الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في المقصود من التصحيح
لا يخفى أن التصحيح ــ كما يدل عليه لفظه ــ المقصود منه: نفي الغلط، وإثبات الصحيح، وإبراز الكتاب على الهيئة الصحيحة.
وللصحة اعتباران: صحة الألفاظ، وصحة المعاني.
و
مدار التصحيح على صحة الألفاظ
، فأما المعاني فإنما يجب نظر المصحح إليها من جهة دلالتها على حال الألفاظ؛ فإننا قد نجد في الكتب مواضع يختلُّ فيها المعنى اختلالًا ظاهرًا، نعلم منه أنه وقع اختلال في الألفاظ. كأن يقع هذه العبارة:"فقد روى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: الدين النصيحة"، فنرى أن الصواب: "فقد رُوي عن
…
الدين النصيحة"؛ أو نحو ذلك. وكأن يكون المعنى الحاصل من العبارة خلاف ما يدل عليه السياق، إلى غير ذلك. فأما ما عدا ذلك، فالنظر فيه والتعليق عليه ليس من التصحيح، وإنما هو من الشرح. فإن التزم المصحح الشرحَ فذاك، وإلا فإنما ينبغي له التعليق الشرحي في المواضع المهمة. وقد جريتُ في تعليقي على "التاريخ الكبير" للبخاري على ما يُعرف بمطالعته رأيي في هذا.
وأما تصحيح الألفاظ، ففيه
(1)
اعتبارات:
الأول: أن تكون النسخة المنقولة أو المطبوعة مطابقة للنسخة الأصل المنقول منها، أو المطبوع عنها.
الثاني: أن تكون مطابقة لما كان عليه أصل المؤلف.
(1)
"فإن التزم
…
ففيه" مضروب عليها بالقلم الرصاص، ولكن لا يستقيم السياق دونها.
الثالث: أن تكون على الهيئة الصحيحة في نفس الأمر.
وهذه الاعتبارات كثيرًا ما تتعارض لكثرة ما يقع في النسخ القلمية من الأغلاط، ولما يقع للمؤلف نفسه من الخطأ.
وغالب المصححين ينزِّل أحدهم نفسه منزلة النعامة، فتجد في الكتاب الذي يصححه أحدهم كثيرًا من الأغلاط، فإذا قيل له، قال: هكذا كان في الأصل. وتجد فيه مواضع كثيرة قد خالف فيها الأصل، فإذا قيل له، قال: رأيتُها غلطًا، فأصلحتُه.
ويقول بعض الناس: المقصود من طبع الكتب العلمية هو تدارك النسخة أو النسخ الباقية من الكتاب قبل أن تتلف، فيكفي في التصحيح تطبيق المطبوع على النسخة القلمية. فإن تعددت النسخ جُعلت واحدةٌ منها أصلًا، ونُبِّه في الحواشي على مخالفات النسخة أو النسخ الأخرى.
وكأنَّ أكثر أهل المطابع يذهبون إلى هذا الرأي لموافقته هواهم في تقليل النفقات، لأنهم يرون أنه يصلح أن يقوم بهذا العمل رجلان فأكثر، يحسنان القراءة فحسب، ويقومان بتطبيق الأوراق التي يطبع عنها على النسخة الأصل ثم بتطبيق المطبوع عليها في مدة يسيرة، ويقنعان بأجرة زهيدة.
وقد يتراءى للناظر أن هذا العمل ليس فيه مفسدة، وإنما فيه إهمال مصلحة التنبيه على خطأ النسخة الأصل، وخطأ المؤلف. ويؤيد هذا الرأي بأنه إذا حصلت نسخة من ذلك المطبوع بيد رجل كان كأنه حصل له تلك
النسخة القلمية، أو النسختان، فأكثر.
والحقُّ أنَّ في هذا العمل فسادًا كبيرًا من وجوه:
[2/ب] الوجه الأول: أن غالب النسخ القلمية لا يمكن تطبيق المطبوع عليها تمامًا.
أولًا: لأن كثيرًا منها يهمل فيه النقط، فتشتبه الباء والتاء والثاء والنون والياء، وكذا الفاء والقاف، فتقع صورة الحرف في النسخة الأصل مهملة، ولا يمكن أن تطبع كذلك، بل لابد من النقط.
فإن قلتم: أما هذا فيُصحَّح، رجعتم إلى ما فررتم منه. فإذا كان لابد من التصحيح، فليكن تصحيحًا كاملًا.
وإن قلتم: تنقط جزافًا، فهذه هي الخيانة، مع مخالفة ما حاولتموه من التطبيق.
فإن قلتم: تنقط جزافًا، وينبه في الحاشية أنها كانت غير منقوطة.
قلنا: يكثر هذا جدًّا، وتتضاعف عليكم النفقة.
ثانيًا: لأن النسخة القلمية إذا أهمل فيها النقط كانت صورة الجيم والحاء والخاء، وصورة الدال والذال، وصورة الراء والزاي، وصورة السين والشين، وصورة الصاد والضاد، وصورة الطاء والظاء، وصورة العين والغين= واحدة.
فإذا وقع في الأصل هذا الاسم "حمرة" فيمكن أن يكون: حمرة، أو حمزة، أو جمرة، إلى غير ذلك.
والعالم لو وقع له الأصل القلمي، ورأى هذا الاسم، وعلم أن من شأن تلك النسخة إهمال النقط= يرى أن الاسم محتمل لجميع الوجوه، فيبحث عن الصحيح. وإذا وقع له في المطبوع "حمرة" توهم أنه الصواب، لأن من عادة المطبوع النقط، ومن عادة الطابعين التصحيح.
فإن قلتم: ينبِّه الطابع في مقدمة الكتاب أو خاتمته على أنه لم يتجشم التصحيح، وإنما اكتفى بتطبيق النسخة.
قلنا: هذا يضع من قيمة الكتاب، ورغب أهلُ العلم عنه.
ثالثًا: لأن كثيرًا من النسخ القلمية تشتبه فيها النقطة بالنقطتين، ولا يمكن إثباته في المطبوع كذلك. وكذلك تشتبه نقط الشين بعلامة إهمال السين. وكذلك تشتبه فيها بعض الحروف ببعض، فتشتبه العين في أول الكلمة بالميم، وتشتبه العين والغين في الوسط بالفاء والقاف، وتشتبه الواو بالراء والزاي والنون إلى غير ذلك.
وتشتبه نحو سعد بسعيد، وحمزة بضمرة، وسفين بشقيق، وغير ذلك مما يطول ذكره.
ولا يمكن إثبات ذلك في المطبوع كما في النسخة القلمية، ويعود ما قلناه في الوجه الأول.
وكثيرًا ما يرى القارئ والناظر في النسخة القلمية أن الكلمة كذا، ثم يعلم من أمر خارج أن الصواب بدلها كلمة أخرى، فإذا راجع تلك النسخة وجد الكلمة فيها صالحة لأن تقرأ على الصواب، بل ربما يرى أن الظاهر من