الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العرض. وقال أشهب: يجزئ فيهما قياساً على إخرجها قبل الحول بيسير. وقيل: يجزئ في الدين لا في العرض، لأن رب الدين له تسلط على قبضه، بخلاف البيع فإنه لا قدرة له عليه.
صَدَقَةُ الْفِطْرِ
الْمَشْهُورُ وُجُوبُهَا
مقابل المشهور السنة، والمشهور أظهر؛ لما في الموطأ عن ابن عمر قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان. وحمل الفرض على التقدير بعيد، لاسيما وقد خرج الترمذي: بعث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي في فجاج مكة ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم. وعلى الوجوب، فالمشهور أنها واجبة بالسنة، وقيل بالقرآن، وعلى وجوبها بالقرآن، فقيل بآية تخصها وهي:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15]. وقيل بالعمومات.
وَفِي وَقْتِهِ أَرْبَعَةٌ: الْمَشْهُورُ لَيْلَةُ الْفِطْرِ، وَطُلُوعُ فَجْرِ يَومه، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَمَا بَيْنَ الْغُرُوبَيْنِ. وَفَائِدَتُهُ: فَيمَنْ وُلِدَ أَوْ مَاتَ أَوْ أَسْلَمَ أَوْ بِيعَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ
أي: في وقت الوجوب أربعة أقوال. المشهور: غروب الشمس من آخر ليل رمضان وهو مراده بقوله: (لَيْلَةُ الْفِطْرِ) وفي عبارته تسامح. وروي عن مالك: طلوع الفجر من يوم الفطر، وشهره الأبهري. وقال ابن العربي: هو الصحيح. وقيل: طلوع الشمس منه، حكاه القاضي أبو محمد عن جماعة من الأصحاب. قال: ابن الجهم: وهو الصحيح من المذهب. وأنكر بعضهم هذا القول، وقال: لا خلاف فيمن مات بعد الفجر أن الزكاة عليه. وصوب صاحب التنبيهات مقالة هذا المنكر. وروي من غروب الشمس ليلة الفطر إلى غروب الشمس من يوم العيد. وفي المذهب قول خامس: من غروب الشمس ليلة العيد إلى الزوال. وأقرب هذه الأقوال ما شهر المصنف؛ لقول الراوي: صدقة الفطر من رمضان. والفطر من رمضان أوله غروب الشمس. وقوله: (وَفِي وَقْتِهِ) فيه قصور، وأحسن من ذلك لو قال:(وفي زمان الخطاب) كما قال غيره ليعم الوجوب والسنة.
قوله: (وَفَائِدَتُهُ) أي: وفائدة الخلاف تظهر فيما ذكره وفيما يشابهه من الهبة، والصدقة، والميراث، والطلاق.
وَالْمُسْتَحَبُّ: إِخْرَاجُهَا بَعْدَ الْفَجْرِ قَبْلَ الْغُدُوِّ إِلَى الْمُصَلَّى اتِّفَاقاً، وَوَاسِعُ بَعْدَهُ
أي: أن الزمان الذي يستحب إخراجها فيه غير زمان الوجوب؛ لأنه اتفق على استحباب إخراجها بعد الفجر قبل الغدو إلى المصلى؛ لما خرجه مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بزكاة الفطر أن تؤدي قبل خروج الناس إلى المصلى. وما حكاه من الاتفاق فيه نظر. فقد قال سند: إن ذلك عند من يرى الوجوب في الفجر، وأما على رأي من يرى أنه بطلوع الشمس، فإنه لا يستحب تقديمها على ذلك، وإنما يكون إخراجها قبله رخصة لا أنه أفضل، نقله ابن رشد.
وَفِي تَقْدِيمِهَا بِيَوْمِين أو ثَلاثَةٍ قَوْلانِ
وفي المدونة: وإن أداها قبل ذلك بيوم أو يومين فلا بأس. وقال في الجلاب: وقد يجوز إخراجها قبل يوم الفطر باليومين أو الثلاثة استحساناً. وقال ابن المواز: إذا أخرجها قبل يوم الفطر بيومين يجزئه. ويوم الفطر أحب إلينا، ولو أخرجها قبل يوم الفطر بيومين فهلكت لم يجزئه، وكذلك زكاة الأموال.
قال التونسي: وفي هذا نظر؛ لأن الوقت لو كان مضيقاً كأوقات الصلاة لوجب ألا يجزئ منها شيء ولو قبل الحول بنصف يوم، كما لو صلى قبل الزوال فيجب متى أخرجها فضاعت في وقت لو أخرجها فيه لأجزأت أنها تجزئ في هذا. انتهى بتلخيص.
ونسب اللخمي، والتلمساني عدم الإجزاء لابن مسلمة، وابن الماجشون. قال ابن يونس: وقال سحنون: إن أخرجها قبل الفطر بيوم لم يجزئه، وإنما كان ابن عمر يخرجها قبل الفطر بيومين إلى من يلي إخراجها، وأشار ابن يونس إلى أنه يمكن إن حمل كلام ابن
القاسم على ذلك. قال: ومن حمل كلام ابن القاسم على ظاهره يلزمه أن تجزئه ولو أخرجها أول الشهر، وذلك لا يجوز. انتهى. وفيه نظر. وليس ما قرب كغيره.
وحمل اللخمي وغيره ما في المدونة على ظاهره، وقال: إن علم أنها قائمة بيد من أخذها إلى الوقت الذي تجب فيه أجزأته اتفاقاً. قال: لأن لدافعها إذا كانت لا تجزئ أن ينتزعها، فإن تركها كان كمن ابتدأ دفعها. وقال الباجي، وابن عبد السلام: المشهور عدم الإجزاء إلا أن يفرقها، وفيه نظر.
وَالْمَشْهُورُ: وُجُوبُهَا عَلَى مَنْ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ مَعَهَا. وَقِيلَ: مَنْ لا تجحِفْ بِهِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهَا. وَقِيلَ: أَخْذُ الزَّكَاةِ ....
يعني: أنه اختلف فيمن تجب عليه على أقوال: المشهور: أنها تجب على كل من فضل عن قوته إن كان وحده، أو قوته وقوت عياله إن كان له عيال صاع، وهو في الجلاب وغيره، وقاله ابن حبيب. اللخمي: وهو موافق لما في المدونة.
والثاني: لعبد الوهاب، قال: يخرج زكاة الفطر من لا تلحقه في إخراجها مضرة من فساد معاشه، أو جوعه، أو جوع عياله، فعلى هذا فلو فضل له من قوته صاع وأكثر وكان إذا أخرجها [149/ ب] يلحقه الإجحاف في معاشه لا يجب عليه إخراجها.
والقول الثالث نقله اللخمي عن ابن الماجشون، ولفظه: وقال ابن الماجشون في المبسوط: الحد الذي تجب وتسقط به من حال اليسر والفقر، أن من كانت تحل له سقطت عنه. وقاله مالك في كتاب محمد: قيل له إن كانت له عشرة دراهم فأخرج زكاة الفطر أيأخذ منها، قال: أيخرج ويأخذ؟ لا، إذا كان هكذا فلا يأخذ، قيل: إذا كانت له عشرة دراهم فلا يأخذ منها، قال: ليس هذا حد معلوم. انتهى.
وقوله: (وَقِيلَ: أَخْذُ الزَّكَاةِ) فيه نظر؛ لأن هذا القول إنما ذكره ابن بشير وغيره تفريعاً على قول ابن الماجشون، وهو أنه إذا قلنا إنما تجب على من لا يحل له أخذها على قولين، وعلى هذا فالأولى: أن يسقط هذا القول هنا ويكتفي بما سيذكره في قوله: ومصرفها مصرف الزكاة. وقيل: الفقير الذي لم يأخذ منها. وقد ذكر صاحب البيان أن المذهب لم يختلف في أنه ليس من شرطها أن يملك المخرج نصاباً فتأمله. ويبين لك ما ذكرناه أن كلامه هنا ليس بجيد؛ لأنه لا يخلو إما أن يبنى على القول بأن مصرفها مصرف الزكاة، أو على القول بأن مصرفها الفقير الذي لم يأخذ منها، وأياً ما كان فيلزم عليه إشكال، أما الأول فيتداخل القول الثالث والرابع؛ لأن من لا يحل له أخذ زكاة المال لا يحل له أخذها وبالعكس، إذ مصرفها مصرف الزكاة. وأما على القول الثاني فيلزم أحد أمرين؛ إما أن يتداخل الثالث مع المشهور، وإما حصول غرابة في النقل، وذلك أنا إذا بنينا على القول بأن مصرفها الفقير الذي لم يأخذ منها، فإذا أخذ فقير صاعاً من زكاة الفطر ولم يكن عنده غيره، فهذا لا يحل له أخذ صاع ثان، وحينئذ إما أن تقول يجب عليه إخراجه أم لا، فإن قلت بعدم الإخراج لزم التداخل مع القول الأول، إذ يشترط أن يفضل له صاع عن قوته. وإذا قلنا بوجوب الإخراج ففيه إشكال من جهة المعنى، ويعز وجوده ولا يخفى وجه إشكاله. والله أعلم.
فروع.
الأول: إذا قدر على بعض الزكاة. قال صاحب الطراز: ظاهر المذهب أنه يجزئه، لقوله عليه الصلاة والسلام:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
الثاني: هل تسقط عنه الزكاة بالدين أم لا كالماشية، والقول الأول قول عبد الوهاب، والثاني لأشهب.
الثالث: إذا وجد من يسلفه وهو محتاج، قال في المدونة: يتسلف ويخرج. وقال محمد: لا يلزمه ذلك.\
والرابع: فإذا لم يكن له إلا عبد، فقال مالك: يخرج الزكاة، ورآه موسراً. ونقل أيضاً عنه أنه لا شيء عليه، فلم يره موسراً به.
وَتَجِبُ عَلَيْهِ عَمنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً بِالْقَرَابَةِ وَالرق كالآبَاءِ والأبناء والْعَبِيدِ ....
لما في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على كل مسلم. ومفهومه سقوطها عن غير المسلم. وفي الدارقطني عن ابن عمر قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر عن الصغير والكبير عمن تمونون. وقوله: (كالآبَاءِ والأبناء) راجع إلى القرابة. (والْعَبِيدِ) راجع إلى الرق.
وَالْمَشْهُورُ: وَبِغَيْرِهِمَا، كَالزَّوْجَةِ وَخَادِمِهَا وَإِنْ كَانَتْ مَلِية، وَزَوْجَةِ الأَبِ الْفَقِيرِ وَخَادِمِهِ ....
مقابل المشهور في الزوجة لابن أشرس قال: لا يلزمه أن يخرج عنها.
ابن عبد السلام: ومن أوجب ذلك ألحقها بالقرابة، كما قال المؤلف أنها قسم ثالث ومن أسقط ألحقها بالإجزاء، وتمسك الشاذ بأنها لو ألحقت بالقرابة لوجب مساواة حكمها فتسقط عن الزوج بملائها، ولعل هذا هو المعنى الذي أوجب جعل الزوجة قسماً ثالثاً، ووجب أداؤها عن زوجة الأب الفقير وخادمه وخادم الزوجة بحكم التبعية.
وَإِنِ اشْتُرِيَ يَوْمَ الْفِطْرِ فَرَجَعَ إِلَى أَنَّهَا عَلَى الْبَائِعِ
المرجوع إليه مبني على أنها تجب بالغروب لا بالفجر، ولعله في المرجوع عنه رأى الوجوب متسعاً فلذلك أوجبها على المشتري؛ لانتقال الملك إليه في وقت الوجوب.
وحكي عن أشهب قول ثالث بوجوبها على كل واحد منهما. وحكي أيضاً عنه رابع أنها تجب على البائع وتستحب على المشتري حكاهما في التنبيهات.
وَالْمَبِيعُ بِالْخِيَارِ، وَالأَمَةُ الْمُتَوَاضِعَةُ عَلَى الْبَائِعِ
وذلك لأن عليه نفقتهما وضمانهما عليه وله غلتهما. قال سند: ومن قال إن الملك ينتقل بالعقد إلى المشتري جعل الزكاة على المشتري، فأشار إلى أن هذه المسالة تأتي على القاعدة المذكورة في بيع الخيار هل هو منحل حتى ينبرم، أو هو منعقد، وهذا إن قاله نصاً فواضح، وإن كان تخريجاً فيه نظر. ومراد المصنف: إن كان البيع فيهما قبل ليلة العيد.
وَالْعَبْدِ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ عَلَى الْمُشْتَرِي
ما ذكره هو قول ابن القاسم؛ لأن ضمانه من المشتري. وقال أشهب: إنما تجب عليه إذا مضى يوم الفطر وقد فات، وإلا فهي على البائع. وروي عن أشهب في الموازية: أنه على كل واحد من البائع والمشتري زكاة. وقال ابن الماجشون: إن فاتت ولم يفسخ فهي من المشتري ولو لم يفت إلا بعد يوم الفطر.
وَالْمُخْدَمُ يُرْجَعُ [150/ أ] إِلَى حُرِّيَّةِ عَلَى مَخْدُومِهِ. وَإِلَى رِقٍّ، ثَالِثُهَا: إِنْ طَالَتْ فَعَلَى الْمُخْدَمِ
…
يعني: أن من أخدم عبده رجلاً ثم هو حر، فإن الزكاة على الرجل المخدم؛ لأن النفقة عليه ولم يبق لسيده منفعة، وإن كان يرجع إلى رق كما لو أخدمته رجلاً خمس سنين ثم هو بعد ذلك غير حر، فقال في المدونة: هي على مالك الرقبة إن قبل الوصية كما لو أخدم عبده رجلاً فصدقة الفطر عنه على سيده الذي أخدمه. انتهى. وفي الموازية: على مالك الخدمة في الوجهين إن كانت رقبته ترجع إلى السيد أو غيره. وفرق ابن الماجشون، فقال: إن قلت الخدمة فهي على مالك الرقبة، وإن طالت فهي على مالك المنفعة. ومنشأة الخلاف
النظر إلى الملك أو النفقة على أنه قد اختلف قول مالك في نفقة هذا العبد المخدم، هل على سيده أو على الذي له الخدمة. قال في التنبيهات: وروي أن نفقة المخدم من مال نفسه لا على السيد ولا على المخدم، وحكاها ابن الفخار، وهذا القول هو الذي ذكره أصحاب الوثائق أنها من كسبه وخدمته وما بقي للمخدم، إلا أن تكون الأيام قليلة فتكون نفقته على رب العبد. قال: وقيل إن الخلاف إنما هو في الكثيرة، وأما القليلة فهي على رب العبد، وهو مذهب سحنون. انتهى.
وَالْمَشْهُورُ: أَنَّ الْمُشْتَرَكَ عَلَى الأَجْزَاءِ لا عَلَى الْعَدَدِ
كما لو كان عبداً لثلاثة، لأحدهم نصفه وللآخر ثلثه وللآخر سدسه، فعلى المشهور: يجب على كل بقدر نصيبه. وقيل: تجب على العدد؛ أي: يجب على كل واحد ثلث صاع. وروي عن مالك: أن على كل واحد زكاة كاملة وأنكرها سحنون ولم يعرفها.
وَفِي الْمُعْتَقِ بَعْضُهُ ثَلاثَةٌ: الْمَشْهُورُ عَلَى السَّيِّدِ حِصَّتُهُ، وَعَلَيْهِمَا، وَعَلَى السَّيِّدِ الْجَمِيعُ ..
كما لو كان نصفه معتقاً. فعلى المشهور: يجب على السيد نصف صاع ولا شيء على العبد. والقول الثاني لمالك في المبسوط: يؤدي السيد بقدر ما يملك ويؤدي العبد بقدر ما عتق منه، وحكاه ابن حبيب عن أشهب. والقول الثالث لعبد الملك: نظراً إلى أنه لو مات ورث جميع ماله.
وَعَنِ الآبِقِ الْمَرْجُوِّ
لأن الإباق لا يخرجه عن ملكه، واحترز بالمرجو من غير المرجو، فلا تجب زكاته حينئذ لأنه كالعدم.
وَعَلَى رَبٍّ الْمَالِ فِي عَبَيدِ الْقِرَاضِ. وَقَالَ أَشْهُبُ: تُسْقُطُ حِصَّةُ الْعَامِلِ مِنَ الرِّبْحِ
لا يخفى عليك تصوره.
وَقَدْرُهَا: صَاعٌ مِنَ الْمُقْتَاتِ فِي زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْقَمْحِ، وَالشَّعِيرِ، وَالسُّلْتِ، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ، وَالأَقِطِ، وَالذُّرَةِ، وَالأُرْزِ، وَالدُّخْنِ، وَزَادَ ابْنُ حَبِيبِ الْعَلَسَ. وَقَالَ أَشْهَبُ: مِنَ السِّتِّ الأُوَلِ خَاصَّةً.
تقديرها بالصاع في جميع الأنواع هو المعروف، وقال ابن حبيب: تؤدي من البر مدين لا صاعاً، وقوله: (الْمُقْتَاتِ فِي زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم أي: في سائر الأقطار ولم يرد بلداً معيناً كما فهم ابن عبد السلام واعترض. وأما قصر أشهب الإجزاء على الستة الأول، فإنه يرى أن الاقتصار على ما جاء الحديث ب، وإن كان ليس في الحديث نص على البر والسلت لكنهما أطيب من الشعير، فينتظم فيهما قياس الأحرى بخلاف ما بقي، قاله ابن عبد السلام. واستحب أشهب الترتيب، نقل عنه ابن يونس أنه قال في المجموعة: أحب إلى أن تؤدي في البلدان من الحنطة، وأداء السلت أحب إلى من الشعير، والشعير أحب إلى من الزبيب، والزبيب أحب إلى من الأقط، والظاهر أن محمل الخلاف بين ابن حبيب والمذهب في العلس، وبين أشهب والمذهب في الثلاثة إذا كان العلس أو الثلاثة غالب عيش قوم، وغير ذلك موجود وكان الجميع سواء، فابن حبيب يرى الإخراج من العلس في الصورة الأولى، والمشهور يخرج من التسع، وأشهب يرى الإخراج من الستة.
فَلَوِ اقْتِيتَ غَيْرُهُ كَالْقَطَانِيِّ، وَالتِّينِ، وَالسَّوِيقِ، وَاللَّحْمِ، وَاللَّبَنِ، فَالْمَشْهُورُ: يُجْزِئُ
أي: فلو اقتيت ما ذكر، فهل يجزئ الإخراج منه؟ فالمشهور: أنه يجزئ؛ لأن في تكليفه غير قوته حرجاً عليه. ورأى في القول الآخر الاقتصار على ما ورد في الحديث، ورواه ابن القاسم عن مالك في القطاني أنه لا يخرج وإن كانت قوته.
وَفِي الدَّقِيقِ بِزَكَاتِهِ قَوْلانِ
قال مالك: لا يجزئ إخراج الدقيق. قال ابن حبيب إنما ذلك للريع، فإن أخرج منه مقدار ما يخرج من صاع القمح أجزأ، وقاله أصبغ، وجعله بعضهم تقييداً. ووجه عدم الإجزاء: أن في الدقيق تحجيراً؛ لأن القمح يصلح لما لا يصلح له الدقيق، ولو جاز الدقيق لجاز الخبز. قوله:(بِزَكَاتِهِ) احترازاً مما إذا أخرجه بغير زكاته فلا يجزئه اتفاقاً.
وَتخرُجُ عَنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ قُوتهُ دُونَهُ لا لِشُحٍّ فَقَوْلانِ
يعني: أن التسعة المقدمة هي متعلق الوجوب من حيث الجملة، وأما من حيث التفصيل، فيتعين في حق كل بلد غالب قوتهم، فأهل مصر يتعين في حقهم القمح، وإن كان قوته أفضل فله أن يخرج من قوته، فإن أخرج من قوت الباد أجزأه، وإن كان يقتات الأدنى لعسر أخرج منه؛ لقوله تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] وإن كان مع الوجدان كالبدوي يأكل الشعير بالحاضرة وهو مليء فقولان، ومفهوم كلامه أنه لو فعل ذلك [150/ ب] شحاً لكلف أن يخرج من قوت البلد اتفاقاً.
ومَصْرِفُهَا مَصْرِفُ الزَّكَاةِ. وقِيلَ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَمْ يَاخُذْ مِنْهَا. وَعَلَى الْمَشْهُورِ يُعْطَى الْوَاحِدُ عَنْ مُتَعَدِّدٍ ....
ظاهر كلامه أنها تصرف في الأصناف الثمانية، وليس كذلك، فقد نص في الموازية على أ، هـ لا يعطى منها من يليها ولا من يحرصها. وظاهر كلامهم: أنه لا يعطى منها المجاهد، وأكثر كلامهم تعطى للفقراء والمساكين. وقوله:(وقِيلَ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَمْ يَاخُذْ مِنْهَا) هو قول أبو مصعب. ونصه على ما نقل اللخمي: وقال أبو مصعب: لا يعطاها من أخرجها ولا يعطى فقير أكثر من زكاة إنسان وهو صاع. قال اللخمي: وهو الظاهر؛ لأن
الغرض إغناؤه في ذلك اليوم، كما قال عليه الصلاة والسلام، بخلاف زكاة المال، فإن القصد بها إغناء الفقير عما يحتاجه من النفقة والكسوة في المستقبل. وقد قيل: إنه يعطي ما يكفيه في السنة، وقد قيل: إنه لا بأس أن يعطي الزكاة من له نصاب لا كفاية له فيه، ولا أعلمهم يختلفون أنه لا يعطى زكاة الفطر من يملك نصاباً. انتهى.
وإِذَا أَدَّى أهل الْمُسَافِر عَنْهُ أَجْزَأَهُ
هذا ظاهر إذا كانت عادتهم تلك أو أوصاهم، وإلا فالظاهر عدم الإجزاء لفقد النية والله أعلم.
* * *
الصِّيَامُ وَاجِبٌ- كَرَمَضَانَ، وَالْكَفَّارَاتُ وَالنُّذُورُ- وَنَفْلٌ. وَرَمَضَانُ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعٍ، وَفِي تَكْفِيرِ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ صَوْمِهِ كَمَا فِي الصَّلاةِ
…
لا خلاف في وجوبه وهو في اللغة يطلق على الإمساك. وفي الشرع: إمساك عن شهوتي البطن والفرج يوماً كاملاً بنية التقرب. وشرع لمخالفة الهوى؛ لأن الهوى يدعو إلى شهوتي البطن والفرج، ولكسر النفس، ولتصفية مرآة العقل، والاتصاف بصفات الملائكة، ولينتبه العبد على مواساة الجائع.
وقول ابن حبيب بالقتل كفراً في تارك الصلاة أقوى منه في الصوم؛ لأنه لا يوجد له من الأدلة هنا مثل الصلاة، ولأنَّا لا نعلم أحداً يوافقه في الصوم إلا الحكم بن عيينة، بخلاف الصلاة فإنه وافق في ذلك جماعة من الصحابة والتابعين.
وَشَرْطُ صِحَّتِهِ الإِسْلامُ، ويستحب قَضَاءُ يَوْمِ إِسْلامِهِ
جعله (الإِسْلامُ) شرط صحة مبني على خطاب الكفار، واستحب له أن يقضي (يَوْمِ إِسْلامِهِ)؛ لأنه لما أسلم في بعض النهار وخوطب بأحكام الإسلام، ولم يمكنه صيام ما بقي، لكون الصوم لا يتبعض، واستحب له القضاء ليحصل له ثواب ذلك اليوم، واختلف في إمساكه بقية ذلك اليوم، هل هو واجب أم لا؟ كما سيأتي.
وَشَرْطُ وُجُوبِهِ: الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالنَّقَاءُ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ جَمِيعَ النَّهَارِ
الظاهر أن (جَمِيعَ النَّهَارِ) راجع إلى الحيص والنفاس ويشاركهما في ذلك البلوغ ولا يعود على العقل؛ لأن الإغماء إذا كان في أقل النهار وأوله سالم لا أثر له. ويحتمل عوده على الجميع ويكون ما ذكره في العقل جارياً على بعض الأقوال كما سيأتي. ويبعد هذا الوجه كون المصنف لم يذكر في الصورة المذكورة خلافاً. والله أعلم.
وجعل النقاء من الحيض والنفاس شرطاً في الوجوب يلزم منه أن يكون القضاء بأمرٍ جديد وهو الصحيح، خلافاً لعبد الوهاب في قوله: إنه شرط صحةٍ وتحقيقها في الأصول. ابن راشد: وفي كلامه تجوز؛ لأن الحيض والنفاس مانعان، فكان ينبغي أن يقول: الوجوب يتوقف على وجود الشرط وهو البلوغ والعقل، وعلى انتفاء المانع وهو الحيض والنفاس؛ لأن تأثير الشرط في العدم وتأثير المانع في الوجود.
وَلا يُؤْمَرُ بِهِ الْمُطِيقُ عَلَى الْمَشْهُورِ بِخَلافِ الصَّلاةِ
الفرق للمشهور أن الصلاة تتكرر كثيراً وأحكامها كثيرة فأمر ليتمرن، وإلا لكانت تشق عليه عند بلوغه بخلاف الصوم فإنه إمساك فقط وليس هو إلا مرة واحدة في العام والشاذ الاستحباب، رواه أشهب في المجموعة.
واختاره ابن الماجشون وابن حبيب، ويؤمر بقضاء ما أفطر فيه، فإن عجز قضاه إذا قوي.
وَمَنْ بَلَغَ عَاقِلاً وَقَلَّتْ سِنُو إطباقه فَالْقَضَاءُ اتِّفَاقاً، بِخِلافِ الصَّلاةِ، وَإِلا فَثَالِثُهَا: إِنْ قَلَّتْ وَجَبَتْ، وَالْمَشْهُورُ: الْقَضَاءُ
…
لما تكلم على الشرط الأول وهو البلوغ تلكم هنا على الثاني وهو العقل، يعني: أن هذه المسالة على أربعة أقسام: الأول، أن يبلغ عاقلاً وتقل سنو إطباقه كالخمس فعليه القضاء اتفاقاً. وقاله اللخمي أيضاً. وقوله:(بِخِلافِ الصَّلاةِ) إشارة منه إلى أنه لا يعترض علينا في هذا الموضع بالصلاة فإن البابين مفترقان؛ ألا ترى أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ وذلك لمشقة التكرار في الصلاة.
القسم الثاني: أن يبلغ مجنوناً وتكثر سنو إطباقه، القسم الثالث: أن يبلغ عاقلاً وتكثر سنو إطباقه.
القسم الرابع: عكسه، وإلى هذه أشار بقوله:(وَإِلا فَثَالِثُهَا) يعني أن في هذه الأقسام الثلاثة، ثلاثة أقوال: القضاء، وهو المشهور، قياساً على محل الوفاق، والثاني السقوط، والثالث: إن قلت السنون وجب، وإن كثرت لم يجب.
وتبع المصنف في هذا المحل ابن بشير على أن ابن بشير لم يحك الخلاف إلا فيما إذا بلغ مطيقاً أو كثرت السنون لا فيما إذا بلغ مجنوناً [151/ أ] وكثرت، لكن يؤخذ مما حكاه اللخمي وغيره الخلاف فيه؛ لأنه حكى في القضاء ثلاثة أقوال: قول مالك وابن القاسم في المدونة عليه القضاء، بلغ صحيحاً أو مجنوناً، قلَّت السنون أو كثرت، وقيل: إن قلت كالخمسة ونحوها فالقضاء، وإن كثرت كالعشرة فلا قضاء؛ ذكره ابن حبيب عن مالك والمدنيين.
الثالث حكاه ابن الجلاب عن عبد الملك فيما يظنه إن بلغ مجنوناً فلا قضاء عليه، وإن بلغ عاقلاً ثم جُنَّ وجب عليه القضاء، وأسقط أبو حنيفة والشافعي- رضي الله عنهما القضاء عن المجنون وهو الظاهر. واحتجاج أهل المذهب بقوله- تعالى-:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 183] والمجنون مريض ليس بظاهر.
ابن عطاء الله: لأن قوله تعالى في أول الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 183] إنما توجه للعقلاء، ثم قال: والوجه عندي أن يقال: فهم من عادة الشرع أن من وجد في حقه سبب الوجوب وتأخر شرطه، أنه إذا وجد الشرط بعد ذلك وجب عليه القضاء، أصله الحائض.
وَلا أَثَرَ لِلنَّوْمِ اتِّفَاقاً
أي: في القضاء، ولو كان جميع النهار؛ لأنه ساتر للعقل غير مزيل له.
وَأَمَّا الإِغْمَاءُ فَإِنْ كَانَ كُلَّ النَّهَارِ فَكَالْجُنُونِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ بِمَرَضِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَقَلَّهِ وَأَوَّلِهِ سَالِمُ فَكَالنَّوْمِ، وَإِلا فَقَوْلانِ، وَفِي النِّصْفِ وَالْجُلِّ: قَوْلانِ.
يعني: أن الإغماء له صور: تارة يكون في جميع النهار، وتارة في أقله، وتارة في نصفه أو جله. فإن كان في جميع النهار فلا يصح صومه، وهو في هذه الصورة أشبه شيء بالمجنون.
وقوله: (وَقِيلَ: إِنْ كَانَ بِمَرَضِ) هو لابن الماجشون.
ابن يونس: وقال ابن الماجشون: الإغماء الذي يفسد به الصوم من يغمى عليه قبل الفجر ويفيق بعده، وإنما ذلك إذا تقدمه مرض أو كان بإثره متصلاً، فأما ما قل من الإغماء ولم يكن بمرض فكالنوم، فلو طلع عليه الفجر ثم تخلى عنه فإنه يجزيه صومه، وعلى هذا ففي كلامه نظر؛ لأن ابن الماجشون لا يشترط في إيجاب القضاء أن يكون كل النهار، كما يؤخذ من كلامه، وإنما يشترط أن يكون قبل الفجر ثم يدوم إلى بعد طلوعه، وقد نقل ابن يونس وغيره عن ابن الماجشون: أنه إذا أغمي عليه بعد الفجر وأفاق قبل الغروب أن صومه صحيح.
وقد نقل ابن عطاء الله الاتفاق على أنه إذا أغمي عليه جميع النهار أن ذكل كالجنون وإن كان في أقله، فإن كان في أوله، أي: عند طلوع الفجر سالماً فكالنوم، لا قضاء عليه.
وحكى ابن بشير وابن عطاء الله على ذلك الاتفاق، وفيه نظر، وقد حكى بن يونس عن ابن عبد الحكم أنه يقول: القليل من الإغماء والكثير سواء وعليه القضاء. وحكاه القاضي عبد الوهاب في الإشراف عن القاضي إسماعيل، والقاضي أبي الحسن، ورأى هؤلاء الإغماء كالحيض.
قوله: (وَإِلا) أي: وإن كان في أقله وأوله غير سالم فقولان: أشهرهما أن الصوم لا يصح لمقارنة الإغماء لوقت النية، وهو مذهب المدونة، زاد ابن حبيب: ولا يؤمر بالكف عن الأكل بقية نهاره. وفي سماع أشهب: الإجزاء نظراً إلى القلة.
قوله: (وَفِي النِّصْفِ وَالْجُلِّ: قَوْلانِ) أي: مع سلامة أوله، ومذهب المدونة الإجزاء في النصف وعدم الإجزاء في الجل. وقال ابن حبيب: إن أغمي عليه النصف لم يجزه، وقاله ابن القاسم في الواضحة، وقال ابن وهب: في الجل يجزيه. وهو الذي يؤخذ من كلام أشهب؛ فإنه قال في المدونة بعد قوله فيها بعدم الإجزاء: هذا استحسان ولو اجتزى به ما عنف.
واعلم أن المصنف كان يمكنه أن يكتفي بقوله: (وَإِلا فَقَوْلانِ) عن قوله: (وَفِي النِّصْفِ وَالْجُلِّ: قَوْلانِ) والله أعلم.
وَمَتَى انْقَطَعَ الْحَيْضُ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلا حُكْمَ لَهُ، وَقِيلَ: إِنْ أَمْكَنَ الْغُسْلُ قَبْلَهُ، وَقِيلَ: إِنْ اغْتَسَلَتْ ..
شرع- رحمه الله يتكلم على الشرط الثالث: يعني أن الحيض إذا انقطع قبل الفجر فلا حكم له في إسقاط الصوم ومنع صحته، سواء أمكن الغسل أم لا، اغتسلت أم لا، وقيل: إن اتسع الزمان للغسل قبل الفجر فالحكم كذلك، وإن لم يتسع فحكم الحيض باقٍ، ولا يصح صومها. نقله في الجلاب عن ابن الماجشون، ورواه ابن القاسم وأشهب عن مالك؛ وقيل: إن اغتسلت فحكم الحيض باقٍ سواء طهرت لزمانٍ يمكنها فيه الغسل أم لا، وهذا القول حكاه ابن شعبان، قال في الجلاب: وقال ابن مسلمة: تصوم وتقضي.
فَإِنْ شَكَّتْ صَامَتْ وَقَضَتْ
تصورها ظاهر، وهي في المدونة، وفيها نظر؛ لأنه ألزم الإمساك فيها بمجرد الشك، ولم يستصحب الأصل وهو الإباحة السابقة.
ابن رشد: وهو بخلاف الصلاة، فإنه لا يجب عليها أن تقضي ما شكت في وقته، هل كان الطهر فيه؟ وما قاله بين، فإن الحيض مانع من أداء الصلاة وقضائها وهو حاصل، وموجب القضاء وهو الطهر في الوقت مشكوك فيه، وأما في الصوم فإنما يمنع من الأداء خاصة، ولا يمنع من القضاء؛ فلهذا وجب عليها قضاء الصوم دون الصلاة.
واعلم أنهم اختلفوا في تأويل قول الإمام: صامت وقضت، فمنهم من قال: يؤخذ منه أن الحيض لا يقطع النية بخلاف [151/ ب] السفر، ومنهم من قال: هذه رواية بجواز الصوم بغير نية كقول ابن الماجشون.
الباجي: وليس في قول مالك ما يوجب هذا إلا أن لو قال: لا قضاء عليها، وأما إذا أوجبه فلا.
وَيُعْرَفُ رَمَضانُ بِأَمْرَيْنِ – أَحَدُهُمَا: الرُّؤْيَةُ إِمَّا بِالْخَبَرِ الْمُنْتَشِرِ، أَوْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى شَرْطِهَا بِرْجُلَيْنِ حُرَّيْنِ عَدْلَيْنِ كَالْْفِطْرِ، وَالْمَوَاسِمِ إِنْ كَانَ ثَمَّ مُعْتَنُونَ بِالشَّرِيعَةِ، وَإلّا كَفَى الْخَبَرُ ....
أى: يعرف دخول رمضان بأمرين: الأول، رؤية الهلال فى حق من رآه وغير الرائي يحصل له ذلك بأحد وجهين: الخبر المنتشر، وهو المستفيض المحصل للعلم أو الظن القريب منه. والشهادة على شرطها، أى فيعتبر فيها أن تكون من ذكرين حرين عدليين.
وقوله (حُرَّيْنِ عَدْلَيْنِ)، مع قوله (عَلَى شَرْطِهَا): زيادة إيضاح. وهذا هو المشهور.
وقال ابن مسلمة: شهادة رجل وامرأتين. وقال أشهب: شهادة رجل وامرأة فى المبسوط.
وفيهما بعد قوله: (كَالْفِطْرِ). أى كعيد الفطر، فإنه لابد فيه من التعدد، والمواسم: كعرفة وعاشوراء ونحوهما. وقوله: (إِنَّ كَانَ ثَمَّ معتنون بِالشَّرِيعَةِ). أى هذا الذى ذكرناه من الشهادة إنما يكون إذا كان هناك قاض وجماعة من المسلمين يعتنون بأحكام الشريعة ومواقيت العبادة، إذ لا يتأتى النظر فى الشهادة ومن يشهد بها إلا مع ذلك.
قوله: (وإلا) أى وإن لم يكن ثم معتنون بالشريعة، إما أنه لا إمام البتة، أو لهم إمام وهو يضيع أمر الهلال ولا يعتنى به، نقله الباجى وغيره عن عبد الملك، واعترض الشيخ أبو محمد قوله: ويحمل على ذلك من يقتدى به. وقال: كيف يحمل برؤية نفسه عليه غيره، ولو رآه الحاكم وحده لم يحمل الناس على الصيام. عبد الحق ويحتمل أن يكون قول عبد الملك، ويحمل عليه غيره. إنما هو راجع إلى ما ثبت عنده برؤية غيره لا برؤية نفسه.
ابن عطاء الله: وظاهر قول سحنون أنه لابد من الشهادة بشرطها، كان ثم حاكم أم لا، لأنه قيل له فى المجموعة: أرأيت إن أخبرك الرجل الفاضل بأنه رأى الهلال؟ قال: ولو كان عمر بن عبد العزيز ما صمت ولا أفطرت.
ومنشأ الخلاف، اختلاف الأصوليين في أنه هل يخصص العام ويقيد المطلق بالعرف أم لا؟ لأنه روى النسائي، وأبو داود:"إن شهد عدلان فصوموا وأفطروا". ففهموه إذا قلنا بالمفهوم أنه إذا لم يشهد عدلان، فلا صوم، فهل يبقى هذا المفهوم على الإطلاق؟ أو يقيد بما إذا كان حاكم معتنيا وهو الغالب؟
فرع: فإن شهد اثنان فاحتاج القاضى إلى الكشف عنهما وذلك يتأخر فقال ابن عبد الحكم: ليس على الناس صوم ذلك اليوم، فإن زكوا بعد ذلك أمر الناس بالقضاء، وإن كان فى الفطر فلا شئ عليهم فى الصيام.
وَإذَا نُقِلَ بِالانْتِشَارِ، أَوْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى شَرْطِها عَنْهُمَا مِنْ بَلَدٍ لِزَمَ سَائِرَ الْبِلادِ، وَقِيلَ إِلا عَنْ حاكِمٍ مَخْصُوصٍ فَلا يَلْزَمُ غَيْرَ الْمُوَلَّى عَلَيهُمْ ....
يعنى أن للنقل أربع صور:
استفاضة عن استفاضة، فيلزم من بلغهم الصوم والقضاء. وشهادة عن استفاضة فكذلك. واستفاضة عن شهادة، أو شهادة عن شهادة، والحكم فيها واحد إن كانت الشهادة المنقول عنها ثبتت عند حاكم عام وهو الخليفة، وكذلك إن ثبتت عند حاكم خاص فالمشهور كذلك، وقال عبد الملك: لا يلزم ذلك إلا من تحت ولايته، وهذه الأربع صور تؤخذ من كلامه لأن قوله:(عَنْهُمَا)، عائد على الانتشار والشهادة. أى: نقل بالشهادة أو الانتشار عن الشهادة والانتشار.
واعلم أن الاستثناء من قوله: (وَقِيلَ إِلا) متصل؛ لأن الشهادة المنقول عنها أعم من أن تكون عند حاكم أو عام أو خاص، وزعم ابن عبد السلام أنه منقطع وليس كذلك، ثم قال: وهذا الاختلاف إنما هو فيما ينقل عن الحاكم المخصوص. وأما ما ينقل عن الشهود أو الخبر المنتشر فلا تختص به جهة دون جهة.
فرع:
وإذا أخبر الإمام بثبوت الرؤية عنده لزمه الصوم، نص عليه فى المقدمات.
وَفِى النَّقْلِ بِالْخَبَرِ: قَوْلانِ
يعنى: أنه اختلف هل يكتفى بخبر الواحد عن الإمام وعن الخبر المنتشر؟ كذا نقل الباجى وابن رشد وابن زرقون.
ابن عبد السلام: وظاهر كلامه وعن الشاهدين، وليس كذلك فإن هذا الخلاف في النقل عن الإمام والخبر المنتشر لا عن الشاهدين. انتهى.
ولفظ الباجي: وإذا ثبتت رؤية الهلال عند الإمام وحكم بذلك وأمر بالصيام، ونقل ذلك إليك العدل أو نقله إليك عن بلد آخر فقد قال أحمد بن ميسر الإسكندراني: يلزمك الصوم من باب قبول خبر الواحد العدل لا من باب الشهادة.
قال الشيخ أبو محمد: وقول ابن ميسر صواب. كما ينقل الجل إلى أهله وابنته البكر مثل ذلك فيلزمهم تبييت الصيام بقوله. انتهى.
ابن هارون: طعن أبو عمران في صحة ما نقله الشيخ أبو محمد وفي تشبيهه فقال: إنما الرواية عن ابن ميسر إذا وجه القوم رجلا فأخبرهم أنهم رأوا الهلال لزمهم الصوم بقوله. قال: وهذا لا حجة فيه لأنهم لما بعثوه صار كالمستكشف لهم، قال: وليس هذا كنقل الرجل إلى أهله وولده؛ لأنه القائم عليهم.
ابن رشد وابن يونس: كلام [152/أ] أبى عمران لا معنى له، ولا فرق بين أن يخبرهم دون أن يبغثوه أو بعد أن يبعثوه.
قال فى المقدمات: وإنما يفترق ذلك عندى فيما يحكم به الإمام، فإن الإمام إذا بعث رجلا وجب عليه أن يأمر الناس بالصيام إذا أخبره بالثبوت عند حاكمهم أو بؤية مستفيضة، وإن
أخبره بذلك من غير إرسال وجب عليه هو الصيام في خاصة نفسه، ولم يصح له أنه يأمر الناس بذلك حتى يشهد عنده شاهد آخر؛ لأنه حكم فلا يكون إلا بشاهدين. انتهى مختصرا.
قيل: والمشهور خلاف ما قاله ابن ميسر، وأنه لا بد من شاهدين، وفى اللخمى: واختلف فى الصوم بشهادة الواحد. إذا أخبر عن رؤية نفسه، فمنع مالك أن يصام بشهادته لا على الوجوب ولا على الندب ولا الإباحة.
وقال أحمد بن ميسر: إذا أخبر عما ثبت في البلد أو أخبر عن بلد آخر أنه ؤي به صيم بقوله. وأجاز ابن الماجشون في البلد نفسه إذا أخبر عن رؤية نفسه أو رؤية غيره. انتهى.
وَيُقْبَلُ النَُقْلُ بِالْخَبَرِ إِلَى الأَهْلِ وَنَحْوِهِمْ عَنْهُمَا عَلَى الأَصَحِّ، وَخُرِّجَ قُبُولُ شَهَادَةِ الْوَاحِدِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ لِلْمَشَقَّةِ ....
الضمير في عنهما. ابن عبد السلام: يعود على الخبر المنتشر وعلى الإمام. انتهى.
ومقتضى كلام المصنف أن مقابل الأصح لا يكفى فى ذلك إلا شاهدان، وفيه بعد.
ابن راشد: ولم أقف عليه.
ويحتمل أن يكون (الأصح) عائدا على قومه: (ونحوهم) يريد بنحوهم من ليس تحت حكمه مثل من يقتدى به إذا كان الإمام يضيع أمر الهلال، وفيه قولان لعبد الملك وسحنون، وتقدما.
فإن قيل: ما الفرق بين الشاهدين هنا والمؤذن الواحد، فإنه اتفق على قبول قوله، وكل منهما عدل مخبر بدخول الوقت؟.
فجوابه: إن المؤذن مستند في إخبارره إلى أمر يطلع عليه غيره عادة ويشاركه فيه بل ويتقدم عليه، ولو أخطأ لكثر النكير عليه، بخلاف الهلال فإنه لا يعلم إلا بقوله، لا سيما مع توف دواعى الناس وحرصهم على رؤيته وبذلهم وسعهم، فهم كالمعارضين له. وما ذكره المصنف من التخريج والرد عليه ليس بالخفي.
ابن راشد: تنبيه: إذا حكم الحاكم بالصوم بشهادة شاهد لم يسع أحد مخالفته؛ لأن حكمه وافق محل الاجتهاد. انتهى.
ولم ينقل ابن عطاء الله في هذا الفرع شيئا بل تردد فيه، وقال سند: لو حكم الحاكم بالصوم بالواحد لم يخالف. قال: وفيه نظر؛ لأنه فتوى لا حكم، ونص القرافى فى فروقه في الفرق الرابع والعشرين والمائتين على أنه لا يلزم المالكى الصوم فى هذا قال: لأن ذلك فتوى وليس بحكم. قال: وكذلك إذا قال الحاكم ثبت عندى أن الدين يسقط الزكاة. وبنى ذلك على قاعدة وهي أن العبادات كلها لا يدخلها حكم بل الفتيا فقط، وليس للحاكم أن يحكم أن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة وإنما يدخل الحكم في مصالح الدنيا. والله أعلم.
فائدة: الشهادة يشترط فيها العدد والواية لا يشتط فيها ذلك مع أن الخبر يشملهما، والفرق أن الشهادة تتعلق بمعين فاشتط فيها العدد لقوة التهمة، بخلاف الرواية.
وَفِى قُبُولِ الشَّاهِدَيْنِ فِى الصَّحْوِ فِى الْمِصْرِ الْكَبِيرِ – ثَالِثُهَا: إِنْ نَظَرُوا إِلَى صَوْبٍ وَاحِدٍ رُدَّتْ ....
المشهور القبول، قاله ابن بشي وغيره. وقال سحنون: لا يقبلان للتهمة، والقول الثالث لم أر من صرح به، ولم يذكره ابن بشير، على أنه خلاف، بل قال بعد القولين: وهو خلاف فى حال إن نظر الكل إلى صوب واحد ردت. وإن انفردوا بالنظر إلى مواضع ثبتت شهادتهما؛ فلا ينبغى عده ثالثا.
وَإِذَا قُبِلا فَعُدَّ ثَلاثُونَ فَلَمْ يُرَ فِى الصَّحْوِ، فَفِيهَا: قَالَ مَالِكٌ هُمَا شَاهِدَا سُوءٍ
وإذا فعنا على المشهور فقبلا فعد الناس ثلاثين يوما ونظروا ليلة إحدى وثلاثين والسماء مصحية فلم ير فقال مالك فى المجموعة: هما شاهدا سوء.
اللخمى وغيره: يريد أنه قد تبين كذبهما؛ لأن الهلال لا يخفى مع كمال العدة قال مالك: وأى ريبة أكبر من هذه؟.
ابن عبد السلام: وعلى هذا يجب أن يقضى يوم إذا كانت شهادة الشاهدين على رؤية هلال شوال وعد الناس ثلاثين يوما ولم يوا هلال ذى القعدة، وكذلك يفسد الحج إذا شهدا بهلال ذى القعدة انتهى.
وقوله: (فَفِيهَا) عائد على المسألة، وفى بعض النسخ إسقاطها وكأنهم لم يوا المسألة في المدونة يستشكلونها فيسقطونها.
وَيَجِبُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ عَدْلاً أَوْ مَرْجُوّاً رَفْعُ رُؤْيَتِهِ، وَفِى غَيْرِهِمَا قَوْلانِ
أما الوجوب في حق العدل أو مرجو العدالة فواضح لرجاء انضمام آخر فتكمل الشهادة، وهل يجب على غيرهما؟ وهو قول ابن عبد الحكم رجاء أن يقتدى به غيره، ولعل ذلك يكثر فيؤدى إلى الانتشار أولا؟ وهو قول عبد الوهاب؛ للأنه يضع من نفسه بغير فائدة، ونقل اللخمى عن أشهب في غير العدل إن لم يكن حاله منكشفا وأشبه أن تقبل شهادته كان عليه أن يرفع، وإن كان منكشفا فأحب له ذلك، وليس بواجب عليه، وهذا قول ثالث بالاستحباب.
وَيَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ الإِمْسَاكُ
أى: الثلاثة [152/ب] المتقدمة، العدل والمرجو وغيرهما لحصول سبب الوجوب وهو الرؤية.
وَمِنْ أَفْطَرَ فَالْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَفِى الْمُتَأَوِّلِ قَوْلانِ
يعنى: أن من أفطر من هذه الثلاثة منتهكا يجب عليه القضاء والكفارة اتفاقا، وإن تأول فقولان: المشهور وجوب الكفارة. وقال أشهب في المدونة والمجموعة: لا كفارة عليه، وهما خلاف في حال هل هو تأويل قريب أو بعيد.
وجعل المصنف وغيره قول أشهب خلافا، وإلى هذا ذهب ابن يونس، وذكر ذلك عند الكلام على التأويل المسقط للكفارة. ونقل أبو الحسن عن الشيوخ أنهم جعلوا قوله تقييدا.
فرع:
فإن صام هذا الرائى وحده ثلاثين ثم لم ير أحد الهلال والسماء مصحية؛ فقال محمد ابن عبد الحكم وابن المواز: هذا محال ويدل على أنه غلط. وقال بعضهم: أى ينبغى أن يعمل فى ذلك على اعتقاده الأول ويكتم أمره.
وَلا يُفْطِرُ فى هِلالِ شَوَّالٍ ظَاهِراً وَلا خُفْيَةً، وَإِنْ أَمِنَ الظُّهُورَ عَلَى الأَصَحِّ
أى: من انفرد بؤية هلال شوال ولم يكن له عذر يستتر به فى الفطر فلا يفطر ظاهرا؛ لأنه يعض نفسه للأذى مع إمكان تحصيل غرض الشرع بالفطر بالنية. وهل يجوز له الفطر خفية إذا أمن الظهور؟ قولان، أصحهما المنع؛ لأنه قد يتطرق اليه، وغرض الشرع حاصل بالنية. وهذا الأصح منصوص لمالك فى العتبية قال فى البيان: ومثله فى الموطأ والمدونة وغيرهما من الدواوين، وكذلك إن رأى هلال ذى الحجة وحده يجب عليه أن يقف وحده دون الناس ويجزيه ذلك من حجه. قال بعض المتأخين: وهو صحيح. انتهى.
ولعل بعض المتأخرين المشار إليه هو أبو عمران، لكنه زاد: ثم يعيد الوقوف مع الناس. قيل له: فإن خاف من الانفراد قال: هذا لا يكاد ينزل ولم يقل شيئا.
عبد الحق: ويحتمل أن يقال: يكون كالمحصر بعدو ويحل ثم ينشئ الحج من مكة مع الناس، ويحج معهم على رؤيتهم استحسانا واحتياطا، وإن أمكنه أن يأكل عند طلوع الفجر أو عند الغروب فحسن؛ لأنه إن ظهر عليه حينئذ لم ينسب إليه إلا الغلط.
ومقابل الأصح لم أره منصوصاً، وخرجه اللخمى من مسألة الزوجين يشهد عليهما شاهدان بطلاق الثلاث، والزوجان يعلمان أنهما شهدا بزور فقد قيل: لا بأس أن يصيبهما خفية، والأكل مثله من باب أولى؛ لأن ما يكون من الواحد وهو الأكل، أخف مما يكون من اثنين وهو الجماع لأن التخفى فى الأكل أكثر من الجماع.
فرع:
فإن ظهر على من يأكل وقال: رأيت الهلال؛ فقال أشهب: يعاقب إن كان غير مأمون، إلا أن يكون ذكر ذلك قبل وأذاعه، وإن كان مأمونا لم يعاقب وقدم إليه ألا يعود، فإن فعل عوقب، إلا أن يكون من أهل الدين أو الرضى، نقله اللخمى.
فَإِنْ كَانَ عُذْرٌ يُخْفِيهِ كَالسَّفَرِ وَنَحْوِهِ أَفْطَرَ
كان تامة، ونحو السفر المرض والحيض. أى فإن حصل لهذا المنفرد بالرؤية عذر يبيح الفطر في رمضان متعمدا أفطر، وهو ظاهر.
وَمَتَى رُؤِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَلِلْقَابِلَةِ عَلَى الأَصَحِّ
يعني: إن رؤي الهلال بعد الزوال فالاتفاق على أنه للقابلة، قاله ابن عبد السلام، وإن رؤي قبله فالأصح أنه للقابلة أيضا. قاله مالك في كتاب ابن حبيب وشرح ابن مزين؛ فيستمر الناس على ما ابتدأوه من صيام في رمضان أو فطر في شعبان. وقال ابن وهب وعيسى بن دينار وابن حبيب: هو للماضية. وقيل: أما فى الصوم فللماضية، وأما فى الفطر فللقابلة، حكاه ابن غلاب. وظاهره أنه فى المذهب، وإنما حكاه ابن زرقزن عن بعض أهل الظاهر.
وَإِذَا انْفَرَدَ عَدْلٌ فِي أَوَّلِهِ، وَعَدْلٌ بَعْدَ ثَلاثِينَ، فَفِي تَلْفيقِهِمَا قَوْلانِ بِخِلافِ مَا قَبْلَهُ
أي: إذا شهد واحد برؤية هلال رمضان ثم آخر بهلال شوال، وبينهما ثلاثون يوما فهل تلفق الشهادة ويفطر الناس أم لا؟ قولان.
بخلاف ما لو كان بين الرؤيتين تسعة وعشرين يوما فلا تلفق شهادتهما وإليه إشار بقوله: (بِخِلافِ مَا قَبْلَهُ). كذا قال ابن عبد السلام ونحوه لابن بشير.
وأصل هذه المسألة ليحيى بن عمر قال في المجموعة: وإذا شهد شاهد على هلال رمضان وآخر على هلال شوال لم يفطر بشهادتهما.
الباجى: زمعناه عندى أن الشاهد الثانى رآه بعد ثلاثين يوما من رؤية الأول؛ لأن شهادة الثانى لا تصحح شهادة الأول؛ لأنه يحتمل ألا يكون الأول رأى شيئا ورأى الثانى هلال شوال لتسعة وعشرين خلت من رمضان. وأما إن رأى الثاني بعد تسعة وعشرين يوما من رؤية الأول فإنه يجب أن يفطر بشهادتهما؛ لأن شهادة الثانى تصحح شهادة الأول على كل حال؛ لأنه محال أن يصدق الثاني ولا يصدق الأول. انتهى بالمعنى.
ابن زرقون: قوله: يجب أن يفطر بشهادتهما وهم؛ لأن الأول لا يصحح شهادة الثاني إذا رآه بعد تسعة وعشرين من رؤية الأول، وإنما يصحح الثاني شهادة الأول، والصواب أن يقال: يقضى اليوم الذى شهد به الأول لأنهما اتفقا إنه من رمضان وإذا رآه الثاني بعد ثلاثين من رؤية الأول وجب أن يفطر لاتفاقهما أن ذلك اليوم من غير رمضان، ولم يجب قضاء اليوم الذى شهد به الأول لأنهما لم يجتمعا عليه فتأمله. والصواب قول يحيى بن عمر: لا تلفق الشهادتان بحال. انتهى.
وذكر [153/أ] في المقدمات بعد أن ذكر قول يخيى بن عمر: وقال غيره من أهل العلم: يجوز، ومعنى ذلك إذا شهد الشاهد على هلال رمضان أنه رآه بعد ثلاثين يوما من رؤية الشاهد على هلال شعبان، إذ ليس في شهادة الشاهد الثانى تصديق للأول، وأما لو رآه الشاهد الثانى بعد تسعة وعشرين يوما من رؤية الأول لوجب أن تجوز شهادتهما؛ لأن الشاهد الثانى يصدق الشاهد الأول، إذ لا يصح أن يصدق الشاهد الثانى إلا والأول صادق فى شهادته يريد بصيام التمام من شهادته، قال: وهو معنى خفي.
ابن رشد: وليس هو عندي بين المعنى؛ لأنه كما يصدق هنا الشاهد الثانى الشاهد الأول من أجل أنه لا يرى الهلال ليلة التسعة وعشرين فكذلك يصدق في المسألة الأولى الشاهد الأول الشاهد الثانى من أجل أنه لابد أن يرى ليلة إحدى وثلاثين.
فالصحيح عندى لا فرق بين المسألتين وأنهما جميعا يتخرجان على قولين، وقد اختلف إذا اتفق الشاهدان على ما يوجبه الحكم، واختلفا فيما شهدا به، والمشهور أن شهادتهما لا تجوز. انتهى.
خليل: وكذلك أشار غيره إلى أن هذه المسألة تتخرج على الخلاف فى تلفيق الشهادة فى الأفعال، والمشهور كما ذكر عدم التلفيق، والظاهر أنهما لا تجري عليهما بل هذه أولى بالقبول؛ لأن كلا من الشاهدين يصدق الآخر هنا فى مجموع شهادته، ولا كذلك في مسألة تلفيق الشهادة؛ لأن صورتها أن يقول شاهد مثلا: رأيته قال لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت. ويقول الآخر: رأيته قال إن كلمت زيدا فأنت طالق، فكلمته، فأنت ترى أن شهادة كل واحد لا تستلزم صدق ما شهد به الآخر بخلاف المسألة المتقدمة.
ورد اللخمي المسألة إلى تلفيق الشهادة فى الأقوال لأنه قال: إن شهد واحد أنه رأى هلال رمضان ليلة الأحد وشهد الآخر أنه رآه ليلة الاثنين لم يلفق لأنهما يجتمعان أن يوم الاثنين يوم فطر لاحتمال أن يكون الشهر كاملا على رؤية الأول. وإن شهد الثانى أنه رآه ليلة الثلاثاء وهو صحو لم يفطر بشهادتهما. وإن كان غيم ضمت الشهادتين على أحد القولين فى ضم الأقوال لاتفاق الشهادتين أنه يوم فطر. انتهى.
الثَّانِى: إِتْمَامُ ثَلاثِينَ، وَلَوْ غُمَّ شُهُوراً مُتَعَدِّدَةً، وَلا يُلْتَفَتُ إِلَى حِسَابِ الْمُنَجِّمِينَ اِتِّفَاقاً، وَإِنْ رَكَنَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْبَغْدادِيِّينَ ....
أي: الأمر الثاني من الأمرين اللذين يعرف بهما هلال رمضان إتمام ثلاثين يوما ولو غم شهورا متعددة لما فى الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم. فاقدروا له" وتقديره لتمام الشهر الذى أنت فيه ثلاثين. وكذلك وقع مصرحا به فى بعض الروايات
رواها مالك والبخاري ومسلم، ولا يعتمد على قول المنجمين أن الشهر ناقص، وروى ابن نافع عن مالك في الإمام الذي يعتمد على الحساب أنه لا يقتدي به ولا يتبع.
عياض: ومعنى قوله: "غم عليكم"، ستر عليكم، من قولهم: غممت الشيء إذا سترته، ويكون من تغطية الغمام إياه وليس من الغم. وقال ابن أبي زمنين: معنى "غُم" التبس العدد من قبل الغم أو من قبل الشك في الرؤية، وليس هو من الغيم وإلا لقال: غيم.
وقوله: (وَإِنْ رَكَنَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْبَغْدادِيِّينَ) إشارة إلى ما روي عن ابن شريح وغيره من الشافعية. وهو مذهب مطرف بن عبد الله بن الشِّخِّير من كبار التابعين.
ابن بَزِيزةَ: وهي رواية شاذة في المذهب. رواها بعض البغداديين عن مالك. ويحمل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "فاقدروا له" من التقدير بالحساب والتنجيم. وهذه تنقض الاتفاق، ونقل بعضهم مثلها عن الداودي.
وَإِذَا كَانَ غَيْمٌ، وَلَمْ تَثْبُتِ الرُّؤْيَةُ فَذَلِكَ يَوْمُ الشَّكِّ فَيَنْبَغِي الإِمْسَاكُ حَتَّى يُسْتَبْرَأَ بِمَنْ يَاتِي مِنَ السُّفَّارِ وَغَيْرَهِمْ
…
أي: أن يوم الشك الذي جاء النهي عن صيامه هو أن تكون السماء مغيمة ليلة ثلاثين ولم تثبت الرؤية، فصبيحة تلك الليلة هو يوم الشك. وفي كلامه تجوّز؛ لأن الإشارة بقوله:(فَذَلِكَ). لا تعود على شيء من كلامه.
فَإِنْ ثَبَتَتِ الرُّؤْيَةُ وَجَبَ الإِمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ، وَلَوْ كَانَ أَفْطَرَ أَوْ عَزَمَ
وجب الإمساك لثبوت رمضان والقضاء لعدم ثبوت النية الجازمة.
وقوله: (لَوْ كَانَ أَفْطَرَ) راجع إلى الإمساك، وقوله:(أَوْ عَزَمَ) راجع إلى وجوب القضاء.
فَلَوْ ثَبَتَتْ ثُمَّ أَفْطَرَ مُتَأَوِّلاً بِهِ كَفَّارَةٌ بِخِلافِ غَيْرَهِ عَلَى الْمَشْهُورِ
يعني: إذا وجب الإمساك بعد الثبوت، فمن أفطر بعد ذلك فإن تأول أن هذا اليوم لما لم يجزه يجوز له فطره فلا كفارة عليه، وإن لم يتأول وهو مراده بقوله:(بِخِلافِ غَيْرَهِ)،
فالمشهور وجوب الكفارة والشاذ سقوطها كالمتأول بناء على أن الكفارة معللة بانتهاك [153/ ب] حرمة الشهر، وقد حصل، أو بانتهاك إفساد صيام رمضان.
وَأَمَّا الْحَائِضُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالْمُسَافِرُ تَزُولُ مَوَانِعُهُمْ فَلا يَجِبُ الإِتْمَامُ لأَنَّهُ أُبِيحَ مَعَ الْعَلْمِ أَوَّلاً
…
حاصله أن كل من أبيح له الفطر مع العلم بأن ذلك اليوم من رمضان، ثم زال عذره في أثناء ذلك اليوم، جاز له التمادي على الفطر، وقوله:(فَلا يَجِبُ). لا ينفي الاستحباب. وقد صرح ابن عطاء الله وابن عبد السلام بنفيه.
وإطلاق المصنف المانع على الحيض والجنون صحيح. وعلى الصبا والسفر فيه مسامحة. واحترز بقوله: (أُبِيحَ أولاً) من طُرُوِّ العلم يوم الشك. وحكى اللخمي عن ابن حبيب في المغمي عليه مثل ما قاله المصنف من جواز تماديه على الفطر، قال: والذي يقتضيه المذهب لزوم الإمساك؛ لأنه صوم مختلف فيه هل يجزئ أم لا؟
وَلِذَلِكَ جَازَ وَطْءُ الْمُسَافِرِ يَقْدَمُ امْرَأَتَهُ تَطْهُرُ
أي: ولأجل الضابط المذكور جاز للمسافر إذا قدم ووجد امرأته طهرت في يوم قدومه أن يطأها.
واختلف إذا كانت نصرانية، فظاهر المذهب الجواز؛ لأنها ليست بصائمة. وقال ابن شعبان: لا يجوز وإن وجدها بإثر الطهر، لأنها متعدية بترك الإسلام. وقال بعض أصحابنا: يجوز أن يطأها إذا كانت كما طهرت، كما لو كانت مسلمة، ولا يطأها إذا كانت طاهرة قبل قدومه، واستشكل قول ابن شعبان أنه لا يجوز وطؤها وإن وجدها بإثر الطهر، لأنها لو أسلمت يومئذٍ لجاز له وطؤها، فلا أثر لكفرها، وكأن ابن شعبان، لاحظ كون فطرها للكفر لا للحيض فمنعه أن يعينها عليه، ووقع في بعض النسخ (وامرأته) بزيادة الواو ولا حاجة إليها.
وَفِي الْكَافِرِ يُسْلِمُ قَوْلانِ
أي: اختلف في الكافر إذا أسلم في أثناء نهار رمضان هل يجب عليه الإمساك أو يستحب؟ عياض: والاستحباب لمالكٍ في المدونة. وهو قول ابن القاسم وأشهب وعبد الملك وابن حبيب وابن خويز منداد لأنه لما غفر الله له ما تقدم ساوى المجنون يفيق.
الباجي: ومن قال من أصحابنا بخطاب الكفار، وهو مقتضى قول مالك وأكثر أصحابه أوجب عليه الإمساك.
وعلى هذا فيكون ظاهر المذهب وجوب الإمساك، لكن قال عياض: وهو تخريج بعيد، ولو كان كذلك لما اختص باليوم الذي أسلم فيه مما قبله، ولا فرق بينه وبين ما سبقه لفوات صومه شرعاً كاليوم السابق، ولو كان على ما قال لكان القضاء والإمساك واجبين على القول بخطابهم. ولم يقل بوجوب ذلك أحد من شيوخنا، وإنما استحب الإمساك لتظهر عليه صفات المسلمين في ذلك اليوم. انتهى.
ونقل اللخمي عن أشهب في المجموعة أنه قال: لا يمسك بقية اليوم. قال: وعلى قوله لا يقضيه وهو أحسن لجب الإسلام.
عياض: وتخريج اللخمي ترك القضاء على القول بترك الإمساك واستحبابه على استحباب الإمساك، فيه نظر؛ لإإنه لا يطرد، إذ الحائض ممنوعة من الإمساك والقضاء واجب عليها، والناسي في الفرض مأمور بالإمساك وعليه القضاء، والمغمى والمحتلم لا يمسكان ولا يقضيان، والناسي لصومه يفطر في التطوع، مأمور بالإمساك ولا قضاء. فلا ملازمة بينهما.
وفِيمَنْ أَفْطَرَ بِعَطَشٍ ونَحْوِهِ فَأَزَالَهُ: قَوْلانِ كَمُضْطَرِّ الْمَيْتَةِ
يعني: أنه اختلف فيمن أدركته ضرورة فأزالها إما بشرب في العطش أو بأكل في الجوع هل له أن يستديم الأكل بقية النهار اختياراً ولو بالجماع؟ أجاز ذلك سحنون. وقال
ابن حبيب: يزيل ضرورته فقط، قال: وإن أكل بعد ذلك جهلاً أو تأويلاً أو تعمداً فلا كفارة، لأنه شبيه بالمريض.
اللخمي: والأول أقيس، وفي أسئلة ابن رشد، لما سئل عن الرجل يصيبه العطش الشديد في رمضان فيفطر ويأكل بقية يومه ويجامع أهله: اختلف في هذا والصحيح أن عليه القضاء والكفارة إلا أن يفعل ذلك متأولاً، وقال عبد الملك: إن بدأ بالجماع كفّر وإن بدأ بالأكل لم يكفّر. وقوله: (كَمُضْطَر الْمَيْتَةِ). أي إن قلنا: يشبع ويتزود، وهو المشهور، جاز له التمادي. وعلى قول ابن حبيب إنما يأكل قدر سد رمقه يزيل به ضرورته.
وَيُصَامُ نَذْراً أَوْ قَضَاءً أَوْ بعَادَةٍ
أي: يصام يوم الشك (نذراً) أي ينذر يوماً فيوافقه أو أياماً فيوافق أن يكون يوم الشك بعضها، إلا أن ينذره من حيث أنه يوم الشك فإن ذلك لا يلزم لأنه نذر معصية.
(أَوْ قَضَاءً) كمن عليه يوم من رمضان فيقضيه في يوم الشك (أَوْ بعَادَةٍ) كمن يسرد الصوم، أو يوافق يوماً جرت عادته أن يصومه كيوم الاثنين والخميس. وفي كلامه مناقشة؛ لأن قوله:(يُصَامُ نَذْراً) يوهم أن الفروع المتقدمة مختصة بيوم الشك؛ وليس كذلك بل هي عامة فيه وفي غيره.
وَفِي صَوْمِهِ تَطَوُّعاً الْجَوَازُ وَالْكَرَاهَةُ
المشهور: الجواز، وقصر النهي على من صامه للاحتياط. [154/ أ] قال في الموطأ: وعلى ذلك أهل العلم ببلدنا. والكراهة لمحمد بن مسلمة، هكذا نقل عنه ابن عطاء الله، ونقل اللخمي عنه أنه قال: إن شاء صامه وإن شاء أفطره. فلعل له قولين، ووجه الكراهة مخافة موافقة أهل البدع.
وَالْمَنْصُوصُ النَّهْيُ عَنْ صِيَامِهِ احْتِيَاطًا، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ
أي: المنقول في المذهب النهي عن صيامه احتياطاً لما صححه الترمذي من حديث عمار ابن ياسر: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم" ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. ولم يبين المصنف هل النهي فيه على الكراهة أو التحريم؛ وظاهر الحديث التحريم، وهو ظاهر ما نسبه اللخمي لمالك؛ لأنه قال: ومنعه مالك. وفي المدونة: ولا ينبغي صيام يوم الشك. وحملها أبو الحسن على المنع.
الجلاب: ويكره صوم يوم الشك. وقال ابن عطاء الله: الكافة مُجْمِعون على كراهة صومه احتياطاً.
وَخَرَّجَ اللخميُّ وُجُوبَهُ مِنْ وُجُوبِ الإِمْسَاكِ عَلَى مِنْ شَكَّ فِي الْفَجْرِ، وَمِنَ الْحائِضِ تَتَجَاوَزُ عَادَتَهَا ....
هذا مقابل المنصوص: أي خرّج اللخمي وجوب صوم يوم الشك من مسألتين: الأولى: إذا شك في الفجر؛ فقيل: يجب عليه الإمساك، وقيل: يستحب. قال اللخمي: فيؤمر بالإمساك هنا على طريق الوجوب والاستحباب قياساً على الشك في الفجر، والجمع أن كل واحد من الزمانين مشكوك فيه، هل هو جزء الواجب؟ الثنية: الحائض يتجاوز دمها عادتها ولم تبلغ خمسة عشر يوماً. فخرج اللخمي على القول بأنها تحتاط بالصيام وتقضي أن يكون الحكم في يوم الشك كذلك، والجامع الشك في دخول الوقت في المحلين.
وَهُوَ غَلَطٌ لِثُبُوتِ النَّهْي
أي: أن التخريج المذكور غلط؛ لأن الجامع المذكور في الصورتين إن لم يكن صحيحاً فلا تخريج وإن كان صحيحاً منع من إجزاء الوجوب لثبوت النهي وهو حديث عمار بن ياسر ويكون حينئذٍ قياساً فاسد الاعتبار.
وانظر كيف جزم بالغلط وهو من باب تعارض القياس وخبر الواحد، وقد اختلف أهل الأصول في أيهما يقدم؟
وَلَوْ صَامَهُ احْتِيَاطاً ثُمَّ ثَبَتَ لَمْ يُجْزِهِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ وَقَالَ أَشْهَبُ: كَمَنْ صَلَّى شَاكًّا فِي الْوَقْتِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ الْوَقْتُ ....
أي: من صام يوم الشك احتياطاً ثم تبين أنه من رمضان لم يجزه لعدم النية الجازمة، وما نقله المصنف من العمل هو في الموطأ وتشبيه أشهب ظاهر.
وَرَدَّهُ اللَّخْمِيُّ بِأَنَّ الصَّوْمَ بِالشَّكِّ مَامُورٌ بِهِ بِخِلافِ شَكِّ الْوَقْتِ
أي: ورد اللخمي تشبيه أشهب، قال في التبصرة بعد تشبيه أشهب: وليس السؤالان سواء؛ لأن من شك في وقت الظهر مأمور أن يؤخر حتى لا يشك. ولا يقال له: احتط بتعجيل الصلاة في وقت يشك فيه، ومن شكّ في الفجر أو الهلال مأمور أن يعجل الإمساك.
وَقَالَ: هِيَ مِثْلُ مِنْ تَطَهَّرِ أَوْ تَوَضَّأَ شَاكًّا ثُمَّ تَبَيّّنَ لَهُ الْوُجُوبُ، وَفِيهَا قَوْلانِ
يعني: أن اللخمي لما رد على أشهب تشبيهه شبّه المسألة بمسألة أخرى مختلف فيها.
قال بإثر الكلام السابق: وهو بمنزلة من شك في صلاة هل هي عليه أم لا؟ وشك هل أجنب أم لا؛ فاغتسل ثم تبين له أنه كان جنباً. انتهى.
وَالصَّوَابُ مَعَ أَشْهَبَ
إنما كان الصواب مع أشهب؛ لأن كلام اللخمي يستلزم أن يكون في الصيام قولاً بالإجزاء، وهو لا يجوز؛ لأن المنهي عنه لا يجزئ عن المأمور به، وكونه منهياً عنه ظاهر، لحديث عمار المتقدم، لكن هذا إنما يتم في يوم الشك لا في الشك في الفجر؛ فانظره.
على أن اللخمي لم يصرح بيوم الشك في كلامه، ويمكن حمل قوله: ومن شك في الفجر أو الهلال على هلال شوال. نعم فهم ابن بشير عنه أنه أراد يوم الشك.
وَأَمَّا الأَسِيرُ وَنَحْوُهُ لا يُمْكِنُهُ رُؤْيَةٌ وَلا غَيْرُهَا فَيُكْمِلُ ثَلاثِينِ
أي: أن الأسير ونحوه من محبوس وتاجر ببلد العدو، إن لم تمكنه رؤية ولا غيرها أي استخبار من ثقة كمل الشهور ثلاثين؛ أما إن أمكنه ذلك فحكمه حكم المطلق، فيعمل على ما تقدم، وهذا كله لا خلاف فيه، قاله ابن عبد السلام.
فَإِنِ الْتَبَسَتِ الشُّهُورُ بَنَى عَلَى الظَّنِّ
هذا ظاهر؛ لأنا متعبدون في المشتبهات بما يغلب على الظن، وناقش ابن هارون المصنف بأنه إذا وجب البناء على الظن فلا التباس، وإنما اللبس مع الشك.
فَإِنْ فُقِدَ الظَّنُّ فَقَوْلانِ؛ كَمَنِ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ أَوْ نَسِيَ يَوْمَ نَذْرِهِ صَامَ جَمِيعَ الشُّهُورِ، ويتَحَرَّى شَهْرًا .....
أي: فإن لم يجد أمارة تحصل له الظن فقولان، كالقولين فيمن التبست عليه القبلة. هل يصلي إلى أربع جهات أو يتحرى جهة؟ وكالقولين فيمن نذر يوماً معيناً من الجمعة ثم نسيه، هل يصوم جميع أيام الجمع أو يتحري؟ وظاهر كلامه أن القولين منصوصان؛ والذي ذكره ابن بشير: أن المتأخرين خرجوهما من هاتين المسألتين. وعلى ما ذكره ابن بشير، فالفرق ظاهر، لأن صيام جميع الشهور فيه مشقة [154/ب] عظيمة، بل يكاد يكون من باب تكليف ما لا يطاق، بخلاف المسألتين الأخيرتين، فقوله:(صَامَ جَمِيعَ الشُّهُورِ)، هو القول الأ، ل. وقوله:(ويتَحَرَّى) هو القول الثاني، وفيه مناقشة، لأن فرض المسألة أنه فاقد للظن، فكيف يتحرى؟ وإنما مراده يتخير، وأطلق رحمه الله التحري على التخيير لعدم اللبس.
فَإِنْ تَحَرَّى فَأَخْطَأَ بِمَا بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ أَخْطَأَ بِمَا قَبْلَهُ لَمْ يُجِزْهِ الأَوَّلُ اتِّفَاقاً، وَفِي وُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثُ قَضَاءً عَنِ الأَوَّلِ وَالثَّانِي قَوْلَانِ
…
أي: وإذا قلنا يتحرى شهراً فاجتهد وصام شهراً، إما مع الظن وإما مع الشك على أحد القولين ثم انكشف له الحال، فلا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يعلم أنه صادفه؛ قال في البيان: وأما إن علم أنه صادفه بتحريه لم يجزئه على مذهب أشهب وابن القاسم، وأما إن بقي على شكه فلا يجزئه على مذهب ابن القاسم، ويجزئه على مذهب ابن الماجشون وسحنون وأما إن أخطأ بما بعده فقال المصنف أجزأه. قال في البيان: بالاتفاق.
وانظر كيف اتفقوا على الإجزاء إذا صادف شهراً بعده، مع قول ابن رشد: إن على مذهب ابن القاسم لا يجزئه إذا صادفه، وينبغي أن يكون عدم الإجزاء إذا صادف ما بعده أولى.
وقد نقل الشيخ أبو محمد في النادر عن ابن القاسم الإجزاء إذا صادفه، وكذلك صدر صاحب الإشراف به ثم قال: وفيه خلاف.
وأما إن علم أنه صام قبله كما لو صام شعبان فلا يجزئه في العام الأول اتفاقاً. ونقل في البيان الاتفاق كالمصنف، وعلى هذا فيقضي شهراً للعام الأخير اتفاقاً.
واختلف هل يقع شعبان في السنة قضاء عن السنة الأولى؟ وشعبان الثالثة قضاء عن السنة الثانية؟ حكى المصنف وغيره في ذلك قولين، والإجزاء لعبد الملك؛ قال في البيان: والصحيح عدم الإجزاء.
ابن راشد: وهو المشهور. ابن أبي زمنين: وهو الصواب عند أهل النظر.
فرع:
وإن قلنا بالإجزاء إذا وافق شهراً بعده، فالمعتبر عدد رمضان على المشهور كما سيأتي. وعلى هذا فإن وافق شوالاً لم يعتد بيوم العيد ثم إن كانا كاملين أو ناقصين قضى يوماً
واحداً وهو يوم العيد. وإن كان رمضان ناقصاً وشوال كاملاً لم يقض. وإن كان العكس قضى يومين. وكذلك إن صادف ذي الحجة لم يعتد بيوم النحر ولا بأيام التشريق ثم ينظر إلى ما بقي.
تنبيه:
قال الباجي: وهل تجزئ نية الأداء عن نية القضاء؟، يتخرج في ذلك وجهان على اختلاف أصحابنا في الأسير، إذا التبست عليه الشهور فصام شعبان أعواماً يعتقد أنه رمضان فذكر القولين. فهل يجزيه شعبان السنة الثانية عن رمضان السنة الأولى؟ وفهم عنه سند وابن عطاء الله، أنه قصد تخريج هذين القولين في الصلاة، واعترضا عليه، بأن قالا: لا نعرف في إجزاء نية الأداء عن نية القضاء خلافاً، فإن استيقظ، ولم يعلم بطلوع الشمس فصلى معتقداً أن الوقت باق صحت صلاته، وإن كانت بعد طلوع الشمس وفاقاً.
خليل: وفي كل منهما نظر. لأنه لا يلزم من الاتفاق في الصلاة نفي التخريج فيها، ولو كان الخلاف في الصلاة لم يحتج إلى التخريج، ثم قال الباجي: وأما إجزاء نية القضاء عن نية الأداء، فيتخرج في ذلك أيضاً وجهان على اختلاف أصحابنا فيمن صام رمضان قضاء عن رمضان.
خليل: وإنما يظهر التخريج على القول بالإجزاء، وأما القول بعدم الإجزاء فلا، لاحتمال أن يكون السبب في عدم إجزاء رمضان عن رمضان كون رمضان آخر لا يقبل غيره. والله أعلم.
وَشَرْطُ الصَّوْمِ كُلَّهِ النِّيْةُ مِنَ اللِّيْلِ
أي: فرضه، ونفله، مُعَيَّنه ومطلقه، لما رواه البخاري ومسلم من قوله عليه الصلاة والسلام:"إنما الأعمال بالنيات". ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يبيت
الصيام من الليل" رواه النسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجة؛ ولا يقال: ليس بعمل، فلا يتناوله الأول، لقوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه عز وجل: "كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به". وقول الطحاوي: إن الاستثناء في قوله عليه الصلاة والسلام: "إلا الصوم" منقطع، بعيد.
وَلا يُشْتَرَطُ مُقَارَنُتَهَا لِلْفَجْرِ لِلْمَشَقَّةِ
هذا ظاهر، ونص القاضي أبو محمد: على أنه يصح أن تكون مقارنتها للفجر، وهو الذي يؤخذ من كلام المصنف، لأنه إنما نفى ذلك للمشقة، فدل على أن اقترانها بالفجر هو الأصل. وفي البيان: يصح إيقاعها في جميع الليل إلى الفجر. وقيل إيقاعها مع الفجر لا يصح. والأول أصح لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} [البقرة: 187].
وَالْمَشْهُورُ الاكْتِفَاءُ بِهَا فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ رَمَضَانَ لِجَمِيعِهِ
المشهور كما ذكر المؤلف، وبه قال أحمد بن حنبل. وجماعة. قال في البيان: وحكى ابن عبد البر عن مالك وجوب التبييت كل ليلة وهو شذوذ في المذهب. انتهى.
وظاهره أن هذا القول منصوص وذكر [155/ أ] جماعة أن ابن عبد الحكم إنما تأوله من عموم قول مالك: لا صيام لمن لم يبيت الصيام. ولكن إن كان هذا هو النقل الصحيح ففي تأويل ابن عبد الحكم نظر؛ لأن قول مالك يكون كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" وهو لا يدل عند الإمام على وجوب التبييت كل ليلة. والله أعلم. ورأى في المشهور أن الشهر كله كالعبادة الواحدة، ألا ترى إلى قوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]؟ قال سند: ولهذا قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. وظاهر الإتمام فعل لما
قد مضى. والشاذ إن ثبت ظاهر في النظر؛ لأن أيام الشهر عبادات متعددة، بدليل أن إفساد يوم لا يوجب إفساد ما مضى وبه قال أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما.
فرع:
ولا يجوز تقديم النية قبل الليل وهو قول الكافة، لحديث التبييت المتقدم. وما ذكره من الاكتفاء بنية واحدة إنما هو في حق الحاضر وأما المسافر فلا بد له من التبييت كل ليلة، قاله في العتبية؛ والمريض يلحق بالمسافر، وحكى سند قولاً ثانياً في المسافر بالاكتفاء بنية واحدة، وأشار اللخمي إلى أنه مخرج على القول بالاكتفاء بالواحدة في السرد.
وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ
أي: وكذلك يكتفي في الكفارات. يريد التي يجب تتابعها، كشهري الظهار وقتل النفس. ولو قال: ما يجب تتابعه كما في الجلاب لكان أولى ليعم غير الكفارات كما لو نذر شهراً أو نذر تتابع ما لا يجب تتابعه.
وَفِي إِلْحَاقِ السَّرْدَ وَنَذْرِ يَوْمٍ مُعَيَّنِ – ثَالِثُهَا: يَلْحَقُ السَّرْدُ
اللخمي: اختلف فيما لا يجب تتابعه كرمضان في السفر، وقضاء من أفطره لمرض أو سفر وما أشبه ذلك، وما لا تصح متابعته كيوم الخميس ويوم الاثنين على ثلاثة أقوال، فذكرها المصنف والقول بالاكتفاء لمالك في المختصر.
أما المتتابع، فلأن تتابعه يحصل به الشبه برمضان وأما المتعين فلوجوبه وتكرره وتعين زمانه. والقول بأنه لابد من التجديد فيهما لابن القاسم.
قال في البيان: وهو الصحيح، وهو مذهب مالك في المدونة؛ لأن ظاهر قوله فيها في المرأة تحيض في رمضان، ثم تطهر، أن الصيام لا يجزيها إلا أن تجدد النية الأولى في الصيام الثاني ولو لم يراع ما بينهما من الفطر لوجب أن لا يحتاج في أول رمضان إلى نية لتقدم النية
في صيامه قبل دخوله، وهذا لا يقوله أحد غير ابن الماجشون. ويدل على ما اخترناه قوله عليه الصلاة والسلام:"لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" فإنه يقتضي انه لا يصح تقديمها قبل ليلة صومه، فكيف يصح ما روي عن مالك أنه إذا نذر يوماً بعينه أن النية تجزئه قبل ذلك بأيام انتهى بمعناه.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ عَاشُورَاءَ كَغَيْرِهِ
أي: فإنه لا يجزئ إلا بنية من الليل، والشاذ لابن حبيب صحة صومه بنية من النهار؛ لما في أبي داود: أن أسلم أتت النبي –صلى الله عليه وسلم فقال: "صمتم يومكم هذا"؟ قالوا: لا. قال: "فأتموا بقية يومكم واقضوه" أي يوم عاشوراء.
عبد الحق: ولا يصح هذا الحديث في القضاء. ثم إن ابن حبيب لم يلحق سائر التطوعات بعاشوراء كما فعل الشافعي، على أنه يحتمل أن يكون هذا الحديث إنما كان في وقت كان عاشوراء فرضاً.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لا يَحْتَاجُ الْمُعيَّنُ إِلَى نِيَّةٍ
هذا القول راجع إلى ما تقدم من قوله: (وشرط الصوم كله النية من الليل) وما حكاه عن ابن الماجشون ابن عبد السلام، حكاه عنه القاضي وعن ابن المعذل. انتهى.
وقوله: (الْمُعَيَّنُ) فيه عموم؛ وفي المقدمات: وقال ابن الماجشون في الواضحة أن أهل البلد إذا عمهم علم رؤية الهلال بالرؤية وبالشهادة عند حاكم الموضع يجزئ من لم يعلم وإن لم يبيت الصيام، وكذلك الغافل والمجنون؛ فكأنه لما رأى تعين صوم اليوم، أجزأه ما تقدم من نيته لصيام رمضان كناذر يوم من أيام الجمعة وعلى هذا لا يحتاج أن يعمهم على الرؤية. انتهى.
ونحوه حكاه الباجي عنه في المبسوط، وأشار في البيان إلى أنه يصح أيضاً على قوله: إذا تخلل رمضان مرض أو سفر من غير تجديد نية. ونقل عبد الحق عنه إذا أصبح في رمضان بعد أوله ينوي الفطر ناسياً أنه لا شيء عليه. ابن حبيب: بخلاف أول يوم.
فَإِنَّ اِنْقَطَعَ التَّتَابُعُ بأَمْرٍ- فَالْمَشْهُورُ تَجْدِيدُهَا، وَثَالِثُهَا: يُجَدِّدُ غَيْرُ الْحائِضِ لِقَوْلِهِ فِي الشَّاكَّةِ: تَقْضِي لأَنَّها لا تَدْرِي أَطَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ أَمْ لا؟ فَلَمْ يَذْكُرِ النِّيَّةَ ....
أي: إذا فرع على المشهور من عدم اشتراط التبييت في كل ليلة؛ فانقطع التتابع بفطر لمرض أو حيض أو سفر أو نسيان، فهل يلزمه تجديد النية؟ وهو المشهور، وعبر عنه في التنبيهات بالمعروف، أو لا يلزمه؟ أو يفرق بين من انقطع التتابع في حقها بالحيض فلا يلزمها تجديد؟ وبين غيرها فيلزمه؟
ابن رشد: والقول الثاني لم أره معزواً، واستقرأ ابن محرز الثالث من مفهوم الفرع الذي ذكره المصنف، إذ هو يقتضي بحسب مفهوم العلة، أنها لو تيقنت أن الدم انقطع عنها قبل الفجر، لما قضت، مع أنها لم تتقدم لها نية، وفيه ضعف؛ لأنه لا يلزم من السكوت عن النية [155/ب] عدم اشتراطها.
وفرق بعض المتأخرين بين الحائض وغيرها بوجهين: أحدهما: أنها معولة في الغالب على وجود الحيض، فكأنها قاصدة في الأول إلى التبييت بعد انقضاء الحيض بخلاف المريض والمسافر.
والثاني: أن زمان الحيض لا يصح صومه فأشبه الليل بخلاف المسافر والمريض، ولتعلم أن هذا القول ليس مأخوذاً من هذا الاستقرار فقط، كما يُشَعر به كلامه؛ فقد حكاه القرطبي في المفهم عن مالك، وحكاه في البيان عن ابن القاسم.
واعلم أن هذا الكلام إنما هو إذا طرأ الحيض بعد أن بيتت أول الشهر، وأما من دخل عليها رمضان وهي حائض، فلا يجزئها في أول يوم من طهرها دون تبييت إلا على رأي عبد الملك أن المتعين لا يحتاج إلى نية. وقول المصنف: تجديدها. يؤخذ منه ذلك إذ لا يقال: التجديد إلا بعد تقديمها. وانظر إذا أفطر متعمداً بغير عذر هل يلزمه التجديد اتفاقاً أو يجري فيه الخلاف؟ وعبارة ابن بشير: ولو طرأ في رمضان ما أباح الفطر فهل يفتقر إلى إعادة التبييت؟ في المذهب قولان.
وَإِذَا رُفِضَتِ النِّيَّةُ بَعْدَ الانْعِقَادِ - فَالْمَشْهُورُ تَبْطُلُ كَمَا يَبْطُلُ قَبْلَهُ
أما رفضها بعد الانعقاد فقد تقدم ذلك في كتاب الصلاة مع نظائره. وقوله (كَمَا يَبْطُلُ قَبْلَهُ) أي كما يبطل الصوم بترك النية قبل الفجر. وظاهر كلامه عزو هذا الفرع من الخلاف وقد صرح بذلك، ونص أشهب فيه على سقط الكفارة في رمضان، وأنه إن أكل بعد ذلك فعليه الكفارة.
وَشَرْطُهُ الإِمْسَاكُ – فِي جَمِيعَ زَمانِهِ – عَنْ إِيصَالِ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ إِلَى الْحَلْقِ أَوْ الْمَعِدَةِ مِنْ مَنَفَذٍ وَاسِعٍ- كَالْْفَمِ وَالأَنْفِ وَالأُذُنِ – يُمْكِنُ الاحْتِزَازُ مِنْهُ .....
عطف الإيصال إلى المعدة على الواصل إلى الحلق لتدخل الحقنة، فإن المشهور فيها القضاء كما سيأتي.
وقال أيضاً: (إِيصَالِ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ) ولم يقل: إيصال شيء؛ ليعم الحصى ونحوه لأنه لم يذكر في هذا الفرع مشهوراً، وكأنه قصد إدخال المتفق عليه والذي فيه مشهور وترك غيره لينبه على ما فيه.
وقوله: (يُمْكِنُ الاحْتِزَازُ مِنْهُ) صفة لطعام أو شراب، احترز به من غبار الطريق ونحوه على ما سيأتي، وقد تسامح في إطلاقه الشرط على الركن، إذ لا معنى للصوم إلا الإمساك والشرط خارج عن الماهية وكذلك الشرط الذي بعد هذا.
وَإِيلاجِ الْحَشَفَةِ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ
هو مخفوض بالعطف على (إِيصَالِ)، ويتنزل منزلة الحشفة قدرها من مقطوعها.
وَفِي نَحْوِ التُّرَابِ وَالْحَصَا وَالدَّرَاهِمِ قَوْلانِ
يعني: أنه اختلف في الصائم يصل إلى جوفه شيء مما لا يستعمل في الغذاء كالنواة والذلة والفستقة هل يفسد بذلك صومه ويكون كسائر الغذاء يجب القضاء مع السهو، والقضاء والكفارة مع العمد؟ وهو قول ابن الماجشون، أو لا يفسد ولا شيء عليه؟ لأنه لما كان من غير جنس الغذاء ولا سيما الحصى صار وجوده كعدمه بل في وجوده مضرة. ونقله في الجواهر عن بعض المتأخرين.
وفرق ابن القاسم في كتاب ابن حبيب فجعل الذرة كالطعام وأوجب في الحصاة واللوزة وما لا غذاء له القضاء في عمده: زاد التلمساني: إذا كان الصيام واجباً. وقال مالك في المختصر: يقضي ولا يكفر. قال الباجي بعد هذا: وروى معن عن مالك: الحصاة خفيفة.
سحنون: معناه حصاة تكون بين الأسنان كقوله في فلقة الحبة للضرورة، وأما لو ابتدأ أخذها من الأرض فابتلعها عامداً لزمه القضاء والكفارة. انتهى.
وقال ابن القاسم: يكفر في العمد ولا يقضي، وعلى هذا يقال: كل من لزمته الكفارة لزمه القضاء، إلا في هذه المسألة على هذا القول، ونقل عن ابن القاسم أيضاً في النواة يعبث بها فتنزل في حلقه: ولا قضاء عليه في النافلة ويقضي ويكفر في الفريضة، هذا مع أن القاعدة: أن كل ما أوجب الكفارة في الفرض يوجب القضاء في النقل. وقد خالف ابن القاسم في كل هذين القولين قاعدته.
وَفِي وُصُولِ مَا يَنْمَاعُ مِنَ الْعَيْنِ وَالإِحْلِيلِ وَالْحُقْنَةِ – ثَالِثُهَا الْمَشْهُورُ: يَقْضِي فِي الْحُقَنَةِ وَفِي الْعَيْنِ إِنْ وَصَلَ
…
ذكر في العين والإحليل والحقنة ثلاثة أقوال: القضاء في الجميع، ونفيه في الجميع، والتفصيل.
أما الحقنة ففي الجلاب عدم وجوب القضاء فيها، وأما العين فمذهب أبي مصعب نفي القضاء وإن تحقق. والمشهور مذهب المدونة يجب القضاء في الحقنةوفي العين بشرط الوصول، ولا يجب في الإحليل.
خليل: وظاهر كلامه وجوب الخلاف في الإحليل وهو مما انفرد به، ولم يحك غيره فيه إلا نفي القضاء. عياض: والإحليل بكسر الهمزة ثقب الذكر من حيث يخرج البول. واحترز بقوله: (ما ينماع). مما لو احتقن بفتائل.
عياض وابن بشير: فلا يختلف في سقوط حكمه، وكذلك الاكتحال بما لا يتحلل ولا يصل. وأما ما يتحلل فهل يوجب الاكتحال به القضاء؟ قولان، وهما خلاف في شهادة. ثم قال: وإذا قلنا بإسقاط القضاء فهل يجوز له ذلك [156/أ] ابتداءً أم لا؟ في المذهب قولان، فمن أجاز شهر بعدم الوصول ومن منع. فلعله راعى الخلاف. وقوله:(إِنْ وَصَلَ) - مع فرضه الوصول – حشوٌ. وقوله: (وَفِي وُصُولِ) يدل على أنه لو تحقق عدم الوصول لم يقض اتفاقاً.
فرع:
قال في تهذيب الطالب عن السليمانية فينم تبخر بالدواء فوجد طعم الدخان في حلقه، قال: يقضي يوماً بمنزلة من اكتحل أو دهن رأسه فيجد طعم ذلك في حلقه فيقضي.
وقال أبو محمد: أخبرني بعض أصحابنا عن ابن لبابة أنه قال: من استنشق بخوراً لم يفطر، وأكره له ذلك.
فائدة:
قال ابن حبيب في كتاب له في الطبِّ: كان علي وابن عباس ومجاهد والشعبي والزهري وعطاء والنخعي والحكم بن عيينة وربيعة وابن هرمز يكرهون الحقنة إلا من ضرورة غالبة، وكانوا يقولون: لا تعرفها العرب، وهي من فعل العجم وهي ضرب من عمل قوم لوط، قال ابن حبيب: وأخبرني مطرف عن مالك أنه كان يكرهها وذكر أن عمر بن الخطاب كرهها وقال: هي شعبة من عمل قوم لوط.
قال عبد الملك: وسمعت ابن الماجشون يكرهها ويقول: كان علماؤنا يكرهونها.
قال ابن حبيب: وكان من مضى من السلف وأهل العلم يكرهون التعالج بالحقن إلا من ضرورة غالبة، لا يوجد عن التعالج بها مندوحة انتهى.
وسئل مالك في مختصر ابن عبد الحكم عن الحقنة؛ فقال: ليس بها بأس. قال الأبهري: وإنما قال ذلك لأنها ضرب من الدواء، وفيها منفعة للناس، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم التداوي وأذن فيه فقال:"ما أنزل الله داءً إلا أنزل له دواءً علمه من علمه وجهله من جهله، فتداووا عباد الله".انتهى.
خليل: وظاهره معارضة القول الأول ويمكن تأويله على حالة الاضطرار إليها فيتفق القولان.
وَالْجَائِفَةُ كَالْحُقْنَةِ
مقتضى كلامه أن المشهور فيها القضاء، وليس كذلك، بل لا نعلم من قال فيها بالقضاء. قال في الرواية: لا قضاء عليه ولا كفارة، لأن ذلك لا يصل إلى موضع الطعام والشراب ولو وصل إليه لمات من ساعته.
وَغُبَارُ الطَّرِيقِ، وَنَحْوُ الذُّبَابِ يَدْخُلُ غَلَبَةً مَعْفُوٌّ عنه
عفى عن هذه للمشقة، ونقل الباجي عن ابن الماجشون في الذباب القضاء، قال: ولا أعلم أحداً أوجب في الغبار القضاء. ونقل التلمساني فيه الاتفاق أيضاً.
والـ (غَلَبَةً) بالغين المعجمة وفتح اللام والباء الموحدة. وقول ابن عبد السلام: الضمير المجرور بعلى يرجع إلى الحلق، أي يدخل على حلقه يدل على أنه قرأها بالعين المهملة والياء المثناة من أسفل، ولعله تصحيف.
بِخِلافِ دَهْنِ الرَّاسِ، وَقَيِلَ إِلا أَنْ يَسْتَطْعِمَهُ
تصوره واضح، وهو يقتضي أن المشهور سقوط القضاء ولو استطعمه. وكلام ابن راشد في مذهبه قريب منه. ونسب القول بالقضاء إذا استطعمه للسليمانية، ولم أر ما قدمه المصنف. واقتصر ابن شاس على الثاني.
وَفِي غُبَارِ الدَّقِيقِ قَوْلانِ
أطلق المصنف الخلاف، وفيه تقييدان أولهما: أن الخلاف إنما هو في صنّاعه نقل ذلك التلمساني وغيره بناء على أن الضرورة الخاصة هل هي كالضرورة العامة أم لا؟
ثانيهما: ظاهر إطلاقه يتناول الواجب والتطوع، والقضاء فيه إنما يعلم لأشهب، وهو إنما قال بالقضاء في الواجب سواء كان في رمضان أو غيره، ولا يقضي في التطوع. نقله عنه الباجي وغيره. قال الشيخ أبو محمد: ينبغي أن لا شيء عليه في غبار كيل القمح، ولابد للناس من هذا. انتهى. والفرق بينه وبين غبار الدقيق، أن غبار الدقيق يغذي، بخلاف غبار القمح، فإنه كغبار الطريق.
وَغُبَارُ الْجَبَّاسِينَ دُونَهُ
يريد: وهو مع ذلك مختلف فيه، صرح في الجواهر بهذا، وكونه دونه ظاهر.
والْمَشْهُورُ أَلا قَضَاءَ فِي فَلْقَةٍ مِنَ الطَّعَامِ بَيْنَ الأسنان تُبْلَعُ
المشهور مذهب المدونة. ولفظها: وإن ابتلع فلقة حب بين أسنانه مع ريقه أو دخل حلقه ذباباً أو ذرعه القيء في رمضان فلا شيء عليه، وإطلاق القول بالقضاء لأشهب.
نقله عنه ابن عبد الحكم، ونقل عنه ابن حبيب أنه قال: أحب إلي، وليس بالبين. فظاهره أنه ثالث، وقيد الشيخ أبو محمد قول أشهب بوجوب القضاء بأن يمكنه طرحها، وأما لو ابتلعها غلبة، فلا شيء عليه. وكذلك قال اللخمي: لا يفطر إذا كان مغلوباً، واختلف في غير المغلوب إذا كان ساهياً أو جاهلاً أو عالماً، فقال في كتاب أبي مصعب: إن كان ساهياً فعليه القضاء، وإن كان متعمداً فعليه القضاء والكفارة. وأجراه على حكم الكثير من الطعام. وقال في مختصر ابن عبد الحكم: إن كان جاهلاً فلا شيء عليه قال: وقد أساء.
قال ابن حبيب: إن كانت بين أسنانه فال شيء عليه ساهياً أو عامداً أو جاهلاً وإن تناولها من الأرض كانت كسائر الطعام، عليه في السهو القضاء وفي [156/ب] الجهل والعمد القضاء والكفارة. قال: من قبل استخفاف بصومه، لا من قبل أنه غذاء. انتهى.
قال ابن حبيب بإثر ما نقله اللخمي عنه: كذلك فسر من لقيته من أصحاب مالك.
خليل: ولا ينبغي أن يختلف إذا أخذها من الأرض. وكلام المصنف يدل عليه لقوله: (بَيْنَ الأسنان). فأخرج ما إذا لم تكن بين الأسنان. لكن ظاهر كلام اللخمي أنه ليس تقييداً، بل حكاه على أنه قول ثالث.
واستشكل ابن يونس قول بن حبيب وقال: لا معنى للتفرقة بين أن تكون في فمه أو يأخذها من الأرض؛ لأنها لم تكن في فمه إلا برفعها من الأرض فلا يغير الحكم طول إقامتها فيه كما لو كانت لقمة.
وَالْمَضْمَضَةُ لِوُضُوءٍ أَوْ عَطَشٍ جَائِزٌ فَإِنْ غَلَبَهُ إِلَى حَلْقِهِ فَالْقَضَاءُ إِلا أَنْ يَتَعَمَّدَ فَالْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ....
هكذا وقع في كثير من النسخ، (جَائِزٌ). وهو على حذف مضاف، أي وفعل المضمضة.
ويقع في بعضها جائزة، ولا إشكال عليها. وأجاز أهل المذهب المضمضة للعطش مع كراهتهم للصائم ذوق الطعام ومجه. فلعل ذلك لشدة الضرورة للمضمضة.
الباجي: ومعنى ما وقع لمالك من إجازة التمضمض وللعطشان أن يزول عنه طعم الماء ويخلص طعم ريقه.
قال أشهب: ويباح للصائم مداواة الحفر بالمضمضة في النهار إن خاف الضرر بتأخيره إلى الليل.
الباجي: فإن أفطر مغلوباً بأن وصل بغير اختياره فعليه القضاء، وإن تعمد ذلك فعليه القضاء والكفارة، وإن سلم فلا شيء عليه إلا ما قاله ابن حبيب في مداواة الحر: يقضي لأن الدواء يصل إلى حلقه.
الباجي: والذي عندي أنه إن سلم فلا شيء عليه، وأطلق في المدونة كراهة مداواة الحفر ويمكن حمله على ما إذا لم يضطر، فيتفق كلامه مع أشهب.
وَالسِّواكُ مُبَاحٌ كُلَّ النَّهَارِ بِمَا لَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَكُرِهَ بِالرَّطْبِ لِمَا يَتَحَلَّلُ، فَإِنْ تَحَلَّلَ وَوَصَلَ إِلَى حَلَقِهِ فَكَالْمَضْمَضَةِ ....
نبه رحمه الله على خلاف الشافعي في إجازة ذلك قبل الزوال فقط.
ابن عبد السلام: وحكى عن البرقي مثل قول الشافعي. انتهى. والمشهور أظهر لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك". رواه البخاري ومسلم.
وليس فيما رواه مالك والترمذي من قوله صلى الله عليه وسلم:"لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك"، دليل على الكراهة؛ لأن الخلوف إنما هو ما يحدث من خلو المعدة وذلك لا يذهبه السواك، وقوله:(وَكُرِهَ بِالرَّطْبِ) قال ابن حبيب: يكره بالرطب للجاهل الذي لا يحسن أن يمج ما يجتمع منه.
الباجي: والذي يقتضيه مذهب مالك وأصحابه أنه يكره للجاهل والعالم لما فيه من التغرير. وقوله: (فَإِنْ تَحَلَّلَ وَوَصَلَ إِلَى حَلَقِهِ فَكَالْمَضْمَضَةِ). أي إن غلبه كنا عليه القضاء، وإن تعمد ذلك كان عليه القضاء والكفارة، وهذا مقتضى التشبيه.
قال ابن حبيب: من جهل أن يمج ما اجتمع في فيه من السواك الرطب فلا شيء عليه.
الباجي: وفيه نظر؛ لأنه يغير الريق، وما كان بهذه الصفة، ففي عمده الكفارة، وفي التأويل والنسيان القضاء فقط. انتهى.
وحُكي عن ابن لبابة أنه إن استاك بالجوز في النهار، لزمه القضاء والكفارة، وإن استاك به ليلاً فأصبح على فيه فعليه القضاء فقط.
وَشَرْطُهُ: الإِمْسَاكُ عَنْ إِخْرَاجِ مَنِيٍّ أَوْ قَيْءٍ
أما شرطية الإمساك عن إخراج المني فظاهر وأما القيء؛ فلما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذرع الصائم القيء فلا إفطار عليه، وإن استقاء فعليه القضاء".
وقال المصنف: (عَنْ إِخْرَاجِ) ولم يقل عن خروج ليسقط بذلك حكم الاحتلام والقيء الغالب فإنهما لا حكم لهما.
وَفِي الْمَذْيِ وَالإِنْعَاظِ قَوْلانِ
المشهور في المذي وجوب القضاء، وخالف ابن الجلاب فيه وفي الحقنة وفي القيء المستدعي فجعل القضاء في الجميع مستحباً والمشهور في الثلاثة الوجوب، ومنهم من فرَّق في المذي بين أن يكون عن لمس أو قبله أو مباشرة فيجب وبين أن يكون عن نظر فلا يجب؛ وهو قول ابن حبيب.
قال في التنبيهات بعد حكاية هذه الأقوال الثلاثة والمغيرة: لا يرى منه القضاء وإن كان من قبلة، والقول بالقضاء في الإتعاظ رواه ابن القاسم عن مالك في الحمديسية.
ابن عبد السلام: وهو الأظهر، وبعدم القضاء رواه ابن وهب عن مالك، قال في التنبيهات: إنما الخلاف عد بعضهم إذا حصل عن ملاعبة أو مباشرة، وأما إن كان عن نظر أو لمس فلا شيء فيه. وأطلق في البيان الخلاف، ولفظه: وإن أنعظ ولم يمذ، ففي ذلك ثلاثة أقوال. فذكر القولين السابقين، قال: والثالث الفرق بين المباشرة وما دونها من قبلة أو لمس، فإن انعظ عن مباشرة فعليه القضاء، وإن أنعظ بما دونها فلا شيء [157/أ] عليه وهو قول ابن القاسم.
وَالْمَبَادِئُ كَالْْفِكَرِ وَالنَّظَرِ وَالْقُبَلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ وَالْمُلَاعَبَةِ إِنْ عُلِمَتِ السَّلامَةُ – لَمْ تَحْرُمْ، وَإِنْ عُلِمَ نَفْيُهَا حَرُمَتْ، وَإِنَّ شَكَّ فَالظَّاهِرُ التَّحْرِيمُ
يعني: أن الحكم يختلف في مبادئ الجماع على أقسام ثلاثة:
- فإن كان يعلم من نفسه السلامة من المني والمذي لم يحرم؛ ونفيه لا يقتضي الكراهة ولا الإباحة، وقد كرهوا ذلك في المشهور وجعلوا مراتب الكراهة تتفاوت بالأشدية على نحو ما رتب المصنف بالماذي؛ فأخفها الفكر المستلزم وأشدها الملاعبة، ثم إن ابن القاسم قال: شدد مالك في القبلة في الفرض والتطوع، ورأى ابن حبيب أنه شدد فيها في الفرض وأرخص فيها في التطوع في رواية ابن حبيب، وروي عن مالك التفرقة بين الشيخ والشاب، ولا شك أن من لا يُكرِّه القبلة، لا يُكرِّه ما قبلها، وقد يكرِّه ما بعدها.
-وإن كان يعلم من نفسه عدم السلامة من المني والمذي: اللخمي: أو كان يسلم مرة ولا يسلم أخرى حرمت.
-وإن شك في السلامة فقولان، الظاهر منهما التحريم احتياطاً للعبادة. وقيل: لا تحرم لأن الإباحة هي الأصل.
تنبيه:
ما ذكره المصنف صحيح بالنسبة إلى القبلة والمباشرة والملاعبة، ولم يذكر اللخمي وابن بشير التفصيل الذي ذكره المصنف إلا في هذه الثلاثة، وأما بالنسبة إلى النظر والفكر فليس بحسن؛ أما أولاً: فلأن كلام المصنف في النظر والفكر يغني عما ذكره فيهما، وأما ثانياً: فلأن ابن بشير، نص على أن النظر والفكر إذا لم يستداما لا يحرمان بالاتفاق.
وقد يجاب عن الأول بأن المصنف تكلم عن النظر والفكر باعتبارين:
الأول: جواز الإقدام عليه، والثاني: فساد الصوم. وعلى الثاني فإن كلام ابن بشير محمول على ما إذا علم من نفسه السلامة وإلا فبعيد أن يقال بالجواز مع كونه يعلم أنه يمني أو يمذي.
فَإِنْ فَكَّرَ أَوْ نَظَرَ فَلَمْ يُسْتَدِمْ فَلا قَضَاءَ أنْعَظَ أَوْ أَمْذَى لِلْمَشَقَّةِ
تصوره ظاهر، وتقييده هنا بعدم الاستدامة يقتضي أن الخلاف الذي قدمه في المذي والإنعاظ مع الاستدامة.
فإن قلت: هل يمكن حمل كلامه الأول على ما إذا حصل عن ملاعبة أو مباشرة، والثاني على ما إذا كان عن نظر؟ ويكون كلامه مبنياً على الطريقة التي ذكرها عياض؛ قيل: لأن المصنف لَّما قيد كلامه هنا بنفي الاستدامة دل ذلك على أنه لو استدام لكان الحكم على خلاف ذلك. وتلك الطريقة ليس فيها تفصيل.
ابن راشد: وما ذكره المصنف من أنه أمذى من غير استدامة لا قضاء عليه مخالف للمدونة. قال فيها: وإن نظر إليها في رمضان وتابع النظر حتى أنزل فعليه القضاء والكفارة، وإن لم يتابع النظر فأمذى أو أمنى فليقض فقط. ونحوه في العتبية، نعم يوافق ما ذكره المصنف ما ف مختصر الواضحة: من نظر إلى زوجته أو أمته وأدام ذلك حتى أمذى فعليه القضاء،
وإن أمنى فعليه القضاء والكفارة. قال: ولو أنه نظر إليها على غير تعمد ثم صرف بصره عنها، فغلبته اللذة حتى أمذى فلا قضاء عليه.
ولو أنه غلبه المني كان عليه القضاء، فلا كفارة إلا أن يديم نظره إليها كما فسرت لك.
قال فضل: وكان ابن القاسم وابن وهب يرويان عن مالك في الذي نظر إلى أهله في رمضان على غير تعمد فيمذي أنه عليه القضاء. وروى ابن القاسم عن مالك فيمن تذكر امرأته في رمضان فأمذى، فقال: إن لم يتبع نفسه ذكرها فأراه خفيفاً. قال فضل: كأنه لا يرى عليه قضاء، وهذا خلاف ما روي عنه في النظر. انتهى.
فَإِنْ أَمْنَى اِبْتِدَاءً قَضَى إِلا أَنْ يُكْثِرَ
أي: فإن أمنى مع أول الفكر أو أول النظر من غير استدامة فعليه القضاء، بلا كفارة إلا أن يكثر ذلك فيسقط القضاء أيضاً للمشقة، وهذا مذهب المدونة.
قال ابن القابسي: إذا نظر نظرة واحدة متعمداً فأنزل كفَّر. واختلف في قوله هل هو موافق لما في المدونة أو يحمل ما في المدونة على ما إذا لم يتعمد النظر؟ وإليه ذهب صاحب النكت، وقال ابن يونس: يظهر لي أنه خلاف. الباجي: وقول القابسي هو الصحيح.
فَإِنِ اِسْتَدَامَ قَضَى وَكَفَّرَ إِلا أَنْ يَكُونَ بِخِلافِ عَادَتِهِ فَفِي التَّفْكِيرِ قَوْلانِ
أي: فإن استدام النظر أو الفكر حتى أمنى فعليه القضاء والكفارة إذا كانت تلك عادته، لأنه حينئذ مختار أي في استجلاب المني.
وأما إن كانت عادته بخلاف ذلك فقال اللخمي وابن عبد السلام: الأظهر السقوط لانتفاء الانتهاك في حقه الموجب للكفارة. وحكى في البيان فيما إذا نظر أو تفكر قاصداً اللذة أو لمس أو قبل أو باشر فأنزل ثلاثة أقوال:
الأول: أن عليه القضاء والكفارة وهو قول مالك في المدونة في القبلة والمباشرة، والنظر والتفكر [157/ب] محمولان على ذلك.
الثاني: أن عليه القضاء دون الكفارة، وهو قول أشهب وهو أصح الأقوال؛ لأن الكفارة إنما تجب مع قصد الانتهاك، وهذا لم يقصد إليه ولم يفعل إلا ما يسوغ له فغلبه الإنزال.
الثالث: الفرق بين اللمس والقبلة والمباشرة، وبني النظر والتذكر فإن لمس أو قبل أو باشر فأنزل فالقضاء والكفارة وإن لم يتابع ذلك، وإن نظر أو تذكر فأنزل فعليه القضاء ولا كفارة عليه إلا أن يتابع ذلك حتى ينزل. وهذا القول هو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة. انتهى.
وَالْقُبْلَةُ مُطْلَقاً وَلَوْ واحِدَةً كَالْْفِكْرِ الْمُسْتَدَامِ
قوله: (مُطْلَقاً) أي سواء كانت في الفم أو غيره في الزوجة أو الأمة، كان من عادته الإنعاظ أم لا، قصد الالتذاذ أم لا، ولا يريد بالإطلاق ما إذا كانت القبلة لوداع أو نحوه؛ فإن ذلك لا أثر له. وقوله:(كَالْفِكْرِ الْمُسْتَدَامِ) يعني إن لم ينشأ عنه مذي ولا إنعاظ فلا شيء عليه وإن أنعظ فقولان، وإن أمذى فعليه القضاء. ويدخل في قوله:(كَالْفِكْرِ الْمُسْتَدَامِ). إذا أمنى فيلزمه القضاء والكفارة، وقد صرح ابن بشير فقال: إن قبل والتذ بقبلته فلا شيء عليه إذ لا حكم للذة بانفرادها، وإن أنعظ فالقولان، وهما خلاف في حال هل ينكسر الإنعاظ من غير مذي؟ وإن أمذى أمر بالقضاء، وهل يجب؟ قولان، وإن أمنى وجب القضاء. وهل تجب الكفارة؟ أما إن استدام فهي واجبة لأنه قاصد لفعل يوجد معه المني غالباً. وإن لم يستدم فقولان. انتهى.
والقول بعدم الكفارة مع عدم الاستدامة لأشهب، وبالكفارة لابن القاسم في المدونة وهما فبما إذا قبل أو باشر أو لامس مرة واحدة، وفي العتبية عن ابن القاسم والواضحة
عن مالك: لا شيء عليه في التقبيل وإن انتشر وأنعظ ما لم يمذ؟ فإن أمذى مضى على صيامه وقضاه؛ زاد في الواضحة: وإن أمنى قضى وكفَّر. وذكر ابن يونس أن ابن القاسم روى عن مالك في التعبية في القبلة أنه يقضي إذا أنعظ وإن لم يمذ وأنكره سحنون، وظاهر هذه الرواية وجوب القضاء، وقد قررها ابن رشد على ذلك، ونقل ابن عبد السلام هذه الرواية بالاستحباب ليس بظاهر.
وَالْمُلَاعِبَةُ وَالْمُبَاشَرَةُ مِثْلُهَا إِلا أَنَّ فِي الْمَنِىِّ الْكَفَّارَةَ من بِغَيْرِ تَفْصِيلَ خِلَافاً لأَشْهَبَ كَالْْمَنِىِّ بِمُجَامَعَةِ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ ....
أي: أن الملاعبة والمباشرة مثل القبلة، فإن أنعظ أو أمذى فقولان، إلا أن في المني الناشئ عنهما تجب فيه الكفارة من غير التفات إلى عادة المباشر خلافاً لأشهب فإنه فصل في ذلك.
وقد نقل الباجي قول أشهب ولفظه: فإن قبل واحدة أو باشر أو لامس مرة واحدة فأنزل، فقال أشهب: لا كفارة عليه حتى يكرر. وقال ابن القاسم: عليه الكفارة في ذلك كله، إلا في النظر فلا كفارة عليه. انتهى.
وقوله: (كَالْْمَنِىِّ بِمُجَامَعَةِ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ) هو تشبيه بالمشهور فقط، وقول ابن راشد أنه استدلال على قول أشهب لس بظاهر.
وَمَاءُ الْمَرْأَةِ كَمَنِيِّ الرَّجُلِ
أي في جميع ما تقدم.
وَالْقَيْءُ الضَّرُورِيُّ كَالْْعَدَمِ، وَفِي الْخَارِجَ مِنْهُ مِنْ الْحَلْقِ يُسْتَرَدُّ قَوْلانِ كَالْبَلْغَمِ
للحديث المتقدم، قال بعض الأصحاب: ولا فرق بين أني كون من علة أو من امتلاء، ولا بين أن يتغير أو يكون على هيئة الطعام.
وقوله: (وَفِي الْخَارِجِ مِنْهُ) أي القيء الضروري، فـ (مِن) الأولى للبيان والثانية لابتداء الغاية، أي أن ما جاوز الحلق فلا شيء فيه وإن رجع لكونه لا يمكنه طرحه.
ابن حبيب: وما رجع من القيء إلى الجوف أو من اللهوات إلى الحلق قبل أن يستيقن وصوله إلى الفم فلا قضاء فيه.
وقوله: (قَوْلانِ) قال اللخمي: اختلف فيمن ذرعه القيء إذا رجع إلى حلقه بعد انفصاله مغلوباً أو غير مغلوب وهو ناس. فروى ابن أبي أويس عن مالك في المبسوط: عليه القضاء إذا رجع شيء وإن لم يزدرده، وقال في مختصر ما ليس في المختصر: لا شيء عليه إذا كان ناسياً. وهذا اختلاف قول، فعلى قوله في المغلوب أنه يقضي يكون الناسي أولى بالقضاء، وعلى قوله في الناسي: لا شيء عليه، يسقط القضاء عن المغلوب.
والصواب أن ينظر، فإن خرج إلى لسانه بحيث يقدر على طرحه ثم ابتلعه بعد ذلك فعليه القضاء، وإن لم يبلغ موضعاً يقدر على طرحه فلا شيء عليه. انتهى.
ومقتضى كلامه أن العمد مبطل اتفاقاً. وقوله: (كَالْبَلْغَمِ) أي أن في البلغم إذا خرج من الحلق ثم رد قولين. والقول بأنه لا شيء فيه ولو وصل إلى طرف اللسان لابن حبيب، قال: وقد أساء. وهو بخلاف القلس لأنه طعام وشراب. وفي جهله وعمده القضاء. والكفارة في البلغم لسحنون، قال: إذا خرج من صدر الصائم أو من رأسه فصار إلى طرف لسانه وأمكنه طرحه فابتلعه ساهياً فعليه القضاء. والشك في [158/أ] الكفارة في عمده، وقال: أرأيت لو أخذها من الأرض متعمداً ألا يكفر؟ وفي المدونة عن مالك لا قضاء عليه في رمضان إذا ازدرد القلس بعد وصوله إلى فيه.
قال ابن القاسم: ثم رجع مالك فقال: إن خرج إلى موضع لو شاء طرحه ثم رده فعليه القضاء. واقتصر عليه في الجلاب.
وَأَمَّا الْمُسْتَدْعَى فَالْمَشْهُورُ الْقَضَاءُ
مقابل المشهور لابن الجلاب جعلُ القضاء فيه مستحب وقال: لأنه لو كان مفسداً للصوم لاستوى مختاره وغالبه كالأكل والشرب إذا قصده أو أكره عليه، والحديث المتقدم حجة للمشهور.
وفي المسألة قول ثالث بسقوط القضاء في النفل ووجوبه في الفرض، وإنما فرق بين المستدعي وغيره؛ لأن المعدة تجتذب ما يخرج منها بالاستدعاء بخلاف غيره.
فإِنِ اسْتُدْعِيَ لِغَيْرِ عُذْرٍ – فَفِي الْكَفَّارَة قَوْلانِ
المشهور السقوط، والوجوب لابن الماجشون وسحنون، ولعل منشأ الخلاف هل استدعاء القيء انتهاك أم لا؟ فإن كان أول القيء ضرورياً وبقيت منه بقية أوجبت عليه غثياناً فاستقاء فنص مالك في المجموعة على وجوب القضاء وإليه أشار بقوله: لغير عذر. فإن مفهومه أنه وإن استقاء لضرورة لا تجب عليه الكفارة اتفاقاً.
وَتُكْرَهُ الْحِجَامَةُ لِلْتَغْرِيرِ، وَذَوْقُ الْمِلْحِ وَالطَّعَامِ وَالْعَلَكِ ثُمَّ يَمُجُّهُ
لما روى: "أكتتم تكرهون الحجامة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا، إلا خيفة التغرير – أو كما قال– وهل هي مكروهة في حق الضعيف والقوي، وهي رواية ابن نافع ع مالك، ورواية عيسى عن ابن القاسم؟
التلمساني: وفي الموطأ: لا تكره إلا خيفة أن يضعف، ولولا ذلك لم تكره، وعلى هذا فلا تكره للقوي، وهو الصحيح. انتهى.
الباجي: وإن احتجم أحد على تغرير فسلم ثم احتاج إلى الفطر فلا كفارة عليه؛ لأنه لم يتعمد الفطر. والكراهة أيضاً في ذوق الملح وما عطف عليه أيضاً للتغرير.
وَزَمانُهُ مِنَ الْفَجْرِ الْمُسْتَطِيرِ لا الْمُسْتَطِيلِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ
هذا ظاهر.
فَمِنْ شَكَّ فِي الْفَجْرِ نَاظِراً دَلِيلَهُ – فَثَلاثَةٌ: التَّحْرِيمُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالإِبَاحَةُ
قال في المدونة: كان مالك يكره للرجل أن يأكل إذا شك في الفجر. وحمل اللخمي الكراهة على بابها. وحملها أبو عمران على التحريم، وهو مقتضى فهم البرادعي؛ لأنه اختصرها على النهي فقال: ومن شك في الفجر فلا يأكل. ونحوه في الرسالة والجواز لابن حبيب. قال: والقياس الجواز. واستحب الكفّ. ولا يؤخذ استحباب الكف من كلام المصنف.
ابن عطاء الله: وهذه المسألة كمسألة من تيقن الطهارة وشك في الحدث، وعليها خرجها اللخمي. واختار اللخمي التحريم مع الغيم والإباحة مع عدمه.
فَإِنْ أَكَلَ فَعَلِمَ بِطُلُوعِهِ فَالْقَضَاءُ مُطْلَقاً
يعني: بالإطلاق سواء كان حين الأكل معتقداً أنه لم يطلع أو شاكاً.
فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ
أي: إذا أكل وهو شاك، وبقي على شكه فعلى ما تقدم، أي فعلى تحريم الأكل يجب القضاء، وعلى الكراهة يتسحب، وعلى الإباحة لا يجب ولا يستحب.
وَلَوْ طَرَأَ الشَّكُّ فَالْمَشْهُورَ الْقَضَاءُ
وهذا كما قال في المدونة: ومن أكل في رمضان ثم شك أن يكون أكل قبل الفجر أو بعده فعليه القضاء.
ابن يونس: إذ لا يرتفع فرض بغير يقين، وهذا مما يرجح أن يكون المذهب وجوب الإمساك والقضاء في الأول؛ لأنه إذا كان يقضي إذا طرأ الشك مع كونه أكل معتقداً أن الفجر لم يطلع فلا يجب فيما إذا أكل شاكاً من بابٍ أولى.
ولهذا يقع في بعض النسخ: فالمشهور القضاء (أيضاً) فإن زيادة أيضاً تقتضي أن المشهور في الفرع السابق وجوب القضاء.
فَإِنَّ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَهُوَ آكِلٌ أَوْ شَارِبٌ أَلْقَى وَلا قَضَاءَ عَلَى الْمَنْصُوصِ وَقَدْ خُرِّجَ الْقَضَاءُ عَلَى إِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَفِيهِ قَوْلانِ
…
أي: فإن كان الآكل يعتقد بقاء الليل، أو شك فطلع الفجر عليه والطعام في فيه فإنه يلقيه ولا قضاء على المنصوص. ومقابل المنصوص مخرج على القول بوجوب إمساك جزء من الليل، وفيه قولان كما ذكر المصنف.
وأشار ابن بشير إلى ضعف هذا التخريج لاحتمال أن يكون هذا القائل يرى وجوبه لغيره أي للاحتياط، فلم يقم الدليل إلا على وجوبه لا على سائر أحكام ذلك الواجب، وإلا لزمت فيه الكفارة.
وَإِنْ طَلَعَ وَهُوَ يُجَامِعُ نَزَعَ وَلا كَفَّارَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي الْقَضَاءِ قَوْلانِ
أما وجوب النزع فبين، ولو تمادى وجب القضاء والكفارة إجماعاً. قاله ابن عطاء الله. وهل تلزمه أيضاً إذا نزع الكفارة؟ ذكر المصنف تبعاً لابن بشير وغيره أن المشهور سقوطها. والقول بوجوبها لابن القصار، هكذا قيل.
خليل: وقول ابن القصار على ما نقله عبد الحق وابن يونس ليس صريحاً في المخالفة لأنهما قالا: وقال ابن القصار: إذا طلع عليه الفجر وهو يولج فلبث قليلاً متعمداً ثم أخرجه أن الكفارة تلزمه مع القضاء.
ابن عطاء الله: وكذلك لو ابتدأ الإيلاج [158/ب] حال طلوع الفجر، الخلاف فيه واحد، فمن لم يوجب الكفارة قال: لم يطرأ الجماع على صوم ليفسده، إذ لم يدخل في الصوم قبله وإنما منع انعقاد الصوم. انتهى.
ومنشأ الخلاف، هل النزع وطء أم لا؟ وإذا فرع على إسقاط الكفارة، فأسقط ابن القاسم القضاء أيضاً وأوجبه ابن الماجشون.
فَإِنْ شَكَّ فِي الْغُرُوبِ حَرُمَ الأَكْلُ اتِّفَاقاً
لقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]؛ ولأن الأصل الاستصحاب.
فَإِنْ أَكَلَ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ فَالْقَضَاءُ
أي: فإن أكل مع شكه في الغروب وبقى على شكه فالقضاء واجب؛ لأن الأكل كان محرماً عليه.
فرع:
قال في المدونة: ومن ظن أن الشمس قد غربت فأكل في رمضان ثم طلعت فليقض. قال في التنبيهات: والظن هنا بمعنى اليقين ولو كان على الشك لكفّر على ما ذكره أبو عبيد في مختصره، ولم يكفّر على ما ذكره الشك لكفر على ما ذكره أبو عبيد في مختصره. ولم يكفر على ما ذكره البغداديون كما لو أكل في الفجر شاكاً فلا كفارة عليه باتفاق. واختلف المشايخ في ترجيح القولين فمنهم من رجح مذهب البغداديين، وقد يستظهر هؤلاء بظاهر لفظه في المدونة، وإن كانت درجة الظن أرفع من درجة الشك، ويأتي بمعنى اليقين لكن تأوله بعضهم بمعنى الشك، ومنهم من رجح قول أبي عبيد، وفرق بين الوقتين؛ لأن أول النهار الأكل مباح فلا يحرم عليه إلا بيقين، ولا يصح حكم الانتهاك إلا بتيقن
تحريمه عليه. وآخر النهار إنما هو في حكم الصوم والفطر عليه حرام إلا بتيقن انتهاء النهار فهو منتهك إن لم يتيقن انقضاء النهار.
وأراد بعض الشيوخ أن يجمع بني القولين، فقال: لعل البغداديين أرادوا بالشك هنا غلبة الظن فيستوي الفطر في الوقتين، وهذا يبعد؛ لأن الشك شيء وغلبة الظن شيء آخر غيره، وأحكامها مختلفة كأسمائهما وحدودهما. انتهى.
وقال الشيخ أبو إبراهيم: من الناس من حمل ما في المدونة على المساواة بين الطلوع والغروب في إسقاط الكفارة. وإليه ذهب القاضي وابن القصار وغيرهما؛ لأنه غير منتهك لحرمة الشهر. ابن يونس: وهو الصواب انتهى.
وانظر قول القاضي: اُتفق على سقوط الكفارة إذا شك في الفجر مع قول ابن عبد السلام: الأصح سقوطها.
فَإِنْ كَانَ غَيْرَ نَاظِرٍ فَلَهُ الاقْتِدَاءُ بِالْمُسْتَدِلِّ وَإِلا أَخَذَ بِالأَحْوَطِ
هذا قسيم قوله: (ناظراً دليله). وحاصله أن الشك قسمان: ناظر وغير ناظر، فالناظر تقدم، وغير الناظر له الاقتداء.
ابن عبد السلام: وظاهره ولو كان قادراً على الاستدلال خلاف ما قالوه في القبلة. ابن حبيب: ويجوز تقليد المؤذن العارف العدل، ويمكن أن يتأول كلامهم على أن من لا علم عنده، ولا فيه أهلية الاستدلال يجوز له أن يقتدي بمن فيه الأهلية. انتهى.
ابن وهب عن مالك: فإن قال له واحد: تسحرت بعد الفجر، وقال آخر: قبله، فأرى أن يقضي.
وقوله: (وَإِلا) أي: وإن لم تكن فيه أهلية ولم يجد من يقلده (أَخَذَ بالأَحْوَطِ) أي: فيترك الأكل.
وَيَجِبُ قَضَاءُ رَمَضانَ، وَالْوَاجِبُ بِالْفِطْرِ عَمْداً - وَاجِباً، وَمُبَاحاً، وَحَرَاماً، أَوْ نِسْيَانَاً، أَوْ غَلَطاً فِي التَّقْدِيرِ فَيَجِبُ عَلَى الْحائِضِ وَالْمُسَافِرِ وَغَيْرِهِمَا ....
عطفه الواجب على رمضان من عطف العام على الخاص.
وقوله: (وَاجِباً، وَمُبَاحاً، وَحَرَاماً) تقسيم لقوله: (عَمْداً) أي: أن الفطر عمداً تارة يكون واجباً كفطر المريض والخاشي الهلاك والحائض، وتارة يكون مباحاً كالفطر في السفر، وقد يكون مندوباً كمن ظن من نفسه وهو مجاهد للعدو إن أفطر تحدث له قوة. وأضرب عن هذا القسم استغناءً بذكر الواجب والمباح. وقد يكون الفطر حراماً وهو واضح.
وقوله: (أَوْ نِسْيَاناً، أَوْ غَلَطاً) قسيمان لقوله: (عَمْداً) والغلط في التقدير هو ما تقدم في لوع الفجر وغروب الشمس، أو غلط في الحساب أول الشهر أو آخره.
وأُورد على المصنف أن ذكره الواجب ليس بجيد؛ لأن النذر المعين لا يقضي بالفطر الواجب عمداً كامرأة نذرت صوم شهر بعينه فحاضت فيه أو مرضت فإنها لا تقضي على المشهور.
وَلَوْ ذَكَرَ فِي أَثْنَائِهِ أَنَّهُ قَضَاهُ، فَلْيُتِمَّ – أَشْهَبُ: إِنْ قَطَعَ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ
أي: إذا ظن أن عليه يوماً فأصبح صائماً ليقضيه ثم تبين له أنه كان قضاه، فقال ابن القاسم يجب عليه إتمامه.
ابن شلبون وابن أبي زيد: يريد: فإن أفطر فعليه قضاؤه، ويؤخذ الوجوب من كلام المصنف من وجهين: من الأمر، ومن مقابلته بقول أِهب: لا شيء عليه إن قطع. واعترض عبد الحق على حمل ابن شلبون وأبي محمد فقال: يظهر لي أن ما قالاه لا يصح على قول املك.
وقد رأيت في المجموعة من رواية ابن نافع عن مالك فيمن جعل على نفسه صيام يوم الخميس فصام يوم الأربعاء يظنه الخميس، فقال: أحب إليّ أن يتم صومه، ثم يصوم يوم
الخميس، وإن أفطر يوم الأربعاء فأراه من ذلك في سعة. وهذا من قول مالك يشهد لقول أِهب؛ لأن ذلك اليوم إنما التزمه على الظن أنه عليه ولم [159/أ] يقصد صومه لنفسه، وإنما يستحب له أن يتمادى، فأما كونه أن يقضيه إن أفطر فبعيد. انتهى.
وشبه أشهب ذلك بمن ذكر العصر فصلى منها ركعة ثم ذكر أنه صلاها فليشفعها بأخرى. وليس كمن قصد التنفل بعد العصر، وإن قطع فلا شيء عليه، وأُجيب بوجهين: أحدهما: لعل ابن القاسم لا يسلم الحكم في الفرع المشبه به.
ثانيهما: أنه في الصوم لم يعتبر فعله؛ وإنما المعتبر عقده بخلاف الصلاة، فإن المعتبر فيها العقد والفعل، وفيه نظر.
خليل: وأحسن من هذا أن يقال: لو أبطل الصوم لزمه إبطال العمل بالكلية، بخلاف الصلاة فإن إذا خرج عن نافلة لا يبطل العمل بالكلية. ولعلهم إنما قالوا: إذا قطع فلا شيء عليه لكونه لا يتنفل بعد العصر.
وَفِي الْوَاجِبِ الْمُعَيَّنِ بِعُذْرٍ كَمَرَضٍ أَوْ نِسْيَانٍ- ثَالِثُهَا: يَقْضِي فِي النِّسْيَانِ، وَرَابِعُهَا: يَقْضِي إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْيَوْمِ فَضِيلَةٌ، وَالْمَشْهُورُ لا يَقْضِي.
أي: وفي قضاء (الْوَاجِبِ الْمُعَيِّنِ)، يريد: غير رمضان إذا كان الفطر لعذر كمرض أو نسيان أو حيض أربعة أقوال:
الأول لمالك في المبسوط: وجوب القضاء إذا مرض، وقيس عليه الناسي. الثاني: سقوط القضاء، لأن الملتزم شيء معين وقد فات، وهو المشهور. الثالث لابن القاسم، يقضي في النسيان دون ما عداه؛ لأنه في النسيان كالمفطر. الرابع لابن الماجشون الفرق بين الأيام التي يقصد فضلها كعرفة وعاشوراء فلا يجب؛ لأن المراد عينها، وبين غيرها فيجب، أما لو أفطر لسفر لوجب عليه القضاء اتفاقاً، نقله ابن هارون.
وَيَجِبُ فِي النَّفْلِ بِالْعَمْدِ الْحرَامِ خَاصَّةً
تقدمت نظائر هذه المسألة في الصلاة.
فرع: ومن الواضحة قال ابن حبيب: لا ينبغي للصائم أن يفطر لعزيمة أو غيرها. وقد سئل عن ذلك ابن عمر فقال: ذلك الذي يلعب بصيامه.
وسئل عن ذلك مالك فشدد القول فيه، ولقد قال لي مطرّف في الصائم في غير رمضان يحل بالرجل في منزله فيعزم عليه أن يفطر عنده، قال: لا يقبل ذلك، وليعزم على نفسه ألا يفعل، وإن حلف عليه بالطلاق أو بالمشيء أو بعتق رقبة حنثه ولم يفطر، إلا أن يكون لذلك وجه. وكذلك لو حلف عليه بالله حنثه ولم يفطر وكفّر الحانث عن يمينه؛ لأن الصائم نفسه لو حلف بالله أن يفطر لرأيت ان لا يفطر وأن يكفر، إلا الوالد والوالدة فإني أحب له أن يطيعهما وإن لم يحلفا عليه، إذا كان ذلك على وجه الرأفة منها عليه لإدامة الصوم وما أشبه ذلك. وقال لي مطرف: وسمعت مالكاً يقوله فيمن يكثر الصوم أو يسرده وأمرته أمه بالفطر. قال مالك: وقد أخبرت عن رجال من أهل العلم أمرتهم أمهاتهم بالفطر ففعلوا ذلك وافطروا. انتهى.
ابن غلاب: وحرمة شيخه كحرمة الوالدين لعقده على نفسه ألا يخالفه، وأن لا يفعل شيئاً إلا بأمره، فصارت طاعته فرضاً، لقوله تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] انتهى.
فإن قيل: لما لم تجيزوا للمتطوع الفطر ابتداءً؟ وما جوابكم عن حديث أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بشراب ثم ناولها فشربت فقالت يا رسول الله: أما إني كنت صائمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصائم المتطوع أمين على نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر".
قيل: إنما لم يجز له ذلك لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1ٍ] ولقوله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، ولما في الموطأ وغيره، أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما أصبحتا صائمتين متطوعتين فأهدى لهما طعام فأفطرتا عليه، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة يا رسول الله: أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين فأهدي لنا طعام فأفطرنا عليه. فقال: "اقضيا مكانه يوماً آخر". ولو كان الفطر جائزاً لم يلزمهما القضاء؛ ولأن العمل على ما قلناه، ألا ترى أن قول ابن عمر: ذلك الذي يلعب بصيامه؟ وأما الجواب عن الحديث فقد قال الترمذي: إن في سنده مقالاً. ولو صح فهو مرجوح بما ذكرناه.
وَفِي قَضَاءِ الْقَضَاءِ مَعَهُ قَوْلانِ
أي: أي من لزمه قضاء يوم فأفطر في القضاء فهل يجب عليه قضاء يومين؟ لأنه أفسدهما؛ ولأنه لما دخل في القضاء وجب عليه إتمامه، ألا ترى أنه لو تبين ألا قضاء عليه لزمه التمادي عند ابن القاسم كما تقدم؟ أو إنما يجب عليه قضاء اليوم الأول لأنه الواجب في الأصل والقضاء ليس مقصوداً لذاته؟ وظاهر كلام المصنف أن هذا الفرع مخصوص بالتطوع؛ لأن ما قبله وما بعده إنما هو فيه، لكن القولين جاريين في الفرض والنفل نقلهما صاحب تهذيب الطالب وابن يونس.
والعجب من قول ابن عبد السلام بعد كلام ابن يونس: وفيه نظر؛ لأن ما نقله في هذه المسألة إنما هو في النوادر، وليس فيها إلا الخلاف في النفل؛ لأن حاصله توهيم ابن يونس وليس بجيد، فإنه الثابت عند جماعة من الشيوخ، وقد عزا [159/ب] القولين ووجههما وقد حكاهما في البيان.
وصاحب النوادر وإن لم يذكر في كتاب الصوم القولين في قضاء قضاء الواجب، فقد ذكرهما في كتاب الحج الثاني.
وقد عين المصنف المشهور في هذه المسألة في كتاب الحج فقال: المشهور ألا قضاء في قضاء رمضان.
وَلَوْ أَكَلَ نَاسِياً حَرُمَ عَلَيْهِ الأَكْلُ ثَانِياً، وَفِي الْعَمْدَ قَوْلانِ
أي: أن المتطوع إذا أفطر ناسياً لم يفسد صومه فذلك يحرم عليه الفطر، وأما إن أفطر في تطوعه عامداً فاختلف هل يجوز له التمادي؛ لأن الصوم قد فسد؟ ولا حرمة للزمان كرمضان. أو يمنع معاملةٌ له بنقيض مقصوده؟
فرع:
وكالنسيان في سقوط القضاء المرض والإكراه وشدة الجوع والعطش والحر الذي يخاف منه تجدد مرض أو زيادته. وفي السفر روايتان: أحدهما، أنه عذر يسقط القضاء، رواها ابن حبيب. والثانية مذهب المدونة أنه ليس بعذر، ومن أفطر فالقضاء، ولذلك أوجب فيها القضاء على من تطوع بالصوم في السفر ثم أفطر، وفي الجلاب رواية أخرى بسقوطه. والله أعلم.
وَلَا يَجِبُ قَضَاءُ رَمَضَانَ عَلَى الْفَوْرِ اتِّفَاقاً، فَإِنْ أَخَّرَهُ إِلَى رَمَضَانَ ثَانٍ مِنْ غَيْرِ عُذُرِ فَالْفِدْيَةُ اتِّفَاقاً .......
لا خلاف في عدم الوجوب قاله ابن عبد السلام، لكن المستحب التقديم، قاله أشهب. واختلف في المؤكد من نافلة الصيام كعاشوراء، هل المستحب أن يقضي فيه رمضان ويكره أن يصومه تطوعاً؟ وهو قوله في العتبية، أو المستحب أن يصومه تطوعاً؟ وهو قوله في سماع ابن وهب، أو هو مخير؟ ثلاثة أقوال، حكاها في البيان. أما ما دون ذلك من تطوع الصيام فالمنصوص كراهة فعله قبل القضاء.
ابن عطاء الله: والفرق بين قضاء رمضان وبين الصلاة المؤقتة؛ فإنه لا يكره له قبل الفريضة إذا كان وقتها متسعاً. ويكره أن يتطوع بالحج قبل الفريضة، وبالصيام قبل القضاء؛ أن
الحج على الفور. وأن القضاء قد ترتب في الذمة، والصلاة لا قائل بأنها على الفور ولم تترتب في الذمة بعد. ألا ترى أنه لو مات قبل أن يصلي لا يعصي. واستحب مالك في المدونة تتابع القضاء، وبقية كلامه ظاهر.
فَلَوْ مَرِضَ أَوْ سَافَرَ عِنْدَ تَعْيِينِ الْقَضَاءِ فَفِي الْفِدْيَةِ قَوْلانِ
أي: لو لم يبق لمرضان. إلا قدر ما عليه فمرض أو سافر حينئذ وهو مراده بقوله: (تَعْيِينِ الْقَضَاءِ). والقولان مبنيان على أنه هل يعد هذا تفريطاً أم لا؟ قال في التنبيهات: واختلف في صفة المفرط الذي تلزمه الفدية على مذهب الكتاب، فذهب أكثر الشارحين إلى أنه إنما تلزمه إذا أمكنه ذلك في شعبان قبل دخول رمضان، فلم يفعله، فمتى سافر فيه أو مرضه أو بعضه فلا تلزمه فدية فيما سافر فيه أو مرضه، ولو كان فيما قبل من الشهور صحيحاً مقيماً، وهو مذهب البغداديين وأكثر القرويين في تأويل الكتاب. وهو معنى ما قال مالك في المبسوط.
وهذب بعضهم إلى مراعاة ذلك في شهر شوال بعد رمضان الذي أفطره، فمتى مضت عليه أيام عدد ما أفطر وهو صحيح مقيم ولم يصم حتى دخل عليه رمضان آخر وجبت عليه الفدية، ولو كان في بقية العام لا يقدر على الصوم. وهذا المذهب أسعد بظاهر الكتاب لقوله في المسألة: إذا صحَّ شهراً [أو أقام في أهله شهراً] أو أوصى أن يطعم عنه أن ذلك في ثلثه مبدأ، ولا يبدأ إلا الواجبات، وبدأه على نذر المساكين، ونذر المساكين واجب، فجعله أوجب منه، فلولا أنه يجب بخروج شوال لكان قد أوصى بما لا يجب عليه وكان كسائر الوصايا التي لا تبدأ. انتهى.
وعلى هذا فكان الأولى أن يقول: فلو مرض أو سافر بعد مضي أيام يمكنه فيها القضاء، والله أعلم.
وَفِيهَا: وَلَوْ تَمَادَى بِهِ الْمَرَضُ أَوِ السَّفْرُ فَلا إِطْعَامَ
هذا ظاهر لا خلاف فيه، وهو قسيم قوله أولاً: فإن أخره إلى رمضان ثان من غير عذر.
فرع:
قال سند: إذا أمكنه القضاء فلم يقضيه حتى مات، فالمذهب أنه لا إطعام عليه في ذلك، وهو قول أبي حنيفة وقال الشافعي: عليه الإطعام.
ابن راشد: وانظر قوله: والمذهب أن لا إطعام، فهو موافق لما حكامه العراقيون. وفي التبصرة: إذا صح شهراً قبل شعبان أو أقامه عند قدومه فلم يصمه حتى مات كان عليه الإطعام عند مالك. فهو خلاف ما قاله سند.
وهِيَ: مُدٌّ بِمُدِّهِ صلى الله عليه وسلم
هذه هو الذي عليه جمهور أصحابنا وقال أشهب: يطعم في غير المدينة ومكة مداً ونصفاً، هو قدر شبع أهل مصر.
الباجي: وإنما ذلك منه على جهة الاستحباب. ابن عطاء الله: ويحمل أن يكون منه على جهة الوجوب.
وَلا يُجْزِئُ الزَّائِدُ عَلَيْهِ لِمِسْكِينٍ
أي: أنه لا يجوز لمن على كفارات أيام، دفع أكثر من مد لمسكين واحد، ولا خلاف ي المذهب في ذلك، وخالف الشافعي في ذلك.
ابن عبد السلام: وهو الظاهر. قال: وهو الظاهر إذا فرعنا على مذهبنا جواز إعطاء مسكين مدّين [160/أ] من عامين أو مدّين متغايري النسبة، وإن كان سببهما يوماً واحداً كالحامل مثلاً إذا أفطرت يوماً من رمضان ولم تقضه حتى دخل رمضان ثان، وكالمفطر متعمداً وترك قضائه إلى دخول رمضان ثان.
خليل: وقد يقال: بل الظاهر أنه مكروه قياساً على ما قاله في المدونة، ونقله المصنف في باب الظهار. وهو قوله: وإذ كفر عن يمين ثانية ولم يجد إلا مساكين الأولى، ففيها لا يعجبني أنه يطعمهم كانت مثلها أو مخالفتها كالظاهر واليمين بالله إلا أن تحدث الثانية بعد التكفير.
وَفِي وَقْتِهَا قَوْلانِ، عِنْدَ الْقَضَاءِ، الثَّانِي، أَوْ بَعْدَهُ وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ
أي: اختلف في الوقت الذي تجب فيه الكفارة على قولين: أحدهما أنه عندما يأخذ في القضاء أو بعده وهو مذهب الكتاب ليتفق الجابر النسكي والمالي.
ابن حبيب: والمستحب فيه كلما صام يوماً أطعم مسكيناً، ومن قدّم الإطعام أو آخّره.
أو فرّقه أو جمعه أجزاه. ووسع في المدونة في الإطعام إذا أخذ في القضاء في أوله أو أخره، وظاهره التخيير؛ وانظر هل هو موافق لقول ابن حبيب أم لا؟
ومعنى قوله: (الْقَضَاءِ، الثَّانِي) أي زمان القضاء الثاني؛ وذلك لأنه أضاف القضاء في الزمان الذي يقضي فيه إلى رمضان ثان، وترتبت بسبب ذلك الفدية فالزمان يقضي فيه بعد رمضان الثاني، هـ ومراده بقوله:(الثَّانِي) فالثاني صفة لمحذوف لا القضاء؛ إذ ليس ثم قضاء أول حتى يكون قضاء ثان، والقول الثاني لأشهب تعذر القضاء، فإذا مضى له يوم من شعبان أطعم عنه مداً.
تنبيه:
قال أشهب في المجموعة: ومن عجّل كفارة التفريط قبل دخول رمضان الثاني ثم لم يصم حتى دخل الثاني لم يجزه ما كفّر قبل وجوبه، فإن كان عليه عشرون يوماً فلمّا بقى لرمضان الثاني عشرة أيام كفر عن عشرين يوماً لم يجزه منها إلا عشرة، وشبهه اشهب بالمتمتع يصوم قبل الإحرام بالحج.
ابن عطاء الله: وهو بيّن؛ لأنه إخراج الشيء قبل وجوبه وقبل جريان سبب وجوبه. انتهى. وفي الجلاب: إذا قدّمه قبل القضاء أو أخره أجزأه، والاختيار أن يطعم مع القضاء.
فرع:
إذا مات، فإن أوصى بالفدية كانت في الثلث مقدمة على سائر الوصايا التي تبرع بها عتقاً أو غيره، وإن لم يوص لم يلزم الورثة، وذكر أبو الفرج في حاويه رواية بأنه يكفر عنه في الثلث، وإن لم يوص، قال في النوادر: وهي مخالفة لأصل مالك.
وَلَوِ اِجْتَمَعَ نَحْوَ صَوْمِ التَّمَتُّعِ وَقَضَاءُ رَمَضَانَ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ بُدِئَ بِالتَّمَتُّعِ عَلَى الْمَشْهُورِ
أي: لو وجب عليه قضاء صيام رمضان مع صيام الهدي، وهو مراده بنحو صوم التمتع ولم يقرب رمضان الثاني حتى يضيق ما بقي من الأيام عن عدد الهدي وأيام القضاء، وهو مراده بقوله:(وَلَمْ يَتَعَيَّنْ)، فإن المشهور أنه يبدأ بأيام الهدي.
قال بعضهم: لأنه لما صام ثلاثة أيام في الحج فلو أتى بصيام القضاء قبل صوم التمتع وقعت التفرقة في صوم التمتع من غير ضرورة؛ وهذا أبين إذا صام الثلاثة في الحج، ومنهم من علل بعلة عامة تدل على قوة علم مالك بالأصول وهي أنه لما كان قضاء رمضان واجباً موسعاً، وصوم الهدي في قوله تعالى:(فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم)[البقرة: 196] واجباً مضيقاً، فإذا تعارض الموسع والمضيق كان تقديم المضيق أولى.
ومقابل المشهور من كلامه يحتمل أن يردي به التخيير. ونقله اللخمي عن أشهب، ويحتمل أن يريد به تقديم القضاء لنهي دل على ما هو آكد منه، وقد ذكره ابن بشير.
بِخِلَافِ مَا لَوْ تَعَيَّنَ
أي: فإنه يبدأ بالقضاء اتفاقاً؛ لأن تأخير القضاء يوجب الفدية، وتأخير صيام التمتع لا يوجب شيئاً.
وَكُلُّ زَمَنٍ يُخَيِّرُ فِي صُوْمِهِ وَفُطْرَهِ وَلَيْسَ بِرَمَضَانَ فَمَحَلٌّ لِلْقَضَاءِ
مراده بالتخيير صحة الصوم والفطر شرعاً لا التخيير الذي يقتضي التساوي؛ لأن التطوع مندوب. واحترز بقوله: (وَلَيْسَ برَمَضَانَ). من المسافر في رمضان، فإنه زمان يخير في صومه وفطره بالنسبة إليه، لكن لا يصح أن يقضي فيه؛ لأن رمضان لا يقبل غيره.
بِخِلافِ الْعِيدَيْنِ
أي: أنه لا يصح صومهما، فلا يقضي فيهما وهو زيادة إيضاح.
وَأَمَّا الأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: فَثَالِثُهَا: يُصَامُ الثَّالِثُ دُونَهُمَا
أي: اختلف هل يقضي رمضان في الأيام الثلاثة التي بعد يوم النحر؟ فقيل: يقضي فيها. وقيل: لا، وهو المشهور، وقيل: يقضي في الثالث دون الأولين.
ومقتضى كلامه أن الأقوال الثلاثة فيا لجواز ابتداء. واللخمي إنما نقلها في الأجزاء، وهو مقتضى تعليل ابن عطاء الله، فإنه قال: منشأ الخلاف النهي الوارد عن صيامها هل هو التحريم أو على الكراهة؟ أو يفرق؟ لأن الثالث لما كان للحاج أن يتعجل فيه صار كأنه من غير أيام التشريق.
وَكَذَلِكَ لَوْ نَذَرَهَا تَعْيِيناً أَوْ تَبَعاً
أي: أن هذه الأقوال موجودة في ناذر صوم أيام التشريق، سواء نذرها تعيناً بأن يقول: لله علي أن أصوم أيام التشريق. أو تبعاً بأن ينذر سنة أو شهر ذي الحجة. وحكى المصنف الخلاف مطلقاً. ابن راشد: قال بعضهم: لا خلاف في المذهب أنه لا يجوز صوم اليومين الأولين عن نذر معين أو غير معين، وحكى الباجي وابن عطاء الله أن أبا الفرج قال في الحاوي: ومن نذر اعتكاف أيام التشريق اعتكفها وصامها. وهذا يصحح طريقة
المصنف، وللباجي طريقة ثالثة؛ لأنه قال: وأما آخر أيام التشريق فيصومه من نذره بلا خلاف، وأما من نذر صوم ذي الحجة، فقال ابن القاسم: يصومه.
وقال ابن الماجشون: أحبُّ إلي أن يفطر ويقضيه، ولا أوجبه. وأما من نذر صوم عام معين، ففي المختصر لمالك لا يصوم الرابع. وفي المدونة ما يدل على أنه يصومه. انتهى.
وانظر: لمّ ألزم هنا بالنذر في الأيام الثلاثة على أحد الأقوال مع أن القاعدة: أن النذر لا يلزم في المكروه؟ وهذا السؤال وارد على المشهور الذي ألزمه اليوم الثالث بالنذر مع أن صيامه مكروه.
ويمكن أن يجاب عن المشهور بأن في صوم هذا اليوم جهتين: إحداهما أنه يوم ليس هو يوم عيد ولا يوم نحر عند مالك ولا يرمي المتعجل فيه الجمار.
وهذا الجهة تضعف أن يكون من أيام التشريق التي ورد النهي عن صيامها.
والثانية: أنه يوم ذبح عند بعضهم، ويطلق عليه اسم أيام التشريق، ويرمي فيه من لم يتعجل. وهو من هذه الجهة، يشمله عموم النهي عن صيام أيام التشريق فغلبنا الجهة الأولى لما أن اقتضى النذر وجوب صيامه إما تعيناً أو تبعاً لأن الوجوب مرجح على شائبة الكراهة احتياطاً لبراءة الذمة، ولما لم يعارض الكراهة ما هو أقوى منها غلبنا عليه الشائبة الأخرى، فقلنا: لا يصام تطوعاً. ولا يقال: إن اعتبار الجهتين من أصله باطل؛ لأن حديث زمعة دليل واضح على صحة القول به.
وَلَوْ نَوَى الْقَضَاءَ بِرَمَضَانِ عَنْ رَمَضَانَ – فَثَالِثُهَا: لا يُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالأَوَّلانِ تَحْتَمِلُهُمَا الْمُدَوَّنَةَ لأَنَّ فِيهَا: وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الآخرِ؛ فَجَاءَ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِهَا ....
تصور المسألة واضح والثلاثة الأقوال كلها لابن القاسم، والأولان لمالك. فوجه القول بأنه يجزيه عن القضاء ما رواه البخاري ومسلم: من قول صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات وإنما للكل امرئ ما نوى". ووجه عكسه كون رمضان لا يقبل غيره. وأما
عدم إجزائه عن الأداء فلكونه لم ينوه. ابن الجلاب: وهو الصحيح. قال ابن رشد: وهو الصواب عند أهل النظر كلهم. قوله: (وَالأَوَّلانِ تَحْتَمِلُهُمَا الْمُدَوَّنَةُ). الاحتمال على رواية الفتح فقط. وأما على رواية الكسر فلا تحتمل إلا الإجزاء عن رمضان الخارج. ورجّح ابن رشد رواية الكسر؛ لأن المسألة وقعت صريحة في اختصار المبسوط عليها.
فروع:
الأول: إذا بنينا على المختار عند الأكثر من عدم الإجزاء لهما فقال ابن المواز. يكفّر عن الأول مُدَاً لكل يوم ويكفر عن الثاني بكفارة العمد في كل يوم.
أبو محمد: يريد: إلا أن يعذر يجهل أو تأويل؛ وقال أشهب: لا كفارة عليه؛ لأنه قد صامه ولم يفطره. أبو محمد: وهو الصواب.
الثاني: لو نوى بصومه رمضان الداخل والخارج؛ فقال ابن حبيب: يجزئه عن الداخل، ولا يفسد صومه ما زاد فيها مما لا يجوز له من نية القضاء. وروى أشهب أنه لا يجزئه عن واحد منهما. قال في البيان: وهو بعيد.
خليل: وقد يقال: هو الظاهر؛ لأنه قصد أن يكون بعض اليوم أداء وبعضه قضاء، ومثله غير واقع.
الثالث: إذ كان في سفر في رمضان فنوى برمضان قضاء رمضان آخر فقال ابن القاسم: لا يجزئه. وقال محمد بن عبد الحكم: يجزئه، وهو أخفّ من الحضر لجواز الفطر له.
فَلَوْ صَامَ رَمَضَانَ عَنْ نذره وفريضته فَالْمَنْصُوصُ لا يُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وخَرَّجَهُمَا اللَّخْمِيُّ عَلَى الأُولَى ....
أي: لو كان عليه نذر فصام رمضان أو بعضه عن نذره لم يجزه ذلك لا عن نذره ولا عن رمضان عن المنصوص، وخرّج اللخمي فيها القولين الأولين، ابن بشير: لعل ذلك لا يجزئ لبعد ما بين [الوجهين] بخلاف ما إذا قصد ما هو من جنس واحد.
وَفِيهَا: وَمَنْ نَوَى نَذْرَهُ وَحَجَّةُ الْفَرِيضَةِ أُجْزَأَهُ لِنَذْرِهِ فَقَطْ
وهذه المسألة ذكرها المصنف في النذور، وذكر فيها أربعة أقوال: ولعله أتى بها ها هنا إشارة إلى طلب الفرق بينها وبين التي قبلها. ويمكن أن يفرق بينهما بأن رمضان لا يقبل غيره. فلذلك لا يجزئ عن القضاء الذي نواه، بخلاف الحج، فإن الزمان لا يتعين لحجة والفريضة.
وَلا يَجِبُ التَّتَابُعُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ كلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ
هذا ظاهر، ونص مالك وابن القاسم [161/أ] وأشهب على الاستحباب. قال أشهب: كل ما لم يذكر الله سبحانه التتابع فيه، فإن فرقه أجزأه وبئس ماصنع.
وَيَجِبُ الْعَدَدُ، وَقِيلَ: إِلا أَنْ يَصُومَ شَهْراً مُتَتَابِعاً، وَيَكُونُ أَكْمَلَ، فَيَجِبُ إِكْمَالُهُ
يعني: أن المشهور وجوب قضاء ما أفطر مطلقاً صام في أول الشهر أو أثنائه لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. وروى ابن وهب إن صام بغير الهلال فكذلك، وإن صام بالهلال أجزأه ذلك الشهر سواء اتفقت أيامهما أو كان عدد القضاء أكمل أو أنقص. هكذا نقل صاحب النوادر وغيره.
وكلام المصنف يقتضي أنه إذا كان رمضان تسعة وعشرين فصام شهراً فكان ثلاثين، وجب عليه إتمامه، وهو لا يدل على العكس، لاحتمال أن يقال: إذا كان رمضان أكمل يجب أن يكون القضاء كذلك، ويفرق بالاحتياط والنقل كما تقدم.
وَلا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ
أي: أن الكفارة من خصائص رمضان؛ إما لأن القياس لا يدخل باب الكفارات أو يدخله ولكن حرمة رمضان زائدة على حرمة غيره فلا يتحقق الجامع، هذا هو المشهور،
وقال ابن حبيب: إذا نذر صوم الدهر ثم أكل متعمداً فعليه كفارة من أكل في رمضان. قال: لأنه لا يجد له يوماً يقضيه إلا وصومه عليه واجب، كما لا يجد المفطر في رمضان يوماً فارغاً. وكذلك قال ابن الماجشون.
قال فضل: ذكر ابن الماجشون في ديوانه الكفارة مجملة ولم ينص فيه على ما نص ابن حبيب من كفارة المفطر في رمضان، والذي يعرف لابن كنانة وغيره من أصحابنا أنه يكفر بمد عن اليوم الذي أفطر فيه. انتهى.
وقال الشيخ الحافظ أبي الحسن بن المفضل بن علي المقدسي المالكي في كتاب بيان أحكام التطوع بالصيام في الشهور والأعوام من تأليفه فيما إذا نذر صوم الدهر ثم أفطر يوماً متعمداً قال: كافة الناس لا شيء عليه، وليستغفر الله.
وقال ابن نافع وعبد الملك: عليه الكفارة. قال: هذا ما ذكره ابن العربي عنهما، وأما ابن الماجشون فقد نقل عنه غير واحد أنه قال: عليه كفارة المفطر في رمضان.
وأما ابن نافع فلم أجد عنه في ذلك نقلاً، وأما سحنون فإنه قال: عليه إطعام مسكين.
وَتَجِبُ بإِيلاجِ الْحَشَفَةِ، وَبِالْْمَنِيِّ، وَبِمَا يَصِلُ إِلَى الْحَلْقِ مِنْ الْفَمِ خَاصَّةً، وبالإصْبَاحِ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ، وَلَوْ نَوَى الصَّوْمَ بَعْدَهُ عَلَى الأَصَحِّ ....
أي: وتجب الكفارة بإيلاج الحشفة وإن لم يكن إنزال، يريد وكذلك مثلها من مقطوعها، وبالمني ولو بالقبلة وما في معناها، وبما يصل إلى الحلق من الفم.
واحترز بقوله: (خَاصَّةً) من قول أبي مصعب، وسيأتي.
وقوله: (وَبالإِصْبَاحِ بنِيَّةِ الْفِطْرِ)، وهو مذهب المدونة، وهو الصحيح، وروى أبو الفرج عن مالك: لا كفارة على من بيت الفطر ولم يأكل ولم يشرب حتى أمسى، قال بعض الشيوخ: وهذا الخلاف يجب أن يكون إذا نوى في أثناء الشهر، وأما لو نوى الفطر
في أول ليلة لوجب أن يكفر باتفاق؛ لأنه لم ينو الصيام ولم يزل عنه حكم الكفارة على المذهب نية الصوم بعد ذلك.
ولو قال: على الصحيح، لكان أولى من قوله:(عَلَى الأَصَحَّ)، ومفهوم كلام المصنف: ولو نوى الصوم بعده؛ أنه لو لم ينو وجبت الكفارة من غير إشكال، وهو كذلك؛ لكنه ليس متفقاً عليه، فإن أبا الفرج نقل فيه رواية بالسقوط، وبه قال أِهب على ما فهمه بعض الشيوخ من كلامه في المدونة.
ولنذكر ذلك ليتبين لك ذلك، قال فيها: قال مالك: ومن أصبح ينوي الفطر في رمضان فلم يأكل ولم يشرب حتى غابت الشمس أو مضى أكثر النهار فعليه القضاء والكفارة، قيل لابن القاسم: فإن نوى الفطر في رمضان إلا أنه لم يأكل ولم يشرب؟ قال: لا أدري هل أوجب مالك عليه مع القضاء الكفارة أم لا؟ وأحب إلي أن يكفر مع القضاء، ولو أصبح ينوي الفطر في رمضان ولم يأكل ولم يشرب ثم نوى الصيام قبل طلوع الشمس وترك الأكل وأتم صومه لم يجزه صوم ذلك اليوم. وبلغني عن مالك أن عليه القضاء والكفارة وهو رأيي. قال أِهب: عليه القضاء ولا كفارة عليه. انتهى.
واختلف الشيوخ هل خلاف شهبٍ خاصٍ بالأخيرة أو هو عائد على الثلاث.
وَبِرَفْعِ النِّيَّةِ نَهَاراً عَلَى الأَصَحِّ
بناء على أن الصوم يرتفع. وهذه المسألة هي المسألة الثانية من مسائل المدونة المتقدمة آنفاً.
ذَاكِراً مُنْتَهِكاً حُرْمَةَ رَمَضانِ فَلا كَفَّارَةَ مَعَ النِّسْيَانِ، وَالإِكْرَاهِ، وَالْغَلَبَةِ، وَقِيِلَ: إِلا فِي نِسْيَانِهِ الْجِمَاعَ وَإِكْرَاهِهِ ..
ليس قوله: (ذَاكِراً مُنْتَهِكاً). مختصاً برفع النية، بل هو راجع إليه وإلى ما تقدم، وأخرج بالذاكر، الناسي. وبالمنتهك، المتأول والمكره.
ولما كان قوله: (فَلا كَفَّارَةَ مَعَ النِّسْيَانِ، وَالإِكْرَاهِ) نتيجة الكلام الأول، عطفه بالفاء الدالة على [161/ب] السببية. ومراد المصنف بالغلبة: من يغلب على الصيام ولا يقدر عليه بمرض أو نحوه. ويحتمل أن يريد بالغلبة ما يدخل عليه غلبة كالذباب والمضمضة ونحوهما. ويحتمل أن يريدهما معاً.
وقوله: (وَقِيلَ)
…
إلى آخره، يعني أن المشهور سقوطا لكفارة عن الناسي في رمضان لعدم انتهاكه، والقول الثاني لابن الماجشون وهو مروي عن مالك وجوبهما لترك الاستفصال في قضية المجامع لقوله: واقعت أهلي في رمضان.
وأجيب: بأن قرينة الحال من ضرب الصدور ونتف الشعر يبين كون الوقاع عمداً.
فإن قلت: ما حكاه المصنف من الخلاف في الإكراه، إما أن يريد به المرأة المكرهة أو الرجل المكره لها. فإن أراد الأول ففيه نظر. فإنا لا نعلم من قال بالوجوب في حقّها مع يسر الزوج. وإن أراد الثاني فسيقول: والمشهور وجوبها على المكره؛ فيصير تشهيره هنا مخالفاً لما سيشهره. فالجواب أنه لا يريد لا هذا ولا هذا، بل يريد أن الرجل المكره لا تجب عليه الكفارة على المشهور، قال في التنبيهات: واختلف في الرجل المكره على الوطء، فقيل: عليه الكفارة، وهو قول عبد الملك. وأكثر أصحابنا، أنه لا كفارة عليه، ولا خلاف أن عليه القضاء، والخلاف في حده، والأكثر إيجاب الحد عليه.
وَفِي نَحْوِ التُّرَابِ وَفَلْقَةِ الطَّعَامِ عَلَى تَفْرِيعِ الإِفْطَارِ قَوْلانِ
قد تقدم هذا بما فيه كفاية.
فائدة: قال اللخمي: الجاهل كالمتأول في إسقاط الكفارة على المعروف من المذهب؛ لأنه لم يقصد انتهاك حرمة الصوم. قال: وجعله ابن حبيب كالعالم.
وَالْمَشْهُورُ وُجُوبُهَا عَلَى الْمُكْرِهِ، وَلِذَلِكَ تَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ عَنِ امْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَوْ غَيْرَهِمَا إِذَا أَكْرَهَهُنَّ .....
لا خلاف في وجوب الكفارة على المكره المذكور عن نفسه، والمشهور أنه تجب عليه أخرى عن المكرهة، وقال ابن عبد الحكم وسحنون ورواه ابن نافع عن مالك لا يلزمه عنها شيء وصحح؛ لأن وجوبها عليه فرع وجوبها عليها، وهي لا تجب عليها، وعلى المشهور فهل هي واجبة عليه بالأصالة؛ لأنه أفسد صومين؟ أو بالنيابة؟ المشهور، الثاني؛ فلذلك لا يكفر إلا بما يجزيها في التفكير، فلو كانت أمة لم يصح له التكفير بالعتق، إذ لا ولاء لها، نص عليه صاحب النكت وغيره. ولا يكفر عنها بصوم؛ لأن الصوم لا يقبل النيابة.
ابن عطاء الله: وعليه يخرج قول المغيرة. وفي المجموعة: أنه إذا أكره زوجته ثم كفر عنها بعتق أن الولاء يكون لها وعليه، فإن أعسر كفرت عن نفسها، فإذا أيسر رجعت عليه إلا أن تكفر بالصوم.
عبد الحق عن بعض شيوخه: وترجع بالأقل من مكيلة الطعام أو الثمن الذي اشترته به، أو قيمة الرقبة، أي ذلك أقل رجعت به. وعلى القول بالأصالة يجوز له أن يكفر بالعتق، ويكون الا لولاء له. وعورضت هذه المسألة بمن أكره شخصاً وصبّ في حلقه ماء فإنه نص في المدونة على أنه لا تجب عليه كفارة. نعم أوجبها ابن حبيب، وقد يفرق بينهما بأن المكره لزوجته أو أمته حصلت له لذة فناسب أن تجب عليه عنهما، وأما من صب في حلق إنسان ماء فلم يحصل له شيء. ويؤيده أنه لو أكره غيره على أن يجامع لم تكن عليه كفارة عند الأكثر كما تقدم. وفي مسائل القاضي إسماعيل عن مالك في قوله: لا غسل على المكرهة إلا أن تلتذ ولا عن النائمة.
ابن القصار: فتبين بهذا أنها لا تكون مفطرة. يريد لا قضاء عليها، وهو خلاف المعروف عندنا.
ونقل ابن راشد عن ابن حبيب أنه قال: إذا جامع زوجته نائمة عليها الكفارة. واختلف في الذي يقبل امرأته مكرهة حتى ينزلا، فقال ابن القابسي وابن شبلون: يكفر عن نفسه فقط، وعليهما القضاء.
وقال الشيخ أبو محمد وحمديس: يكفر عنها. وكل أول المدونة على ما ذهب إليه، ورجح مذهب ابن أبي زيد، لأن الانتهاك من الرجل حاصل فيهما. ومفهوم قوله:(إِذَا أَكْرَهَهُنَّ) أن الأمة يتصور في حقها الطوع والإكراه كالحرة. والذي في النوادر: قال بعض أصحابنا: إن وطئ أمته كفَّر عنها وإن طاوعته، لأن طوعها كالإكراه للرق؛ ولذلك لا تحد المستحقة، وإن كانت تعلم أن واطئها غير المالك.
ابن يونس: إلا أن تطلبه هي بذلك، فتلزمها الكفارة، وتحد المستحقة إن لمتعذر بجهل. انتهى. وينبغي أن يلحق بالسؤال ما إذا تزينت، ولم أر في كتب الأصحاب خلاف ما نقله الشيخ أبو محمد.
فرع:
ويكفر العبد والأمة بالصيام إلا أن يضر ذلك بالسيد، فيبقى ديناً عليهما، إلا أن يأذن لهما السيد في الإطعام، وإن أكره العبد زوجته فقال ابن شعبان: هي جناية إن شاء السيد أسلمه أو افتكه بأقل القيمتين من الرقبة أو الإطعام، وليس لها أن تأخذ ذلك وتكفر بالصيام؛ إذ لا ثمن له.
ابن محرز: ومعنى قول ابن شعبان: من الرقبة أي التي يكفر [162/أ] بها، لا رقبة العبد الجاني وهو خلاف ما حكاه أبو محمد في نوادره، وهو أِبه بالأصول مما حكاه أبو محمد.
ويحتمل عندي أن يفديه السيد بالأكثر من الأمرين؛ لأن المرأة مخيرة فيما تكفر به. وهذا الوجه أقوى عندي من الأول؛ لأنه لاحظ ي الأول كون المكفر إنما يكفر بأخف الكفارات لا بأثقلها. انتهى معناه.
خليل: وقوله خلاف ما حكاه أبو محمد إلى آخره، يريد لأن في عبارة الشيخ أبي محمد: يفديه بالأقل من ذلك أو من رقبته؛ فهذا يقضي قيمة العبد وليس حكم الجناية المتعلقة برقبة العبد هكذا بل يفتكه بأرش الجناية أو يسلمه، وعلى هذا ففي نقل أبي محمد نظر فاعلمه.
وَفِي مُكْرَهِ جِمَاعِ الرَّجُلِ قَوْلانِ
يعني: اختلف في المكره غيره على أن يجامع، هل تجب على فاعل الإكراه كفارة أم لا؟ والأقرب السقوط؛ لأنه متسبب والمكره مباشر.
وَلا كَفَّارَةَ فِيمَا يَصِلُ مِنْ أَنْفٍ أَوْ أُذُنٍ أَوْ حُقْنَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَقوْلُ أَبِي مُصْعَبٍ فِي الأَنْفِ وَالأُذُن بَعِيدٌ ....
هذا كما قال ابن بشير وغيره: أنه لا خلاف في سقوط الكفارة فيما يصل إلى المعدة من غير الفم إلى ما قاله أبو مصعب فيما يصل من منفذ واسع واستبعد قوله بأن الكفارة معللة بالانتهاك، الذي هو أخص من العمد وهذا لا تتشوف النفوس إليه، وكأن أبا مصعب يراها معللة بالعمد ويرى هذا انتهاكاً.
اللخمي: وقول أبي مصعب في السعوط وتقطير الدهن في الأذن والحشفة إن وصل شيء من ذلك إلى الجوف فعليه القضاء والكفارة، وإن وصل من العين فلا قضاء عليه ولا كفارة؛ يريد لأنها منفذ لطيف.
فَإِنَّ تَأَوَّلَ بِوَجْهٍ قَرِيبٍ كَمَنْ نَسِيَ فَظَنَّ الْبُطْلانِ فَأَفْطَرَ ثَانِياً، وَكَمَنْ لَمْ تَغْتَسِلْ حَتَّى أَصْبَحَتْ فَظَنَّتْ الْبُطْلانَ فَأَفْطَرَتْ، وَكَمَنْ قَدِمَ لَيْلاً فَطَنَّ الْبُطْلانَ فَأَصْبَحَ مُفْطِراً، وكَالْرَّاعِي عَلَى أَمْيَالٍ فَيُفْطِرُ بِظَنِّ السَّفَرِ، قَالَ اِبْنُ الْقَاسِمِ: كُلَّ مَا رَأَّيْتُهُ يسْأَلُ عَنْهُ وَلَهُ تَاوِيلُهُ، قَالَ: فَلا كَفَّارَةَ، إِلا الْمُفْطِرَةَ عَلَى أَنَّهَا تَحِيضُ فَتُفْطِرُ ثُمَّ تَحِيضُ، وَالْمُفْطِرَ عَلَى أَنَّهُ يَوْمَ الْحِمَى فَيُفْطِرُ يَحَمُّ، وَفِيهَا: وَفِي الْوَجْهِ الْبَعِيدِ مِثْلُهُمَا: قَوْلانِ – كَمَنْ رَآهُ وَلَمْ يُقْبَلْ.
أي: فإن تأول المفطر فلا يخلو إما أن يكون تأويله قريباً أو لا؟ فإن كان قريباً أي مستنداً ولسبب موجود، لم تلزم الكفارة لما تقدم أنها معللة بالانتهاك وهو معدوم هنا.
وإن كان بعيداً أي لم يستند إلى سبب موجود لم تسقط الكفارة. ومثل القريب بأربع مسائل. والبعيد بثلاث، وكلها في المدونة.
كما ذكر المسألة الأولى من الأربع، من أفطر ناسياً ثم أفطر بعد ذلك متعمداً معتقداً أن التمادي لا يجب عليه. ولم يذكر فيها خلافاً. وفيها ثلاثة أقوال، المشهور منها ما ذكره، وبه قال أشهب، والثاني لعبد الملك وجوبها. والثالث: الفرق لابن حبيب بين أن يفطر ثانياً بأكل أو شرب فتسقط، وبين أن يكون بجماع فتجب. أما إن أفطر مع علمه بأن الفطر لا يجوز له، فعليه الكفارة.
قال سند وابن عطاء الله: اتفاقاً، إلا عند عبد الوهاب قال: لأن أكله الثاني لم يصادف صوماً. وصرح ابن الجلاب بأنه إذا قصد هتك الصيام والجرأة عليه، أن عليه الكفارة.
المسألة الثانية: من انقطع حيضها قبل الفجر ولم تغتسل حتى طلع الفجر، فظنت بطلان صومها فأفطرت، قال أِهب في المجموعة: وكذلك من أصبح جنباً فظن أن صومه فسد فأفطر لا كفارة عليه.
المسألة الثالثة: من قدم ليلاً من سفره مفطراً فظن أنه لا ينعقد له صوم في صبيحة تلك الليلة وتوهم أن من صحة انعقاد الصوم أن يقدم قبل غروب الشمس فأفطر.
المسألة الرابعة: الراعي يخرج لرعي ماشيته على أميال فظن أن مثل ذلك سفر مبيح للفطر.
وألحق ابن القاسم بهذه الأربعة من رأي هلال شوال نصف النهار فافطر، فأسقط عنه الكفارة لتأويله، ومن احتجم فظن الحجامة تفطر الصائم فأفطر. وقال أصبغ: هو تأويل بعيد. وألزم ابن حبيب فيه وفي المغتاب يفطر بعد ذلك الكفارة، وجعل في العتبية من القريب من تسحر قرب الفجر فظن أن ذلك اليوم لا يجزيه فأكل متأولاً فقال: لا كفارة عليه.
والاستثناء في قول ابن القاسم: إلا المفطرة، استثناء منقطع؛ لأن تأويلها وتأويل من ذكر المصنف بعد هذا لا يرفع الكفارة لبعده.
ومعنى المسألة: أن المرأة إذا جرت لهاعادة الحيض في يوم معين فتصبح فيه مفطرة قبل ظهور الحيض ثم تحيض باقي ذلك النهار.
وقوله: (وَالْمُفْطِرَ). عطف على (الْمُفْطِرَةَ).أي من به حمَّي الربع فيصبح يوم حماه مفطراً، ثم يحم، وجعل ابن عبد الحكم تأويل الحائض وصاحب الحمى تأويلاً قريباً.
الصورة الثالثة مما مثل به المصنف، البعيد: من رأى هلال رمضان فأصبح مفطراً لكونه لم تقبل شهادته ظاناً أن حكم رمضان لا يتبعض في حق المكلفين.
[162/ب] وقد تقدم هذا الفرع وما فيه. لكن في قوله: (وفي الْوَجْهِ الْبَعِيدِ)، نظر؛ لان مقتضاه أن القولين اتفقا على أنه بعيد، واختلف في وجوب الكفارة وليس كذلك بل من أسقط الكفارة رآه تأويلاً قريباً.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا إِطْعَامُ سِتَّيْنَ مِسْكِيناً مُدّاً مُدّاً كَإِطْعَامِ الظّهَارِ دُونَ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ وَقِيلَ: عَلَى الأَوْلَى، وَقيِلَ: عَلَى التَّخْيِيرِ وَقِيلَ: عَلَى التَّرْتِيبِ كَالظِّهَارِ، وَقِيلَ: الْعِتْقُ أَوِ الصِّيَامُ لِلْجِمَاعِ والإِطْعَامُ لِغَيْرِهِ، وَفِيهَا: لا يَعْرِفُ مَالِكٌ إلا الإِطعَامِ لا عِتْقاً ولا صَوْماً .....
يعني: أنه اختلف في الكفارة الكبرى في رمضان هل هي مقصورة على الإطعام؟ أو هي على التخيير في الثلاثة، أو هي على الترتيب كالظهار، أو تتنوع؟ ومقتضى كلامه أن المشهور الحصر في الإطعام بدليل جعله الإطعام على سبيل الأولى مقابلاً له، وفيه نظر، فإن ذلك نص عليه غير واحد أن المعروف والمشهور من مذهبنا أنها على التخيير. ولفظ ابن عطاء الله: المعروف من مذهبنا أنها على التخيير لكن الأولى الإطعام؛ لأنه أعم نفعاً. ومنهم من علل استحباب الإطعام لكونه هو الوارد في الحديث.
واستحب مالك في كتاب ابن مزين البداية بالصوم ثم بالعتق، واستحب المغيرة البداية بالعتق، وقال ابن حبيب: العتق أحب إلي فإن لم يجد فالصيام، فإن لم يستطع فالإطعام هكذا نقل اللخمي، ونقل عياض عنه أنها عنده على الترتيب.
ونقل الباجي عن المتأخرين من الأصحاب أنهم يراعون في الفضل الأوقات والبلاد؛ فإن كانت أوقات شدة فالإطعام أفضل، وإن كانت أوقات خصب ورخاء فالعتق أفضل.
وقد أفتى الفقيه أبو إبراهيم من استفتاه في ذلك من أهل الغنى الواسع بالصيام لما علم من حاله أنه أشق عليه من العتق والإطعام، وأنه أردع له عن انتهاك حرمة رمضان. وتبع المصنف في القول الأول ابن بشير، وليس بجيد. والقول بأنها تتنوع لأبي مصعب، وهو ضعيف؛ لأن الحديث الذي هو أصل هذه الكفارات إنما كان في الجماع ووقع التكفير فيه بالإطعام.
وقوله: (كَإِطْعَامِ الظِّهَارِ) كجنس ما يطعم في الظهار، ويحتمل أن يريد بالتشبيه أنه لا يجزئ أقل من المد، وقد نصَّ صاحب اللباب عليه، وذكر أنه قول مالك والشافعي، وليس التشبيه في القدر، فإن هذه بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك بمد هشام على المشهور.
واحتج من قال بالترتيب بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت؛ فقال: ما لك؟ قال: واقعت أهلي وأنا صائم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"هل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ " قال: لا، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق من تمر فقال: "تصدق به" الحديث.
واحتج القائل بالتخيير بما في الموطأ قال: أمره النبي – صلى الله عليه وسلم – بعتق رقبة أو بصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً، مع أنه أقرب إلى البراءة الأصلية.
وعلى كل منهما اعتراض، أما على الأول فلأن قوله صلى الله عليه وسلم:(هل تجد)، وهل تجد لا تدل على الترتيب. وأما على الثاني فلاحتمال أن تكون أو للتفصيل. دلت الرواية الأخرى على أن المراد الترتيب، والأصح المشهور، فإن قوله: هل تستطيع؟ ليس فيه دليل على الترتيب، لا بالنص ولا بالظاهر، وقاله عياض.
وحمل مطرف وابن الماجشون وابن حبيب وصاحب النكت وغيرهم.
قوله في الكتاب: (لا يَعْرِفُ مَالِكٌ إلا الإطعَامِ) على معنى لا يعرف المستحب. وأخذوا من ذلك أن التصدق بالطعام أفضل من العتق، ومنهم من حمله على ظاهره، وخصص الإجزاء بالإطعام، ولعل المصنف وابن بشير ممن اعتمد على هذا.
عياض: ولا يحل تأويله على مالك، لأنه خرق للإجماع.
فائدة:
أشار اللخمي إلى أن أصل المذهب أن من أتى مستفتياً صدق فيما يدعيه ولم يلزم بالكفارة، وإن ظهر عليه، نظر فيما يدعيه، فإن كنا مما يرى أن مثله يجهله، صدق، وإن كان أتى بما لا يشبه لم يصدق، وألزم الكفارة. وهذا فائدة قولهم: إن هذا ينوّي ولا ينوّي الآخر، أنه يجبر على الكفارة. ولو كان إخراج الكفارة إليه إذا ادعى ما لا يشبه، لم يكن للتفرقة وجه، وهذا القول هو الأصل في الحقوق التي لله سبحانه في الأموال؛ كما قيل بالجبر على الزكاة.
وَتَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الأَيَّامِ، وَلا تَتَعَدَّدُ عَنِ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، قِيلَ: التَّكْفِيرُ، وَفِي تَعَدُّدِهَا بَعْدَهُ قَوْلانِ ......
أما تعددها بتعدد الأيام فظاهر، وأما اليوم الواحد إذا كرر الإفطار قبل إخراج الكفارة فلا تتعدد اتفاقاً وأما بعد التكفير، فقال ابن عطاء الله: المعروف من مذهبنا أنه لا
تجب في اليوم الواحد كفارتان، وسواء وطئ قبل التكفير أو بعده. قيل وهو الصحيح؛ لأن الكفارة معللة بالانتهاك المستلزم للإفساد، والإفطار الثاني لا يستلزمها. والقول بتعددها [163/أ] نقله في النكت ع بعض شيوخه؛ قال: ومثل هذا في أصولهم كثير، من ذلك الذي يكرر ما يجب فيه الهدي من طيب أو لبس أنه تجزئة فدية واحدة.
وكذلك الذي يكرر القذف فإنما عليه حد واحد، ولو قذف ثم كرر تكرر الحد عليه.
وَيُكَفِّرُ وَلِيُّ السَّفِيهِ عَنْهُ، وَعَلَى التَّرْتِيبِ تَكُونُ كَالظِّهَارِ، وَفِي إِجْزَاءِ صِيَامِهِ فِيهِ مَعَ وُجُود الرَّقَبَةِ قَوْلانِ .....
أي: أن السفيه إذا فعل موجب الكفارة، كفّر عنه وليه؛ فإن قلنا بالتخيير أمره بالصيام لحفظ ماله، وإن لم قدر عليه أو أبى كفر عنه بالأقل من العتق أو الإطعام.
عبد الحق: ويحتمل أن تبقى الكفارة في ذمته إن أبى من الصوم، قال: وهو الأبين.
وإن قلنا بالترتيب، كان الأمر فيها كما إذا ظاهر، ثم أشار إلى حكمه في الظهار بقوله:(وَفِي إِجْزَاءِ صِيَامِهِ فِيهِ) أي في الظهار، مع وجود الرقبة قولان، أحدهما الإجزاء؛ لأن سفهه لا يزعمه عن تكرير الظهار، فلو ألزم العتق لأدى إلى إتلاف ماله، وهو قول محمد.
والثاني: أنه لا يجزئ بل يتعين العتق وقوفاً مع النص، وهو ظاهر المذهب، وفرّق ابن كنانة بين أن يتكرر منه الظهار أم لا.
وَيُؤَدَّبُ الْمُفْطِرُ عَامِداً فَإِنْ جَاءَ تَائِباً مُسْتَفْتِياً فَالظّاهِرُ الْعَفْوُ، وَأَجْرَاهُ اللَّخْمِيُّ عَلَى الْخِلافِ فِي شَاهِدِ الزُّورِ
…
لا إشكال في تأديبه، فإن بنينا على قول ابن حبيب فذلك ردة نعوذ بالله منها.
اللخمي: ويختلف فيمن أتى مستفتياً ولم يظهر في ذلك عليه، قال في المبسوط: لا عقوبة عليه، ولو عوقب لخشيت أن لا يأتي أحد ليستفتي في مثل ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يعنف السائل ولم يعاقبه. ويجري فيها قول آخر، أنه يعاقب قياساً على شاهد الزور إذا أتى تائباً؛ ولمالك في كتاب السرقة: يعاقب. وقال سحنون: لا عقوبة عليه. والأول أحسن، ولو كان كذلك لسقط على المعترف بالزنا والسرقة.
وأرى أن يُنظر السائل فإن كان من أهل الستر، ومن يُرى أن ذلك منه فلتة لم ترفع الشهادة عليه لما أُمر به من الستر، ومن كان مشتهراً تعرف منه قلة المراعاة لدينه رفعت عليه الشهادة وعوقب. انتهى.
ويمكن الفرق بينهما بأن الشهادة تستلزم مشهوداً له وعليه، فقيل بالعقوبة على أحد القولين؛ لأنه يتهم في مبادرته خشية من إظهار حاله من جهة المشهود عليه، ولا كذلك المفطر. والله أعلم.
ويسوغُ الْفِطْرُ لِسَفَرِ الْقَصْرِ بِالإِجْمَاعِ، وَمَشْهُورُهَا الصَّوْمُ أَفْضَلُ
اشترط أهل المذهب في الإباحة البروز عن محل الإقامة قبل طلوع الفجر وسيأتي، والقول بترجيح الفطر لابن الماجشون والتساوي لمالك في المختصر في سماع أِهب. وتوجيه هذه الأقوال لا يخفى. والله أعلم.
وَلا تَكْفِي نِيَّتُهُ حَتَّى يَصْحَبَهُ الْفِعْلُ
أي: لا تكفي نية السفر في إباحة الفطر حتى يقترن بها السفر، والضمير في يصحبها، عائد على النية، وفي بعض النسخ (تصحبه) وهو عائد على معنى النية وهو العزم.
وَفِيمَنْ عَزَمَ فَأَفَطَرَ- ثَالِثُهَا: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إِنْ كَانَ لَمْ يَاخُذْ فِي أُهْبَتِهِ، وَرَابِعُهَا: إِنْ لَمْ يُتِمَّ ....
إذا بنينا على أنه لا يكتفي بمجرد العزم، فخالف وأفطر قبل الخروج، ففي المذهب أربعة أقوال: الأول: وجوب الكفارة لحصول الانتهاك وهو قول مالك والشافعي وأبي
حنيفة وسحنون. الثاني: لأشهب، سقوطها لإسناد الفطر إلى سبب وهو العزم. الثالث لابن حبيب: إن كان قبل أخذه في أهبة السفر فعليه الكفارة، سافر في يومه أو لم يسافر، وإن أفطر قبل خروجه وبعد أخذه في أهبة سفره وشرع في رحيله فلا كفارة عليه.
ابن حبيب: وكذلك سمعت ابن الماجشون يقول: وأخبرنيه أصبغ عن ابن القاسم.
الرابع: أن عليه الكفارة إن لم يتم السفر، وإن أتم بأن سافر فلا كفارة عليه، لأنه غرر وسلم، وإليه رجع سحنون وأشهب.
فَلَوْ نَوَى فِي السَّفَرِ أَوْ سَافَرَ نَهَاراً، لَمْ يَجُزْ إِفْطَارُهُ عَلَى الأَصَحِّ بِخِلَافِ طَارِئِ الْمَرَضِ، وَلِذَلِكَ يَقْضِي التَّطَوُّعُ
…
يعني: لو أصبح صائماً في السفر أو في الحضر ثم سافر فهل يجوز له أن يفطر أم لا؟ الأصح- وهو المشهور- عدم الجواز.
والقول الثاني في المسألة الأولى لابن الماجشون، ولم يطلع ابن عبد السلام على القول الثاني في المسألة الثانية وقد ذكره الباجي، ولفظه: فإن خرج بعد الفجر بعد أن نوى الصوم فالمشهور من مذهب مالك أنه لا يجوز له الفطر وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقال القاضي أبو الحسن: إن ذلك على الكراهة.
وقال ابن حبيب: يجوز له الفطر وبه قال المزني وأحمد وإسحاق.
وقوله: (بِخِلَافِ طَارِئِ الْمَرَضِ) أي في أنه يباح له الفطر في الصورتين؛ لأن المرض غير اختياري أبداً (وَلِذلِكَ) أي: ويتحقق الفرق بين من ذكر وطارئ المرض يقضي المتطوع في الفرعين ولا يقضي من طرأ عليه المرض.
فَإِنْ أَفْطَرَ مُتَأَوِّلاً فَلا كَفَّارَةَ، وَإِنْ لَمْ يَتَأَوَّلْ- فَثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الأَوَّلِ لا الثَّانِي، وَرَابِعُهَا: الْعَكْسُ
…
أي: فإن أفطر في الفرعين بتأويل فلا كفارة عليه، وما ذكره من إسقاط الكفارة في الفرع الأول مخالف لما نص عليه في العتبية؛ لأنه ذكر فيها أن موسى بن معاوية روى عن ابن القاسم عن مالك فيمن بيَّت الصيام في السفر ثم أفطر متأولاً بأكل أو جماع أن عليه الكفارة، لكن اعترضه التونسي وقال: لا ينبغي أن تكون عليه كفارة إذا تأول كما قال أشهب في المدونة.
ابن عبد السلام: وظاهر المدونة عندي كما في العتبية، ولفظها: فإن أصبح في السفر صائماً في رمضان ثم أفطر لعذر فعليه القضاء فقط، وإن تعمد لغير عذر فليكفر، وإن لم يتأول فيهما فقيل تجب عليه الكفارة لالتزامه الصوم وفطره من غير عذر، وقيل: لا فيهما، مراعاةً للخلاف.
والمشهور تجب فيما إذا نوى في السفر دون ما إذا نوى في الحضر ثم سافر – لأن طروء السفر مبيح – لم يكن بخلاف من أنشأ الصوم في السفر، فنه لم يطرأ عليه مبيح.
والرابع عكس المشهور للمخزومي وابن كنانة؛ ووجهه أن حرمة اليوم في حق من أنشأ الصوم في الحضر أقوى؛ لأنه لا يجوز له حين الإنشاء إلا الصوم بخلاف من أصبح في السفر صائماً فإنه مخير في الفطر ابتداء.
فَلَوْ طَرَأَ عُذْرٌ كَالتَّقَوِّي عَلَى الْعَدُوِّ أَوِ الْجهدِ، أُبِيحَ اتِّفَاقاً، وَقَالَ اِبْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ كَفّرَ فِي الْجَمِيعِ ....
يعني: أن طروء الاحتياج إلى التقوي على العدو مبيح كالمرض بل أقوى منه. وقوله: (أَوِ الْجهدِ)، أي الشدة، ويقع في بعض النسخ (والجهاد) عوض الجهد.
(وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنْ أَفْطَرَ بالْجِمَاعِ كَفَّرَ في الْجَمِيعِ) أي في جميع المسائل فيما إذا طرأ عذر وفيما ذا طرأ السفر. ومقتضى كلامه أن قول ابن الماجشون منصوص في الجميع، والذي نقله ابن أبي زيد عنه إنما هو فيما إذا أصبح صائماً في السفر، لكن تعليله علام في الجميع. وفي قوله:(إِنْ أَفْطَرَ بِجِمَاع) إشارة إلى أنه إن جامع بعد أكل أو شرب لا شيء عليه وكذلك نص عليه ابن الماجشون في الواضحة.
وَلَوْ صَامَ فِي السَّفَرِ غَيْرَهُ فَكَالْحَاضِرِ عَلَى الأَصَحِّ
قد تقدم ما إذا صام رمضان الداخل قضاءً عن رمضان الخارج أو عن عذر، وعلى هذا فمراده بقوله:(غَيْرَهُ) ما إذا صام رمضان تطوعاً، هكذا فرض ابن شاس المسألة، وحاصله إن نوى التطوع في رمضان في الحضر لم يصح بلا خلاف، وكذلك إن كان مسافراً على الأصحّ؛ لتعين الوقت وحكى القاضي أبو بكر رواية بالانعقاد واستضعفها كثير.
وَيَجُوزُ بِالْمَرَضِ إِذَا خَافَ تَمَادِيَهُ أَوْ زِيادَتَهُ أَوْ حُدُوثَ مَرَضِ آخَرَ، فَأَمَّا إِذَا أَدَّى إِلَى التَّلَفِ أَوِ الأَذَى الشَّدِيدَ وَجَبَ ....
هو ظاهر التصور. قال في البيان: واختلف إذا خاف المريض قيل: له أن يفطر، وقيل: ليس له أني فطر لما يخاف من المرض، ولعله لا ينزل به فحكى الخلاف فيما دون النفس كما تقدم في التيمم.
ونص اللخمي في المريض إذا خاف حدوث علة أخرى أو طول المرض إذ صام أ، هـ لا يصوم وإن صام أجزأه.
وَالْحَامِلُ، وَالْمُرْضِعُ لا يُمْكِنُهُمَا الاسْتِئْجَارُ أَوْ غَيْرُهُ – كَالْْمَرِيضِ فِي الْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ - خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيهِمَا .....
قوله: (أَوْ غَيْرُهُ) أي لا يقبل غيرها، وعدم إمكان الاستئجار إما لعدم المال أو المكان أو لعدم من يستأجر. ومقتضى كلامه أنه لو أمكنهما الاستئجار لزمهما الصوم.
وهو كذلك، والأجرة من مال الابن إن كان له مال؛ لأن رضاه بمنزلة أكله، فإن لم يكن له مال فهل يبدأ بمال الأب قبل مالها لأن الرضاع مكان الإطعام؟ فإذا سقط عن الأم لمانع جعل ذلك من ماله كطعامه. وإليه ذهب اللخمي ومال إليه التونسي، وقال: إنه أشبه. أو يبدأ بما لها؟ لأن رضاعه عليها إذا لم تكن مطلقة وهي قادرة على أن ترضعه وإليه ذهب سند.
وقوله: (فِي الْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ) أي إن خافتا على أنفسهما أو ولديهما التلف أو الأذى الشديد وجب وإلا جاز.
وَفِي وُجُوبِ الْفِديَةِ عَلَيْهِمَا – ثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ عَلَى الْمُرْضِعِ دُونَهَا، ورَابِعُهَا: عَلَى الْحَامِلِ إِنْ خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا دُونَهَا، وَخَامِسُهَا: إِنْ كَانَ قَبْلَ سِتَّةِ أَشَهُرٍ
الضمير في قوله: (دُونَهَا)، من القول الثالث يعود على الحامل، يعني أنه اختلف في وجوب الفدية على المرضع والحامل إذا أفطرتا على خمسة أقوال؛ فقيل: لا تجب عليهما.
وقيل تجب عليهما بناءً على إلحاقهما بالمريض أولاً؟
والثالث وهو المشهور وجوبها على المرضع دون الحامل؛ لأن الحامل تخشى على نفسها فأشبهت المريض بخلاف المرضع فإنها إنما تخاف على غيرها.
والرابع وجوبها على الحامل إن خافت على ولدها وسقوطها إن خافت على نفسها.
والخامس لأبي مصعب. ونص ما نقله اللخمي عنه: وقال أبو مصعب: إذا خافت على ولدها قبل مضي ستة أشهر أطعمت، وإذا خافت في الشهر السابع لم تطعم؛ لأنها مريضة أي لأنها لا تتصرف إلا في [164/أ] الثلث كالمريض.
وحاصل ما ذكره أن في المرضع قولين. المشهور منها الوجوب؛ وفي الحامل أربعة أقوال، ولذلك لو فصهلا كما فعل غيره لكان أحسن. ومقتضى كلامه أن الخلاف جار
فيهما سواء خافتا على أنفسهما أو ولديهما، لأنه أطلق في المرضع، وجعل التفصيل في الحامل قولاً مبايناً لغيره. ونحوه للخمي في الحامل. وقريب منه كلام الباجي فإنه قال: إذا خافت الحامل على ولدها من شدة الصيام، لا خلاف في إباحة الفطر واختلف الناس في الإطعام في ذلك.
وعن مالك فيه روايتان: إحداهما، لا إطعام، والثانية عليها الإطعام، ويتخرج على هذه الرواية وجوب الإطعام على الشيخ الكبير.
وقال ابن حبيب: إن أفطرت خوفاً على نفسها فلا إطعام. انتهى. وقال ابن عطاء الله في المرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما دون ولديهما أفطرتا ولم تطعما عند الجميع. ثم حكى الخلاف في الإطعام، وإذا خافتا على ولديهما فمقتضى كلامه أنهما إن خافتا على أنفسهما يتفق على عدم الإطعام، وإنما الخلاف إذا خافتا على ولديهما.
وَالْكَبِيرُ لَا يُطِيقُ الصِّيَامَ كَالْْمَرِيضِ وَلا فِدْيَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ
أي: أن الكبير الذي لا يطيق الصيام كالمريض في الجواز والوجوب، واختلف في وجوب الفدية عليه فروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان يفتدي؛ فحمله في المشهور على الاستحباب. هكذا النقل لا كما يعطيه ظاهر لفظه من السقوط مطلقاً، هكذا قال ابن عبد السلام وهكذا صرح في الرسالة والجلاب بالاستحباب. والقول بالوجوب ذكره ابن شاس وابن بشير.
فرع:
وهل على المستعطش إطعام؟ روى ابن وهب وابن نافع عن مالك الإطعام عليه واجب.
ابن حبيب: ويستحب له الإطعام. ابن يونس: قال أبو محمد: ومعنى المستعطش الذي لا يقدر أن يقضي إلا ناله العطش الشديد، وأما إن قدر فذلك عليه.
وَفِيهَا: لا يُصَامُ الْعِيدَانُ، وَأَمَّا الْيَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ فَلا يَصُومُهُمَا إلا الْمُتَمَتِّعُ، وَالْيَوْمُ بَعْدَهُمَا لِلْمُتَمَتِّعِ وَالنَّذْرِ، وَلا يُقْضِى فِيهِ رَمَضَانُ، وَلا يُبْتَدَأُ فِيهِ كَفَّارَةٌ بِخِلافِ الإِتْمَامِ ......
تصور كلامه ظاهر.
فائدة: أيام السنة تنقسم إلى ستة أقسام، منها ما يجب صومه وهو رمضان، ومنها ما يحرم صومه وهو العيدان، ومنها لايجوز إلا لشخص واحد وهما اليومان اللذان بعد يوم النحر، لا يصومهما إلا المتمتع الذي لاي جد هدياً، ومنها ما لا يجوز صومه إلا لثلاثة أشخاص: المتمتع، والناذر، ومن كان في صيام متتابع. وإليه أشار بقوله:(بِخِلافٍ الإتْمَامِ)، ثم إن بقية أيام السنة منها ما رغّب الشرع فيه بخصوصه كعرفة وعاشوراء، ومنها ما لم يرغب فيه، هكذا قال ابن رشد وغيره.
وينبغي أن يزاد قسم سابع وهو يوم الشك؛ لأنه لا يصام على المشهور على وجه الاحتياط.
وَكَرِهَ مَالِكٌ نَذْرَ الصِّيَامِ وَغَيْرِهِ بِشَرْطٍ أَوْ غَيْرِهِ
قوله: (أَوْ غَيْرِه). أي: سائر الطاعات (بشَرْطِ أَوْ غَيْرِه) أي: بتعليق، كقوله: إن شفى الله مرضي فعليّ صوم شهر. ومقتضى كلامه كراهة النذر مطلقاً، وسيأتي ما في ذلك في بابه إن شاء الله.
وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِالطَّاعَةِ مِنْهُ
لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه".
فَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلاً لأَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَفِي بَراءَتِهِ بِالأَقَلِّ قَوْلانِ، مِثْلَ نَذْرِ شَهْرٍ أَوْ نِصْفِ شَهْرٍ، وَفِيهَا: إِنْ صَامَ شَهْراً بِالْهَلَالِ أَجْزَأَهُ نَاقِصاً، وَأَمَّا بِغَيْرِهِ فَيُكْمِلُ .....
اللفظ الصادر من الناذر إما أن تصحبه نية أم لا، فإن صحبته عمل عليها، وإلا فإن كان نصاً في مدلوله لزمه ذلك. وإن كان محتملاً لعدد كثير وقليل فهل تبرأ الذمة بالقليل؛ لأن الأصل براءة الذمة؟ أو لا تبرأ إلا بالكثير؛ لأن النذر قد تعلق بذمته فلا تبرأ منه إلا بيقين؟ قولان، ومثل ذلك بما إذا نذر شهراً أو نصف شهر فهل تبرأ ذمته بتسعة وعشرين يوماً بأربعة عشر يوماً؟ أو لا تبرأ إلا بثلاثين وخمسة عشر يوماً؟
وظاهر كلامه أن الخلاف جار سواء صام في أثناء شهر أو في أوله، ولذلك ذكر مسالة المدونة لتضمنها التفصيل.
وفيه نظر؛ لأن الذي نص عليه غير واحد، أنه صام شهراً بالهلال فإن كان كاملاً لزمه إتمامه اتفاقاً. وإن كان ناقصاً أجزأه اتفاقاً. وإنما الخلاف إذا صام في أثناء الشهر، ومذهب المدونة إنما تجزيه ثلاثون.
وقال محمد بن عبد الحكم: القياس أن تجزيه تسعة وعشرون. وانظر ما في الفرق بين هذه المسألة على المشهور وبين ما إذا نذر هدياً؟ فإن الشاة تجزيه مع أنها أقل الهدايا. ولعل مراد ابن عبد الحكم بالقياس هذا، وإليه أشار اللخمي.
وأما نصف الشهر فإن ابتدأه بالهلال صام خمسة عشر يوماً اتفاقاً. وإن [164/ب] ابتدأه بعد مضي خمسة عشر يوماً فكان ناقصاً أكمل خمسة عشر على المشهور، وحكى ابن الماجشون عن بعض الأصحاب أن الأربعة عشر التي صامها نصف شهر، فوجه المشهور أن نصف الشهر خمسة عشر أو أربعة عشر ونصف، ومن وجب عليه نصف يوم وجب عليه تكميله كجزاء الصيد.
ووجه ما حكاه ابن الماجشون أن الناذر لما نذر نصف يوم وهو ليس طاعة لم يجب عليه الوفاء به.
خليل: وانظر هل يتخرج على هذه المسألة من نذر نصف عبادة كما لو نذر نصف ركعة أو نصف حج؟ وذكر اللخمي في هذا الأصل خلافاً خرجه من مسألة ما إذا نذر اعتكاف ليلة، فابن القاسم يلزمه يومها، وقيل: لا يلزمه شيء.
وَمِثْلَ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا فَفِي قَضَاءِ مَا لا يَصِحُّ صُوْمُهُ قَوْلانِ. وَعَلَى الْقَضَاءِ فَفِي قَضَاءِ رَمَضَانَ قَوْلانِ، وَالصَّحِيحُ لا يَلْزَمُهُ وَفِيهَا: كَالْْوَقْتِ الَّذِي لا يُصَلِّي فِيهِ لَوْ نَذَرَ صَلاةَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ، وَكَمَا لَوْ نَذَرَ الْعِيدَيْنِ، وَكَأَيَّامِ الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي السَّفَرِ: لا أَدْرِي مَا هُوَ، ثُمَّ سُئِلَ عِمَّنْ نَذَرَ صَوْمَ ذِي الْحِجَّةِ فَقَالَ: يَقْضِي أَيَّامَ الذَّبْحِ إِلا أَنْ يَنْوِيَ ألا يَقْضِيَهَا ....
أما لفظ مثل فمعطوف على قوله أولاً: (مِثْلَ نَذْرِ شَهْرٍ)، وفي بعض النسخ:(ومثله)، أي ومثل المثال السابق في احتمال أقل أو أكثر.
ابن عبد السلام: ورأي المؤلف وغيره أن هذا الخلاف جار على الأصل المتقدم أي: وفي احتمال اللفظ أقل أو أكثر قال: ويحتمل أن يجري على الخلاف في النذر المعين إذا أفطر فيه ناسياً أو مرضاً إلا أن المانع من الصوم في الفرع الذي الكلام عليه شرعي، وفي العذر به خلاف آخر. انتهى.
قال في المدونة: وإن كانت السنة بعينها صامها وأفطر منها يوم الفطر وأيام النحر، ويصوم آخر أيام التشريق. قال مالك: ولا قضاء عليه فيهن ولا في رمضان، إلا أن ينوي قضاء ذلك، كما لو نذر صلاة يوم بعينه، فليصل في الأوقات الجائزة فيها الصلاة، ولا يصلي في الساعات التي لا يصلي فيها، ولا شيء عليه فيها ولا قضاء.
ثم سئل عمن نذر صوم ذي الحجة فقال: يقضي أيام النحر إلا أن يكون نوى ألا يقضيها، قال ابن القاسم: والأول أحب إلي. انتهى.
وذكرت لفظ المدونة لأن به يُتبين أكثر كلام المصنف. وقوله: (والصحيح لا يلزم فيهما). أي لا يلزم القضاء في الفرعين. وفي بعض النسخ: (فيها)، فيعود على المدونة، وفي بعض النسخ:(فيها) بغير واو، فيحتمل عوده على المدونة وعلى المسألة المشتملة على الفرعين قال في "النكت": وذهب بعض شيوخنا القرويين في ناذر سنة بعينها أنه لا يقضي رمضان على القولين جميعاً، وكذلك نذر صلاة يوم بعينه ليس عليه أن يقضي وقت صلاة الظهر والعصر على القولين، وإنما الخلاف في الوقت الذي لا يصلي فيه كبعد العصر فيقضي مثل ما يصلي في ذلك الوقت لو جازت الصلاة على التقدير على أحد القولين مثل أيام النحر التي اختلف قوله في قضائها، قال: لأنه صائم في رمضان وهو خارج عن نذره، والذي نذر صلاة يوم قد علم أنه لابد من صلاة الظهر والعصر، فذلك خارج، نذره. وما لا صلاة فيه- أعني بعد العصر – هو مثل أيام النحر التي هو فيها غير صائم. وقال غيره من شيوخنا، الخلاف يدخل فيما وصفنا. والله أعلم.
ابن عطاء الله: والأظهر أن الخلاف جارٍ في ذلك كله. ولعل هذا هو الذي أشار إليه المصنف بقوله: (وَعَلَى الْقَضَاءِ)
…
إلى آخره.
وقوله: (وَكَمَا لَوْ نَذَرَ الْعِيدَيْنِ)
…
إلى آخره، أي: ومما يرجح السقوط في الفرعين المتقدمين ما لو نذر العيدين وآخر أيام المرض فإن الحكم فيها السقوط، والجامع أن كلا النذرين معصية. وفي "المبسوط" في ناذر العيدين أن عليه القضاء إذا نذرها وهو يعلم بهما، لا إن لم يعلم. وما ذكره في المرض محمول على ما إذا لم يطق الصيام، وأما إذا أفطر قادراً عليه فيلزمه القضاء، قاله في المدونة.
وليس المراد بأيام المرض أن ينذر أياماً فيمرض فيها؛ لأن تلك قد تقدمت، وإنما المراد أن ينذر صيام أيام مرضه. والله أعلم.
وقوله: (وَقَالَ مَالِكٌ فِي السَّفَرِ)
…
إلى آخره.
ابن عبد السلام: إنما ذكر في المدونة هذا فيمن نذرت الاثنين والخميس ما بقيت فحاضت أو مرضت فيهما فلا قضاء عليها. قال: وأما السفر فقال مالك: لا أدري ما هو. قال ابن القاسم فيها: كأنه أحب أن تقضي.
ورده كلام ابن عبد السلام فإن ظاهر المدونة أن التوقف في السفر في السؤالين معاً قال: لأنه إن ذكر في التي نذرت بعينها أنها لا تقضي أيام الحيض والمرض، قال: وكذلك التي نذرت كل خميس والاثنين، وأما السفر فلا أدري ما هو؟ يعني في السؤالين. انتهى.
قال ابن عطاء الله: واختلف في السفر مجرداً من غير ضرورة إلى الفطر هل هو عذر كما في رمضان؟ فجعله ابن حبيب عذراً يسقط القضاء، وقال مالك ليس بعذر يسقط القضاء، رواه عنه ابن عبد الحكم، والفرق بينه وبين رمضان، إنما توجه وجوبه على جميع الخلق فخفف عنهم فيه لما في الإيجاب العام من الحرج والمشقة، ثم أنه في رمضان لم يسقط الفرض بالكلية، بل جوز التأخير فقط، ولو جعل عذراً في النذر [165/أ] لأسقط القضاء. وهذا هو الظاهر، وعلى هذا فيلزم الإمساك في السفر؛ لأنه إنما يأتي غالباً على الاختيار.
ابن عطاء الله: وقول ابن القاسم، كأنه أحب أن تقضي يحتمل أن يريد: أن القضاء غير لازم عنده، ولكنه استحبه ويحتمل أن يريد: أنه يستحب الحكم بوجوب القضاء أي: الذي يحبه، أنه ليس بعذر، وإن أفطر لأجله، فقد وجب عليه القضاء، ووجهه أنه أفطر مع القدرة على الصوم في نذره فوجب عليه القضاء كالحاضر. انتهى.
قوله: (ثُمَّ سُئِلَ عَمَّنْ نَذَرَ صَوْمَ ذِي الْحِجَّةِ) هو أحد القولين في المسألة السابقة، وكلامه في المدونة أحسن من كلام المصنف.
ويمكن أن يوجه هذا القول بأنه شبّه الصوم بالاعتكاف كما قال في من نذرَتْ اعتكاف شعبان فشرعَتُ فيه ثم حاضت فإنه قال: تقضي أيام حيضها إشارة إلى أنها عبادة واحدة فلا تتجزأ وقد صح بعضها فعليها تكميلها، ولو حاضت من أول شعبان اعتكفت إذا طهرت بقيته ولا تقضي أيام حيضها؛ لأن في المسألة الأولى اعتكفت بنية شعبان بجملته فقد لزمها كله بالشروع، فإذا حاضت ثم هرت كملت ما دخلت فيه.
وفي هذه المسألة ليس عليها أن تنوي إلا بقية شعبان، فإذا نوت بقيته فقد انقضى اعتكافها بانقضائه. قاله ابن عطاء الله.
أَمَّا لَوْ [لَمْ يُعَيِّنْ] قَضَى
هذا مقابل قوله: (بعينها). يعني، أما لو نذر سنة أو شهراً ولم يعين قضى أيام السفر من غير خلاف.
فرع:
قال اللخمي: إذا قال لله علي أن أصوم هذه السنة، فإن سمّاها مثل سنة سبعين أو ثمانين صام ما بقي منها ولا قضاء عليه لما مضى. وإن قال: هذه السنة ولم يزد شيئاً، فالقياس أن لا شيء عليه إلا صيام ما بقي كالأول؛ وقال مالك في العتبية: في من حلف في نصف سنة إن فعل كذا أو كذا صام هذه السنة فقال: إن نوى باقيها فذلك له، وإن لم ينو شيئاً استأنف من يوم حلف اثني عشر شهراً.
اللخمي: وفيه نظر؛ لأن قوله: هذه السنة. يقتضي التعريف، وهو بمنزلة القائل: لله علي أن أصلي هذا اليوم فلا شيء عليه إلا صلاة ماب قي منه.
وَمِثْلَ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ أَيَّامٍ وَلَمْ يَنْوِ التَّتَابُعَ - ثَالِثُهَا: يَلْزَمُ التَّتَابُعُ فِي السَّنَةِ وَالشَّهْرِ وَلا يلزم في الأَيَّامِ، وَالْمَشْهُورُ: لا يَلْزَمُ .....
تصور المسألة ظاهر. والمشهور مذهب المدونة، والقول بلزوم المتابعة في الجميع لابن كنانة، والتفصيل لابن الماجشون.
اللخمي: وهو أحسن؛ لأن العرف أن الشهر عبارة عن جملة متتابعة من الهلال إلى الهلال. وقول القائل: ثلاثون يوماً شهر، مجاز والعلاقة المشابهة. هذا معنى كلامه. وقوله:(وَمِثْلَ) معطوف على قوله أول الفصل: (مثل شهر).
ابن عبد السلام: وهو من أمثلة احتمال اللفظ لأقل أو أكثر.
وَلَوْ نَذَرَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلانٌ فَقَدِمَ لَيْلاً صَامَ يَوْمَهُ؛ فَإِنْ قَدِمَ نَهَاراً فَلا قَضَاءَ عَلَى الْمَشْهُورِ
يعني: أن من نذر صيام يوم قوم فلان، ففان إن قدم ليلاً لزم الناذر صيام صبيحة تلك الليلة.
ورأى اللخمي أنه لا شيء عليه؛ لأن الليل ليس محلاً للصوم. وإن قدم نهاراً فالمشهور سقوط القضاء؛ لأن وجوب القضاء مشروط بتقديم الوجوب أو تقديم سببه، وكلاهما منتف. وذهب عبد الملك وأشهب إلى وجوب القضاء.
فرع:
قال أشهب: ولو قدم نهاراً وكان قد بيت صومه تطوعاً أو لقضاء رمضان أو لغيره لم يجزه لنذره، ولا لما صامه له.
وفي اللخمي: يجزيه عما صامه له؛ ولم يذكر قول أشهب، وإنما اقتصر على الإجزاء فقط.
ابن الماجشون: ولو علم أنه يدخل نهاراً فبيت الصوم لم يجزه؛ لأنه صامه قبل وجوبه. قال عبد الملك وأشهب وأصبغ: وليصم اليوم الذي يليه.
وَلَوْ قَدَّمَ يَوْمَ عِيدٍ لَمْ يَقَضِ، وَخَرَّجَهُ اللَّخْمِيُّ عَلَى الأُولَى
يعني: فلو قدم فلان يوم عيد فالمنقول في المذهب أنه لا قضاء على الناذر.
وخرج اللخمي فيه القولين المتقدمين، والجامع أن كلا من الزمانين لا يصح صومه شرعاً. وقد يفرق بينهما بأن الزمان قابل شرعاً في المسألة الأولى، وإنما امتنع شرطه بخلاف العيد، فإنه لا يقبل الصوم بوجه.
وَلَوْ نَذَرَ يَوْماً بِعَيْنِهِ فَنَسِيَهُ - فَثَلاثَةُ: يَتَخَيَّرُ، وَجَمِيعُهَا، وَآخِرُهَا
أي: إذا نذر يوماً معيناً ونسيه فثلاثة أقوال: ونقلت كلها عن سحنون وآخر أقواله أن يصومها جميعاً واستظهر للاحتياط، ووافقه بأن القاسم على قوله أنه يصوم آخرها.
قال ابن القاسم: وهو يوم الجمعة، لأن قبل يوم الجمعة لا يحقق عمارة ذمته وإنما يتحقق بالأخير، فإن وافقه فهو أداء وإلا فهو قضاء.
وأنكر بعض المتأخرين كون الجمعة آخر أيام الجمعة وزعم أنه يوم السبت.
وَأَجَازَ مَالِكٌ صَوْمَ الأَبَدِ وَحَمَلَ النَّهْيَ عَلَى ذِي عَجْزٍ أَوْ مَضَرَّةٍ
النهي هو حديث أبي قتادة أن رجلاً قال: يا رسول الله، كيف بمن صام الدهر؟ قال:"لا صام ولا أفطر" خرجه مسلم.
قوله: (ذِي عَجْزٍ) إن أريد به العاجز عن الصيام فلا يبقى للنهي فائدة، وإنما ينبغي أن يحمل على من يلحقه عجز في الطاعات أو مضرة في بدنه. وروي عن مالك، ونقله في القسب عن علمائنا [165/ب] أن النهي محمول على من يصوم الأيام التي نهى الشرع عن صيامها.
ابن عبد السلام: وإطلاق ابن حبيب في صيام الدهر أنه أحسن لمن قوي عليه بعيد.
وَقَدْ وَرَدَ صَوْمُ يوم عَرَفَةَ ويوم عَاشُورَاءَ، وَيَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَصَوْمُ الأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَشَعْبَانَ
روى مسلم أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي قتادة أنه عليه الصلاة والسلام قال: "صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء إني احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله".
قيل: إنما كان يوم عاشوراء يكفر سنة ويوم عرفة يكفر سنتين لأن يوم عرفة يوم محمدي ويوم عاشوراء يوم موسوي عليه الصلاة والسلام والأفضل للحاج الفطر فطر يوم عرفة.
وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام: كان مفطراً في حجّه فيه.
وأما يوم التروية فروى ابن حبيب في واضحته انه عليه الصلاة والسلام قال: "صوم يوم التروية كصوم سنة" قيل: وهو حديث مرسل.
ابن يونس: وروي أنه عليه الصلاة والسلام صام الأشهر الحرم وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. انتهى.
ولم أره في شيء من كتب الحديث. بل يعارضه ما رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان. وهذا لفظ الموطأ.
والذي جاء في الأشهر الحرم ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك" وقال بأصابعه الثلاثة فضمها وأرسلها.
وفي مسلم عنه عليه الصلاة والسلام:"أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم".
وأما شعبان، فروى أبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان. وعنها أيضاً أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر أكثر صياماً منه في شعبان، كان يصومه إلا قليلاً وفي رواية مسلم، بعد إلا قليلاً بل كان يصومه كله.
وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان.
وَكَرِهَ مَالِكٌ صِيَامَ سِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَإِنْ وَرَدَ، لِلْعَمَلِ
أشار بقوله: (وَإِنْ وَرَدَ، لِلْعَمَلِ)، لما في مسلم:"من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال، كان كصيام الدهر" قال في الموطأ: لم أر أحداً من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ورأوهم يعملون ذلك. انتهى.
وصرح صاحب الذخيرة بأن مالكاً استحب صيامها في غير شوال، ولم يأخذ مطرف وغيره بكراهة مالك وتعليله، وإنما كره مالك ذلك مخافة أن يلحقها أهل الجهل برمضان، فأما الرجل في خاصة نفسه يصمها لرغبته فلم يكن يكره ذلك. وفي الجواهر: واستحب مالك صيامها في غير ذلك الوقت لحصول المقصود به من تضاعف أيامها وأيام رمضان في كونها تبلغ عدة العام كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صيام رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بشهرين فذلك سنة".
ومحمل تعيين محلها في شوال عقب الصوم على التخفيف في حق المكلف لاعتياده بالصوم لا لتخصيصها بذلك الوقت فلا جرم انه لو أوقعها في عشر ذي الحجة مع ما
روى في فضل الصيام لكان أحسن لحصول المقصود مع حيازة فضل الأيام المذكورة والسلامة مما اتقاه مالك رضي الله عنه.
وَأَجَازَ مَالِكٌ صَوْمَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِداً، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ
قال عليه الصلاة والسلام: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده". قوال: لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا يوم الجمعة بصيام من بين سائر الأيام. ودخل على جويرية بنت الحارث يوم الجمعة وهي صائمة فقال:"أصمت أمس"؟ فقالت: لا. قال: "أتريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا. قال: "فأفطري". انفرد به البخاري، وانفرد مسلم بقوله:"لا تخصوا ليلة الجمعة" واجتمعا على ما سوى ذلك.
وخرج الترمذي وغيره عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وقلّ ما كان يفطر يوم الجمعة، وصححه ابن عبد البر، وفي رواية الحافظ علي بن المفضل المقدسي: ما رأيته مفطراً يوم الجمعة.
أبو عمر: وروي عن ابن عمر أنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مفطراً يوم الجمعة قط.
وذكره ابن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن ليث بن أبي سليم عن عمير بن أبي عمير عن ابن عمر قال: وروي عن ابن عباس أنه كان يصوم يوم الجمعة ويواظب عليه.
قال الحافظ: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [166/أ]: "من صام يوم الجمعة كتبت له عشرة أيام غر زهر من أيام الآخرة لا تشاكلهن أيام الدنيا". انتهى.
وفي الموطأ: لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه ومن يقتدي به ينهي عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه أنه كان يتحراه.
قيل: هو محمد بن المنكدر، وقيل: صفوان بن سليم.
وَوَرَدَ صَوْمُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها كَانَ لا يُعَيِّنُ، وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ: الأَيَّام الْبِيض، وَاسْتَحَبَّ ابْنُ الْقَابِسِيِّ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ
أي: ورد صوم ثلاثة أيام مطلقة ومقيدة، فروت عائشة رضي الله عنها، أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يبالي نم أي الشهر صام. وروى أبو الدرداء: الأيام البيض. وهي صبيحة ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر. وروي أنه كان يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام وهو يشهد للقابس.
واختار بعضهم: الأول والحادي عشر والحادي والعشرين.
واستحب ابن حبيب وغيره صوم السابع والعشرين من رجب؛ لأن فيه بعث النبي صلى الله عليه وسلم والخامس والعشرين من ذي القعدة؛ لأن فيه أنزلت الكعبة على آدم عليه السلام ومعها الرحمة وثالث المحرم؛ لأن فيه دعا زكرياء ربه فاستجاب له.
****