الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحريق الأخير
أجدادنا الأولون كانوا أهل حزم وعزم، وكانوا أصحاب فكر وبيان، فكتبوا تاريخهم كله، وسجلوا أمجادهم ومعايبهم، وأخبار جِدّهم وهزلهم. فنحن نعرف عن القرون الأولى التي مرّ عليها أكثر من ألف سنة كل شيء، كأننا نعيش فيها، ونجهل من أخبار القرون الأخيرة كل شيء، لا سيما القرن الماضي.
وهذا أمير عجيب ولكنه الواقع.
وأنت إذا أردت أن تعرف قصة حريق الأموي مثلاً، لم تجدها في تاريخ من التواريخ، مع أن في دمشق مئات ممن شهدها بعينه.
لذلك اعتمدت في هذا الحديث على ما حدثني به أستاذنا الأكبر الشيخ المعمِّر الجليل عبد المحسن أفندي الأسطواني، وهو - حفظه الله - أعجوبة العجائب، جاوز المئة (1) من السنين ولا يزال في جدّة ذهنه وقوّة ذاكرته، وكثرة علمه، وسرعة بادرته، وحضور نُكتته كما كان في شبابه، وعلى ما حدثني به الشيخ حمدي الحلبي حفيد علامة الشام الشيخ سعيد الحلبي، وهو متولِّي الجامع الآن ومن أعلم الناس بتاريخه وأحواله. كما اعتمدت على ما كتب العلامة الأستاذ الشيخ جمال الدين القاسمي، ومختار بك العظم رحمهم الله، وهي وصف مختصر جداً نشره الدكتور صلاح الدين المنجد، أحسن الله إليه بمقدار ما أحسن إلى تاريخ دمشق وآثارها ومخطوطاتها.
وبعد فهذه هي القصة:
كانت ضحوة يوم السبت رابع ربيع الثاني سنة 1311 هـ (أي من
(1) جاوز الآن المئة والعشر ولا يزال ذهنه حاضراً، وذاكرته قوية، ولا يزال يُرجع إليه ويُستفتى مدّ الله في عمره. قلت: توفي حمه الله عن مائة وثماني عشرة سنة، ولم يضعف له فكر، ولا ذاكرة.
نحو سبعين سنة قمرية)، وكانت دمشق آمنة مطمئنة، والناس منصرفون إلى أعمالهم في الأسواق المطيفة بالأموي، والنساء في بيوتهن الحافة بالجامع، فما راعهم إلا صريخ يصرخ، كأنه النذير العريان: أن لقد احترق الأموي، فترك التجار مخازنهم مفتوحة ووثبوا ينظرون، وصعد النساء على السطوح، وتراكض الناس من كل جهة، وإذا الدخان ينبعث من سقف الجامع، ولم يكن في دمشق مصحلة إطفاء (وقد أُنشئت على أثر الحادث) وحار الناس ماذا يصنعون، فاستَبَقوا إلى سجاد المسجد ومصاحفه يُخرجون ما يصلون إليه منها، وعمد بعضهم إلى الماء يصبّونه، وإلى المعاول علّهم يحصرون النار، ولكن النار كانت أسرع منهم، إذ كان خشب السقف قديماً جافاً، وعليه من الأصبغة والأدهان طبقات، فما شمّ رائحة النار حتى التهب كله دفعة واحدة، كأنما قد صب عليه البنزين، وكانت الرياح في ذلك اليوم غربية شديدة، فما مرت نصف ساعة حتى صار السقف كله شعلة واحدة، وجعلت قطع النيران تتساقط من كل مكان، فالتهب المسجد كله، ولم يعد أحد يستطيع أن يقترب منه، فوقفوا ينظرون وكأن النار التي تأكل مسجدهم تأكل قلوبهم، ولكن العجز أمسكهم وقيّدهم، وكانت عمد المسجد قديمة أكثرها مكسور ومربوط بأطواق الحديد، فتشقّقت من النار، ثم هوى البناء كله، وزلزلت الأرض، وكانت ساعة من ساعات الهول، وامتدت النار تسوقها الرياح الغربية إلى سوق القباقبية والقوافين وزقاق الحمراوي، وانجلى الدخان عن الخراب الشامل، لم يبق من الأموي إلا المشهدان عند باب البريد ورواق الصحن، عدا الرواق المتدّ بين باب النوفرة إلى مشهد الحسين، فقد ناله الحريق فتضعضع، وأصاب الحريق المنارة الغربية.
وأمامي الآن صورة نشرها الدكتور المنجد للأموي بعد الحريق، ما فيها إلا جدار الحرم الشمالي (من جهة الصحن) والواجهة المثلثة
العالية، أما السقف كله والقبة فلم يبق منه أثر، ذهب المسجد كله في ساعتين ونصف الساعة، المسجد الذي أُنفقت فيه الأموال والأعمار، وعملت في بنائه الأفكار والأيدي ألفاً وثلاثمئة سنة، ذهب كله في مئة وخمسين دقيقة فقط، ذهب في سبيل نارجيلة.
ذلك أن عاملاً من العمال كان يصلح رصاص السقف، في المعزبة الوسطى من الجهة الغربية، فأعجبه المنظر، وهاج في نفسه الشوق إلى نفس دخان، فجاء بنارجيلة وأوقد ناراً ليشعلها، فأشعل النار في الأموي.
خلت دمشق من مسجدها، ولكن ما خلت النفوس من إيمانها، وحطّ سقفه وجدرانه ولكن ما حطّ فرض الصلاة عن الناس، وماذا يضر المصلي إن هوت قبة المسجد وأمّحت روائعه وطمست نقوشه، ومسجد محمد الذي بُني على التقوى والذي كان مشرقَ النور على الدنيا ما كانت له قبة ولا كانت فيه نقوش، إنما هو سقيفة من اللَّبِن، والخشب، وماذا إن بقي بلا مسجد والأرض كلها للمسلم مسجد ومصلى.
لذلك كانت الفاجعة في الأموي الضحى، وأقيمت الصلاة في الأموي الظهر، أقيمت الصلاة، أقامها العالم الورع الشيخ عبد الحكيم الأفغاني، في الصحن وراء البحرة والناس وراءه، فكانت النار لا تزال بقاياها في أرجاء المسجد، وهم يركعون ويقولون: الله أكبر، الله أكبر من الجامع، فإذا ذهب الجامع فالله باق، والصلاة باقية، لا يشغل المؤمن عن صلاته شيء في الدنيا مهما كبر، لأن الصلاة لله، والله أكبر.
صلوا في الصحن، ثم عمدوا إلى المشهد الغربي الذي بقي سالماً، فنقلوا إليه بعض مفروشات الجامع، وأقاموا له منبراً صغيراً للخطابة، وعمروا سدة صغيرة للمؤذّنين، وصارت تُقام الجمعة فيه، وكان المشهد الثاني (المعروف اليوم بمشهد الغزي) وهو الآن بهو الاستقبال،
مستودعاً للوازم الجامع، ففُرّغ ودُفّف وفُرش وفُتح بابه القبلي، فصار المشهدان (القائمان على طرفي باب البريد) معدّيَّن للصلاة، وكان المشهد الشرقي قد احترق كله، ومشهد الحسين قد احترق بعضه، فبذل الناس لإصلاحهما، فجُدّدا وأُعدّا للصلاة قبل حلول شهر رمضان. ثم انصرف الناس إلى تنظيف الجامع، وكان من الأنقاض المتراكمة كأنه تل عظيم، وتناوبوا على تنظيفه، يشتغل أهل كل محلة يوماً، يجيئون جميعهم كهولهم وشبابهم، أغنياؤهم وفقراؤهم، يعملون بأيديهم إيماناً واحتساباً، ينقلون التراب والحجارة، ويتسابق الأغنياء إلى إطعامهم، فيتكفل أغنياء الحي بإعداد الطعام للعاملين، فيتغذون في المسجد، فكان ذلك مظهراً رائعاً للأخوّة والبذل، وغدا الناس كأنهم أسرة واحدة، يعملون جميعاً في بيت الله، وينزلون ضيوفاً عليه، حتى إذا نُظّف المسجد من الأنقاض، أُلّفت في كل حي لجنة لجمع المال لعمارة المسجد، وهبّت دمشق إحدى هباتها المؤمنة العجيبة، وتزاحم الناس على البذل، فمنهم من خرج عن ماله كله، منهم من أعطى نصف ماله، وكلّ ساعد بعقله وبفنّه وبصناعته، والفقير عمل مجاناً بيده، وأنتم تذكرون ما صنعت دمشق في أسبوع التسلح القريب، فكبِّروا ذلك عشر مرات تروا ما صنعت دمشق لبناء الجامع.
وكان الكشف وقدِّرت نفقات البناء بسبعين ألف ليرة ذهبية، وإذا نظرنا إلى القوة الشرائية لكل ليرة وجعلنا الخبز مقياساً وحسبنا سعره يومئذ وسعره اليوم، رأينا المبلغ يعادل عشرين مليون ليرة من نقد هذه الأيام.
ونظروا فإذا الأعمدة التي كان يقوم عليها سقف الحرم قد تكسّرت، وفكّروا في أعمدة جديدة، واختلف الرأي فيها، من أين يُؤتى بها وكيف تُنقل، ثم أخذوا برأي السيد عبد الله الحموي، فقرروا أن تُقطع الأعمدة من جبال المزّة، ولكن يكف يؤتى بها؟.
هنا تظهر عظمة هذا الرجل الذي لم يكن مهندساً ولم يكن متعلماً. لقد عرض عليهم أن يعمل عربة مستطيلة واطية تجرّها الثيران، لها ملاقيط من تحتها فهي تلتقط العمود، وتحمله من المزة إلى المسجد، وشكّوا في ذلك، فخبرّهم أنه رأى مثلها في مقاطع الحجارة في إيطاليا، فأقرّوه على صنعها، فصُنعت بإرشاده، وصارت تحمل العمود الهائل من الأعمدة القائمة اليوم في الأموي وتأتي به يحف بها الناس والشباب بالعراضات والأهازيج.
ولما وصل العمود الأول وشكرت اللجنة للسيد الحموي ما صنع، ضحك وقال لهم: أخبركم الآن بالحقيقة، أنا لم أر مثل هذه العربة في إيطاليا، ولا ذهبتُ إليها ولا إلى غيرها، ولكني خفتُ أن أقول لكم: إنها من اختراعي، فلا تقبلوها مني فزعمت أني رأيتها في إيطاليا.
وهذه العربة لا تزال موجودة، أرجو أن تُوضع في المتحف لتُعرض دليلاً على العبقرية الشامية.
وشُرع في البناء سنة 1314 هولم يبق في دمشق صاحب فنّ إلا وضع فنه في عمارة المسجد، ولا عامل إلا قصر عمله على المسجد، وكان يشتغل فيه كل يوم أكثر من خمسمئة عامل، فما مرت سنتان حتى أُنجز بناء النصف الشرقي من المسجد وفُرش بالسجاد وعُلقت فيه الثريّات والمصابيح وأُقيم حاجز من الخشب من غربيّه ووُضع المنبر إلى جنب محراب المالكية، وافتُتح في رمضان سنة 1316 هفي حفلة ضخمة حضرها الوالي والعلماء والوجهاء.
ثم بُدئ بالقسم الآخر، وكان أول ما بُني منه محراب الحنفية، وزخرفوه هذه الزخرفة التي تُرى الآن وبلغت نفقات بناء المحراب كما خبّرني الأستاذ الأسطواني ألف ليرة ذهبية، وقد لام الناس اللجنة على البداءة به، فاحتجت بأنه لو لم يُبدأ به لما بُني.
وتم بناء القسم الأوسط من المسجد في منتصف شعبان سنة 1318، واكتمل البناء كله واحتفل بافتتاحه في 28 جمادى الأولى 1320، بعد الحريق بتسع سنين فقط.
وبعد، يا أيها القراء، فإن هذا المسجد العظيم الذي يقطع السياح نصف كرة الأرض ليشاهدوه ويعجبوا من عظمته وجلاله، وهذه القبة السامقة التي لا يطاولها بناء في دمشق، بل تبدو العمارات معها كالصبية الصغار مع الرجل الطُّوال، وهذا الزخرف وهذا الجمال، كله من صنع أهل دمشق، أنفقوا عليه من أموالهم، وعملوه بأيديهم، وإن الذين هندسوه وعمروه كانوا جماعة من النجّارين الشاميين الذين لم يدرسوا في مدرسة ولم ينالوا شهادة في الهندسة، الحموي ومعاونوه والتوام وملص وإخوانهم، وإن الذين نقشوه هذا النقش البارع الذي جاء على مثال النقش القديم وأربى عليه هم أولاد أبي نجيب الدهان الشامي العامي، وأنهم هم الذين صنعوا هذه الشبابيك العجيبة الثلاثة التي هي فوق المحراب، والثلاثة المقابلة لها.
لقد بنت دمشق هذا المسجد العظيم على قلة العلم يومئذ، وضعف الأدوات، وفقد الآلات، ليقوم دليلاً على أن الإيمان والإخلاص يصنعان كل شيء.
فإذا شككتم في أن الإيمان يعمل العجائب ويأتي بالخوارق، فهاكم قبة الأموي قائمة تنطق، شاهدة بأن الإيمان قوة تدحر القوي، وكنز يزري بالكنوز.
ورحمة الله وتحياته وبركاته على كل من شارك بسلطانه أو بيده أو بفكره في إقامة هذا الصرح المبارك، من لدن معاوية والوليد إلى يوم الناس هذا، وعلى كل من سيعمل فيه في الأيام القادمات، وجزاهم الله جميعاً خير الجزاء.
***