَحَدِ السِّنَّيْنِ قَوْلانِ
أي: وإذا فرعنا على رواية التخيير، فهل التخيير ثابت سواء وجد ثلاث بنات لبون وحقتان أو فقد أحدهما، أو لا يكون إلا إذا وجدا أو فقدا.
فحاصله: أن القائلين بالتخيير اتفقوا عليه إذا وجدا أو فقدا، واختلفوا إذا وجد أحدهما وفقد الآخر. والقول بالخيار مطلقاً لابن المواز، والأقرب خلافه؛ للأمر بالرفق بأرباب المواشي، وهو قول ابن عبدوس، ونحوه لمالك في المجموعة.
ثُمَّ لا يُعْتَبَرُ إِلا الْعَشَرَاتُ
أي: أنه بعد المائة والثلاثين لا يعتبر إلا العشرات. وضابط ذلك: أن الثلاثين ومائة فيها حقة وبنتا لبون، فكلما زادت عشرةً أزيلت بنت لبون وجعل مكانها حقة، فإذا صارت جميع بنات لبون حقاقاً وزادت عشراً، رد الكل بنات لبون وزيد على عدد الحقاق واحدة من بنات اللبون. ثم إذا زادت عشراً جعل مكان بنت اللبون حقة، ثم كذلك، ففي المائة والأربعين حقتان وبنت لبون، فإذا زادت عشراً فثلاث حقق، فإذا زادت عشراً، فإذا زادت عشراً فأربع بنات لبون، ثم كذلك.
وَفِي الْمِائَتَيْنِ، ثَالِثُهَا: إِنْ وُجِدَا خُيِّرَ السَّاعِي وَإِلا خُيِّرَ رَبُّ الْمَالِ، وَرَابِعُهَا: الْمَشْهُورُ يُخَيَّرُ السَّاعِي إِنْ وُجِدَا أَوْ فُقِدَا لا أَحَدُهُمَا .....
الواجب في المائتين: إما أربع حقاق، أو خمس بنات لبون؛ لحصول نوع الوجهين اللذين علق الحكم عليهما، إذ فيهما خمسون أربع مرات وأربعون خمس مرات. ثم اختلف
هل يرجح جانب الساعي، قاله أصبغ، أو يرجح جانب رب المال، قاله عبد الوهاب؟ وقال مالك في الموازية:[132/ ب] إن وجد السِنَّانِ خير الساعي، وإن فقدا أو فقد أحدهما خير رب المال؛ لأن في تخيير الساعي عليه- والحالة هذه - ضرر، والمشهور أن الساعي مخير إن وجدا أو فقدا، فإن وجد أحدهما وفقد الآخر خير رب المال.
فَإِنْ وُجِدَ ابْنُ اللَّبُونٍ فَقُطْ فِي الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ أَجْزَأَ اتِّفَاقاً
لقوله في الحديث: "فإن لم توجد بنت المخاض فابن لبون ذكر". أما إن وجد بنت مخاض وابن لبون، فلا يؤخذ إلا ابنة المخاض؛ لأنها الأصل، وليس لصاحب الإبل أن يعطي ابن لبون، ولا للساعي أن يجبره على ذلك. واختلف إذا تراضيا فأخذه، فأجازه ابن القاسم في المدونة، ومنعه أشهب.
اللخمي: والأول أصوب. وقد يكون في أخذه نظر للمساكين، إما لأنه أكثر ثمناً، أو لينحره لهم يأكلونه لكونه أكثر لحماً؛ لأنه أكبر سنا. لما ذكر ابن بشير القولين قال بعد القول بعدم الإجزاء: وهذا بناء على أن القيم تجزئ، أو على أن هذا قد يجب يوماً ما، ولم يخرج بالكلية عن النوع، فخالف القيم. انتهى.
فَإِنْ فُقِدَا، كَلَّفَهُ السَّاعِي بِنْتَ مَخَاضٍ عَلَى الْمَنْصُوصِ، إِلَاّ أَنْ يَرَى ذَلِكَ نَظَراً. وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِنْ أَتَى بِابْنِ لَبُونٍ قُبِلَ
…
يقع في بعض النسخ (فُقِدَا) بألف التثنية، والضمير على هذه عائد على ابن اللبون وابنة المخاض. ويقع في بعض النسخ (فقد) بغير ألف، والضمير حينئذٍ عائد على ابن اللبون؛ لأنه قد ذكر بنت المخاض بقوله:(وإن وجد ابن اللبون فقط) يعني: فإن حصل عنده خمس وعشرون وليست عنده بنت مخاض ولا ابن لبون، فإن الساعي يكلف بنت مخاض. والمنصوص أنها تتعين كما لو وجدا.
وقوله: (إِلَاّ أَنْ يَرَى ذَلِكَ نَظَراً) فيه نظر؛ لأنه قال في التهذيب: فإن لم يوجدا؛ أي: بنت مخاض وابن لبون، أجبر ربها على أن يأتي بابنة مخاض، إلا أن يدفع خيراً منها فليس للساعي ردها، فإن اتى بابن لبون لم يأخذه الساعي إلا أن يشاء، ويرى ذلك نظراً. فأنت تراه إنما جعل محل النظر بعد الإتيان به. ومقتضى كلام المصنف: أن للساعي أن يكلفه ذلك ابتداء، وليس كذلك، وقد اعترضه ابن عبد السلام كذلك. ونقل محمد عن أشهب: أنه ليس للمصدق أخذ ابن اللبون.
وقوله: (عَلَى الْمَنْصُوصِ) إشارة إلى ما أخذه ابن المواز من قول ابن القاسم في التخيير، وذلك أن ابن القاسم استشهد على تعيين بنت المخاض إذا عدما بقول مالك في المائتين إذا عدم منهما الحقاق وبنات اللبون، أن يخير الساعي كما لو وجدا. والحكم إذا وجدت بنت المخاض: أنها تتعين، فيلزم مثل ذلك إذا عدما.
قال اللخمي: فحمل محمد على ابن القاسم أنه يقول بالخيار؛ لاستشهاده بالمائتين، وليس الأمر كذلك، فقد بين ذلك في المدونة، وقال: عليه أن يأتي بابنة المخاض أحب أم كره. انتهى.
وقوله: (وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِنْ أَتَى بِابْنِ لَبُونٍ قُبِلَ) الظاهر أن مراده بهذا ما ذكره اللخمي، ولفظه: ويختلف إذا لم يلزم المتصدق ابنة مخاض حتى أحضر صاحب الإبل ابن لبون، فقال ابن القاسم: يجبر المصدق على قبوله، ويكون بمنزلة ما لو كان فيها، وعلى أصل أصبغ لا يجبر. انتهى.
وَإِذَا رَضِيَ الْمُصَّدِّقُ سِنّاً أَفْضَلَ أَجْزَأَ اتِّفَاقاً
المصدق: بتشديد الصاد هو رب الماشية، وهو المراد هنا، وأصله المتصدق فقلبت التاء صاداً وأدغمت في مثلها، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} [الحديد: 21] وأما بتخفيفها فهو الساعي، قاله الجوهري وغيره.
أي: إذا رضي رب الماشية بإعطاء سن أفضل مما عليه أجزأ اتفاقاً؛ لأنه أتى بالواجب وأحسن بالزيادة، وإذا بذل الأفضل لزم الساعي قبوله ولا خيار له، قاله في المدونة. وهذا أولى من كلام ابن عبد السلام، فإنه قال: وقول المؤلف: (فإن رضي المصدق ..) إلخ. ظاهره أنه لا يتم إلا برضا المصدق، والمذهب أنه لا يحتاج إلى رضاه، بل يلزمه قبول الأفضل إذا تطوع به رب المال، وهذا إنما يأتي إذا قرأنا المصدق بالتخفيف، وأما بالتشديد كما ذكرنا فلا.
فَإِنْ أَعْطَى عَنِ الْفَضْلِ أَوْ أَخَذَ عَنِ النَّقْصِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمَشْهُورِ
قال في المدونة: ولا يأخذ الساعي دون السن المفروضة وزيادة ثمن ولا فوقها ويؤدي ثمناً. وظاهره المنع كما شهره المصنف.
اللخمي: وقال في مختصر ما ليس في المختصر: لا بأس بذلك. وقال ابن القاسم في المجموعة: يكره، فإن فعل أجزأ. انتهى.
ابن يونس: وقال أصبغ في الموازية: إن أعطى أفضل مما عليه وأخذ لزيادة الفضل ثمناً، فلا شيء عليه إلا رد الزيادة وبالعكس. فظاهره المنع كظاهر المدونة؛ لكن قال الباجي بعد ذلك: فإن فعل، فقال: ابن القاسم، وأشهب، وسحنون: يجزئه.
ابن زرقون: يريد إن وقع لا أنه يجوز ذلك ابتداء. ولعل الخلاف هنا مبني على الخلاف في إخراج القيم، بل الإجزاء هنا أقرب؛ لكونه لم يخرج عن الجنس بالكلية. وحكى ابن بشير في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يجوز ابتداء.
والثاني: مكروه، وإن وقع أجزأ.
والثالث: لا يجزئ، إلا أن يعطي أفضل ويأخذ ثمناً فيرد الثمن المأخوذ.
قال: وهذا مع فوات المأخوذ، أما إن [133/ أ] كان قائماً فليسترده على هذا القول ويخرج الواجب. انتهى.
تنبيه:
ذكر غير واحد أن المشهور أن إخراج القيمة مكروه؛ لأنه غير مجزئ، كما سيقوله المصنف. ونص ابن يونس هنا على أن الصواب الإجزاء، وقال: هو من ناحية كراهة اشتراء المرء صدقته. وكذلك نص سند. وعلى هذا، فلا يبعد حمل كلامه في المدونة على الكراهة، وعلى هذا فيقرأ كلام المصنف (لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمَشْهُورُ) بسكون الزاي، بمعنى: أنه لا يجوز ابتداء، لا (لم يجزِ) بكسر الزاي، بمعنى: أنه لا يجزئ، فإن النقل لا يساعد ذلك.
فرع:
لو أخرج بعيراً عن خمسة أبعرة بدلاً من الشاة الواجبة. قال في الجواهر: فأطلق القاضيان أبو الوليد، وأبو بكر القول بأنه لا يجزئ وقال أبو الطيب عبد المنعم القروي من أصحابنا: من أباه ليس بشيء؛ لأنه مواساة من جنس المال بأكثر مما وجب عليه.
ابن عبد السلام: والصحيح الإجزاء.
وَالْغَنَمُ فِي الشَّنَقِ الضَّانُ، إِلا أَنْ يَكُونَ جُلُّ غَنَمِ الْبَلَدِ الْمَعْزَ فَتُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ غَنَمُهُ مُخَالِفاً لَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ
…
(الشَّنَقِ): بالشين المثلثة من فوق وفتح النون- قاله في التنبيهات- قال مالك: وهو ما يزكى من الإبل بالغنم. والمعتبر في ذلك الضأن، إلا أن يكون جل غنم البلد المعز، فيؤخذ المعز حيئنذٍ إن كان غنمه معزاً اتفاقاً. وكذلك إن كان غنمه ضأناً على المشهور اعتباراً بجل غنم البلد. والشاذ: تؤخذ مما عنده، رواه ابن نافع عن مالك، وهو قول ابن حبيب، ونص ما نقله الباجي عنه. وقال ابن حبيب: إن كان من أهل الضأن فمنها، وإن كان من أهل المعز
فمنها، وإن كان عنده الصنفان خير الساعي. ومتقضى كلام المصنف: أنه إذا تساويا يؤخذ من الضأن؛ لأنه عين الضأن بقوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ جُلُّ غَنَمِ الْبَلَدِ الْمَعْزَ).
ابن عبد السلام: والأقرب في هذه الصورة تخيير الساعي. وكذلك قال ابن هارون وزاد: ويخير رب المال.
وَأسْنَانُ الإِبِلِ: حُوَارٌ، ثُمَّ بِنْتُ مَخَاضٍ، ثُمَّ بِنْتُ لَبُونٍ، ثُمَّ حِقَّةٌ، ثُمَّ جَذَعَةٌ، ثُمَّ ثَنِيٌّ، ثُمَّ رَبَاعٌ، ثُمَّ سَدِيسٌ، ثُمَّ بَازِلٌ، ثُمَّ مُخْلِفٌ، ثُمَّ بَازِلُ عَامٍ أَوْ عَامَيْنِ، ثُمَّ مُخْلِفُ عَامٍ أَوْ عَامَيْنِ. فَالْحُوَارُ: اسْمُهُ قَبْلَ سَنَةٍ، فَإِذَا كَمُلَتْ فَبِنْتُ مَخَاضٍ، ثُمَّ كَذَلِك إِلَى آخِرِها .....
مرجع هذا إلى أهل اللغة. وما ذكره المصنف وإن كان في بعضه خلاف فهو المشهور وحاصل كلامه: أنه إذا ذكر (ثم) يقتضي أن بين كل سن والذي بعده سنة، وإن ذكر (أو) يقتضي التخيير في إطلاق ذلك عليه. فالحوار: اسمه قبل سنة، فإذا كملت فبنت مخاض، فإذا كملت الثانية فبنت لبون، ثم كذلك إلى آخرها. وانظر هل يطلق على الذي له عشر سنين أربع أسامٍ: بازل عام أو عامين، ومخلف عام أو عامين. وكلام الجوهري يقتضي أن سن الحوار لا يتصل بسن ابن المخاض بل بينهما سن الفصيل؛ لأنه جعل ولد الناقة يسمى حواراً إلى أن يفصل، فإذا فصل سمي فصيلاً، ثم يجعل ابن مخاض بعده مستدلاً بقول الفرزدق:
وجدنا نهشلا فضلت فقيما كفضل ابن المخاض على الفصيل
والمحتاج إليه في الزكاة الأربع الأول التي بعد السن الأول، ويحتاج في الضحايا إلى الثني، وذكر البقية استطراداً وتتميماً للفائدة مع عدم الطول.
الْبَقَرُ: فِي كُلِّ ثَلاثِينَ تَبِيعٌ ذَكَرٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَمُسِنَّةٌ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتِّينَ فَتَبيعَانِ، ثُمَّ فِي كُلِّ ثَلاثِينَ تَبِيعٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ ....
هذا ظاهر لم يختلف فيه عندنا. وتقييد التبيع بالذكر والمسنة بالأنثى تأكيداً.
وقوله: (ثُمَّ فِي كُلِّ ثَلاثِينَ تَبِيعُ ..) إلخ. هو كما قدمنا من الضابط في الإبل، ففي ستين تبيعان، فإذا زادت عشراً عوض عن أحدهما مسنة، فإذا زادت عشراً جعلا مسنتين، فإذا زادت عشراً كان الواجب ثلاثة أتبعة، ثم كذلك.
تنبيه:
ولا يصح هذا الضابط بعد المائة وعشرين؛ لأن في مائة وستين أربع مسنات، فلو صح أن يفعل ما تقدم؛ لوجب أن يكون في مائة وسبعين خمسة أتبعة، والخمسة الأتبعة تجب في مائة وخمسين؛ لأنها ثلاثون خمس مرات، فيلزم أن يكون عشرون بغير زكاة.
وَالْمِائَةُ وَالْعِشْرُونَ فِيهَا كَالْمِائَتَيْنِ مِنَ الإِبلِ
أي: أنه اختلف في المائة والعشرين من البقر؛ لإمكان عدها بالأربعين والثلاثين على أربعة أقوال، كما في المائتين من الإبل، وهو واضح.
وَيُجْزِئُ التَّبِيعُ الذَّكَرُ، وَفِي أَخْذِ الأُنْثَى مَوْجُودَةً كُرْهاً قَوْلانِ
قوله: (وَيُجْزِئُ التَّبِيعُ الذَّكَرُ) مستغنى عنه بما قدمه، لكن أعاده ليرتب عليه ما بعده.
قوله: (وَفِي أَخْذِ الأُنْثَى) يعني: أنه اختلف هل للساعي أخذ التبعية الأنثى كرهاً أم لا؟ وسواء وجدا معاً أو وجدت التبعية فقط؟ وقد ذكر التلمساني الخلاف إذا لم يوجد في البقر إلا التبعية. وعلى هذا فتخصيص ابن عبد السلام فرض المسألة بوجودهما معاً ليس بظاهر، وإن كان ذكر [133/ ب] الخلاف في وجودهما يستلزم وجود الخلاف إذا
لم يوجد إلا التبعية، لكن هذا ليس من شأن الشراح، والمشهور: ليس للساعي الجبر (لما ورد من الرفق بأرباب المواشي، والشاذ لابن حبيب وهو مشكل.
وَالَّتبِيعُ: الْجَذَعُ الْمُوَفِّي سَنَتَيْنِ، وَقِيلَ: سَنَةً. وَالْمُسِنَّةُ: الْمُوَفَّيَةُ ثَلاثاً، وَقِيلَ: سَنَتَيْنِ
الخلاف في المسنة مرتب على الخلاف في التبيع. والقول الثاني لعبد الوهاب، والأول لابن حبيب وابن المواز. ومقتضى كلامه أنه المشهور. وقال ابن بشير: وهو الصحيح عند أهل اللغة. ونقل ابن نافع في المجموعة: أن سنه ثلاث سنين. ونقل التلمساني في اللمع: أن المسنة ما أوفت أربعاً ودخلت في الخامسة.
الْغَنَمُ: فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَشَاتَانِ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ وَشَاةً فَثَلاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعَمِائَةً فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ
…
هكذا ورد في الحديث.
وَفِي الْمُجْزِئِ ثَلاثَةٌ: الْمَشْهُورُ الْجَذَعُ مِنْهُمَا جَمِيعاً مُطْلَقاً. ابْنُ الْقَصَّارِ: الْجَذَعَةُ الأُنْثَى. ابْنُ حَبِيبِ: الْجَذَعُ مِنَ الضَّأنِ، وَالثَّنِيُّ مِنَ الْمَعْزِ كَالضَّحِيَّة
يعني: وفي أقل السن المجزئ في زكاة الغنم ثلاثة أقوال: المشهور: أنه الجذع منهما، أي: من الضأن والمعز.
وقوله: (جَمِيعاً) تأكيد. وقوله: (مُطْلَقاً) أي: ذكراً أو أنثى. وقال ابن القصار: لا يجزئ الجذع منهما؛ أي: من الضأن والمعز، وإنما تجزئ الجذعة منهما. وقاس ابن حبيب هذا على الضحايا، فقال: إنما يجزئ الجذع من الضأن والثني من المعز، ولا يجوز أن يكون ذكراً؛ لأنه تيس، إلا أن يكون مسناً من كرائم المعز فيلحق بالفحول، ويجزئ إن طاع به ربه، هكذا نقل عنه جماعة، وكأن المصنف ترك هذا لما سيقوله: أن التيس من الشرار، وفيه ضعف؛ لأن التبيع يجزئ هنا ولا يجزئ في الأضحية. والثني: بالثاء المثلثة.
وَفِي الْجَذَعِ مِنَ الضَّانِ أَرْبَعَةٌ: سِتَّةٌ، وَثَمَانِيَةٌ، وَعَشَرَةٌ، وَسَنَةٌ. وَالثَّنِيُّ: ما دَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ
…
أي: وفي سن الجذع من الضأن والمعز أربعة أقوال: والقول بستة أشهر لابن زياد وأما الثاني فلم أره معزواً. والثالث لابن وهب. والقول بأنه سنة لأشهب، وابن نافع ويقع في بعض النسخ تشهيره. قال في الجواهر: وهو الذي صدر به في الرسالة، قال فيها: والجذع ابن سنة، وقيل: ابن ثمانية أشهر، وقيل: ابن عشرة أشهر. والثني من المعز: ما أوفى سنة ودخل في الثانية. وبقي هنا شيء؛ وهو أنه إذا كان المشهور في الجذع هو ابن سنة، فلا فرق بينه وبين الثني؛ لأنه إذا كان ابن سنة فقد دخل في الثانية.
خليل: ويمكن أن يجاب عن هذا بوجهين:
الأول: أن من قال الجذع ابن سنة، قال: إن الثني ما دخل في الثانية. وقد ذكر التلمساني هذا القول عن ابن حبيب، ويؤيده ما قاله غير واحد: أن التحاكم في هذا إلى أهل اللغة. والذي قاله الجوهري أنه يقال: الجذع لولد الشاة في السنة الثانية. قال: والثني الذي بلغ ثنيته، ويكون في الظلف والحافر في السنة الثالثة، وفي الخف في السنة السادسة. انتهى.
والثاني: لعل مراد من قال الثني ما دخل في الثانية، الدخول البين، ويرجح هذا أن الشيخ أبا محمد نص في الرسالة على أن الجذع من الضأن ابن سنة، مع أنه قال: والثني من المعز ما أوفى سنة ودخل في الثانية.
وَلا تُؤْخَذُ كَرَائِمُ الأَمْوَالِ: كَالأَكُولَةِ، والَفحْلِ، وَالرُّبَّى، وَذَاتِ اللَّبَنِ. وَلا شِرَارُهُ: كَالسَّخْلَةِ، وَالتَّيْسِ، وَالْعَجْفَاءِ، وَذَاتِ الْعَوَارِ
…
لما في الموطأ عنه عليه الصلاة والسلام من النهي عن حَزَرات أموال الناس، وهي الخيار. ولما في أبي داود:"ولا يؤخذ في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس الغنم، إلا أن يشاء المصدق".
و (الأَكُولَةِ) قال مالك: هي شاة اللحم تسمن لتؤكل، وسواء كانت ذكراً أو أنثى. و (الَفحْلِ) هو المعد للضراب. و (وَالرُّبَّى) بضم الراء وتشديد الباء ذات الولد. و (وَذَاتِ اللَّبَنِ) هي صاحبة اللبن الذي ينظر إليه غالباً. و (السَّخْلَةِ) الصغيرة. و (التَّيْسِ) الذي ليس معداً للضراب. و (الْعَجْفَاءِ) المريضة. و (الْعَوَارِ) بفتح العين هو العيب مطلقاً. قال ابن حبيب، وابن يونس: هو الذي في الحديث. قال: وأما بضم العين فهو العور، وكذلك ذكر التلمساني. وهكذا نقل صاحب الاستذكار قال: وقيل في ذلك بالضد. ابن يونس: وقيل بضم العين فيهما. قال في المدونة: وإن شاء المصدق أن يأخذ ذات العوار، أو التيس، أو الهرمة أخذها إن كانت خيراً.
فَإِنْ كَانَتْ كَرَائِمَ كُلَّهَا، أَوْ شِرَاراً كُلَّهَا، فَالْمَشْهُورُ: يَاتِي بِمَا يُجْزِئُهُ. وَثَالِثُهَا: تُؤْخَذُ إِلا أَنْ تَكُونَ خِيَاراً. وَرَابعُهَا: تُؤْخَذُ إَلا أَنْ تَكُونَ سِخَالاً .....
إن كان في الغنم وسط فلا إشكال في أخذه، وإن لم يكن بل كانت خياراً كلها أو شراراً كلها، فذكر المصنف أربعة أقوال.
والقول بأنه يأخذ منها مطلقاً [134/ أ] عزاه ابن بشير لابن عبد الحكم، لكن ذكر هو وغيره أن ابن عبد الحكم لم يصرح به، بل قال: لولا خلاف أصحابنا لكان بيناً أن يأخذ منها واحدة. وعلى هذا فعده قولاً مشكلاً لأنه لم يصرح به.
والقول بأنها تؤخذ إلا أن تكون خياراً ذكره ابن بشير. والقول بأنها تؤخذ إلا أن تكون سخالاً، نسبه اللخمي لمطرف في ثمانية أبي زيد.
ابن عبد السلام: والقول الرابع هو مذهب المدونة، إلا أن معناها عندي إذا تأمل أن المصدق إذا رأى الأخذ من الشرار فله ذلك، بشرط أن تكون كلها كذلك ولا يؤخذ من السخال حينئذٍ، والأول هو المشهور وهو أقرب إلى لفظ الآثار. ثم قال: وتبع المصنف في نقل هذا
الفرع ابن بشير، وطريق ابن شاس عنديأقربإلى التحقيق، فانظرها في كتابه. انتهى. وفيه نظر؛ لأنه قال فيها: وإذا كانت الغنم رُبَّى كلها، أو أكولة، أو ماخضاً، أو فحولة لم يكن للمصدق أن يأخذ منها شيئاً وليأت ربها بجذعة أو ثنية مما فيها وفاء، ويلزم الساعي قبولها، ولا يأخذ ما فوق الثني ولا ما تحت الجذع، ولا يأخذ إلا الثني أو الجذع إلا أن يشاء رب المال أن يعطيه الأفضل. ثم قال: وإن كانتالغنم كلها جربة، أو ذات عوار، أو سخالاً، أو كانت البقر عجاجيل كلها، أو الإبل فصلاناً كلها كلف ربها أن يشتري ما يجزئه، وإذا رأى المصدق أن يأخذ ذات العوار، أو التيس، أو الهرمة أخذها إن كان ذلك خيراً له ولا يأخ ذ من هذه الصغار شيئاً. هذا نص التهذيب.
فقوله: إن القول الرابع مذهب المدونة. ليس كذلك؛ إذ قد نص فيها أنها إذا كانت كلها خياراً، أو شراراً أن الساعي لا يأخذ منها، بل يكلفه أن يأتي بما يجزئه، فهو موافق للمشهور الذي ذكره المصنف. ثم كيف يجعل ما في المدونة خلاف المشهور بقوله: مذهب المدونة كذا والأقرب المشهور.
وقوله في التهذيب: وإذا رأى المصدق. لا يعارض كلام المصنف، بل هو مقيد له. وقوله: إن طريق ابن شاس عندي أقرب إلى التحقيق. فيه نظر؛ لأن في طريق المصنف وابن بشير زيادة أقوال، وقد ذكر الجميع اللخمي على أنه لا ينبغي أن يقال على نقل ابن شاس أنه طريقة، وانظر كلمه، فلولا الإطالة والخروج عن المقصود لأتيت به. والله أعلم.
وَتُضَمُّ الْعِرَابُ وَالْبُخْتُ، وَالْبَقْرُ وَالْجَوَامِيسُ، وَالضَّانُ وَالْمَعَزُ
إن ضمت البخت إلى العراب لأنها من جنسها، إذ لفظ الإبل صادق عليهما. وكذلك الجواميس مع البقر، والضأن مع المعز. ونقل ابن بزيزة عن ابن لبابة: أن الضأن والمعز لا يجمعان في الزكاة، وكذلك نقل عنه في المقدمات في أواخر الزكاة.
فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ شَاةً، فَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ خُيِّرَ السَّاعِي. وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: الْقِيَاسُ أَخْذُ نِصْفَيْنِ، وَإِلا فَمِنَ الأَكْثَرِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ: إِلا أَنْ يَكُونَا مُسْتَقِلَّيْنِ فَيُخَيَّرُ السَّاعِي ..
أي: فإن اجتمع نوعا الغنم- الضأن والمعز- وكان الواجب شاة، فلا يخلو إما أن يكونا متساويين أو لا، فإن تساويا كعشرين وعشرين، وثلاثين وثلاثين خُير الساعي فمن أيها شاء أخذ. وقال اللخمي: القياس أخذ نصفين كمال تنازعاه اثنان، وليس ذلك بظاهر؛ لأن ذلك يوقع في مخالفة الأصول؛ لأنه إما أن يقول: يأخذ قيمة نصفين، أو يكون شريكاً. والأول يلزم منه أخذ القيم، والثاني يلزم منه الشركة وفيه ضرر على رب الماشية وإنما لم تشرع زكاة الأوقاص في الماشية- والله أعلم –لضرر الشركة.
قوله: (وإلا) أي: وإن لم يكونا متساويين، فالمشهور: يأخذ من الأكثر مطلقاً.
ابن عبد السلام: وهو متجه إذا كانت الكثرة ظاهرة. وأما إن كانت تزيد بشاة أو شاتين، فالظاهر أنهما كالمتساويين، وله نظائر في المذهب. وقال ابن مسلمة: إلا أن يكونا مستقلين؛ يعني: أن الحكم إخراج الزكاة من الأكثر، إلا أن يكون الأقل أربعين فيخير الساعي كأربعين وثمانين.
وقال سند: يصح قول ابن مسلمة إن قلنا: إن الوقص لا تعلق للزكاة به وإنما الشاة مأخوذة عن النصاب. وإن قلنا: أنها هي عين الجميع، وجبت مراعاة الأكثر. انتهى. وهذا ظاهر؛ لأنا إذا قلنا: إن الزكاة ساقطة عن الأوقاص، فالساعي ليس بمنحصر في أن يجعل الوقص في الأكثر، بل له جعله في أيهما شاء؛ إذ من حجته أن يقول: لو انفرد هذا الأقل لوجبت فيه الزكاة. وعلى هذا فيخير، وهذا أولى من كلام ابن عبد السلام؛ لأنه قال: وهو- أي قول ابن مسلمة- غير صحيح على رأي من يسقط [134/ ب] الزكاة عن الأوقاص، وفيه نظر على الرأي الآخر.
وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ شَاتَيْنِ، فَإِنْ كَانَا مُتسَاوِيَيْنِ فَمِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُتَسَاوِيَيْنِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إَنْ كَانَ فِي أَقَلِّهِمَا عَدَدُ الزَّكَاةِ وَهِي غَيْرُ وَقْصٍ فَمِنْهُمَا، وَإِلا فَمِنَ الأَكْثَرِ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: مِنَ الأَكْثَرِ مُطْلَقاً، وَعَلَيْهِمَا خِلافُهُمَا فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِينَ .....
يعني: فإن اجتمعا وكان الواجب شاتين، فإن تساويا كأحد وستين ضأنية ومثلها معزاً فمنهما؛ أي: فمن كل صنف شاة وإن لم يتساويا، فإن كان الأقل وقصاً، كما لو كان معه مائة وإحدى وعشرون من الضأن وأربعون من المعز أو بالعكس، أو ليس فيه عدد الزكاة كمائة ضأنية وثلاثين معزاً أو بالعكس، أخذت من الأكثر وإن كان الأقل غير وقص وفيه عدد الزكاة كمائة ضأنية وأربعين معزاً أو بالعكس، فقال ابن القاسم: يؤخذ من كلِّ شاة. وقال سحنون: يؤخذ من الأكثر هنا، وفي ذينك القسمين: وهو معنى قوله: (مِنَ الأَكْثَرِ مُطْلَقاً) ومعنى كون الأقل فيه الزكاة: أن يكون أربعين فأكثر. ومعنى كونه غير وقص: أن يكون الأقل هو الموجب للشاة الثانية، بأن يكون أكثر النوعين مائة وعشرين فأقل.
وحاصل هذا: أن سحنون قال: يؤخذ من الأكثر مطلقاً، وابن القاسم اشترط في الأخذ منهما شرطين: متى اختلا، أو اختل أحدهما أخذ من الأكثر، كما قاله سحنون وقوله: (وَعَلَيْهِمَا
…
) إلخ. واضح.
وذكر ابن رشد في مقدماته قولين: فيما إذا كان الصنف الثاني وقصاً تجب في عدده الزكاة، كأربعين ومائة وإحدى وعشرين؛ أي: هل تؤخذ الشاتان من الأكثر، أو يؤخذ من كلِّ شاة؟ فانظره.
والوقص: بفتح الواو والقاف: نص على معناه الجوهري، وفيها لغة ثانية بالإسكان، قاله النووي في لغات التنبيه. وعند بعضهم: الإسكان من لحن الفقهاء.
وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ ثَلاثاً، فَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فَمِنْهُمَا وَيُخَيَّرُ السَّاعِي فِي الثَّالِثَةِ، وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُتَسَاوِيَيْنِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ كَانَ فِي أَقَلِّهِمَا عَدَدُ الزَّكَاةِ وَهِيَ غَيْرُ وَقْصٍ أُخِذَ مِنْهَا شَاةٌ وَإِلا فَمِنَ الأَكْثَرِ، وَقَالَ سُحْنُونُ: مِنَ الأَكْثَرِ .....
هذا ظاهر إذا فهمت ما تقدم، والتمثيل سهل.
وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ أَكْثَرَ، فَالْحُكْمُ لِلمِئينَ، فَإِنْ جَاءَ مُوجِبٌ مِنْهُمَا فَكَالأُولَى
يعني: وإن كان الواجب أكثر من ثلاث شياه، فالحكم بعد ذلك إنما هو للمئين؛ أي: في كل مائة شاة.
وقوله: (فَإِنْ جَاءَ ..) إلخ. أي: فإن كانت المائة الرابعة أو الخامسة أو غيرها من النوعين، فأجر الحكم فيها على ما تقدم في المسألة الأولى، وظاهر كلامه أن قول ابن مسلمة يأتي هنا.
وَأَلَزْمَ الْبَاجِيُّ ابْنَ الْقَاسِمِ مَذْهَبَ سُحْنُونَ فِي أَرْبَعِينَ جَامُوساً وَعِشْرِينَ بَقَرَةً
قال الباجي في المنتقى: لما تكلم على مسألة (أَرْبَعِينَ جَامُوساً وَعِشْرِينَ بَقَرَةً) وذكر أن عليه تبيعاً من الجواميس وتبيعاً من البقر، وعلل ذلك بأن ما يجب فيه التبيع الثاني البقر فيه أكثر من الجواميس، فإن كان الجنمس الثاني نصاباً وهو أقل مما بقي من الجنس الأول بعد النصاب- وذلك مثل أن يكون له مائة وعشرون من الضأن وأربعون من المعز- فهل تؤخذ الشاة الثانية من الضأن أو المعز؟ قال ابن القاسم في المدونة: تؤخذ واحدة من الضأن وأخرى من المعز. وقال سحنون: تؤخذ الشاتان من الضأن. ثم قال: وفي هذا نظر على قول ابن القاسم في أربعين من الجواميس مع عشرين من البقر في المسألة المتقدمة. انتهى.
وعلى هذا فعبارته بـ (أَلَزْمَ) ليست بظاهرة؛ لأن الباجي لم يقطع بإلزام وإنما أشار إلى التماثل، وأن ظاهره التعارض بين المسألتين، ولكن المصنف- والله أعلم- تبع في هذه العبارة ابن بشير. ومراد المصنف أن الباجي ألزم ابن القاسم أن يقول في مسألة الغنم: أن تؤخذ الشاتان من المائة والعشرين من سألة الجواميس؛ لأن الشاة الأولى تجب في أربعين ويبقى له بعد ذلك من الضأن ثمانون، فيخرج الثانية منها لأنها الأكثر كالبقر مع الجواميس.
وعلى هذا، ففي كلام المصنف إضمار تقديره: وألزم الباجي ابن القاسم مذهب سحنون في اجتماع الضأن والمعز من قوله في مسألة الجواميس والبقر، ولولا كلام الباجي الذي نقلته لكان يمكن حمل كلام المصنف على وجه آخر، وهو ظاهر لفظه، وهو أن يكون الباجي ألزم ابن القاسم أن يقول في أربعين جاموساً وعشرين بقرة بقول سحنون؛ أي: بأن يؤخذ التبيعان من الجواميس.
ووجه الإلزام: أن ابن القاسم اشترط في الأخذ من الصنفين أن يكون في الأقل نصاباً، والبقر هنا ليست نصاباً، وفهم من كلام المصنف أن ابن القاسم يقول في مسألة الأربعين جاموساً وعشرين بقرة بالأخذ منهما؛ إذ لولا ذلك لم يقل:(وألزم) إذ لا يلزم الإنسان بما لم يقل به.
وَأَلْزَمَهُ اللَّخْمِيُّ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ فِي اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ، وَتِسْعٍ وَثَلاثِينَ مِنْهُمَا
أي: وألزم اللخمي ابن القاسم من الجواميس والبقر أن يقول فيمن له اثنان وثمانون ضأنية وتسع وثلاثون معزاً أو بالعكس، بأن يؤخذ من الضأن شاة ومن المعز أخرى؛ لأن التسع والثلاثين والبقر قد اشتركا في نقصهما عن النصاب، فإذا لم يشترط أن يكون في البقر نصاباً، فكذلك لا يشترط في التسع والثلاثين.
وَجَوَابُهُمَا: أَنَّ السِّتَّينَ مِنْهُمَا كَأَرْبَعِمِائَةٍ مِنَ الضَّانِ وَالْمَعَزِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَرْبَعِينَ وَثَلاثِينَ .....
يعني: وجواب الشيخين أن الثلاثين الثانية في باب البقر كالمائة الرابعة؛ لأن بالثلاثين الثانية والمائة الرابعة تقرر النصاب، وإذا تقرر ذلك ظهر لك أخذ تبيع من الجواميس وتبيع من البقر في المسألة المذكورة؛ إذ أنا إذا أخرجنا عن ثلاثين تبيعاً فضلت من الجواميس عشرة، فإذا ضمت إلى العشرين كانت العشرون أكثر. ألا ترى أن ابن القاسم وسحنون اتفقا على أنه إذا كانت له ثلاثمائة وأربعون من الضأن وستون من المعز تؤخذ ثلاثة من الضأن وواحدة من المعز؛ لأنا بعد الثلاث إنما ننظر إلى كل مائة بمفردها، وكذلك في الثلاثين الثانية ينظر إليها بمفردها.
وأوضح المصنف هذا بمثال، وهو: إذا كان له أربعون جاموساً وثلاثون بقرة أو بالعكس، فإنه لا يختلف في أن الزكاة تؤخذ منهما لتقرر النصاب. ولو قيل بالأخذ من الأكثر للزم أخذ المسنة والتبيع من الأربعين. ويقع في بعض النسخ:(لم يختلف أيضاً) وهي تقتضي أنه لا يختلف في هذه ولا في المسألة الأولى، والصواب حذفها؛ لأن ابن يونس، وابن رشد نقلاً عن سحنون في أربعين جاموساً وعشرين بقرة أنه قال: يأخذ التبيعين من الأربعين، وضعفه ابن رشد.
وَأَمَّا بنْتَا اللَّبُونِ وَالْحِقَّتَانِ فَكَالشَّاتَيْنِ، فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِينَ، وَلا فِي خَمْسِينَ وَخَمْسِينَ، وَلا فِي سِتِّينَ وَثَلاثِينَ، وَلا فِي سِتِّينَ وَأَرْبَعِينَ، وَاخُتْلِفَ فِي أَرْبَعِينَ وَسِتَّ وَثَلاثِينَ وَفِي خَمْسِينَ وَسِتٍّ وَأَرْبَعِينَ
…
يعني: إذا وجد في الإبل بنتا لبون أو حقتان، فالحكم فيهما كما تقدم في الشاتين. فإن تساويا- أي: البخت والعراب- أخذ من كل صنف. وإن لم يتساويا، فإن لم يكن في الأقل عدد الزكاة، أخذ من الأكثر عند ابن القاسم وسحنون، وإن كان في الأقل عدد الزكاة، فقال ابن القاسم: يؤخذ من كل صنف. وقال سحنون: يؤخذ من الأكثر مطلقاً.
ويتضح هذا بما ذكره المصنف بقوله: (فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِينَ) أي: لم يختلف فيما إذا كان عنده أربعون منا لبخت واربعون من العراب أنه يؤخذ من كل صنف بنت لبون لتساويهما، ولا في خمسين وخمسين؛ أي: تؤخذ من كل صنف حقة. ولا في ستين وثلاثين؛ أي: تؤخذ بنتا لبون من الستين؛ لقصور الثلاثين عن سن بنت اللبون؛ إذ أقل ما تجب فيه بنت اللبون ستة وثلاثون. فهم من هذا أنه لا يشترط في الأقل سن آخر؛ إذ في الثلاثين بنت مخاض. ولا في ستين وأربعين؛ أي: تؤخذ الحقتان من الستين؛ لقصور الأربعين عن سن الحقة؛ إذ أقل ما تجب فيه ستة وأربعون. واختلف في أربعين وست وثلاثين؛ أي: فابن القاسم: يأخذ بنت لبون من كل صنف، وسحنون يأخذهما من الأربعين.
وكذلك اختلف في خمسين وست وأربعين، فعند ابن القاسم: يأخذ من هذه حقة ومن هذه حقة، وسحنون يأخذهما من الخمسين.
تنبيه:
تقدم أن ابن القاسم شرط في الأخذ منهما في الغنم شرطين، وأحدهما لا يتأتى هنا؛ أعني قوله:(وهو غير وقص) وإنما يتأتى أن يكون الأقل ليس فيه عدد الزكاة؛ لأن الشرطين المتقدمين لو أتيا هنا للزم وجود كل منهما بدون الآخر كما تقدم، فيلزم أن يوجد مثال يكون الأقل فيه عدد الزكاة وهو وقص، وهو لا يمكن في بنتي اللبون والحقتين والله أعلم.
وَإِنْ كَانَ مِنْهُمَا مِائَةٌ وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ إِلَى تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فَأَجْرِهِ أَوَّلاً عَلَى الْخِلافِ الْمُتَقَدِّمِ
…
أي: وإن كان عنده من البخت والعراب مائة وإحدى وعشرون إلى تسع وعشرين- كما تقدم- فأجر الكلام فيها أولاً على خلاف المتقدم؛ أي: هل الواجب حقتان أو
ثلاث بنات لبون، أو يخير الساعي؟ ثم إذا فرعنا على الحقتين، فالحكم فيهما كالشاتين، فإن تساويا أخذ من كل صنف، وغلا فإن كان في الأقل ست وأربعون سن الحقة أخذ منهما عند ابن القاسم، ومن الأكثر مطلقاً عند سحنون. وإن قلنا بالثلاث بنات لبون فكالثلاث شياه، فإن تساويا أخذ من كل صنف بنت لبون، ويخير الساعي في الثالثة، وإن لم يتساويا فإن كان في الأقل ست وثلاثون سن بنت اللبون أخذ من الأقل بنت اللبون عند ابن القاسم، وأخذت الثلاث من الأكثر عند سحنون. فإن لم يكن في الأقل ست وثلاثون فيتفق على الأخذ من الأكثر، وإن قلنا بالتخيير فالحكم ظاهر من القولين.
وَمَاشِيَةُ التِّجَارَةِ إَذَا كَانَتْ نِصَاباً كَالْقِنْيَةِ، [135/ ب] وَلِذَلِكَ لا يُقَوِّمُهَا الْمُدِيرُ، وَما دُونَ النِّصَابِ كَالْعَرْضِ ..
يعني: أن الإنسان إذا كانت عنده ماشية مشتراة للتجارة، فإنه يزكيها بعد مضي حولها كما يزكي ماشية القنية؛ لأن زكاتها من جنسها أصل، فلا يعدل عنه إلى التقويم الذي هو بدل.
قوله: (وَلِذَلِكَ لا يُقَوِّمُهَا الْمُدِيرُ) أي: ولأجل أن حكم ماشية التجارة كالقنية لا يقومها؛ لكون الزكاة فيها من جنسها. واعترض عليه ابن عبد السلام؛ ولذلك لا يقومها المدير؛ لأنه يقتضي أن المانع من التقويم هو كون ماشية التجارة كالقنية وليس كذلك، وإنما المانع من التقويم كون الزكاة من جنسها أصل، فلا يعدل عنه إلى القيمة التي هي بدل، وليس بالقوي، فقد قررنا كلام المصنف تقريراً صحيحاً.
وَمَنْ أَبْدَلَ مَاشِيَةً فِرَاراً مِنَ الزَّكَاةِ لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ اتِّفَاقاً، وَيُؤْخَذُ بِزَكَاتِهَا. وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ بِزَكَاةِ ثَمَنِهَا إِنْ كَانَ نَقْداً ..
هذا فصل تكلم فيه- رحمه الله على المبادلة وأقسامها، فقوله: (وَمَنْ أَبْدَلَ مَاشِيَةً
…
) إلخ. يعني: أن من أبدل ماشية- إما بماشية، أو بعرض، أو بنقد- وقصد
بالمبادلة الفرار من الزكاة لم تسقط عنه الزكاة اتفاقاً؛ لأنه قصد أو فعل ما لا يجوز له، وإذا لم تسقط فالمشهور أنه يؤخذ بزكاة الماشية المقر بها؛ معاملة له بنقيض مقصوده. وقال ابن شعبان: تجب عليه زكاة الثمن؛ أي: النقد. وكذلك ينبغي على قوله: إذا أبدلها بماشية. انتهى.
وقوله: (وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ) يوهم أن ابن شعبان قاله وهو قد رواه عن مالك. قال ابن يونس: وذكر عن ابن الكاتب أنه إنما يعد هارباً إذا باع بعد الحول ولا يراعى قرب الحنول، بخلاف المتخالطين؛ لأن الخليطين قد بقيت مواشيهم بأيديهم حتى حال الحول والذي باع ليس بيده شيء. قال ابن يونس: والصواب ألا فرق بين ذلك، وكذلك قال عبد الحق، بل قد يقال: إن هذه أولى؛ لأن الخليطين أرادا إسقاط شيء من الزكاة والفارُّ أراد غسقاط الزكاة كلها فكانت تهمته أقوى.
خليل: والظاهر على رواية ابن شعبان أنه لا يشترط في زكاة الثمن أن يكون نصاباً، كما لا يشترط ذلك إذا باع تمراً لا يثمر، وهو خمسة أو سق، قلنا: يخرج من ثمنه.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِرَاراً، فَإِنْ أَبْدَلَهَا بِنَقْدٍ وَهِيَ لِلتِّجَارَةِ رُدَّتْ إِلَى أَصْلِهَا
يعني: فإن لم يكن الإبدال فراراً من الزكاة وأبدلها بنقد وهي للتجارة، فإنها ترد إلى أصلها؛ أي: تزكى لحول الأصل وهو ظاهر؛ لأن الماشية في هذه الصورة سلعة من سلع التجارة وقد بيعت قبل تعلق الزكاة بها. قال محمد: وإن زكاها قبل البيع زكى الثمن إذا تم حول الغنم. قال: ولم يختلف في ذلك قول مالك ولا أصحابه. قال اللخمي: قال أشهب في مدونته: يستأنف بالثمن حولاً من يوم يقبضه. انتهى.
وَإِنْ كَانَتْ لِلْقِنْيَةِ، فَفِي بِنَائِهِ إِذَا كَانَا نِصَابَيْنِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ
أي: فإن كانت الماشية للقنية وأبدلها بنقد، فقال ابن القاسم: يبني، وإليه رجع مالك. وقال أشهب: يستقبل، وعنه رجع مالك. فرأى في الأول أنه قد انتقل من مال مزكى إلى
مثله. ورأى في الثاني اختلاف الزكاة، وهو لم يقصد بما فعل الفرار من الزكا’، ولم يحل على الذي بيده حول.
واحتراز بقوله: (إِذَا كَانَا نِصَابَيْنِ) مما لو قصرت الماشية عن النصاب، فإنها حينئذ كالعرض، والفرض أنها للقنية فيجب الاستقبال بثمنها. وأخذ اللخمي من قول ابن مسلمة- فيمن باع بعيراً بأربعين شاة بعد ستة أشهر ثم جاءه المصدق، أنه يزكي الغنم- قولاً بعدم اشتراط أن تكون الماشية نصاباً. وأما إذا كانت الماشية نصاباً وباعها بدون النصاب، فإنه لا زكاة عليه اتفاقاً، نقله ابن هارون وغيره. وقال التونسي: ينبغي إذا كانت نصاباً فباعها بدون النصاب أن يضيف ذلك إلى ماله ويبني ولا يستأنف.
بِخِلافِ عَيْنٍ اشْتَرَى بِهِ مَاشِيَةً عَلَى الْمَشْهُورِ
يعني: بخلاف ما إذا كان عنده نصاب من العين أقامه عنده بعض حول، كما لو أقام عنده ستة أشهر ثم اشترى به نصاباً من الماشية، فإن المشهور يستقبل بالماشية حولاً. وقال ابن مسلمة: يبني كما في التي قبلها، والفرق على المشهور أنه إذا كانت عنده ماشية وأبدلها بعين، فقد انتقل مما تعلق الزكاة به أقوى إلى ما تعلقها به أضعف، ألا ترى أن الماشية لا يسقط الزكاة عنها دين بخلاف العين، وإذا كان كذلك اتهم فناسب البناء، بخلاف ما إذا اشترى الماشية بنصاب من العين فإن الأمر بعكس ذلك، فلم يتهم فناسب الاستقبال. وفرق ابن رشد بأنه يتم في بيع الماشية بالعين بالهروب من الزكاة من الساعي، ولا تهمة عليه في اشتراء الماشية بالعين.
وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي، فَفِي تَزْكِيَةِ الثَّمَنِ عَاجِلاً قَوْلانِ
…
ولا حاجة إلى هذا الفرع؛ لأنه عين الفرع الذي تقدم، خلاف ابن القاسم وأشهب فيه، على أن هذا الخلاف إنما يأتي إذا بنينا على أن الساعي شرط وجوب، وأما إن قلنا: إنه
شرط أداء، فتجب عليه زكاة الماشية. ففيحصل لنا فيها ثلاثة أقوال: الزكاة عاجلاً، والاستقبال، وتؤخذ منه زكاة الماشية.
فَإِنْ أَبْدَلَهَا بِنِصَابِ [136/ أ] مَاشِيَةٍ مِنْ نَوْعِهَا بَنَى عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الأُولَى نِصَاباً كَعِشْرِينَ جَامُوساً بِثَلاثِينَ بَقَرَةً
…
أي: إن كانت عنده ماشية فأبدلها بماشية من نوعها كضأن بمعز، وبخت بعراب، وجواميس ببقر زكى ما أخذ لحول ما أعطاه، وإن كان ما أعطاه دون النصاب، كما ذكر من إبدال عشرين جاموساً بثلاثين بقرة نقداً، هذا هو المشهور، ووجهه ما تقدم في العين، بل هنا أقوى، والشاذ في كتاب ابن سحنون: أنه يستقبل؛ لأن المال لم يمر له حول.
وَإِنْ كَانَتْ تُخَالِفُهَا اسْتَقْبَلَ
كما لو أبدل بقراً بغنم، أو إبلاً ببقر، والاستقبال هو المشهور.
وَأَخْذُ الْمَاشِيَةِ عَنْ الاسْتِهْلاكِ كَالْمُبَادَلَةِ بِهَا ابْتِدَاءً، وَقِيلَ: مَا لَمْ تَتَعَيَّنِ الْعَيْنُ، فَيَكُونُ كَعَيْنٍ عَنْ مَاشِيَةٍ اشْتَرَى بِهَا مَاشِيَةً ..
يعني: وإذا أخذ ماشية عن استهلاك ماشية، فحكمه حكم من أبدل ماشية بماشية، فإن كانت الثانية من جنس الأولى بنى على المشهور، وإن كانت من غير جنسها استقبل على المشهور. وأطلق المصنف الاستهلاك على ما هو أعم من تعييب الماشية وإذهاب عينها بالكلية. فقوله:(وَقِيلَ: مَا لَمْ تَتَعَيَّنِ الْعَيْنُ) أي: وقيل: إن الحكم حكم إبدال الماشية إذا لم تتعين القيمة بأن تكون ماشيته باقية، ولكن تعيبت لأن ربها إذ ذاك مخير بين أخذها بعينها وقيمتها. وأما إن تعينت القيمة، فإن ذهبت عين الماشية، فتكون الماشية المأخوذة عن القيمة كماشية أخذت عن عين؛ أي: فيستقبل. وهو قول حمديس. هذا نقل ابن عبد السلام وفيه نظر؛ فإن الذي نقله ابن يونس، وابن راشد وغيرهما: أن حمديس
قال: إنما اختلف قول ابن القاسم في عيب يوجب له الخيار في أخذ العين أو القيمة، فتارة جعل المأخوذ عوضاً عن القيمة، وتارة جعله عوضاً عن العين، وأما لو ذهبت العين حتى لا تكون له إلا القيمة، فلا يختلف قوله أنه لا زكاة فيها. وعلى هذا فيتحصل في المسألة طريقان:
الأولى: أن قول ابن القاسم: اختلف في ذلك سواء ذهبت العين أم لا، وهي طريقة الشيخ أبي محمد وسحنون.
والثانية: طريقة حمديس، وقال في المقدمات: اختلف قول ابن القاسم إذا استهلك الرجل غنماً فأخذ منه غنماً تجب فيها الزكاة. فمرة قال: يزكيها على حول المستهلكة، ومرة قال: يستقبل بها حولاً. واختلاف قوله هذا إنما يصح إذا كانت قد فاتت بالاستهلاك فوتاً لا يوجب له تضمينه القيمة فيها، وأما إذا فاتت أعيانها، فلا خلاف أنه يستقبل بالغنم المأخوذة. قال: ولو كانت قائمة بيد الغاصب لم تفت بوجه من وجوه الفوت، لزكاها على حول الأولى بغير اختلاف أيضاً؛ لأن ذلك كالمبادلة. انتهى. أي: بغير اختلاف من قول ابن القاسم.
قال في النكت- بعد أن ذكر ما ذكره حمديس-: وهذا إن ثبت الاستهلاك ببينة، وإن لم يثبت ذلك فيزكي الغنم التي أخذ؛ لأنه يتهم أن يكون إنما باع غنماً بغنم.
وَأَخْذُ الْعَيْنِ كَالْمُبَادَلَةِ بِاتِّفَاقٍ
أي: فإن أخذ عيناً عن الماشية المستهلكة، فإنه يكون كما لو أبدل ماشية بعين، فيبني على قول ابن القاسم، ولا يبني على قول أشهب.
وقوله: (بِاتِّفَاقٍ) أي: أن الشيوخ اتفقوا على إجراء خلاف قول ابن القاسم وأشهب فيهما، ولولا الاتفاق لأمكن أن يقال: إن المبادلة أمر اختياري يوجب تهمة
من وقعت منه في مظان التهمة، وذلك يقتضي البناء بخلاف الاستهلاك فإنما يتركها كرهاً، فينبغي الاستقبال.
وَفَائِدَةُ الْمَاشِيَةِ بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ إِنْ صَادَفَتْ نِصَاباً قَبْلَهَا ضُمَّتْ إِلَيْهِ، وَلَوْ بِيَوْمٍ قَبْلَ مَجِيء السَّاعِي. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: كَالنَّقْدِ. وَقِيلَ: كَالنَّقْدِ مَا لَمْ تَكُنْ سُعَاةً ..
يعني: أن فائدة الماشية المشتراة أو الموهوبة أو غيرهما ليست كفائدة العين؛ لأن فائدة الماشية إن صادفت نصاباً قبلها ضمت الفائدة إلى النصاب الأول وزكيت على حوله، بخلاف فائدة العين فإنها إن صادفت نصاباً قبلها استقبل بها حولاً وبقي كل مال على حوله. أما إن لم تكن الماشية الأولى نصاباً، فإنه يستأنف بالجميع حولاً كالعين، وفرق بفروق:
أحدها: أن زكاة الماشية موكولة إلى الساعي، فلو لم تضم الثانية إلى الأولى لأدى ذلك إلى خروجه مرتين وفيه حرج، بخلاف العين فإنها موكولة إلى أمانة ربها.
ثانيها: أن الماشية لو بقي كل مال على حوله لأدى ذلك إلى مخالفة النصب التي قررها عليه الصلاة والسلام، مثال ذلك: أن يكون للإنسان أربعون شاة قد مضى لها نصف حول، ثم استفاد أربعين، ثم أربعين أخرى، فلو بقي كل مال على حوله لأدى أن يخرج عن مائة وعشرين ثلاث شياه، وهو خلاف ما نص عليه صلى الله عليه وسلم.
ثالثها: لما كانت زكاة الماشية للسعاة، فلو لم نقل أن الفائدة تضم لادعى كل شخص أنه قد استفاد بعض ما بيده ليسقط الزكاة، بخلاف العين فإن التهمة منتفية؛ لأن زكاتها موكولة إلى أمانة ربها.
وقوله: (َقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: كَالنَّقْدِ) ظاهر. [136/ ب] والقول بالتفرقة لابن أبي زيد وعده المصنف خلافاً، وعده بعضهم تفسيراً للمشهور، وهو ظاهر على
الفرق الأول والثالث لا على الثاني. هذا ظاهر في الفائدة التي هي من جنس الذي عنده، وأما لو كانت خلاف جنسه كإبل وغنم، كان كل مال على حوله اتفاقاً.
وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْوَقْصِ، وَلِذَلِكَ اتُّفِقَ فِي أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِينَ، وَاخْتُلِفَ فِي ثَمَانِينَ ثُمَّ فِي إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ
…
يعني: أن الخلاف المذكور إنما هو إذا كانت الثانية غير وقص، وهذا الكلام لا حاجة إليه، ولعله إنما أتى به ليفرع عليه قوله:(وَلِذَلِكَ اتُّفِقَ فِي أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِينَ) أي: أنه لا يؤخذ منه إلا شاة لحول الأولى، واختلف في ثمانين ثم في إحدى وأربعين، فعلى المشهور تجب عليه شاتان، وعلى قول ابن عبد الحكم تجب واحدة ويستقبل بالفائدة حولاً.
وَلِذَلِكَ لَوْ نَقَصَ النِّصَابُ قَبْلَ حَوْلِهِ بِيَوْمٍ، ثُمَّ أَفَادَ مِثْلَهُ مِنْ يَوْمِهِ اسْتَانَفَ بِالْجَمِيعِ حَوْلاً ..
أي: ولأجل شرطنا في الضم أن تكون الأولى نصاباً، لزم فيمن كان عنده نصاب فنقص قبل مجيء الساعي بيوم، أو قبل الحول بيوم إذا لم تكن سعاة ثم أفاد في يومه مثل- أي: نصاباً آخر- أن يستأنف بالجميع حولاً؛ لأن الماشية الأولى صارت دون النصاب، فلا تضم الثانية إليها.
وَأَمَّا النِّتَاجُ فَيُضَمُّ مُطْلَقاً
هذا متفق عليه، والأصل فيه قول عمر- رضي الله عنه لعامله سفيان بن عبد الحكم: عُدَّ عليهم السخلة التي يحملها الراعي ولا تأخذها.
وَالْمَاشِيَةُ تُرَدُّ بِعَيْبٍ أَوْ تُؤْخَذُ بفَلَسٍ فِي بِنَاءٍ رَبِّهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَوِ اسْتِقْبَالِهِ قَوْلانِ
يعني: أن من باع ماشية فأقامت عند المشتري فوجد بها عيباً فردها لذلك، أو أفلس المشتري بعد أن قعدت عنده مدة فأخذها البائع، كما لو ملك ماشية في المحرم فقعدت عنده