المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌حياة الأموي لكل موجود إن حقّقتَ حياة: الجبال والأنهار، والمدن والعمارات، - الجامع الأموي في دمشق

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌حياة الأموي لكل موجود إن حقّقتَ حياة: الجبال والأنهار، والمدن والعمارات،

‌حياة الأموي

لكل موجود إن حقّقتَ حياة: الجبال والأنهار، والمدن والعمارات، كلها حية تولد وتموت، وتشبّ وتهرم، وتصحُّ وتمرض.

هذا الأموي الذي جئتُ أعرض عليكم خطوطاً من صورته، وملامح من تاريخه، له حياة طويلة، ولحياته تاريخ طويل.

تاريخ لا يدري إلا ببعضه التاريخ، لأن الأموي وُلد قبل أن يُكتب التاريخ.

لا نعرف ولا يعرف أحد مَنْ الذي وضع الحجر الأول فيه، ولا متى شُيّد، فكأنه قام ليصل الأزل بالأبد.

صارع النار والدمار، وثبت على الأدهار والأعصار، تكسّرت على جدرانه موجات القرون كما تتكسّر الأمواج على صخرة الشاطئ، ثم ترتد عنه ميتة وهو حي قائم.

ذهب أمية بمالها وسلطانها، ولبث وحده يخلد في الدنيا اسم أمية، فكان أبقى من كل ما نالت أمية من مال ومن سلطان.

كان معبداً من أكثر من ثلاثة آلاف سنة، تداولته أيدي اليونان والرومان وأقوام كانوا قبلهم، ثم صار للمسيح، ثم انتهى لمحمد.

كنيسة صارت إلى مسجد

هدية السيد للسيد (1)

(1) البيت لشوقي.

ص: 10

صلى الله على سيدنا المسيح وعلى سيدنا محمد خاتم الأنبياء الذي نسخت شريعتهُ الشرائعَ وعلى كل نبي أرسله الله بالهدى والتوحيد والدين القيّم، لا نفرّق بين أحدٍ من رسله، نؤمن بكل نبي بعثه الله على ما بُعث عليه، وكل كتاب أنزله الله على ما نزل عليه، ونقول: كلٌّ من عند ربنا ونحن له مسلمون.

وُلد المسجد ليلةَ الفتح، حين شرّف الله الشام وأراد لها الخير، فاستظلّت براية القرآن، واتّبعت داعي الله وسلكت طريق الموصل (إن شاء الله) إلى الجنة، ثم شبّ واكتهل، ونما واكتمل، على عهد الوليد، يوم كانت دمشق تمرح في جنة غَرس محمد، وتنعم هانئةً بالأم والرخاء في فَيْئ الصرحِ الذي شاده محمد صلى الله عليه وسلم على محمد حين كانت الليالي أعراساً، والأيام أفراحاً، والدنيا ترقص ابتهاجاً وتميس من السرور.

هنالك كان الأموي يتبوأ في دمشق سُدّة ملك، قد لبس الفسيفساء، وتحلّى بالذهب، وتسربل بستر الوشي والديباج، وتاه على كل بناء في الأرض.

ثم أراه الزمان من حلوه ومرّه، ومن نعيمه ما يُري كلّ (حي) في الوجود.

ولست أستطيع أن أعرض عليكم تاريخ الأموي، يوماً بيوم، فلقد كانت تتعاوره الأيدي دائماً: أيدي المصائب والبغاة، بالخراب والدمار، وأيدي المصلحين بالعمارة والإصلاح، حتى غدا وفي كل شبر منه تاريخ، وصار كفسيفسائه، كل قطعة منه من طبيعة ومن لون، ولكل يوم من حياته الطويلة قصة!.

ص: 11

ومن كانت له دار يسكنها هو، وسكنها أبوه من قبله خمسين سنة، يتعهّدها فيها بالإصلاح وبالتجديد، لم يستطع أن يحدّد تاريخ كل باب فيها وكل جدار، فكيف بالأموي وهو من ألف وثلاثمئة سنة عرضة للإصلاح والتجديد.

بقي الأموي على صفته الأولى (التي ستقرؤونها بعد صفحات) أو على قريب منها نحواً من أربعمئة سنة، أي إلى سنة 461 حين نشب فيه الحريق العظيم، فنسخ آياتِ حُسنه، وطمس وجه جماله، وصيّره تلالاً من التراب، وبقي على ذلك أربع عشرة سنة إلى سنة 475 حين جُدّد بأمر ملكشاه السلجوقي.

ثم تتالت عليه الزلازل والحرائق على ما سيأتي تفصيله، ولم يكن عمل البشر في صحن المسجد أقل من عمل الطبيعة (1)، فلقد انتابه الإهمال مرة حتى صار كأنه خان أو فندق، وامتلأ صحنه باللاجئين والمقيمين، وصار الرجل يجد لنفسه موضعاً فيه يضع فيه حاجاته وصندوقه، ويقيم لنفسه مقصورةً أو كوخاً، ويستقر فيه، وبلغ ما فيه من هذه المقاصير أكثر من ثلاثمئة، واتخذ فيه الأمراء حواصل ومستودعات، وبقي ذلك مدة لا يُعرف مقدارها حتى جاء الملك الظاهر، فكان من بداية إصلاحاته أن طرد هؤلاء الناس، ونظّفه وغَسَل رخامه، وفرشه وأعاده مسجداً للعبادة والعلم.

(1) الطبيعة (فعيلة) بمعنى مفعولة، والذي طبعها وأجراها على سننها والله خالق كل شيء.

ص: 12

وعبث به التتر والمغول مرتين، مرة في أواخر القرن السابع الهجري، إذ عطّلوه واتخذوه معسكراً لهم، ونصبوا فه المنجنيقات لرمي القلعة، وارتكبوا فيه أنواع الإثم والفجور.

ومرة على عهد تيمورلنك الذي أساء إلى دمشق إساءة لم يأت مثلها أحد.

ثم كان الحريق الأخير سنة 1311 الذي ذهب بالمسجد كله (أي الحرم)، وجدّده أهل الشام. وفيما يلي من الفصول بعضُ التفصيل لهذا الإجمال.

ص: 13