الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث:
الوفاء للزوجة وأهل العشرة والمعروف
كلنا يلقى الخير من والديه وزوجه وأساتذته وبعض جيرانه وأحبابه، ثم تدور الأيام، فينسى المرء حق هؤلاء أو بعضهم عليه، ولربما لقي في الشارع أستاذه فأعرض عن السلام عليه، ولربما نسي الواحد فضل زوجه عليه وتعبها في تربية أبنائه ورعاية بيته، فطلقها بعد طول خدمتها له ولأولاده لسبب تافه أو لغير سبب، وأعظم منه جرماً أن ينسى بعضنا حق والديه عليه وما قدماه له حال صغره، فيعرض عنهما في كبرهما، ولربما أهمل رعايتهما، وأسلمهما إلى دور الرعاية لتقوم بالواجب نيابة عنه.
لذا فنحن أحوج ما نكون للتأمل في خُلة جميلة تزين بها المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي الوفاء الذي هو حسن العهد، وهو الذي عده النبي صلى الله عليه وسلم من خصال الإيمان:«وإن حسن العهد من الإيمان» (1).
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/ 62)، والبيهقي في الشُعب (6/ 517)، وقال البخاري في صحيحه:"باب: حسن العهد من الإيمان".
وقد شرح الشوكاني الحديث بقوله: " «إن حسن العهد» أي الوفاء والخِفارة ورعاية الحرمة «من الإيمان» أي من أخلاق أهل الإيمان ومن خصائلهم أو من شعب الإيمان "(1).
صور من وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لزوجه خديجة:
ولمزيد من التأكيد والغرس لهذا الخلق الفاضل نتذاكر بعض مواقف الأسوة الحسنة لمحمد صلى الله عليه وسلم في وفائه وحسن عهده لزوجه خديجة رضي الله عنها، فقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الخامسة والعشرين من العمر، بينما بلغت الأربعين حينذاك، وكان زواجه منها ميموناً، فكانت نِعمَ الأمِّ لأبنائه، كما واسته بمالها، وآزرته برجاحة عقلها وحسن تبعلها، فكانت سيدة الزوجات وقدوتهن إلى يوم الدين.
ولما أكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة كانت أم المؤمنين خديجة أول من صدَّق النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، ووقفت معه بمالها ومشاعرها وكلِّها إلى أن ماتت رضي الله عنها في العام العاشر للبعثة النبوية، فسمي صلى الله عليه وسلم عام فراقها بعام الحزن، لبالغ حزنه على موت خديجة رضي الله عنها.
(1) فيض القدير (2/ 446).
وطوال حياته صلى الله عليه وسلم بقي وفياً لخديجة لا يفتر لسانه عن ذكرها بالخير والدعاء لها وتذكر جميلها وحقوقها عليه صلى الله عليه وسلم، فصدق فيه قول الإمام الشافعي:"الحر يحفظ وداد لحظة"، وفي هذا الفصل البديع من فصول سيرة النبي صلى الله عليه وسلم درس لكل زوج وخاصة ذاك الذي ينسى سراعاً عشرة زوجته، فيسارع إلى طلاقها أو إيذائها ناسياً سابق جميلها والأيام الجميلة التي قضاها معها.
لكن الجديد الذي أعيى الباحثين في سير الرجال وتراجم العظماء أن يجدوا مثيلاً له؛ الوفاء بعد الوفاة، حيث لا يشعر الميت بمشاعر الحي ولا يدركها، فسرعان ما تذبل هذه المشاعر وتذوي وتطويها ذاكرة النسيان.
وخصلة الوفاء للميت بعد وفاته مأثرة من مآثر النبي صلى الله عليه وسلم، وخصلة بديعة من خصاله القرآنية، فقد وصفت عائشة رضي الله عنها وفاءه لخديجة وقد ماتت قبل زواجه من عائشة بسنوات، فتقول:(ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، لما كنت أسمعه يذكرها .. وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها [أي صديقاتها] منها ما يسعهن)(1).
(1) أخرجه البخاري ح (3816)، ومسلم ح (2435).
مظهران من مظاهر الوفاء لخديجة الحبيبة الراحلة: ذكرُها بلسان محب لا يمل من ذكر الحبيب ومآثره، وإكرامُ أهلها وذويها وصديقاتها؛ بِرَّاً بها.
وفي رواية أن عائشة رضي الله عنها لما رأت النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكر خديجة رضي الله عنها، ويهدي إلى صديقاتها قالت: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة. فكان الزوج الوفي يرد بالقول: «إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد» (1).
قال النووي: "في هذه الأحاديث دلالة لحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حياً وميتاً، وإكرام معارف ذلك الصاحب"(2).
وقال ابن بطال: "حسن العهد في هذا الحديث هو إهداء النبي عليه السلام اللحم لأجوار [أي جيران] خديجة ومعارفها؛ رعياً منه لذمامها، وحفظاً لعهدها"(3).
وتنقل أم المؤمنين عائشة صورة أخرى عجيبة من صور الوفاء للزوجة بعد وفاتها، لا يقف عند ذكر الزوجة بالخير، بل
(1) أخرجه البخاري ح (3816) و (3818)، ومسلم ح (2435).
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 202).
(3)
شرح ابن بطال (9/ 216).
يتضمن الدفاع عنها والذب عن حرمتها ولو كان القبر قد غيبها، لكنه لم يغيب حقها وذكراها، وقد صنعه صلى الله عليه وسلم حين استأذنت عليه هالة بنت خويلد أخت خديجة، فعرف صلى الله عليه وسلم استئذان خديجة [أي لشبه صوتهما]، فارتاح لذلك، فقال:«اللهم هالة» .
تقول أم المؤمنين عائشة: فغِرت. فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيراً منها (1).
فرد عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهو الزوج الوفي الذي لا ينسى محاسن خديجة وسابق فضلها: «ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء» .
وفي رواية أن عائشة أدركت وفاء النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته لزوجه الراحلة فقالت: (والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير)(2)، فأعظم صور الوفاء ديمومة الحب بعد الوفاة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها بعد وفاتها:«إني قد رزقت حبها» (3).
(1) أخرجه البخاري ح (3821)، ومسلم ح (2437).
(2)
أخرجه أحمد ح (24343)، والطبراني في معجمه الكبير ح (17557).
(3)
أخرجه مسلم ح (2435).
وفي مرة أخرى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند عائشة - عجوزٌ تدعى أم زفر كانت ماشطة لخديجة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أنت؟» قالت: أنا جَثامة المُزنية، فقال:«بل أنت حَسانة المزنية، كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟» قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
فلما خرجت قالت عائشة: يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال:«إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان» (1).
ومن صور الوفاء للزوجة ولغيرها من أصحاب الحقوق الدعاء لهم بعد وفاتهم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكن يسأم من ثناء عليها والاستغفار لها (2)، فالاستغفار للميت من خير ما يهدى إليه، وهو دليل وفاء، وحجة صدق في العهد، لا يفرط في فعله كل من يحب النبي صلى الله عليه وسلم ويتأسى به.
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/ 62)، والبيهقي في الشُعب (6/ 517).
(2)
أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح (18555).
الوفاء للأصحاب وغيرهم حال الخطأ والزلل:
والوفاء ليس خاصاً بالزوجة، بل هو خلق كريم يرعاه المرء مع جاره وصاحبه ومع كل ذي مودة وفضل وسابق عشرة.
وعشرة هؤلاء وأمثالهم من أهل الفضل والود لا تسلم من منغصات واختلاف، فلا تحلو الصحبة أو الجيرة دوماً، بل لابد – بسبب طبيعتنا البشرية -أن يثلمها بعض ما يكدرها، فكيف نصنع إذا وقع شيء من تلك المكدرات؟ هل ننسى ما فات من طويل صحبة لهفوة ساعة؟ ما هو منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع أهل عشرته إذا عثروا؟
لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أولئك الذين ينسون الود ولا يحفظونه وتهددهم بالنار، فقد وقف يوماً بين أصحابه يحدثهم عن رؤيته للجنة والنار، فقال:«وأُريت النار، فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء» ، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: «بكفرهن؟» قيل: يكفرن بالله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط» (1)، وفي
(1) أخرجه البخاري ح (1052)، ومسلم ح (80)، واللفظ للبخاري.
هذا الحديث "وعظ وزجر عن كفر الإحسان وجحدِه عند بعض التغيير ومواقعةِ شيء من الإساءة؛ فإنه لا يسلم أحد مع طول المؤالفة من إساءة أو مخالفة في قول أو فعل، فلا يُجحد لذلك كثيرُ إحسانه ومتقدمُ أفضاله"(1).
والنبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس خلقاً، كان يأمر أصحابه بالتماس المعاذير لأهل الخطأ، وكان يصفح عما يقع فيه بعض أهل عشرته، ممن أحسن وأجاد فيما سبق، فلا ينسى سابقته لخطأ أخطأه أو لهفوة فعلها، فهذا هو حسن العهد الذي نسميه الوفاء.
وقد صنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم مع من أخطأ من أصحابه، صنعه مع حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل إلى قريش يفشي لهم أسرار جيش النبي صلى الله عليه وسلم القادم إلى مكة، فأطلع الله نبيه على صنيع حاطب، فدعاه، وقال:«ما حملك على ما صنعت؟» فقال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن يكون لي عند القوم يد يَدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله.
(1) المنتقى شرح الموطأ، الباجي (1/ 454).
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق، ولا تقولوا له إلا خيراً .. أليس من أهل بدر .. لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت» (1).
قال الطبري: "في حديث حاطب بن أبي بلتعة من الفقه أن الإمام إذا ظهر من رجل من أهل السِتر؛ على أنه قد كاتب عدوًا من المشركين ينذرهم ببعض ما أسره المسلمون فيهم من عزم، ولم يكن الكاتب معروفًا بالسفه والغش للإسلام وأهله، وكان ذلك من فِعله هفوةً وزلة من غير أن يكون لها أخوات؛ فجائز العفو عنه كما فعله الرسول بحاطب من عفوه عن جرمه بعدما أُطلع عليه من فعله"(2).
ومثل هذا الخلق الرفيع والسلوك الجميل صنعه الصديق وابنته الصديقة عائشة مع مِسطحٍ وحسان، وكانا قد تكلما فيمن تكلم في الإفك، فغفرا لهما لسابقتهما في الإسلام.
فأما مِسطح فكان قريباً للصديق، وكان الصديق ينفق عليه، فلما أخطأ مِسطح في خوضه في الإفك توعده الصديق بترك النفقة، فلما ذكَّر الله المؤمنين بسابقته في الإسلام، وأنه رضي الله عنه من
…
(1) أخرجه البخاري ح (3983)، ومسلم ح (2494).
(2)
شرح ابن بطال (5/ 162).
{الْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (النور: 22) قال الصديق: (بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي)، فرجع إلى مِسطحٍ بالنفقة التي كان ينفق عليه (1).
وبمثل هذا الأدب النبوي صنعت ابنته الصديقة عائشة رضي الله عنها مع حسان بن ثابت رضي الله عنه، فرغم خوضه في الإفك؛ لم تنس الصديقة له سابقته ولا تناست حسن صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وبلائه في الذبِّ عن الإسلام، فقد سمعت عروة ابن أختها ينال من حسان، فقالت:(يا ابن أختي دعه، فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)(2).
وفي رواية أن عروة قال: (كانت عائشة تكره أن يُسب عندها حسان، وتقول: إنه الذي قال:
فإن أبي ووالدَه وعِرضي
…
لعِرض محمدٍ منكم وِفاء) (3).
وهذا الأدب في الغض عن إساءات المحسنين تعلمه الصديق وابنته من النبي الأسوة صلى الله عليه وسلم، فقد سمعته عائشة رضي الله عنها يقول:«أقيلوا ذوي الهيئات عثراتِهم؛ إلا الحدود» (4).
(1) أخرجه البخاري ح (4141)، ومسلم ح (2770).
(2)
أخرجه مسلم ح (2487)، ونحوه في البخاري ح (4146).
(3)
أخرجه البخاري ح (4141).
(4)
أخرجه أبو داود ح (4375)، وأحمد ح (24946).
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم عرَف للمطعم بن عدي – وهو مشرك أجار النبي صلى الله عليه وسلم في مكة – إحسانه وسابقة فضله، فحين وقع في يده أُسارى المشركين في بدر قال:«لو كان المطعِم بنُ عَدي حياً، ثم كلمني في هؤلاء النتنى؛ لتركتهم له» (1).
وهكذا يترجم النبي صلى الله عليه وسلم معنى الحب الصادق الذي لا يتوقف عند حدود الزمان، ولا يأبه لتصرم السنين والأيام، وفيه أسوة حسنة لكل من ألقى السمع وهو شهيد.
(1) أخرجه البخاري ح (4024).