الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة التاسعة والثلاثون: سورة الإِخلاص
الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وأَشهدُ أَن لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أَن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فإنّ الله أنزل هذا القرآن لتدبره والعمل به، قال سبحانه:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص: 29].
وجعل فيه الشفاء والنور والهداية، قال تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَاّ خَسَارًا} [الإسراء: 82].
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44].
ومن السور التي تتكرر على أسماعنا وتحتاج منا إلى وقفة تأمل وتدبُّر سورة الإِخلاص، قال تعالى:{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بِـ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} ، حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا، وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى؛ فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ. وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ:«يَا فُلَانُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَامُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ، وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟ ! » فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا. وفي رواية: لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ عز وجل
(1)
فَقَالَ: «حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ»
(2)
.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ؟ » . فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: «اللهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ»
(3)
.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستشفي بهذه السورة مع غيرها من السور، والقرآن كله شفاء.
روى البخاري في صحيحه من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرَأَ فِيهِمَا:{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ؛ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَاسِهِ وَوَجْهِهِ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
(4)
.
قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} قال ابن كثير: أي هو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير ولا نديد ولا شبيه ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله عز وجل؛ لأنه الكامل
(1)
صحيح البخاري برقم (7375)، وصحيح مسلم برقم (813).
(2)
صحيح البخاري برقم (774).
(3)
صحيح البخاري برقم (5015)، ورواه مسلم من طريق أبي الدرداء برقم (811).
(4)
صحيح البخاري برقم (5017).
في جميع صفاته وأفعاله
(1)
. اهـ.
وقوله: {اللهُ الصَّمَدُ} قال عكرمة عن ابن عباس: الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم، والعرب تسمي أشرافها الصمد، وقال أبو وائل: هو السيد الذي انتهى سؤدده.
وقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} أي: ليس له والد ولا ولد ولا صاحبة.
قال مجاهد: «ولم يكن له كفوًا أحد، أي: صاحبة» . اهـ.
والمراد بالصاحبة: الزوجة، كما قال تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101]، أي هو مالك كل شيء وخالقه، فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه، أو قريب يدانيه؟ ! تعالى وتقدَّس.
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ، يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ»
(2)
.
وروى البخاري في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي
(1)
تفسير ابن كثير (14/ 513).
(2)
صحيح البخاري برقم (7378).
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ، فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا، وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ»
(1)
.
ومن فوائد هذه السورة الكريمة:
أولاً: إثبات وحدانية الله جل وعلا والرد على اليهود، والنصارى الذين يجعلون له الولد، قال تعالى:{وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30].
ثانيًا: أن هذه السورة اشتملت على اسم الله الأعظم الذي إذا سُئِلَ به أَعطى وإِذا دُعي به أجاب.
روى أبو داود في سننه من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. فَقَالَ:«لَقَدْ سَأَلْتَ اللهَ بِالاِسْمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ»
(2)
.
ثالثًا: استحباب قراءتها عند المبيت كما تقدم من فعله عليه الصلاة والسلام، وقراءتها أيضًا صباحًا ومساءً ثلاث مرات.
روى أبو داود في سننه من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ خُبَيْبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ لَنَا،
(1)
صحيح البخاري برقم (4974).
(2)
سنن أبي داود برقم (1493)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 279) برقم (1324).
فَأَدْرَكْنَاهُ، فَقَالَ:«أَصَلَّيْتُمْ؟ » فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ:«قُلْ» فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ:«قُلْ» فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ:«قُلْ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَقُولُ؟ قَالَ:«{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، حِينَ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ»
(1)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
سنن أبي داود برقم (5082)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 957 - 958) برقم (4241).