المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشرط الثالث: وجود قدر من الفهم للكلام المقروء أو المسموع: - الخلاصة في تدبر القرآن الكريم

[خالد السبت]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌بيان معنى التدبر

- ‌1 - التدبُّر في اللغة:

- ‌2 - التدبُّر بمعناه العام:

- ‌3 - معنى تدبُّر القرآن خاصَّة (المعنى الشرعي):

- ‌4 - ذكر بعض عبارات المفسِّرين في معنى التدبر:

- ‌العلاقة بين التدبر وما يقاربه من الألفاظ

- ‌أولًا: علاقته بالتفسير:

- ‌ثانيًا: علاقته بالتأويل:

- ‌ثالثًا: علاقته بالبيان:

- ‌رابعًا: علاقته بالاستنباط:

- ‌خامسًا: علاقته بالفهم:

- ‌سادسًا: علاقته بالتَّفَكُّر:

- ‌فضله وشرفه

- ‌أهمية التدبر

- ‌ثمراته ونتائجه

- ‌مظاهره وعلاماته

- ‌موضوعه

- ‌أنواع تدبر القرآن(مَطالِب المُتَدَبِّرين ومقاصِدهم)

- ‌النوع الأول: تدبره لمعرفة صِدْق من جاء به، وأنه حق من عند الله تعالى:

- ‌النوع الثاني: تدبره للوقوف على عظاته، والاعتبار بما فيه من القصص والأخبار

- ‌النوع الثالث: تدبره لاستخراج الأحكام منه، سواء كان ذلك مما يتصل بالعقائد، أو الأعمال المتعلقة بالجوارح، أو السلوك؛ إذ الأحكام تشمل ذلك كله بمفهومها الأوسع

- ‌النوع الرابع: تدبره للوقوف على ما حواه من العلوم والأخبار والقصص، وما ورد فيه من أوصاف هذه الدار

- ‌النوع الخامس: تدبره للوقوف على وجوه فصاحته وبلاغته وإعجازه، وصُرُوف خطابه، واستخراج اللطائف اللغوية التي تُسْتَنْبَط من مضامين النص القرآني

- ‌النوع السادس: تدبُّره لتعَرُّفِ ضُروبِ المُحَاجَّة والجدال للمخالفين

- ‌النوع السابع: تدبره من أجل الاستغناء به عن غيره؛ سوى السنَّة فإنها شارحة له

- ‌النوع الثامن: تدبره من أجل تليين القلب به وترقيقه، وتحصيل الخشوع:

- ‌النوع التاسع: تدبره من أجل الامتثال له، والعمل بما فيه من الأوامر، واجتناب النواهي:

- ‌أركان التدبر

- ‌الأول: المُتَدَبِّر:

- ‌الثاني: الكلام المُتَدَبَّر:

- ‌الثالث: عمليَّة التدبُّر:

- ‌شروط التدبر

- ‌ ما يتوقَّف عليه التدبر إجمالًا:

- ‌ الشروط الأساسية للتدبر:

- ‌الشرط الأول: وجود المَحَل القَابِل:

- ‌الشرط الثاني: العمل الذي يصدر من المكلف (الاستماع، أو القراءة، مع حضور القلب):

- ‌ذِكْرُ جملة من الأمور المُعِينة على التدبر، مما يكون مُشترَكًا بين الاستماع والتلاوة:

- ‌1 - إدراك أهمية التدبر وفائدته:

- ‌2 - استحضار عظمة المتكلم بالقرآن:

- ‌3 - ما ينبغي أن تكون عليه تصوراتنا ونظرتنا للقرآن:

- ‌4 - استحضار أنك المُخَاطَب بهذا القرآن:

- ‌5 - صدق الطلب والرغبة، وقوة الإقبال على كتاب الله، عز وجل:

- ‌6 - أن يقرأ ليمتثل:

- ‌7 - تنزيل القرآن على الواقع:

- ‌الشرط الثالث: وجود قدر من الفهم للكلام المقروء أو المسموع:

- ‌قائمة المراجع

الفصل: ‌الشرط الثالث: وجود قدر من الفهم للكلام المقروء أو المسموع:

وقال الخازن رحمه الله: «وتدبر القرآن لا يكون إلا مع حضور القلب، وجمع الهَم وقت تلاوته، ويشترط فيه تقليل الغذاء من الحلال الصِّرْف، وخلوص النية» اهـ (1).

وما ذكرته في الشرط الأول- وهو وجود المَحَل القَابِل- له اتصال وثيق بهذا الموضع، إلا أن بينهما عمومًا وخصوصًا من وجه، فقد يكون صاحب القلب الحي مُشَوَّشًا أو مشغولًا، أو في موضع لا يتمكن معه من إحضار قلبه حال السماع أو التلاوة، فيقرأ الآيات أو السورة ويتجاوزها وهو لا يشعر؛ لأن قلبه لم يحضر معه لعارض.

وقد لا يكون القارئ أو المستمع من أصحاب القلوب الحية، لكنه لم يُطبع على قلبه، فإذا استمع أو قرأ مع حضور القلب، فإنه ينتفع.

‌الشرط الثالث: وجود قدر من الفهم للكلام المقروء أو المسموع:

من المعلوم أن الفهم قضية نسبية، يقع فيها التفاوت كثيرًا، والناس فيها على ثلاث مراتب، ومن هنا حصل التفاوت بينهم في العلم والفقه.

ونحن لا نطالب العامي أن يفهم منه ما يفهم ابن عباس رضي الله عنهما، وإنما المقصود هنا حصول حد أدنى من الفهم لما يقرأ أو يسمع؛ بحيث لا يكون بمنزلة من خُوطِب بلغة غير لغته لا يعرفها، فإن من خُوطِب بما لا يفهم أصلًا، لا يمكن أن يتدبر مهما كان قلبه حيًّا وأحضره حال الاستماع أو التلاوة.

ومن هنا يتعيَّن علينا أن ننظر إلى هذا الشرط بنوع اعتدال، فلا نشترط منه قدرًا لا يصدُق إلا على العلماء، ولا نُلْغيه بالكلية فنطالب من كان بمنزلة الأعجمي

(1) تفسير الخازن (6/ 182).

ص: 74

أن يتدبر القرآن، وقد وصف الله تعالى كتابه بقوله:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت: 3)، وقال:{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء: 195)، وقال تعالى:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 44)، وقال:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2)، إلى غير ذلك من الآيات الكريمات، كما أخبر أنه يسَّره للذِّكر فقال تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر: 17)، وقد سبقت الإشارة إلى العموم الوارد في الحث على تدبره:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص: 29)، ولم يخص ذلك بأهل العلم دون غيرهم؛ مع أن ما يحصل للعالم من ذلك لا يقاس بما يحصل لغيره.

قال ابن جرير رحمه الله: «وفي حَثِّ الله عز وجل عباده على الاعتبار بما في آي القرآن من المواعظ والبينات بقوله جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص: 29)، وقوله:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 27، 28)، وما أشبه ذلك من آي القرآن التي أمر الله عبادَه، وحثهم فيها على الاعتبار بأمثال آي القرآن، والاتِّعاظ بمواعظه- ما يدلُّ على أنَّ عليهم معرفةَ تأويل ما لم يُحجب عنهم تأويله من آيِهِ؛ لأنه محالٌ أن يُقال لمن لا يَفْهَمُ ما يُقال له ولا يعقِل تأويلَه:(اعْتَبِرْ بما لا فَهْم لك به ولا معرفةَ من القِيل والبيان والكلام) - إلا على معنى الأمر بأن يفهمَه ويفقَهَه، ثم يتدبَّره ويعتبرَ به، فأما قبلَ ذلك فمستحيلٌ أمرُه بتدبره وهو بمعناه جاهل، كما محالٌ أن يقال لبعض أصناف الأمم الذين لا يعقلون كلامَ العرب

ص: 75

ولا يفهمونه، لو أُنشِدت قَصيدةُ شعرٍ من أشعار بعض العرب ذاتُ أمثالٍ ومواعظ وحِكم:(اعْتَبِرْ بما فيها من الأمثال، وادّكر بما فيها من المواعظ)، إلا بمعنى الأمر لها بفهم كلامِ العرب ومعرفتِه، ثم الاعتبار بما نَبَّهَها عليه ما فيها من الحِكَم، فأما وهي جاهلة بمعاني ما فيها من الكلام والمنطق، فمحالٌ أمرُها بما دلَّت عليه معاني ما حوته من الأمثال والعِبَر. بل سواء أمرُها بذلك وأمرُ بعض البهائم به، إلا بعدَ العلم بمعاني المنطق والبيان الذي فيها.

فكذلك ما في آي كتاب الله من العِبَرِ والحِكم والأمثال والمواعظ، لا يجوز أن يقال:(اعْتَبِرْ بها) إلا لمن كان بمعاني بيانه عالمًا، وبكلام العرب عارفًا؛ وإلا بمعنى الأمر- لمن كان بذلك منهُ جاهلًا- أنْ يعلم معاني كلام العرب، ثم يتدبَّره بعدُ، ويتعظ بحِكَمِه وصُنوف عِبَرِه.

فإذْ كان ذلك كذلك- وكان الله جل ثناؤه قد أمر عباده بتدبُّره وحثهم على الاعتبار بأمثاله- كان معلومًا أنه لم يأمر بذلك من كان بما يدُلّ عليه آيُه جاهلًا، وإذْ لم يجز أن يأمرهم بذلك إلا وهُمْ بما يدلهم عليه عالمون، صحَّ أنهم- بتأويل ما لم يُحجَبْ عنهم علمه من آيِهِ الذي استأثر الله بعلمه منه دون خلقه، الذي قد قدّمنا صفَته آنفًا- عارفون، وإذْ صَحَّ ذلك، فسَدَ قول من أنكر تفسيرَ المفسرين، من كتاب الله وتنزيلِه، ما لم يحجب عن خَلقه تأويله» اهـ (1).

وكان رحمه الله يقول: «إني أعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله، كيف يَلْتَذّ بقراءته! ! » اهـ (2).

(1) تفسير الطبري (1/ 82 - 83).

(2)

معجم الأدباء (6/ 2453).

ص: 76

وقال الزجاج رحمه الله تعليقًا على قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (ق: 37): «من صَرَف قلبه إلى التَّفَهُّم» اهـ (1).

وقال القرطبي رحمه الله: «وينبغي له أن يَتَعَلّم أحكام القرآن، فيَفْهَم عن الله مراده، وما فرض عليه، فيَنْتَفِع بما يقرأ، ويعمل بما يتلو، فكيف يعمل بما لا يفهم معناه؟ ! وما أقبح أن يُسأل عن فقه ما يتلوه ولا يدريه، فما مثل من هذا حاله إلا كمثل الحمار يحمل أسفارًا» اهـ (2).

وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: «وتدبُّر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن؛ وكذلك قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2)، وعَقْل الكلام متضمن لفهمه، ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك» اهـ (3).

وقال الشنقيطي رحمه الله: «فإذا علمت -أيها المسلم- أن هذا القرآن العظيم هو النور الذي أنزله الله ليُستضاء به، ويُهْتَدى بهداه في أرضه، فكيف ترضى لبصيرتك أن تعمى عن النور؟ !

يجب عليك الجد والاجتهاد في تعلم كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالوسائل النافعة المنتجة، والعمل بكل ما علمك الله منهما علمًا صحيحًا» اهـ (4).

(1) معاني القرآن (5/ 48).

(2)

تفسير القرطبي (1/ 21).

(3)

مجموع الفتاوى (13/ 332).

(4)

أضواء البيان (7/ 465 - 466).

ص: 77

وكلام أهل العلم في هذا المعنى كثير جدًّا، لا حاجة إلى التطويل بإيراده ونَقْلِه.

أما من أراد الغَوص في المعاني، واستخراج نفائس الجواهر واللآلئ، فإنه بحاجة إلى معرفة بعلوم العربية بأنواعها، إلى غير ذلك من العلوم المُسَاعِدَة في التفسير، مع طول النظر في كلام السلف في التفسير، وكثرة القراءة في كتب التفسير التي تَمَيَّز مؤلفوها بالتحقيق والتأصيل، والقدرة البارعة على الجمع بين الأقوال أو الترجيح، أو التوجيه: كأبي جعفر بن جرير، والحافظ ابن كثير، والشنقيطي، مع ما جُمِع من كلام الإمامين- ابن تيمية، وابن القيم- في التفسير، فإن سَاعَد مع ذلك وجود المَلَكَة، وتَوَقُّد القريحة، فذاك كنور العين مع ضوء الشمس، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «لا بد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف ما يدل على مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الألفاظ، وكيف يفهم كلامه؛ فمعرفة العربية التي خُوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني؛ فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب؛ فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما يدَّعون أنه دال عليه، ولا يكون الأمر كذلك» اهـ (1).

(1) مجموع الفتاوى (7/ 116).

ص: 78

ومما سبق يتضح لنا أمران:

الأول: أن الناس متفاوتون في التدبر (1):

قال ابن القيم رحمه الله: «والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآية حكمًا أو حكمين، ومنهم من يفهم عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه، ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره، وأخص من هذا وألطف ضمه إلى آخِر نص مُتَعَلِّق به، فيفهم من اقترانه به قدرًا زائدًا على ذلك اللفظ بمفرده، وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا ينتبه له إلا النادر من أهل العلم؛ فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتَعَلُّقه به، وهذا كما فهم ابن عباس رضي الله عنهما من قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (الأحقاف: 15)، مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (البقرة: 233): أن المرأة قد تَلِد لستة أشهر (2)، وكما فهم الصِّدِّيق من آية الفرائض في أول السورة وآخرها أن الكلالة مَن لا ولد له ولا والد (3)» اهـ (4).

الثاني: أن التدبر لا يختص بالعلماء:

يقول الصنعاني رحمه الله: «إن الله سبحانه وتعالى كمَّل عقول العباد، ورزقهم فهم كلامه، ثم إن فَهْم كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عند قَرْعِها الأسماع لا يحتاج في معناها إلى علم النحو، ولا إلى علم الأصول، بل في الأفهام والطباع والعقول ما

(1) ينظر: فيض القدير (1/ 561).

(2)

مضى ص: 35.

(3)

رواه عبد الرزاق (19191)، والدارمي (3015)، والبيهقي (6/ 223 - 224) وغيرهم.

(4)

مضى ص: 35.

ص: 79

يجعلها تُسَارِع إلى معرفة المراد؛ فإن من قَرَع سمعَه قولُه تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} (البقرة: 110)، يفهم معناه دون أن يعرف أن «ما» كلمة شرط، و «تُقَدِّمُوا» مجزوم بها لأنه شرطها، و «تجدوه» مجزوم بها لأنه جزاؤها، ومثلها كثير.

ثم إنك ترى العامة يستفتون العالم ويفهمون كلامه وجوابه، وهو كلام غير مُعْرَب في الأغلب، بل تراهم يسمعون القرآن، فيفهمون معناه، ويبكون لقوارعه وما حواه، ولا يعرفون إعرابًا، ولا غيره، بل ربما كان موقع ما يسمعونه في قلوبهم أعظم من موقعه في قلوب من حقّق قواعد الاجتهاد، وبلغ الذكاء والانتقاد، ثم إن هؤلاء العامة يحضرون الخُطَب في الجُمَع والأعياد، ويذوقون الوعظ ويفهمونه، ويُفَتِّت منهم الأكباد، وتدمع منهم العيون، فيكثر منهم البكاء والنَّحِيب، ثم إنك تراهم يقرؤون كتبًا مُؤَلَّفة من الفروع الفقهية ويفهمون ما فيها، ويعرفون معناها، ويعتمدون عليها، ويرجعون في الفتوى والخصومات إليها.

فيا ليت شعري! ما الذي خص الكتاب والسنة بالمنع من معرفة معانيها، وفَهْم تراكيبها ومبانيها، والإعراض عن استخراج ما فيها، حتى جُعِلَت معانيها كالمقصورات في الخيام، قد ضُرِبَت دونها السُّجُوف (1)، ولم يبق لنا إليها إلا ترديد ألفاظها والحروف، وأن استنباط معانيها قد صار حِجْرًا محجورَا، وحَرَمًا مُحَرَّمًا محصورَا؟ ! » اهـ (2).

قال الشنقيطي رحمه الله: «اعلم أَنَّ قول بعض مُتأخِّري الأُصوليِّين: إِنَّ تَدبُّر هذا القرآن العظيم، وتفهُّمَهُ والعمل به لا يجوز إلا للمجتهدين خاصةً

قَولٌ لا مُسْتَنَد له من دليل شرعيٍّ أصلًا.

(1) أي: السُّتُور.

(2)

إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد (1/ 36 ضمن الرسائل المنيرية).

ص: 80

بل الحقُّ الذي لا شكّ فيه أنَّ كلَّ من له قدرة من المسلمين، على التعلم والتفهم، وإدراك معاني الكتاب والسنة، يجب عليه تعَلُّمهُمَا، والعمل بما علم منهما

ومعلوم أن هذا الذمّ والإنكار على من لم يتدبَّر كتاب الله عام لجميع الناس، ومما يوضِّح ذلك أن المُخَاطَبين الأوَّلين به الذين نزل فيهم هم المنافقون والكفار، ليس أحد منهم مُسْتَكْمِلًا لِشروط الاجتهاد المقرَّرة عند أهل الأصول، بل ليس عندهم شيءٌ منها أصلًا، فلو كان القرآن لا يجوز أن ينتفع بالعمل به والاهتداء بهديه إلا المجتهدون بالاصطلاح الأصوليِّ، لَما وبَّخَ الله الكفار، وأنكر عليهم عدم الاهتداء بهداه، وَلَمَا أقام عليهم الحجَّة به حتّى يُحَصِّلُوا شروطَ الاجتهاد المقرَّرة عند متأخِّري الأصوليين، كما ترى» اهـ (1).

وأما انتفاء الموانع:

فإن ما ذُكر من الشروط الأصلية، أو ما يتفرع منها إذا تخلَّف شيء منها كان ذلك عائقًا دون التدبر، وبذلك نستطيع أن نتعرَّف كثيرًا من مُعَوِّقَات التدبر.

ولا بأس هنا أن أُشير إلى جملة منها على سبيل الإيجاز:

أولاً: عدم وجود المَحَل القَابِل، أو ضعفه:

تتنوع القلوب وتختلف أوصافها بحسب ما يقوم بها من الإيمان أو الكفر أو النفاق، أو غير ذلك من الأدواء التي قد تَحُول دون التدبر بالكلية، وقد تُضْعِفه وتُوهِنه.

(1) أضواء البيان (7/ 258)، وينظر منه:(7/ 298، 304).

ص: 81

أما ما يَصْرِفه بالكلية: فالطبع والختم وما في معناهما (1)

- كما سبق- فيصير العبد إلى الحال التي وصفها الله تعالى بقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} (يونس: 42، 43)، وقوله:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (الأنعام: 25)(2).

وأما ما يُضْعِفُ التدبر: فأمور عدة؛ منها:

1) الذنوب والمعاصي:

ينبغي على المسلم أن يتخلى «عن موانع الفهم؛ ومن ذلك أن يكون مُصِرًّا على ذنب، أو مُتَّصِفًا بكِبْر، أو مُبتلًى بهوى مُطاع، فإن ذلك سبب ظُلْمَة القلب وصَدَئِه؛ فالقلب مِثْل المرآة، والشهوات مِثْل الصَّدَأ، ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة، والرياضة للقلب بإماطة الشهوات مثل جلاء المرآة» (3).

قال الزركشي رحمه الله: «اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي، ولا يظهر له أسراره، وفي قلبه بدعة أو كِبْر أو هوى أو حب دنيا، أو هو مُصِرّ على ذنب، أو غير متحقق بالإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو يعتمد على مفسر ليس عنده علم، أو راجع إلى معقوله؛ وهذه كلها حُجب وموانع بعضها آكدُ من بعض» اهـ (4).

(1) ينظر على سبيل المثال: مجموع الفتاوى (9/ 307 - 319).

(2)

وقد شرح الحافظ ابن القيم رحمه الله هذه الحُجب:

(3)

مختصر منهاج القاصدين ص: 69. (مع الاختصار والتصرف). وينظر: الإحياء (1/ 284).

(4)

البرهان (2/ 181)، (مع الاختصار والتصرف).

ص: 82

قال بعض السلف: «أذنبت ذنبًا؛ فحُرِمت فهم القرآن» (1).

وقد تكون بعض الذنوب أبلغَ تأثيرًا في القلب من بعض؛ كالغِنَاء؛ فإنه سَمَاع أهل الشهوات المُحَرَّمة، وكثير منهم يستعيض به عن سماع القرآن، والواقع «أنه يُلهي القلب، ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه؛ فإن القرآن والغِنَاء لا يجتمعان في القلب أبدًا؛ لما بينهما من التضاد؛ فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعِفَّة ومُجَانَبة شهوات النفوس وأسباب الغيّ

» (2).

قال ابن القيم في القصيدة النونية (3):

واللهِ إنَّ سماعَهُم في القلب والْـ

إيمانِ مثلُ السُّمِّ في الأبدانِ

فالقلبُ بَيتُ الرَّبِّ جل جلاله

حُبًّا وإخلاصًا مع الإحسانِ

فإذا تَعَلَّق بالسَّماع أحالَهُ

عبدًا لكلِّ فُلانةٍ وفُلانِ

حُبُّ الكتاب وحُبُّ ألْحان الغِنا

في قلب عَبدٍ ليس يجتَمِعانِ

2) الفضول من النظر والكلام والخُلْطة والنوم والأكل والشرب:

قال المروزي رحمه الله: «قلت لأبي عبد الله- يعني: الإمام أحمد رحمه الله: يجد الرجل من قلبه رِقَّة وهو يشْبَع؟ قال: ما أرى! » (4).

(1) طريق الهجرتين (2/ 589).

(2)

إغاثة اللهفان (1/ 445)، وراجع بقية كلامه رحمه الله.

(3)

النونية رقم: (5161 - 5165).

(4)

الورع للمروزي (323).

ص: 83

وعن محمد بن واسع رحمه الله قال: «من قَلَّ طُعْمُه، فَهِم وأفهم وصَفَا ورَقّ، وإن كثرة الطعام لَيُثْقِل صاحبه عن كثير مما يريد» (1).

وعن أبي سليمان الداراني رحمه الله قال: «إذا أردت حاجة من حوائج الدنيا والآخرة، فلا تأكل حتى تقضيها؛ فإن الأكل يغير العقل» (2).

وعن قُثَم العابد رحمه الله قال: «كان يقال: ما قَلَّ طعام امرئ قط إلا رَقّ قلبه ونَدِيَتْ عيناه» (3).

وعن أبي عمران الجَوْني رحمه الله قال: «كان يقال: من أحب أن يُنَوَّرَ قَلْبُهُ، فَلْيُقِلَّ طُعْمَه» (4).

وعن إبراهيم بن أدهم رحمه الله قال: «من ضَبَطَ بطنه ضَبَط دينه، ومن مَلَك جُوعَه مَلَك الأخلاق الصالحة» (5).

وقال الحسن بن يحيى الخُشَني رحمه الله: «من أراد أن يُغْزِر دموعه ويرِقّ قلبه، فليأكل وليشرب في نصف بطنه» .

وقال أحمد بن أبي الحواري رحمه الله: «فحَدَّثْتُ بهذا أبا سليمان فقال: إنما جاء الحديث: «ثلث طعام وثلث شراب» ، وأرى هؤلاء قد حاسبوا أنفسهم فربحوا سُدُسًا» (6).

(1) رواه ابن أبي الدنيا في الجوع (49).

(2)

السابق (87).

(3)

السابق (124).

(4)

السابق (142).

(5)

ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/ 473).

(6)

رواه أبو نعيم في الحلية (8/ 318).

ص: 84

وعن الشافعي رحمه الله قال: «ما شَبِعْتُ منذ ستَّ عشْرةَ سنة إلا شبعة أطرحها؛ لأن الشِّبَع يُثْقِل البدن، ويُزِيل الفِطْنة، ويجلب النوم، ويُضْعِف صاحبه عن العبادة» (1).

وقالت عائشة رضي الله عنها: «أول بدعة حدثت بعد رسول الله: الشِّبَع؛ إن القوم لما شبعت بطونهم، جمحت نفوسهم إلى الدنيا» (2).

ثانيًا: عدم حضور القلب:

وقد مضى كلام الحافظ ابن القيم رحمه الله حيث ذكر أن «الناس ثلاثة: رجل قلبه ميت

الثاني: رجل له قلب حي

لكنه مشغول ليس بحاضر، فهذا أيضًا لا تحصل له الذكرى. والثالث: رجل حي القلب مستعد، تُليت عليه الآيات فأصغى بسمعه وألقى السمع، وأحضر القلب، ولم يشغله بغير فهم ما يسمع، فهو شاهد القلب، فهذا القِسْم هو الذي ينتفع بالآيات» (3).

وإنما يتخلف القلب عن الحضور حال التلاوة أو السماع لأسباب متعددة؛ منها:

أ- أن يكون مطلوب القارئ مُنْحَصِرًا في القراءة فقط، والإكثار منها فحسب؛ طلبًا للأجر، وقد مضى الكلام على ما يتصل بهذا المعنى عند الكلام على الشروط.

قال الحسن رحمه الله: «يابن آدم كيف يَرِقّ قلبك، وإنما هِمَّتُك في آخر السُّورة؟ ! » (4).

(1) السابق (9/ 127).

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في الجوع (22).

(3)

مدارج السالكين (1/ 442).

(4)

مضى تخريجه ص: 57.

ص: 85

وقال ابن الجوزي رحمه الله: «وقد لبَّس على قوم بكثرة التلاوة، فهم يَهُذُّون هَذًّا، من غير ترتيل ولا تَثَبُّت، وهذه حالة ليست بمحمودة، وقد روى جماعة من السلف أنهم كانوا يقرؤون القرآن في كل يوم، أو في كل ركعة، وهذا يكون نادرًا منهم، ومن داوم عليه فإنه- وإن كان جائزًا- إلا أن الترتيل والتثبت أحب إلى العلماء، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» (1)» اهـ (2).

ب- اشتغال القلب بمخارج الحروف، والمُبَالَغة في ذلك، والتكلف في الإتيان بالمدود؛ فإن القلب يتوجه عندئذ إلى القوالب اللفظية دون أن يتجاوزها إلى المعاني (3).

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «ولا يجعل هِمَّتَه فيما حُجِبَ به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن، إما بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإِمالتها وَالنُّطق بالمدِّ الطَّويل والقصِير والمتوسِّط وغير ذلك؛ فَإن هذا حائلٌ للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرَّب من كلامه» اهـ (4).

جـ - قِلَّة الرغبة في تَفَهُّمِه، وتَوَفُّر الهمة في الاشتغال بغيره من العلوم، وهذا حال كثير من طلاب العلم وغيرهم، وكان شُعبة بن الحَجَّاج رحمه الله يقول لأصحاب الحديث:«يا قوم إنكم كلما تقدمتم في الحديث، تأخرتم في القرآن» (5).

(1) مضى تخريجه ص: 37.

(2)

تلبيس إبليس ص: 128، وسيأتي نحوه قريبًا.

(3)

للاستزادة راجع: الإحياء (1/ 284).

(4)

مجموع الفتاوى (16/ 50).

(5)

سير أعلام النبلاء (7/ 223).

ص: 86

وقال الشافعي رحمه الله عن القرآن: «حَقٌّ على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من عِلْمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك عِلْمه: نصًّا واستنباطًا، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يُدرَك خير إلا بعونه؛ فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصًّا واستدلالًا، ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب، ونَوَّرَت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة» اهـ (1).

وقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: «وأما طلب حفظ القرآن، فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علمًا: وهو إما باطل أو قليل النفع، وهو أيضًا مُقَدَّم في التعلم في حق من يريد أن يَتَعَلَّم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن؛ فإنه أصل علوم الدين

والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به، فإن لم تكن هذه هِمَّة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين» اهـ (2).

وقال ابن الجوزي رحمه الله: «ولو تفكروا لَعَلِموا أن المراد حفظ القرآن، وتقويم ألفاظه، ثم فهمه، ثم العمل به، ثم الإقبال على ما يُصْلِح النفس ويُطهر أخلاقها، ثم التشاغل بالمُهِم من علوم الشرع، ومن الغَبْن الفاحش تضييع الزمان فيما غيره الأهم» اهـ (3).

(1) الرسالة ص: 19.

(2)

مجموع الفتاوى (23/ 54 - 55).

(3)

تلبيس إبليس ص: 101.

ص: 87

د- قد يكون عدم حضور القلب لِتَفَرُّقِه لأمور عارضة من هَمٍّ بصاحبه، أو انفعال وتوتُّر، أو قلق مُزعج، أو فرح مُفْرِط، أو أَلَم يُعانيه، أو حَقْن أو حَقْب، أو غير ذلك من الأمور التي تعرض للإنسان، فينبغي أن يكون وِرْدُنا في التدبر في حالٍ تتهيأ فيها النفس، وتكون مستعدة للتدبر والتفهم.

ثالثًا: التصورات الذهنية القاصرة:

إن الإنسان- كما سبق- أَسِيرٌ لمعتقداته وتصوراته وأفكاره، فمن التصورات الفاسدة التي تَحُول دون التدبر:

1 -

اعتقاد أن القرآن نزل لمعالجة أوضاع وأحوال كانت في عصر التنزيل، ولا تَعَلُّق له بحياة الناس المعاصرة ومستجدَّاتها!

وقد مضى طرفٌ من الكلام الذي له تَعَلُّق بهذه القضية عند الكلام على شروط التدبر. وهكذا من ينظر إليه باعتبار أنه كتاب يُقرأ للبركة فحسب، أو للرقية، أو في المآتم والأحزان.

قال ابن القيم رحمه الله: «أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتَضَمُّنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خَلَوْا من قبل ولم يُعْقِبُوا وارثًا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولَعَمْر الله إن كان أولئك قد خَلَوْا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شرٌّ منهم أو دونهم، وتَنَاوُل القرآن لهم كتناوله لأولئك» اهـ (1).

(1) مدارج السالكين (1/ 343).

ص: 88

وقال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله: «وربما سمع بعضهم قول من يقول من المفسرين: هذه نزلت في عُبَّاد الأصنام، هذه نزلت في النصارى، هذه في الصابئة، فيظن الغُمر أن ذلك مُخْتَصّ بهم، وأن الحكم لا يتعداهم، وهذا من أكبر الأسباب التي تَحُول بين العبد وبين فهم القرآن والسنة» اهـ (1).

2 -

الورع البارد:

وذلك أن بعضهم ربما ترك التدبر تورُّعًا من القول على الله بلا علم.

يقول عن ذلك ابن هُبيرة رحمه الله: «من مكايد الشيطان: تنفيره عِبَاد الله من تدبر القرآن؛ لعلمه أن الهدى واقع عند التدبر، فيقول: هذه مُخَاطَرة، حتى يقول الإنسان: أنا لا أتكلم في القرآن تَوَرُّعًا» اهـ (2).

ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: «ومن قال: إن له تأويلًا لا نفهمه ولا نعلمه وإنما نتلوه متعبِّدين بألفاظه، ففي قلبه منه حرج» اهـ (3).

وقال الشِّنقيطي رحمه الله: «قول بعض متأخري الأصوليين: إن تدبُّر هذا القرآن العظيم، وتفهمه والعمل به لا يجوز إلا للمجتهدين خاصة

قول لا مُسْتَنَد له من دليل شرعي أصلًا.

بل الحق الذي لا شك فيه أن كل من له قدرة من المسلمين على التعلم والتفهم، وإدراك معاني الكتاب والسنة، يجب عليه تعلمهما، والعمل بما علم منهما

(1) تحفة الطالب والجليس (ص 65)، وضمن الدرر السنية (12/ 205).

(2)

ذيل طبقات الحنابلة (2/ 156).

(3)

التبيان ص: 343.

ص: 89

مما يوضح ذلك: أن المُخَاطَبين الأولين به الذين نزل فيهم هم المنافقون والكفار، ليس أحد منهم مُسْتَكْمِلًا لشروط الاجتهاد المُقَرَّرة

لو كان القرآن لا يجوز أن ينتفع بالعمل به، والاهتداء بهديه إلا المجتهدون بالاصطلاح الأصولي لَمَا وبَّخ الله الكفار، وأنكر عليهم عدم الاهتداء بهداه، ولَمَا أقام عليهم الحجة به

ولْتعلمْ أن كتاب الله وسنَّة رسوله في هذا الزمان أيسر منه بكثير في القرون الأولى؛ لسهولة معرفة جميع ما يتعلق بذلك

فكل آية من كتاب الله قد علم ما جاء فيها من النبي صلى الله عليه وسلم ثم من الصحابة والتابعين وكبار المفسرين» اهـ (1).

والله تعالى أعلم، وصلى على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

(1) الأضواء (7/ 459 - 460). وقد مضى ص: 77، وراجع بقية كلامه رحمه الله فإنه مفيد.

ص: 90