الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الحادية والخمسون: الوقت وخطر السفر إلى الخارج
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
قال تعالى: {وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَاّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: العصر هو الزمن، وقال ابن القيم: إن تسمية الدهر عصرًا أمر معروف في لغة العرب
(1)
.
وأقسم الله سبحانه وتعالى بالزمن لأنه مستودع أعمال العباد خيرها وشرها، ولشرفه وعظمته، ففي هذا القسم ينبه الله الخلق إلى قيمة الوقت وما ينبغي عليهم من الاعتناء به والحرص عليه، وقد أقسم الله بأجزاء الوقت في مواضع أخرى فقال:{وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2].
وقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1 - 2]، وقال:
…
{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 1 - 2] وهذا الزمن أغلى من الذهب والفضة فإنهما يعوضان، وأما الزمن فإنه إذا فات لا يعوض، وعمر الإِنسان الذي لا يتجاوز عشرات معدودة من السنين سيسأل المرء عن كل جزئية من جزئياته، بل إن هذا من أصول الأَسئلة التي توجه له يوم القيامة.
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا تَزُوْلُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ
(1)
بدائع التفسير (5/ 328 - 329).
الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيْمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيْمَ أَبْلَاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ فِيْمَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيْمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيْهِ؟ »
(1)
.
فيُسأَلُ عن عمره على وجه العموم، وعن شبابه على وجه الخصوص؛ لأن الشباب هو محور القوة والنشاط، وعليه الاعتماد في العمل أكثر من غيره في مراحل العمر الأخرى.
والزمن من أفضل نعم الله على عباده، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُوْنٌ فِيْهِمَا كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ»
(2)
والغبن أن يشتري الإِنسان السلعة بأضعاف ثمنها، فمن صلح بدنه وتفرغ من الأشغال العالقة به، ولم يسع لإِصلاح آخرته، يقال عنه: إنه رجل مغبون، وفي الحديث إشارة إلى أن الزمن نعمة كبرى لا يستفيد منها إلا الموفقون الأفذاذ، وأن المستفيد قليل والكثير مفرط ومغبون.
روى الحاكم في المستدرك من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ، وَذَكَرَ مِنْهَا: وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَشَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ»
(3)
.
ومن تأمل أحوال السلف، ومن سار على نهجهم، وجدهم أحرص الناس على كسب الوقت وملئه بالخير، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ رضي الله عنه: مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ نَدَمِي عَلَى يَوْمٍ غَرَبَتْ شَمْسُهُ، نَقُصَ فِيْهِ أَجَلِيْ، وَلَمْ يَزِدْ فِيْهِ عَمَلِي.
(1)
شعب الإيمان (2/ 286) برقم (1785 - 1786) وقد سبق تخريجه.
(2)
صحيح البخاري برقم (6412).
(3)
مستدرك الحاكم (5/ 435) برقم (7916) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 244) برقم (1077).
وقال ابن القيم: إضاعة الوقت أشد من الموت، لأن إضاعة الوقت تقطع عليك أمر دنياك وآخرتك
(1)
.
وقال أيضًا: أعظم الإضاعات إضاعتان هما أصل كل إضاعة: إضاعة القلب وإضاعة الوقت، فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل، فاجتمع الفساد كله في اتباع الهوى وطول الأمل، والصلاح كله في اتباع الهدى والاستعداد للقاء
(2)
.
قال الشاعر:
وَالوَقْتُ أنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ
…
وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَلَيْكَ يَضِيعُ
وقال آخر:
إنّا لَنفْرحُ بِالأَيامِ نَقْطَعُهَا
…
وكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الأَجَل
فَاعْمَلْ بِنفَسِكَ قَبْلَ المَوْتِ مُجْتَهِدًا
…
فَإِنَّمَا الرِّبْحُ والخُسْرَانُ فِي العَمَل
ومما تقدم يتبين خسارة من أضاعوا أوقاتهم في السفر إلى بلاد الكفار، ولهذا وجب التنبيه على ما لهذه الأسفار من المخاطر والمفاسد. فمن ذلك:
(أولاً): أن في السفر إلى بلاد الكفار مخالفة صريحة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
روى الترمذي في سننه من حديث جَرِيْرٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَنَا بَرِيْءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيْمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِيْنَ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِمَ؟ قَالَ:«لَا تَرَايَا نَارَاهُمَا»
(3)
.
(1)
فوائد الفوائد (ص: 385).
(2)
المصدر السابق (ص: 385).
(3)
سنن الترمذي برقم (1604) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 119) برقم (1307).
وقد استثنى العلماء من ذلك المجاهد في سبيل الله، أو السفر للدعوة إلى الله، أو لعلاج مرض، لا يتوفر إلا ببلادهم، أو السفر لدراسة لا يمكن الحصول عليها في بلاد المسلمين؛ أو للتجارة وكل ذلك مشروط بأن يكون مظهرًا لدينه، عالمًا بما أوجب الله عليه، قوي الإِيمان بالله، قادرًا على إقامة شعائره، مع أمن الفتنة، وللضرورة أحكامها.
(ثانيًا): كثرة المغريات والفتن الداعية إلى ارتكاب الفواحش والمحرمات، وخاصة فتنة النساء.
روى مسلم في صحيحه من حديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِي النَّاسِ فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ»
(1)
.
وقال أيضًا: «فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ»
(2)
.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: «السفر إلى البلاد التي فيها الكفر والضلال والحرية وانتشار الفساد من الزنا وشرب الخمر، وأنواع الكفر والضلال، فيه خطر كبير وعظيم على الرجل والمرأة، وكم من صالح سافر ورجع فاسدًا، وكم من مسلم رجع كافرًا، وخطر السفر عظيم؛ والواجب الحذر من السفر لبلادهم لا في شهر العسل ولا في غيره»
(3)
.اهـ.
(ثالثًا): إضاعة الوقت فيما لا يرضي الله عز وجل، وهذا الوقت كما تقدم سيسأل عنه العبد يوم القيامة.
(رابعًا): إضاعة المال الكثير في غير فائدة، وإنما في الشهوات والملذات، قال تعالى:{إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27].
(1)
صحيح مسلم برقم (2741).
(2)
صحيح مسلم برقم (2742).
(3)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (2/ 195) للشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله.
(خامسًا): أنه قد لا يسلم من انحراف عقدي أو خلقي أو عملي في العبادة وغيرها، وإن سلم هو فربما تبقى مناظر هذه البلاد التي فيها الكنائس وأماكن الفساد والتبرج والخلاعة وتباع فيها الخمور علنًا في الطرقات في ذاكرة أبنائه وبناته، وكفى بهذه مفسدة.
(سادسًا): تأثر المسلم بالكثير من تقاليد الكفار وعاداتهم السيئة.
(سابعًا): التعود على عدم الاكتراث بالدين وعدم الالتفات لآدابه وأوامره.
(ثامنًا): أن كثرة رؤية المنكرات للمسافر هناك من إضاعة الصلوات، وتبرج النساء، وبيع المحرمات، وغير ذلك كل هذا يضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قلب المسلم؛ وهو مأمور بإنكار ما يخالف الشرع.
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ»
(1)
إلى غير ذلك من المفاسد.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
صحيح مسلم برقم (49).