الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الخامسة والستون: وقفة مع حديث شريف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
روى الحاكم في المستدرك من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ أَحبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجزِيٌّ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ»
(1)
.
هذا الحديث الشريف اشتمل على وصايا عظيمة وجمل نافعة، من هذا الملك الكريم جبريلَ عليه السلام، ينبغي أن نقف عندها وقفة تأمُّل وتدبُّر.
فقوله: عش ما شئت: أي مهما طال عمرك في هذه الحياة فإن الموت نهاية كل حي ومصيره، كما قال تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ مَتَاعُ الغُرُورِ} [آل عمران: 185]، وقال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
(1)
مستدرك الحاكم (5/ 463) برقم (7991)، وقال المنذري في كتابه الترغيب والترهيب (1/ 485): رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير برقم (73).
تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 30 - 31].
قال كعب بن زهير:
كُلُّ ابن أُنثىَ وإن طالَت سَلامتُهُ
…
يَومًا على آلةٍ حَدباءَ مَحمُولُ
وقال آخر:
المَوتُ بابٌ وكُلُّ النَّاسِ داخِلُهُ
…
فَلَيتَ شِعرِي بَعدَ المَوتِ مَا الدَّارُ
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عليه السلام، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ
(1)
، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ. قَالَ: أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ: فَالآنَ
(2)
. فَسَأَلَ اللهَ أَن يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ»، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ» .
ومن فوائد قوله: «عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ» : أن يعلم المؤمن أن الموت قد يأتيه بغتة وهو في غفلة عنه، قال تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 10 - 11].
فينبغي للمؤمن أن يكون على استعداد للقاء ربه ولا يغتر بالحياة الدنيا. قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [العنكبوت: 5].
(1)
أي ضربه والمفهوم من الحديث أنه ضربه على عينه فأخرجها.
(2)
صحيح البخاري برقم (1339)، وصحيح مسلم برقم (2372).
وقال تعالى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ} [فاطر: 5].
وقوله: «وَأَحْبِبْ مَنْ أَحبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ» أي أحبب من شئت من زوجة، وأولاد، ومال ومنصب، وجاه، وغيرها، من متاع الدُّنيا فإنّك عما قريب ستفارقها.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ»
(1)
.
ومن فوائد الجملة السابقة: الاستعداد لفراق الأحبة، حتى إذا وقع يكون المؤمن قد تأهب لذلك فيخف وقعه عليه.
ومنها: أن يهتم المؤمن للرفيق الذي لا يفارقه في الدنيا والآخرة، وهو عمله الصالح.
قوله: «وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجزِيٌّ بِهِ» . قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8].
وقال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 123].
وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
وقد ذكّر الله بذلك فأعظم الذكر، فانظر إلى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا
(1)
صحيح البخاري برقم (6514)، وصحيح مسلم برقم (2960).
يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
قوله: «وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ» فيه إشارة إلى تعويض المؤمن عما يفوته من شرف الدنيا المنهي عن الحرص عليه، فيرتفع ذكره ويشرف قدره بقيام الليل، قال تعالى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17].
وقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 - 18].
روى الترمذي في سننه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عَلَيْكُم بِقِيَامِ الْلَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَابُ الصَّالِحِيْنَ قَبْلَكُم، وَقُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُم، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ»
(1)
.
وقوله: «وَعِزُّهُ استِغنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ» ، العزة مطلب لكل نفس أبية، وإن من أعظم أسباب نيل العزة: التعلق بمن العزة بيده سبحانه، وترك التعلق بمن دونه ممن لا يزيد التعلق بهم إلَاّ ذلاًّ وهوانًا.
قال تعالى: {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَللهِ العِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10].
وقال تعالى: {بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا} [النساء: 138 - 139].
(1)
سنن الترمذي برقم (3549) وقال: وهذا أصح من حديث أبي إدريس عن بلال، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2/ 199 - 202) برقم (452).
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده، فقال:«مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ»
(1)
.
وروى الطبراني في معجمه الكبير من حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسْتَغْنُوْا عَنِ النَّاسِ وَلَو بِشَوْصِ السِّوَاكِ»
(2)
.
قال الشاعر:
لا تَسأَلَنَّ بُنَيَّ آدمَ حَاجَةً
…
وَسَلِ الَّذِي أَبوَابُهُ لَا تُحْجَبُ
اللهُ يَغْضَبُ إِن تَرَكْتَ سُؤَالَهُ
…
وَبُنَيَّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغضَبُ
وقال عمر رضي الله عنه: إِنَّ الطَّمَعَ فَقْرٌ، وَإِنَّ الْيَاسَ غِنَى، إِنَّهُ مَنْ يَيْأَسْ عَمَّا فِيْ أَيْدِي النَّاسِ اسْتَغْنَى عَنْهُمْ
(3)
.
وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ يَبُلُّ الْخُبْزَ الْيَابِسَ بِالْمَاءِ وَيَاكُلُ، وَيَقُوْلُ: مَنْ قَنِعَ بِهَذَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَحَدٍ
(4)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
صحيح البخاري برقم (1469)، وصحيح مسلم برقم (1053).
(2)
الطبراني في الكبير (11/ 444) برقم (12257) وقال المنذري في كتابه: "الترغيب والترهيب"(1/ 636): رواه البزار والطبراني بإسناد جيد.
(3)
إحياء علوم الدين (3/ 239).
(4)
إحياء علوم الدين (3/ 239).