الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة السابعة والستون: سورة العصر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وأَشهد أن لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، وأَشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
أقسم سبحانه بالعصر وهو الزمن كله، ولله سبحانه وتعالى أن يقسم بما يشاء من خلقه، أما العباد فليس لهم أن يقسموا إلا بالله تعالى. وإقسامه سبحانه وتعالى بالعصر لما يجري فيه من الحوادث والمتغيرات، ولأنه مستودع أعمال العباد خيرها وشرها، وأَقسم سبحانه وتعالى ليؤكد للعباد بأن كل إنسان في خيبة وخسارة مهما كثر ماله وولده. وعظم قدره وشرفه إلا من جمع هذه الأوصاف الأربعة.
أولًا: الإِيمان وهو قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح.
ثانيًا: العمل الصالح: وهو كل قول أو فعل يقرب إلى الله بأن يكون فاعله لله مخلصًا ولمحمد صلى الله عليه وسلم متبعًا، وعطف العمل الصالح على الإِيمان وإن كان داخلاً فيه من أجل الاهتمام به، والتأكيد على أن تصديق القلب لا ينفع بدون عمل.
ثالثًا: التواصي بالحق، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والدعوة إلى الله على بصيرة وحكمة، وتعليم الجاهل، وتذكير الغافل فلا يكفي أن الإِنسان يقتصر على إصلاح نفسه، بل لابد أن يعمل على إصلاح غيره، وهذا يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يعد تدخلًا في أمور الناس كما يزعم بعض السفهاء، بل إن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يريدون الخير والنجاة للناس، وإنقاذهم من عذاب الله، وبهذه الخصلة ثبتت لهذه الأمة الخيرية التي فضلت بها على الأمم. قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ} [آل عمران: 110].
رابعًا: التواصي بالصبر، لما كان الداعي إلى الله تعالى، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لابد أن يلحقه أذى الناس، أمر تعالى بالصبر على أذاهم، وتحمل ما يناله من الأذى؛ وفي وصية لقمان لابنه قال تعالى:{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَامُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17].
…
[آل عمران: 186].
قال الشافعي رحمه الله: (لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم)
(1)
.
وهذه السورة مع وجازة ألفاظها فقد جمعت أسباب السعادة كلها، فكفى بها حجة على الخلق، وقد اشتملت على فوائد كثيرة أذكر منها:
أولاً: إقسام الله تعالى بشيء يدل على عظمته وأهميته، ففي هذا
(1)
تفسير ابن كثير (14/ 451).
القسم ينبه جل وعلا الخلق إلى قيمة الوقت وما ينبغي عليهم من الاعتناء به والحرص عليه، وقد أقسم سبحانه بإجزاء الوقت في مواضع أخرى، فقال:{وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2].
وقال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1 - 2].
وقال تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 1 - 2].
وهو مع ذلك من أفضل نعم الله على عباده.
روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ»
(1)
.
ثانيًا: القسم من الله تعالى يدل على عظمة المقسم عليه وهو هذه الخصال الأربع التي لا ينال الفوز والفلاح إلا بها.
ثالثًا: فضل الإِيمان ومنزلته العظيمة، حيث بدأ به وجعله أول واجب على الخلق.
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَ لَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»
(2)
.
رابعًا: أن الإِيمان بالقلب لا يكفي؛ بل لابد من العمل الصالح، وفيه رد على من يقول: إن الإِيمان بالقلب، وهو مع ذلك تارك للفرائض ومرتكب للمحرمات، معتد على حدود الله تعالى.
خامسًا: أَن العمل لا يقبل إلا أن يكون صالحًا ولا يكون صالحًا حتى يكون صاحبه مخلصًا لله فيه، وموافقًا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
صحيح البخاري برقم (6412).
(2)
صحيح مسلم برقم (54).
سادسًا: أن التواصي يكون بالحق لا بغيره، والحق هنا هو الإِيمان بالله تعالى، والعمل الصالح، ومجانبة ما يناقضهما.
سابعًا: دل الاستثناء على أن أهل هذه الصفات هم قليل، وقد قال تعالى:{اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
وقال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَاّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24].
ثامنًا: فضل الصبر، حيث جعله سبحانه أحد الخصال التي لا ينال الفوز إلا بها، وفي هذا الحث على الدعوة إلى الله تعالى مهما لحق الدَّاعي من المشقة والأذى، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ»
(1)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
مسند الإمام أحمد (9/ 64) برقم (5022)، وقال محققوه: إسناده صحيح.