الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عمارة الأموي
عمارة المسجد من هدي الأنبياء وسنن المؤمنين، وقد بنى إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام الكعبة، البيت الحرام، وكان أول ما صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، هو ببناء مسجد المدينة. وإن كانت عمارة المساجد بالعبادة والعلم والإيمان مقدّمة على تثبيت الأركان، وتعلية الجدران، والإكثار من الزخارف والألوان، بل إن زخرفة المساجد والزيادة في عمارتها على حد الضرورة مما كرهه الإسلام ورغب عنه السلف الصالح.
وقد نص الحنفية على أن الكتابة على جدرانها، ولا سيما في القبلة، لا تستحسن (1).
وكان هذا المسجد في الأصل معبداً وثنياً، فأخذه النصارى فصيّروه كنيسة، فلما كان الفتح الإسلامي ودخل خالد عنوة من جهة الباب الشرقي، ودخل أبو عبيدة صلحاً من جهة باب الجابية، تم الاتفاق على أن تقسم الكنيسة قسمين، ما كان منها في الأرض التي وصل إليها أبو عبيدة صلحاً بقيت كنيسة، وما كان منها فيما فُتح عنوة صار مسجداً. وكانت هذه قوانين الحرب المتعارفة، وكان للظافر أن يمتلك المرافق العامة فيما فتحه بالسيف، وبذلك القانون أخذ النصارى هذا المعبد الوثني من قَبلُ وصيّروه كنيسة.
(1)"البزازية" - على هامش "الهندية" -: 6/ 370.
وكان المسجد في أقل من نصف مساحته الآن (أي من باب النوفرة إلى ما قبل القبة)، وكان له محراب واحد هو محراب المالكية اليوم.
واستمرت الحال على ذلك إلى أيام الوليد، فكان النصارى يصلون فيؤذّن المسلمون فيزعجونهم، ويصلي المسلمون فيضرب النصارى النواقيس. وضاق المسجد بأهله، وأراد الوليد أن يضم الكنيسة إلى المسجد، وكان الوليد هو الحاكم المطلق في نحو عشرين دولة من دول اليوم، هي: الجمهورية العربية المتحدة والعراق والأردن وفلسطين والحجاز واليمن وتركيا وليبيا وتونس ومراكش والجزائر وإسبانيا والحبشة وإيران والأفغان وجمهوريات أرمينية وبخاري وتركستان وقسم من باكستان. ولكنه كان مع هذا السلطان مقيداً بقيد القرآن، والقرآن والسنة يحرّمان ظلم المواطن الذمي، أي المواطن المسيحي بعرف الناس اليوم، ولا يجوز التعدّي عليه ما لم ينقض هوالعهد، لذلك لم يقدر أن يُصدر أمراً بأخذ الكنيسة جبراً، فدعا رؤوس النصارى وعرض عليهم أن يعطوه بقية الكنيسة ويبني لهم بدلاً منها كنيسةً أعظم منها، فأبوا، فعرض عليهم أن يبني لهم أربع كنائس ويعطيهم مبالغ ضخمة من المال، فأبوا وقالوا: إننا نتمسك بالعهد الذي كان بيننا وبينكم. فقال لهم: أنتم خالفتم العهد وأحدثتم كنائس جديدة لم يكن في المعاهدة بناؤها فأنا أهدمها.
وعزم على ذلك، ودخل عليه أخوه المغيرة فوجده مهموماً فقال: مالك يا أمير المؤمنين؟.
فخبره، فقال: أخرج العهد فأنظره. فأخرجه فنظر فيه، فإذا القسم المفتوح عنوة، يمتد إلى آخر الكنيسة وبذلك تكون كلها حقاً للمسلمين، فألف لجنة مشتركة (إسلامية ونصرانية) فقامت بمسح ذلك، فظهر بالمساحة أن الكنيسة كلها من حق المسلمين، وأنها تدخل المسجد.
فقالوا: يا أمير المؤمنين، كنت أقطعتنا أربع كنائس، وعرضت علينا من المال كذا وكذا، فإن رأيتي أن تتفضل به علينا. فامتنع أولاً، ثم أعطاهم الكنائس الأربع، وبنى لهم كنيسة مار يوحنا الكبرى. أي إن الدولة الإسلامية، في أقوى عصورها، تبني للنصارى الكنائس من مالها، ثم يتذرع المستعمرون بالخوف على النصارى في بلادنا من حكم الإسلام!
وقالوا: إن من يهدم الكنيسة يجنّ. فأخذ الوليد المعول وقال: أنا أحب أن أجن في سبيل الله، وضرب به وتبعه الناس، ثم دعوا باليهود فأكملوا هدمها (1)، ولم يبق في المسجد من الكنيسة إلا الجدران وأساس الصومعتين الأماميتين. على أن صاحب "معجم البلدان" يروي أنه نقض الحيطان وأعاد بناءها على أساس جديد حفر له حتى بلغ الماء.
وسمع إمبراطور القسطنطينية بذلك، فأراد أن يصرفه عن عمارة المسجد، فكتب إليه: إن كان هدم الكنيسة حقاً وصلاحاً، ولم يفعله أبوك، إنه لوصمة عليك. ولما ورد الكتاب على الوليد، قعد يفكّر في جوابه، فدخل عليه الفرزدق الشاعر فقال له: جوابه حاضر، وهو قوله تعالى:{ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً} .
…
وحشد لبنائه العمال من كل مكان وأراد أن يقيم السقف على أسطوانات (أعمدة)، فاقترح عليه بنّاء شامي أن يقصر الأعمدة، ويعقد بعضها بأقواس، ويقيم فوقها أعمدة صغاراً، لها قناطر تحمل السقف، فصنع ذلك وبقي إلى يومنا هذا.
(1) لا حباً بالمسلمين، بل كرهاً للنصارى.