الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيان شروط التدبُّر، وما يتفرع منها تفصيلًا:
الشرط الأول: وجود المَحَل القَابِل:
وهو القلب الحي؛ وذلك أن القلب إذا كان زكيًّا يَقِظًا أثمر ذلك فيه كل وصف ومعنى شريف؛ لأن «القلب إذا كان رقيقًا لينًا كان قبوله للعلم سهلًا يسيرًا، ورسخ العلم فيه وثبت وأَثَّر، وإن كان قاسيًا غليظًا كان قَبوله للعلم صعبًا عسيرًا.
ولا بد مع ذلك أن يكون زكيًّا صافيًا سليمًا؛ حتى يزكو فيه العلم ويثمر ثمرًا طيبًا، وإلا فلو قَبِل العلم، وكان فيه كَدَر وخبث، أفسد ذلك العلم، وكان كالدَّغَل في الزرع إن لم يمنع الحبَّ من أن ينبتَ منعه من أن يزكوَ ويطيب، وهذا بَيِّن لأُولي الأبصار» (1).
ومن هنا كان الصحابة رضي الله عنهم يتعلمون الإيمان قبل القرآن.
فعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حَزَاوِرَة (2)، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانًا» (3).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: «لقد عشنا بُرْهَة من دهرنا، وإن أحدنا يُؤتَى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم، فنتعلم حلالها وحرامها، وآمِرَها وزَاجِرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، كما تَعَلَّمُون أنتم اليوم القرآن،
(1) مجموع الفتاوى (9/ 315).
(2)
جمع حَزْوَر، وهو الذي قارب البلوغ. النهاية (1/ 380).
(3)
رواه ابن ماجه (61)، والطبراني في الكبير (1678)، والبيهقي في السنن (3/ 120)، وفي الشعب (50)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (52).
ثم لقد رأيت اليوم رجالًا يُؤتَى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فَاتِحَتِه إلى خَاتِمَتِه ما يدري ما آمِرُه ولا زَاجِرُه، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه» (1).
وعن حذيفة رضي الله عنه: «إنَّا قوم أُوتينا الإيمان قبل أن نُؤتَى القرآن، وإنكم قوم أُوتيتم القرآن قبل أن تُؤتوا الإيمان» (2).
وقد جاء عن عثمان رضي الله عنه: «لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله عز وجل» (3).
وعلى قدر حياة القلب يكون تَأَثُّره وتَدَبُّره وتَذَكُّره، فتارة يقوى، وتارة يضعف، وقد ينعدم ويتلاشى، كما يدل على ذلك ما جاء في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى من الطبع على القلوب، والخَتْمِ عليها، وإزاغتها، فصاحب هذا القلب الأغلف أو المنكوس لا يحصل له شيء من التدبر والاعتبار والتفكر والانتفاع بما يقرأ أو يسمع من آيات الله تعالى.
قال ابن عباس رضي الله عنهما عند قوله تعالى: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (ق: 37): «كان المنافقون يجلسون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرجون، فيقولون: ماذا قال آنفًا؟ ! ليس معهم قلوب» (4)؛
يشير إلى قوله تعالى عن المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (محمد: 16).
(1) رواه الحاكم في المستدرك (1/ 83)، والبيهقي في السنن (3/ 120)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (1453)، وابن نصر في قيام الليل (المختصر 78).
(2)
سنن البيهقي (3/ 120).
(3)
رواه عبد الله بن أحمد في زوائده على الزهد (ص 106)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (7/ 300).
(4)
رواه ابن مردويه؛ كما في الدر المنثور (13/ 653).
سؤال وجوابه:
قد يسأل طالب العلم فيقول: أليست الآيات الأربع في الحث على التدبُّرِ: واحدة منها عامة؛ وهي آية سورة «ص» : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص: 29)، وأخرى في سياق الكلام على الكافرين؛ وهي آية سورة «المؤمنون»:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 68)، والبقية؛ وهي آية سورة النساء:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء: 82)، وسورة محمد:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) - في سياق الحديث عن المنافقين، وهؤلاء ليسوا من أصحاب القلوب الحية! ! فما الجواب؟ !
والجواب من وجهين:
الأول: أن الآيات الثلاث مُصَدَّرة بالاستفهام الإنكاري: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} ، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا} ؛ فهذه الآيات ينبغي أن تُفهم مع ضَمِّها إلى غيرها من الآيات التي تُخبِر عن الطبع والخَتْمِ والرَّانِ، وما نَتَجَ عن ذلك من العمى والصمم؛ ولذا قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة: 6، 7). {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179)، كما أخبر عن قيلهم:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (فصلت: 5)، وقولهم:{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} (الشعراء: 136)، إلى غير ذلك من الآيات.
وذلك جزاؤهم جزاءً وفاقًا؛ كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (الأنعام: 110، 111)؛ فجازاهم بتكذيبهم الأول.
والله يقول مُخَاطبًا أهل الإيمان: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال: 24).
وهكذا- أيضًا- الآيات التي تُخْبِر أن القرآن والإنذار إنما ينتفع بهما المؤمنون والمتقون؛ كقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2)، وقوله:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} (يس: 11)، وقوله:{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} (يس: 70)، وقوله:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (الأنعام: 36)؛ أي: سماع استجابة وقبول.
ومثل ذلك الآيات التي تُخْبِر أن الله لا يهدي القوم الكافرين، والفاسقين، والظالمين؛ أي: من سبق في علمه الأزلي شقاوتهم، وبعض العلماء يُعبِّر عن المعنى بقوله: يعني المُصِرِّين على كفرهم وظلمهم وعنادهم.
ولهذا قال الله تعالى في الآية العامة في التدبر: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (ص: 29)، ثم خص التذكُّر ببعضهم فقال:{وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص: 29).
والكلام في هذا يطول، وما ذكرته يرشد إلى غيره، والله تعالى أعلم (1).
(1) وينظر ما سيأتي في موانع التدبر في الكلام على ما يتصل بالقلب.