المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عمر وزخارف الأموي: - الجامع الأموي في دمشق

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌عمر وزخارف الأموي:

غدراً (1)، طمعوا في استرجاع الكنيسة، ورفعوا دعواهم إليه وأدلوا بالمعاهدة الى شرطت لهم ألا تهدم كنائسهم، ولا تسكن، فكلمهم وحاول إرضاءهم ودفع لهم مئة ألف دينار أي نحو مليوني درهم. فأبوا. فأمر بأن تُعاد إليهم الكنيسة. وكلف محمد بن سويد القهري بهذه المهمة فأكبر ذلك محمد وأكبره الناس، وقالوا: كيف تدفع إليهم مسجدنا بعدما صلينا فيه وقرأنا فيُهدم فيعاد كنيسة؟.

فقال رجل منهم: ارفعوا دعوى (مقابلة) إلى أمير المؤمنين، بأننا نتمسك بالمعاهدة، والمعاهدة تحمي كنائسهم التي كانت حين الفتح، ولكنها تمنعهم أن يُحدثوا غيرها، وقد أحدثوا بعد الفتح سبع كنائس ما لهم فيها حق، وعليهم بحكم المعاهدة أن يهدموها. فإن أحبّوا فإنا نعطيهم الكنيسة التي صارت مسجداً، ونهدم كل ما أحدثوا من كنائس، وإن شاؤوا تُركت لهم كل كنيسة أحدثوها، ونجعل للمعاهدة ملحقاً نعترف لهم بها، فاستمهلوا، ثم قبلوا بذلك، وتنازلوا عن دعواهم.

‌عمر وزخارف الأموي:

ثم نظر عمر إلى هذه الزينة وهذه الزخارف، فعزم على إبطالها، لأن كل ذلك مخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في بناء المساجد، والإسلام يكره زخرفة المساجد، والسرف في بنائها، لئلا تشغل المصلين بروعة بنائها عن مراقبة ربهم، وحسن التوجّه إليه، وكل ما نرى في المساجد الآن من الزخرف والفن والنقوش والتعالي في البنيان والتزيُّد من الفرش، كل ذلك مما رغب الإسلام عنه وكرهه، كما كره إقامة القبور فيها والكتابة على جدرانها.

ثم إن عمر بن عبد العزيز قال: لقد هممت أن أعمد إلى تلك الفسيفساء وذلك الرخام فأقلعه، وأجعل مكانه طوباً، وأنزع تلك

(1) انظر (قضية سمرقند) في كتابي "قصص من التاريخ".

ص: 49

السلاسل وأجعل مكانها حبالاً، وأنزع تلك البطائن (أي الستائر) فأبيع جميع ذلك، وأدخله بيت المال، فبلغ ذلك أهل دمشق، فاشتد ذلك عليهم، فخرج إليه أشرافهم، وفيهم رجل يقال له خالدن فقال: ائذنوا لي حتى أكون أنا المتكلم. فأذنوا له. فلما أتوا دير سمعان استأذنوا على عمر، فأذن لهم، فلما دخلوا سلّموا عليه، فقال خالد: يا أمير المؤمنين بلغنا أنك هممت أن تفعل كذا وكذا في مسجدنا، فقال لهم: رأيت أموالاً أُنفقت في غير حقها وأنا مستدرك ما أدركت فأجعل قرارها في بيت المال، فقال له خالد: والله ما ذلك لك يا أمير المؤمنين. فقال له: لمن هو؟ ألأمك الكافرة؟ وغضب عمر، وكانت أمر خالد نصرانية (1). فقال له: إن تكن كافرة، فقد ولدت مؤمناً. فاستحيا عمر، وقال: صدقت. ثم قال: ما معنى قولك، ما ذلك لي؟ فقال: لأنا كنا معشر أهل الشام وإخواننا من أهل مصر وإخواننا من أهل العراق، نغزو فيُفرض على الرجل منا أن يحمل من أرض الروم قسماً من الفسيفساء، وذراعاً في ذراع من رخام، فيحمله أهل العراق وأهل حلب إلى حلب ويستأجرون من يحمله إلى دمشق، ويحمله أهل حمص إلى حمص ويستأجرون من يحمله إلى دمشق، ويحمل أهل دمشق ومن وراءهم حصتهم إلى دمشق. فذلك قولي، ما ذلك لك. فسكت عمر، ثم جاء كتاب من يزيد بن معمر يخبره أن قارباً ورد عليه من رومية في عشرة من الروم، عليهم رجل منهم، يريدون الوفود على أمير المؤمنين، فكتب إليه أن وجّههم إليّ، ووجّه معهم عشرة من المسلمين واجعل عليهم رجلاً منهم وليكن يحسن التكلم بالرومية ولكن لا يُعلموهم بأنهم يعرفون لغتهم. وذلك لأجل أن يحملوا كلامهم، ففعل ما أمره به وساروا حتى أتوا دمشق، فنزلوا خارج باب البريد، فسأل الروم رئيس العشرة من المسلمين أن يستأذن لهم الوالي في دخول المسجد، فأذن لهم فمروا في

(1) هو إذن خالد بن عبد الله القسري.

ص: 50

الصحن حتى دخلوا من الباب الذي يواجه القبة، فكان أول ما استقبلوه المنبر، ثم رفعوا رؤوسهم إلى القبة فخر رئيسهم مغشيّاً عليه، فحُمل إلى منزله فأقام ما شاء الله أن يقيم ثم أفاق فقالوا له بالرومية: ما قصتك؟ عهدنا بك من رومية وما أنكرنا منك شيئاً، وصحبتنا في طريقنا فما أنكرناك، فما الذي عرض لك حين دخلت هذا المسجد؟ فقال: إنا معشر أهل رومية نتحدت أن بقاء العرب قليل، فلما رأيت ما بنوا علمت أن لهم مدّة سيبقونها، فلذلك أصابني ما أصابني. فلما قدموا على عمر أخبروه بما سمعوا منه، فقال: لا أرى مسجد دمشق إلا غيظاً على الكفار فنزل عما كان همّ به من أمره.

***

ص: 51