الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الحادية والستون: عذاب القبر ونعيمه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَحَدَكُم إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِن كَانَ مِن أَهْلِ الْجَنَّة فَمِن أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِن كَانَ مِن أَهْلِ النَّارِ فَمِن أَهْلِ النَّارِ فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(1)
.
فهذا الحديث أحد نصوصٍ كثيرة من القرآن والسنة تثبت عذاب القبر ونعيمه، وأنه حق يجبُ الإِيمان به والاستعداد له.
قال ابن كثير: هذه الأحوال الثلاثة هي أحوال الناس عند الاحتضار، إما أن يكون من المقربين، وإما أن يكون ممن دونهم من أصحاب اليمين، وإما أن يكون من المكذبين بالحق الضالين عن الهدى الجاهلين بأمر الله.
(1)
صحيح البخاري برقم (1379)، وصحيح مسلم برقم (2866).
فقوله فروح وريحان وجنت نعيم، أي: فلهم روح وريحان، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت. اهـ
(1)
. وقد استدل بعض العلماء على أن عذاب القبر حق يجب الإِيمان به، بقوله تعالى عن آل فرعون {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} [غافر: 46].
قال ابن كثير: فإن أرواحهم تعرض على النار صباحًا ومساءً، إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور
(2)
.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُوْنَ فِيْ الْقُبُوْرِ مِثْلَ أَوْ قَرِيْبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ - أَوِ المُوقِن لَا أَدرِي أي ذلك قالت أسماء - فَيَقُوْلُ: مُحَمَّدُ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوْقِنًا، وَأَمَّا المُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ (لَا أَدْرِيْ أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ) فَيَقُوْلُ: لَا أَدْرِيْ، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُوْلُوْنَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ»
(3)
.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها: أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر، فقال:
(1)
تفسير ابن كثير (13/ 396).
(2)
تفسير ابن كثير (12/ 193) بتصرفز
(3)
صحيح البخاري برقم (1053)، وصحيح مسلم برقم (905).
«نَعَم عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ» قَالَت عَائِشَة: فَمَا رَأَيْت رَسُوْل اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ صَلَّى صَلَاةً، إِلَاّ تَعَوَّذَ مِن عَذَابِ الْقَبْرِ
(1)
.
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم لأُمته صورة هذا الابتلاء الذي يكون في القبر.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِيْ قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُوْلَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُوْلُ فِيْ هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُوْلُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَيَرَاهُمَا جَمِيْعًا. وَأَمَّا الْكَافِرُ - أَوِ الْمُنَافِقُ - فَيَقُوْلُ: لَا أَدْرِيْ، كُنْتُ أَقُوْلُ مَا يَقُوْلُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيْدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيْحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيْهِ إِلَاّ الثَّقَلَيْنِ»
(2)
.
وروى مسلم في صحيحه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
{يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]. قال: «نَزَلَتْ فِيْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُوْلُ: رَبِّيَ اللهُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ عز وجل: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ}» [إبراهيم: 27]
(3)
.
وشرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أن يستغفروا للميت، ويسألوا له الثبات، روى أبو داود في سننه من حديث عثمان رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ
(1)
صحيح البخاري برقم (1372)، وصحيح مسلم برقم (584).
(2)
صحيح البخاري برقم (1338)، وصحيح مسلم برقم (2870) مختصراً.
(3)
صحيح مسلم برقم (2871).
من دفن الميت وقف عليه وقال: «اسْتَغْفِرُوْا لأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيْتَ، فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ»
(1)
.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر الاستعاذة من عذاب القبر، وأمر بذلك أصحابه، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ هَذِه الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُوْرِهَا، فَلَوْلَا أَن لَا تَدَافَنُوَا لَدَعَوْتُ اللهَ أَن يُسْمِعَكُم مِن عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ» . ثم أقبل علينا بوجهه: فقال: «تَعَوَّذُوْا بِاللهِ مِن عَذَابِ النَّارِ، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِن عَذَابِ النَّارِ، فقال: تَعَوَّذُوْا بِاللهِ مِن عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِن عَذَابِ الْقَبْرِ»
(2)
.
والقبر أول منزل من منازل الآخرة، روى الترمذي في سننه من حديث عثمان رضي الله عنه: أنه كان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِل مِن مَنَازِلِ الآَخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ» قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَاّ الْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ»
(3)
. وفي القبر ضمة لا يسلم منها أحد.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَغْطَةً لَوْ كَانَ أَحَدٌ نَاجِيًا مِنْهَا، نَجَا مِنهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ»
(4)
.
(1)
سنن أبي داود برقم (3221) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 620) برقم (2758).
(2)
صحيح مسلم برقم (2867).
(3)
سنن الترمذي برقم (2308)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 267) برقم (1878).
(4)
مسند الإمام أحمد (4/ 327) برقم (24283)، وقال محققوه: حديث صحيح.
وروى النسائي في سننه من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن سعد بن معاذ: «هَذَا الَّذِي تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَشَهِدَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ»
(1)
.
قال الشافعي:
يومُ القيامةِ لا مالٌ ولَا وَلَدُ
…
وَضَمَّةُ القَبْرِ تُنسي لَيلَةَ العُرس
ليتصور كل واحد منا نفسه وقد حُمل على أكتاف الرجال، ووُضع في هذه الحفرة الضيقة المظلمة التي لا أنيس فيها، ولا جليس، ولا مال، ولا بنون، وأصبح القبر مسكنه، والتراب فراشه والدود أنيسه، في ذاك الموقع لا تنفع الأموال، ولا المناصب، ولا الشهادات، قال تعالى:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَاّ مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آَمِنُونَ} [سبأ: 37].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ، وَمَالُهُ، وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ»
(2)
. فينبغي للمؤمن أن يتدارك نفسه وأن يبادر بالتوبة النصوح؛ وأن يلزم نفسه بالطاعة والتقوى، وأن يكون على استعداد للقاء ربه.
قال الشاعر:
تَزَوَّد من التَّقوَى فَإنَّكَ لا تَدْرِي
…
إِذا جَنَّ ليلٌ هل تَعيش إلى الفَجر
فَكَم من فتًى يُمسيِ ويُصبحُ لَاهِيًا
…
وقد نُسجتَ أكْفَانُهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي
وكم من صحيح مَاتَ من غير علَّةٍ
…
وكم من سقيم عاش حينًا من الدَّهر
(1)
سبق تخريجه.
(2)
صحيح البخاري برقم (6514)، وصحيح مسلم برقم (2960).
وكم من صِغَارٍ يرتجى طُولُ عُمُرهم
…
وقد أُدْخِلَتْ أجسَادُهُم ظُلمةَ القَبر
وأختم بهذه البشارة، قال ابن كثير رحمه الله وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثًا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة، تسرح أيضًا فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعد اللَّه لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة، فإن الإمام أحمد بن حنبل رواه عن محمد بن إدريس الشافعي ورواه الشافعي عن مالك بن أنس ومالك عن الزهري عن عبد الرحمن ابن كعب بن مالك عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا نَسْمَةُ الْمؤْمِنِ طَائرٌ يَعْلَقُ
(1)
في شجَر اَلجَنَّة حتى يُرجِعُهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعثُهُ»
(2)
(3)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
أي يأكل.
(2)
مسند الإمام أحمد (25/ 58)، قال محققوه: إسناده صحيح ما فوق الإمام الشافعي على شرط الشيخين.
(3)
تفسير ابن كثير (3/ 263).