الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- ودون هذا: أن تكون فرعًا عن أصل المصنف، وقابله ثقة على أصل المصنف مع ثقة آخر غير المصنف.
- ودونه: أن تكون فرعًا قد قابله ثقتان على فرع قابله ثقة مع المصنف.
ثم هكذا، كلما بعُدَ الفرعُ عن أصل المصنف ضعفت الثقة به بالنسبة إلى ما قبله. وذلك لما قضت به العادة من أن الفرع وإن قوبل على الأصل لا يخلو عن مخالفة للأصل في مواضع. ولذلك أسباب، منها:
التصحيف؛ فإنَّ أكثر الحروف تتحد صورة الحرفين منها، وإنما يميز بينهما النقط. وذلك الجيم والخاء مع الحاء، والدال مع الذال، والراء مع الزاي، والسين مع الشين، والصاد مع الضاد، والطاء مع الظاء، والعين مع الغين، وثلاثة من أحرف "بثينته" مع السين. ومنها ما يتحد الحرفان فأكثر في الصورة، وإنما التمييز بصورة النقط. وذلك الجيم [ص 5] مع الخاء، والفاء مع القاف، وكل من أحرف "بثينته" مع الباقي، وثلاثة منها مع الشين؛ حتى إن هذه ال
كلمة "بثينته" إذا لم تنقط احتملت أكثر من ثلاثة آلاف وجه
.
فإن قيل: أكثر تلك الوجوه لا معنى لها في اللغة، والسياق قد يُعيِّن أحد المحتملات التي لها معنى.
قلت: كثير من المحتملات لها معنى في هذا المثال وفي غيره، والسياق كثيرًا ما يحتمل وجهين أو أكثر. والناظر إذا كان متحريًا لا يأمن أن يكون في الوجوه المحتملة ما له معنى يناسب السياق، وإن جهله هو لعدم إحاطته باللغة؛ ولاسيما إذا كان السياق إنما يقتضي أن تلك الكلمة اسم شجرة أو علم موضع أو علم إنسان، فإن هذا السياق لا يغني شيئًا، لكثرة أسماء الشجر والأماكن والناس، وكثرة الغريب منها.
قال ابن قتيبة في كتاب "الشعر والشعراء"(ص 9)
(1)
: "كلُّ العلم محتاج إلى السماع (يعني التلقي من أفواه العلماء الضابطين)، وأحوجُه إلى ذلك علم الدين، ثم الشعر لما فيه من الألفاظ الغريبة واللغات المختلفة والكلام الوحشي، وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمياه؛ فإنك لا تفصل في شعر الهذليين ــ إذا أنت لم تسمعه ــ بين "شَابَة" و"سايَة" وهما موضعان، ولا تثق بمعرفتك في حَزْم نُبايِع
(2)
، [ص 6] وعرْوان
(3)
الكَرَاث، وشَسَّي عبقر
(4)
، وأُسْد حَلْيَة، وأُسْد تَرْجٍ، ودُفاقٍ
(5)
وتُضارِ ع
(6)
[وأشباه هذا]؛ لأنه لا يلحق بالفطنة والذكاء كما يلحق مشتق الغريب
…
".
ثم ذكر أمثلة مما يقع فيه الخطأ في بعض الألفاظ.
وقال عبد الغني بن سعيد المصري في أول كتابه "المؤتلف والمختلف"(ص 2): "أنبأنا أبو عمران موسى بن عيسى الحنيفي قال: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله النَّجِيرَمي يقول: أولى الأشياء بالضبط أسماء الناس، لأنه شيء لا يدخله القياس، ولا قبله شيء ولا بعده شيء يدل عليه".
(1)
طبعة أحمد شاكر (1/ 82 - 83) وما بين الحاصرتين منها.
(2)
"نُبايع" بضم النون. ضبطه ياقوت وغيره. ووقع في المنقول عنه كأنه "تبايع". [المؤلف].
(3)
بضم العين. وقيل: بفتحها. [المؤلف].
(4)
قالوا: عبقر بوزن جعفر. لكن جاء في الشعر بفتح العين وفتح الباء وضم القاف وتشديد الراء. انظر توجيه ذلك في معجم البلدان. [المؤلف].
(5)
في الأصل: "دقاق" خطأ. [المؤلف].
(6)
كذا ضبط في الأصل بكسر الراء. والوجه الثاني ضمُّها، نقله ياقوت عن ابن حبيب.
هذا، وكان القدماء كثيرًا ما يتركون نقط ما حقه أن ينقط، كما هو مشاهد في كثير من النسخ القديمة؛ وإنما يدَعُونه إيثارًا لسرعة الكتابة، واتكالًا على أن أهل العلم يأخذون الكتب بالسماع من أفواه العلماء، فيحفظون الأسماء بضبطها. وقد يكون بعض العلماء كان يتعمد ترك النقط إلجاءً لطالبي العلم إلى السماع من أفواه العلماء، كيلا يتكلوا على الصحف. وما كان منقوطًا من النسخ القديمة كثيرًا ما يشتبه فيه النقط، فتشتبه النقطة بالنقطتين، والنقطتان بالثلاث. ويقع كثير من النقط بعيدًا عن الحرف الذي [ص 7] هو له، فيظن أنه لحرف آخر عن يمين ذلك الحرف، أو يساره، أو فوقه في السطر الأعلى، أو تحته في الأسفل.
والناقل قد ينقط بعض ما لم يُنْقَط في الأصل برأيه، فيخطئ. وقد يترك نقطَ ما هو منقوط، فيكون ذلك سببًا لخطأ مَن بعده. وقد يجعل نقط حرف لغيره عن يمينه أو يساره أو فوقه أو تحته، بناءً على ما تراءى له من الأصل لبعد النقط عن الحرف الذي هو له.
السبب الثاني: أن كثيرًا من الأصول يَشتبه فيها حرف بآخر وكلمة بأخرى، وإن كانت صور الحروف في أصل وضع الخط مختلفة. وذلك لتعليق الخط، أو رداءته، أو قرمطته، فيلتصق منه ما حقُّه الافتراق، ويفترق ما حقُّه الالتصاق؛ أو لأن لكاتب الأصل اصطلاحًا لا يعرفه الناقل، أو غير ذلك. ولبيان هذا أُثبت هنا بعض الكلمات التي وقع فيها التحريف في نسخ "تاريخ البخاري"، ونبهت عليها في التعليق عليه، التقطتها من التعاليق على القسم الأول من المجلد الأول من "التاريخ" المطبوع. أذكر أولًا صورة ما
وقع في النسخ خطأً في سطر، ثم أكتب في السطر الثاني تحت الكلمة ما هو الصواب فيها:
هشام
…
النمر
…
عثمن
…
السجود
…
الحنفي
…
يماني
…
طويح
…
عقية
…
[ص 8]
مسافر
…
اليمن
…
عمر
…
السحور
…
الجعفي
…
يمامي
…
طريح
…
عتبة
الذهلي
…
فقال
…
وائل
…
يزيد بن نشيط
…
عمر
…
اليمامي
…
علي بن قدامة
(1)
الدَّهَكي
…
يقال
…
ليلى
…
يزيد وابن قسيط
…
عم
…
اليماني
…
علي عن قدامة
سمع
…
معلى
…
ست
…
السكري
…
يشفى
…
العنزي
…
محمد
…
الهدير
…
نمير
مع
…
يعلى
…
ثنتين
…
اليشكري
…
تسع
…
القنوي
…
نجيح
…
الهرير
…
شمير
صيح
…
السعيدي
…
أبو
…
الزبير
…
ميثم
…
محمد
…
قيس
…
سعيد
…
جعفر
صبيح
…
السعدي
…
ابن
…
الزبيدي
…
ضيثم
…
عمرو
…
عتيق
…
سفي? ن
…
جعدة
جبير
…
أبيه
…
الحدسين
…
أخبرنا
…
محمد
…
العامري
…
محمد
…
عقبة
(2)
…
وقران سأله
حنين
…
أمه
…
المجذمين
…
أبا
…
عمر
…
المعافري
…
محمود
…
عتبة
…
وقرأ رسالة
معاذ
…
معتمر
…
وثمانين
…
عبد الرحمن بسام
…
عبد الملك
…
العدوية
…
ثقة
معان
…
معشر
…
ومأتين
…
عبد الرحيم هشام
…
عبد الله
…
العذرية
…
يعد
قرير
…
قريم
…
سالم
…
مسلمة
…
مسلم
…
عقبة
…
محمد وزيد
…
شيبة
قرين
…
قرين
…
بسام
…
سلمة
…
سلمة
…
عصمة
…
محمد بن وزير
…
سمينة
الحضرة
…
التميمي
…
دليم
…
يعفور
…
زيد
…
شعبة
…
الطفيل
…
سويد
…
[ص 9]
الحكرة
…
التيمي
…
دليلة
…
يعقوب
…
زبر
…
سعيد
…
الفضيل
…
شعوذ
سليمن
…
المخزومي
…
سليم
…
بشر
…
إسمعيل
…
البصريين
…
عبد الرحيم
سلمى
…
المخرمي
…
سليم? ن
…
مبشر
…
إسحاق
…
المصرين
…
عبد الرحمن
المِنهَال
…
كدير
…
القطان
…
عكرمة عن سيعد
…
أبو بكير
…
عنبسة
…
عبد الحميد
الموال
…
كريز
…
القصاب
…
عكرمة وسعير
…
أبو مكين
…
عبسة
…
عبد الصمد
مزيد
…
الأنباري
…
عبد الله
…
خثعم
…
القطيعي
بديل
…
الأبناوي
…
عبد الملك
…
جعثم
…
الغطيفي
(1)
يتكرر مثل هذا كثير [كذا في الأصل] من وقوع "بن" والصواب: "عن"، وكذا عكسه. [المؤلف].
(2)
سبق في السطر الأول.
السبب الثالث: أن الخمسة الأحرف الأول من "بثينته" صورة كل منها كما تراه نبرة واحدة، فكثيرًا ما تخفى النبرة، وكثيرًا ما تُترك، وكثيرًا ما يُكتفى عنها بمدة بين الحرفين: الذي قبلها والذي بعدها، فيشتبه أسد وأسيد، وبشر وبشير، وجبر وجبير، وحسن وحسين، وسعد وسعيد، وعبد الله وعبيد الله، وغير ذلك.
[ص 10] السبب الرابع: أن الناقل قد يرى بحاشية الأصل أو بين السطور عبارة فيظنها لحقًا فيُدرجُهَا في المتن، أو يراها حاشية فيدعها. وقد يخطئ في ظنه: يظنها لحقًا وهي حاشية، أو عكسُه. وقد يصيب في ظنه أنها لحق، ولكن يخطئ في موضعها من المتن، فيضعها في غير موضعها.
السبب الخامس: أن النُسَّاخ كثيرًا ما يكررون بعض العبارات، وكثيرًا ما يسقطون. والغالب أن يكون ذلك عن زيغ النظر من كلمة إلى نظيرتها: ينظر الناسخ أو المُمْلي عليه في الأصل فيأخذ عبارة، ثم يصرف نظره عن الأصل فتُكتب تلك العبارة في النقل؛ ثم يكُرُّ ببصره على الأصل، فيقع بصره على كلمة مثل الكلمة التي انتهى إليها في الكتابة، فيظنها إياها، فيأخذ ما بعدها. وأكثر ما يتفق مثل هذا إن كانت كلمة في سطر، وبإزائها في السطر الذي يليه نظيرتها. وقد يحتاط بعض النساخ، فلا يكتفي بكلمة بل ينظر جملة، ولكن كثيرًا ما يتفق في الأصول إعادة الجملة الواحدة مرارًا.
تصفَّحْ ــ إن أحببت ــ أوراقًا من القسم الأول من المجلد الثالث من كتاب ابن أبي حاتم المطبوع بدائرة المعارف، وتأمل المواضع التي نبه المصحح على سقوطها من أحد الأصلين يتضح لك ما تقدم، وعلى الأخص صفحات 9 و 11 و 12 و 15 و 16 و 18 و 22 و 23 و 26.
فأما التكرار فلم ينبه عليه المصحح، ولكن يمكنك قياسه على الإسقاط؛ لأن سببهما واحد.
[ص 11] السبب السادس: التحريف السمعي. وذلك بما إذا كان الأصل بيد رجل يُملي على الناسخ، والناسخُ يكتب؛ فإن كثيرًا من الحروف تتقارب مخارجها بل تتحد في ألسنة بعض الناس ولاسيما الأعاجم، كالهمزة مع العين ومع القاف، والباء مع الفاء، والتاء مع الدال والطاء، والثاء مع السين والصاد، والجيم مع القاف والكاف، والحاء مع الهاء، وغير ذلك. فقد يُملي المملي "أطعنا"، فيكتبها الناقل "أتانا"، وقس على ذلك.
وقد يتحد لفظ كلمة بكلمتين، وإنما التمييز بالفصل والوصل، فيُملي المملي مثلًا "إن جاز"، فيكتبها الناسخ "إنجاز"، أو عكسه.
وحروف المد تسقط في الوصل، فيتحد لفظ "سمعا القول" و"سمع القول"، وكذا "ادعوا القوم" و"ادع القوم"؛ وقس على ذلك.
السبب السابع: أن الناسخ أو المملى عليه قد يتصرف برأيه، فيزيد أو ينقص أو يُغيِّر.
وقع في "لسان الميزان"(3/ 6) في الكلام على سالم بن هلال: "ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال فيه: الناجي يروي عن أبي بكر الصديق رضي الله [ص 12] تعالى عنه، روى عنه يحيى بن سعيد القطان".
والذي في "الثقات"
(1)
: "سالم بن هلال الناجي، يروي عن أبي الصديق الناجي، روى عنه يحيى بن سعيد القطان". وأبو الصديق الناجي
(1)
طبعة حيدراباد (6/ 409).
تابعي مشهور اسمه بكر بن عمرو.
ووقع في "الميزان"
(1)
في ترجمة محمد بن عمر الجعابي: "حدَّث عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وابن سماعة وأبي يوسف القاضي".
وفي "لسان الميزان"(5/ 322): "حدَّث عن أبي حنيفة رضي الله عنه ومحمد بن الحسن بن سماعة وأبي يوسف القاضي".
والصواب إنما هو: "حدَّث عن أبي خليفة ومحمد بن الحسن بن سماعة ويوسف القاضي".
وفي "تذكرة الحفاظ"(3/ 130): "سمع محمد بن الحسن بن سماعة ويوسف بن يعقوب القاضي و
…
وأبا خليفة الجمحي".
السبب الثامن: التحريف الذهني. قد تستولي كلمة على فكر الإنسان وتشغله، فإذا حاول أن يملي غيرها أو يكتب سبقت هي إلى لسانه أو قلمه، فينطق بها أو يكتبها، وهو لا يشعر. وقد جرى لي مثل هذا مرارًا.
فهذه الأسباب وغيرها تُوقع الناسخ في الغلط. فإن لم يقابل الفرع على الأصل بقيت الأغلاط في الفرع، وإن قوبل فالمقابلة تختلف باختلاف درجة المقابلين في العلم والمعرفة والتثبت والاحتياط. ومع ذلك كله، فالغالب أنها تبقى أغلاط.
وإذا أنت تدبرت الأسباب المتقدمة علمت أنها قد تتفق للمقابل، كما تتفق للناسخ. والبرهان على ذلك أننا نجد النسخ القديمة التي قوبلت على
(1)
طبعة الخانجي سنة 1325 (3/ 113).
أصول المصنفين، أو على فروع قوبلت على تلك الأصول، ثم نجد فيها من الأغلاط ما نعلم أنه ليس من المصنف. وإذا أردت عين اليقين فاعمد إلى أصل قديم، واستنسخ منه نسخة، وكلِّف رجلين بمقابلتها على الأصل، ثم قابلها أنت على الأصل مرة أخرى بالتدقيق التام، وانظر النتيجة!
هذا، والنُسخ القديمة بعد نسخها ومقابلتها لابد أن تكون قد تناقلتها الأيدي [ص 13] وتعاورتها أنظار القارئين والمطالعين، وقد يكون بعضهم تصرَّف فيها بما يراه إصلاحًا وتصحيحًا، وقد يخطئ في ذلك، بل وربما يكون قد غيَّر فيها بعض الجهلة أو الخونة. أوَ لا ترى أنه ليس بين الإثبات والنفي إلا حرف النفي وقد يسهل زيادته أو حكُّه ولا يظهر ذلك، بل ربما قلب المعنى زيادةُ ألف أو نبرة أو نقطة.
وقد رأيت من تَصرُّف الجهلة ما وقع في النسخة المحفوظة بخزانة كوبريلي في إستانبول تحت رقم [278] في الورقة [528]
(1)
وذلك في ترجمة الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وذلك في موضعين، حاول جاهل أن يطمس ما في الأصل، ويكتب محله ما يخالفه؛ فلم يتم له ذلك، بل بقي ما في الأصل لائحًا. ولكن مثل هذا قليل، فقد رأينا عدة من الأصول قد اطلع عليها من ينكر بعض ما فيها، وغاية أمره أن يكتب عليه حاشية يُظهر فيها إنكاره لما في الأصل. وهذا ــ إذا تدبرت ــ من آيات الله عز وجل مصداقًا لوعده سبحانه بحفظ الذكر، و"الذكر" يتناول السنة إن لم يكن بلفظه فبمعناه، ويلزم من ذلك حفظهُ كلَّ ما فيه حفظٌ للشريعة كاللغة وغيرها، ولله الحمد.
(1)
من كتاب "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم. وقد ترك المؤلف بياضًا لرقم النسخة والورقة. وانظر المطبوع بتحقيق المؤلف (4/ 1/449، 450).
وكأنه لاحتمال تصرُّف بعض الخونة أو الجهلة كان السلف يحتاطون في شأن الكتب. وفي ترجمة الأوزاعي من "تهذيب التهذيب": "وقال الوليد بن مسلم فيما رواه أبو عوانة في صحيحه: احترقت كتبه (يعني الأوزاعي) زمن الرجفة [ص 14] فأتى رجل بنُسَخها (يعني بنسخٍ نُقلت من تلك الكتب) وقال له (يعني للأوزاعي): هو إصلاحك بيدك (يعني أنَّ هذه النُسخ نُقلت من كُتبِك، وقابلتَها أنت، وأصلحتَ فيها ما فيه من مخالفة) فما عرض لشيء منها حتى مات".
يعني أن الأوزاعي رحمه الله لم يعتدَّ بتلك النسخ، ولا روى منها شيئًا. وإنما ذلك لأنها قد بَقيت مُدةً تحت يدِ غيره ممن لعله لا يعرفه بالثقة، فلم يأمن أن يكون وقع فيها تغيير وإن لم يظهر.
هذا حال النسخ الخطية، ثم يجيء دور الطبع. والعادة أنه ينتسخ من الأصل القلمي نسخة تكون مسودة للطبع، ثم تقابل على أصلها، ثم إن وجد أصل آخر قُوبلَت المسودة عليه، وقد تقابل على أكثر من أصلين، ثم ينظر فيها المصحح، ثم تدفع إلى مُرَكِّبي الحروف فيركِّبون كل يوم ثماني صفحات مثلًا، ويطبعون عليها التجارب (بروف). وتُرسل التجارب إلى رجلين يقابلانها على المسودة ويصلحان فيها، ثم يَكُرَّانها إلى المركِّبين، فيتتبعون ما أصلحه المصحح في التجارب، فيصلحونه في ألواح الحروف. وبعد الإصلاح يطبَعُون على تلك الألواح تجارب أخرى، ويرسلونها إلى المصحح مع التجارب الأولى. فيتتبع المصحح ما أصلحه في التجارب الأولى وينظر أأُصْلِحَ في الثانية؟ فإن وجد من المواضع ما لم يُصلَح أصلحه، وأعاد التجارب الثانية [ص 15] إلى المُرَكِّبين. فإن كان فيها إصلاح
أصلحوه في ألواح الحروف، ثم طبعوا عليها تجارب ثالثة وأرسلوها إلى المصحح.
والعادة في مطبعتنا
(1)
أن يُعيد المصححون مقابلة هذه الثالثة على المسودة، فإن بقي ما يحتاج إلى الإصلاح أصلحوه، ثم ردوا التجارب الثالثة إلى المُركِّبين. فإن وجدوا فيها إصلاحًا أصلَحُوه في ألواح الحروف، ثم طبعوا على الألواح تجربة رابعة، ثم بعثوا بها مع التجارب الثالثة إلى المصحح، فينظُر في التجارب الثالثة يتتبع المواضع التي أُصلِحَت فيها وينظرها في الرابعة؛ فإن رأى تلك المواضع قد أصلحت كلها كتب على تلك الكراسة أنه قد تم تصحيحها، فترسل إلى المدير فيحكم بالطبع الأخير.
وأنت إذا تدبرت ما تقدم في حال النُسخ الخطية علمت أن ناسخ المسودة من أحد الأصول لابد أن يخطئ في مواضع كثيرة، ولاسيَّما إذا كان قليل العلم أو كان الأصل المنقول عنه رديء الخط. وتعلم أيضًا أن مقابلة هذه المسودة على أصلها تختلف باختلاف حال المقابلين في العلم والمعرفة والأمانة والتثبت، وأن المقابلة على أصل آخر كذلك، ولا تدري ماذا عسى أن يصنع باختلاف النسخ. ثم يتجه النظر إلى المصحح، فترحمه لما يكون قد اجتمع من أغلاط النُسخ وأغلاط ناسخ المسودة التي لعلها بقيت بعد المقابلة. ثم تشفق على الكتاب أن يكون [ص 16] المصحح ناقص المعرفة، ولاسيما إذا كان مع ذلك عريض الدعوى، أو ضعيف الأمانة، أو لم يدفع له المعاوضة الكافية، أو لم يفسح له الوقت الكافي. ثم تلتفت إلى ما عسى أن يصنعه المُركِّبون وكيف تكون مقابلة التجارب على المسودة.
(1)
يعني: مطبعة دائرة المعارف العثمانية.
والحاصل أنه كما يرجى أن يجيء المطبوع أصح وأولى بالثقة من جميع الأصول الخطية، فإنَّه يخشى أن يكون أردأ أو أكثر أغلاطًا من أصل واحد منها. وقد جرَّبتُ هذا. نظرت في بعض الكتب المطبوعة فهالني ما فيه من كثرة الأغلاط، ثم ظفرت بالأصل الخطي الذي طبع عنه ذاك الكتاب؛ فإذا هو بريء من كثير مما في المطبوع من الأغلاط، إن لم أقُل مِن أكثرها.
فإذا أراد المُتصدي لطبع الكُتب القديمة السلامةَ من مثل هذا، والحصولَ على الغاية المنشودة، من خدمة العلم وحسن السُّمعة ورواج المطبوعات= فما عليه إلا أن يتبع النظام الآتي إن شاء الله تعالى.