الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنواع تدبر القرآن
(مَطالِب المُتَدَبِّرين ومقاصِدهم)
النوع الأول: تدبره لمعرفة صِدْق من جاء به، وأنه حق من عند الله تعالى:
وذلك أن الله تعالى نَعَى على المنافقين إعراضهم عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال:{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء: 81 - 82).
قال ابن جرير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)} (النمل: 1): «يَبِين لِمَن تَدَبَّرَه وفَكَّر فيه بفَهْم أنه من عند الله، أنزله إليك، لم تَتَخَرَّصه أنت، ولم تَتَقَوَّله ولا أحد سِوَاك من خَلْق الله؛ لأنه لا يَقْدِر أحد من الخَلْق أن يأتي بمثله، ولو تَظَاهَر عليه الجِنّ والإنس» اهـ (1).
قال ابن القيم رحمه الله: «ومن شهادته أيضًا ما أودعه في قلوب عباده من التصديق الجازم، واليقين الثابت، والطمأنينة بكلامه ووحيه، فإن العادة تُحيل حصول ذلك بما هو من أعظم الكذب والافتراء على رب العالمين، والإخبار عنه بخلاف ما هو عليه من أسمائه وصفاته، بل ذلك يُوقِع أعظم الرَّيْب والشك، وتدفعه الفِطَر والعقول السليمة، كما تَدفع الفِطَرُ التي فُطِر عليها الحيوان الأغذية الخبيثة الضارة التي لا تُغَذِّي؛ كالأبوال والأنتان؛ فإن الله سبحانه وتعالى فَطَر القلوب على قبول الحق، والانقياد له، والطمأنينة به، والسكون إليه، ومحبته، وفَطَرها على بُغْض الكذب والباطل، والنفور عنه، والريبة به، وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفِطَر على حالها
(1) تفسير الطبري (18/ 5 - 6).
لما آثرت على الحق سواه، ولما سكنت إلا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره؛ ولهذا ندب الله عز وجل عباده إلى تدبر القرآن؛ فإن كل من تدبره أوجب له تدبرُهُ علمًا ضروريًّا ويقينًا جازمًا أنه حق وصدق، بل أَحَقُّ كُلّ حق، وأصدق كل صدق، وأن الذي جاء به أصدق خلق الله وأبَرُّهم وأكملهم علمًا وعملًا ومعرفة؛ كما قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء: 82)، وقال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24)؛ فلو رُفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت علمًا ضروريًّا- يكون عندها كسائر الأمور الوجدانية من الفرح والألم والحب والخوف- أنه من عند الله، تكلم به حقًّا، وبَلَّغه رسولُه جبريل عنه إلى رسوله محمد، فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد، وبه احتج هرقل على أبي سفيان، حيث قال له: فهل يرتد أحد منهم سَخْطَة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقال: لا! فقال له: وكذلك الإيمان إذا خالطت حلاوتهُ بشَاشَةَ القلوب لا يَسْخَطه أحد (1).
وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} (العنكبوت: 49)، وقوله:{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ} (الحج: 54)، وقوله:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (سبأ: 6)، وقوله:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الرعد: 19)، وقوله:{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} (الرعد: 27)؛ يعني: أن الآية التي
(1) رواه البخاري (7، وأطرافه في: 51، 2681، 2804، 2941، 2978، 3174، 4553، 5980، 6260، 7196).
يقترحونها لا تُوجِب هداية، بل الله هو الذي يهدي ويُضِل، ثم نَبَّهَهُمْ على أعظم آية وأَجَلِّها وهي طمأنينة في قلوب المؤمنين بذكره الذي أنزله، فقال:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} (الرعد: 28)؛ أي: بكتابه وكلامه، {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} ؛ فطمأنينة القلوب الصحيحة والفطر السليمة به وسكونها إليه من أعظم الآيات؛ إذ يستحيل في العادة أن تطمئن القلوب وتسكن إلى الكذب والافتراء والباطل» اهـ (1).
وذلك يحصل لهم بتدبره من وجوه متعددة؛ منها:
اتساق معانيه (2).
ائتلاف أحكامه (3).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أفلا يتدبرون القرآن فيتفكرون فيه، فيرون تصديق بعضه لبعض، وما فيه من المواعظ والذكر والأمر والنهي، وأن أحدًا من الخلائق لا يقدر عليه» (5).
(1) مدارج السالكين (3/ 471).
(2)
تفسير ابن جرير (8/ 567).
(3)
السابق (8/ 567).
(4)
ما بين علامتي التنصيص من كلام ابن جرير (8/ 567)، وينظر أيضًا: تفسير البغوي (1/ 566)، المحرر الوجيز (2/ 612)، تفسير الرازي (10/ 196)، تفسير الخازن (1/ 563)، تفسير النيسابوري (2/ 455 - 456)، تفسير البقاعي (5/ 339 - 340)، روح المعاني (5/ 92)، التحرير والتنوير (1/ 67)، (5/ 137).
(5)
معاني القرآن للزجاج (2/ 82)، زاد المسير (2/ 144)، تفسير الخازن (1/ 563).