الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الستون: الصبر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: (بيَّن تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة)
(1)
. اهـ.
وقد ذكر الله الصبر في مواضع عديدة من كتابه، وأضاف إليه كثيرًا من الخيرات والدرجات وجعلها ثمرة له، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد ذكر الله الصبر في أكثر من تسعين موضعًا، وقرنه بالصلاة في قوله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الخَاشِعِينَ} [البقرة: 45].
وجعل الإِمامة في الدِّين موروثة عن الصبر واليقين، بقوله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] فإن الدين كله علم بالحق، وعمل به، والعمل به لابد فيه من الصبر، وطلب علمه يحتاج إلى الصبر)
(2)
. اهـ.
قال تعالى: {وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَاّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3].
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 196).
(2)
بصائر ذوي التمييز (3/ 376).
ومن الأدلة على أهمية الصبر أن الله أمر به رسوله أول ما أَوْحَى إِليه، وأمره بالإِنذار، فقال:{يَاأَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1 - 7].
وفي قوله: ولربك فاصبر إشارة إلى إخلاص الصبر لله تعالى، لا ليُقال صبور، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ} [الرعد: 22] الآية.
قال بعض السلف: (عجبًا للصبر تداوى به الأَشياء ولا يُداوى بشيء). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ»
(1)
.
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَالْصَّبْر ضِيَاءٌ»
(2)
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالْصَّبْرِ
(3)
.
وقال علي رضي الله عنه: إن الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له
(4)
.
والصبر هو حبس النفس على الطاعة، وكفها عن المعصية، والرضى بقضاء الله وقدره دون شكوى فيه ولا معه.
قال ابن القيم: «الصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام:
(1)
جزء من حديث في صحيح البخاري برقم (6470)، وصحيح مسلم برقم (1053).
(2)
قطعة من حديث أخرجه مسلم في صحيحه برقم (223).
(3)
الدر المنثور (1/ 163).
(4)
بصائر ذوي التمييز (3/ 376).
صبر الأوامر والطاعات حتى يؤدِّيها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها». اهـ
(1)
.
فأما الصبر على طاعة الله، فإن النفس لا تستقيم على أمر الله بيسر وسهولة، فلا بد من ترويضها وكبح جماحها، وهذا يحتاج إلى اصطبار قال تعالى:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، وقال تعالى:{وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]، وقال تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
روى الطبراني في المعجم الكبير من حديث عتبة بن غزوان أخي بني مازن بن صعصعة وكان من الصحابة: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنْ مِنْ وَرَاءِكُمْ أَيَّامُ الصَّبْرِ المُتَمَسِّكُ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَهُ كَأَجْرِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» قالوا: يا نبي الله أو منهم؟ قال: «بَلْ مِنْكُمْ»
(2)
.
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فِتَناً كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً، يَبِيعُ قَوْمٌ دِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ، الْمُتَمَسِّكُ يَوْمَئِذٍ بِدِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ» . أَوْ قَالَ: «عَلَى الشَّوْكِ»
(3)
.
ويدخل في ذلك الصبر على الطاعات الواجبة والسنن المشروعة،
(1)
مدارج السالكين (2/ 163).
(2)
معجم الطبراني الكبير (17/ 117) برقم (289)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (494).
(3)
مسند الإمام أحمد (15/ 34) برقم (9073)، وقال محققوه: حديث صحيح.
والدعوة إلى الله، وطلب العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك.
ثانيًا: الصبر عن معصية الله فإن العبد محتاج إلى الصبر عن ملذات الدنيا وشهواتها المحرمة، قال تعالى:{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12]. قال بعض المفسِّرين: صبروا عن معصية الله
(1)
.
ثالثًا: صبر على أقدار الله كفراق الأحبة، وخسارة المال، وزوال الصحة، وسائر أنواع البلاء، قال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157].
روى الترمذي في سننه من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي الناس أشدُّ بلاء؟ قال: «الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الْرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِيْنِهِ، فَإِن كَانَ فِي دِيْنِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِن كَانَ فِي دِيْنِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِيْنِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيْئَةٌ»
(2)
.
قال الشاعر:
وَالصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ مُرٌّ مَذَاقَتُهُ
…
لَكِنْ عَوَاقِبُهُ أَحْلَى مِنَ العَسَل
وقال آخر:
واصبِر على القَدَرِ المحتُوم وَارْض بِهِ
…
وإن أَتَاكَ بِمَا لَا تَشْتَهِي القَدَرُ
فَمَا صَفَا لامرِئٍ عَيْشٌ يُسرُّ بِهِ
…
إِلَاّ سَيَتْبَعُ يَوْمًا صَفْوه كَدَرُ
(1)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (21/ 469).
(2)
سنن الترمذي برقم (2398) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وينبغي للمسلم أن يصبر عند أول سماعه للمصيبة، وأن يسترجع ربه. وأن يذكر مصابه بالنبي صلى الله عليه وسلم.
روى الدارمي في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَذْكُرْ مُصَابَهُ بِي، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ»
(1)
.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: «اتَّقِّي اللهَ وَاصْبِرِي» قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي - ولم تعرفه -، فقيل لها: إنَّه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال:«إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُوْلَى»
(2)
.
وروى مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِن مُسْلِمٍ تُصِيْبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُوْلُ مَا أَمَرَهُ اللهُ: إِنَّا لِله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ، اللَّهُمَّ اجُرْنِي فِي مُصِيْبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَاّ أَخْلَفَ اللهُ لَه خَيْرًا مِنْهَا» قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة، أولُ بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
.
لكن لا يشرع للمسلم أن يسأل الله الصبر قبل وقوع البلاء، ولكن يسأل الله العافية.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن
(1)
سنن الدارمي (1/ 53)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (347).
(2)
صحيح البخاري برقم (1283)، وصحيح مسلم برقم (926).
(3)
صحيح مسلم برقم (918).
النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً وهو يقول: اللهم إنِّي أسألك الصبر، فقال:«قَد سَأَلْتَ الْبَلَاءَ فَسَلِ الله الْعَافِيَةَ»
(1)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
مسند الإمام أحمد (36/ 348) برقم (22017)، وقال محققوه: إسناده حسن.