المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المزاح - الدين المعاملة

[منقذ السقار]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأول:معاملة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في بيته

- ‌المبحث الأول: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في عشرة النساء

- ‌المبحث الثاني: معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للأطفال

- ‌المبحث الثالث:معاملة النبي صلى الله عليه وسلم مع الخدم وصغار الموظفين

- ‌الفصل الثاني:معاملة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في حال الخطأ

- ‌المبحث الأول: القود من النفس

- ‌المبحث الثاني: التعامل مع المخطئ

- ‌الفصل الثالث:من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صناعة الشخصية المسلمة

- ‌المبحث الأول: آداب الممادحة

- ‌المبحث الثاني: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المزاح

- ‌المبحث الثالث:الوفاء للزوجة وأهل العشرة والمعروف

- ‌الفصل الرابع:من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صناعة المجتمع المسلم

- ‌المبحث الأول: الميزان في وزن الرجال

- ‌المبحث الثاني: صناعة المعروف

- ‌المبحث الثالث: الهدية

- ‌المبحث الرابع: آداب المداينة

- ‌المبحث الخامس: سلامة المجتمع من الشقاق

الفصل: ‌المبحث الثاني: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المزاح

‌المبحث الثاني: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المزاح

الأصل في المسلم أن يكون جاداً، إذ لم يخلقنا في هذه الدنيا للعبث واللعب، لكن الجد لا يدوم إلا إذا خالطه شيء من المزاح، الذي هو بمثابة الملح من الطعام، فبالمزاح والدعابة تزهو علاقات الناس وتزدان مجالسهم، إذا لم يجاوز قدره، فكما يقولون: الشيء إذا جاوز حده انقلب إلى ضده.

وكما نهى صلى الله عليه وسلم عن الإفراط في كل أمر ولو كان حسناً؛ فإنه قد نهى عن الإفراط في المزاح، لما يجر إليه من غفلة القلب وقسوته، وشغله عما خلق له من عظائم الأمور «ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب» (1)، والمزاح سبب رئيس من أسباب الضحك.

وإذا كان الإكثار من الضحك مذموماً، فإن أصلَه غيرُ ممنوع، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إلى ضحك أصحابه، ويشاركهم بالتبسم يقول جابر بن سمرة: (كان لا يقوم من مصلاه الذي صلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس، وكانوا

(1) أخرجه الترمذي ح (2305)، وابن ماجه ح (4193)، وأحمد ح (7748).

ص: 106

يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون، ويتبسم صلى الله عليه وسلم) (1).

وحتى يتمكن الصحابة الكرام من التمازح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يلتفت إذا مشى، وكان ربما تعلق رداؤه بالشجرة أو الشيء، فلا يلتفت حتى يرفعوه، لأنهم كانوا يمزحون ويضحكون، وكانوا قد أمنوا التفاته صلى الله عليه وسلم (2) فالصحابة يعرفون قدر النبي صلى الله عليه وسلم فيهابون المزاح أمامه، وهو لا يريد أن يضيق عليهم فيما أحله الله لهم.

المزاح المذموم:

والمزاح يصبح حراماً إذا صاحبه مخالفة شرعية، كالكذب والترويع وغيرها مما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد يخرج صاحبه عن الغاية التي شرع لأجلها.

فالبعض يمزح، ويكذب في مزاحه، ويعلله بأنه كذب أبيض، يقصد أن إضحاك الحضور وبعث السرور في نفوسهم، ولم يدر المسكين أن الكذب لون واحد محرم، سواء أكان هذا

(1) أخرجه مسلم ح (670).

(2)

أخرجه الطبراني في الأوسط ح (3216)، قال الهيثمي: إسناده حسن، مجمع الزوائد (8/ 303).

ص: 107

الكذب لإضحاك الناس أم لغيره، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له» (1)، وفي رواية لأحمد «إن الرجل ليتكلم الكلمة لا يريد بها بأساً إلا ليضحك بها القوم؛ فإنه يقع فيها أبعد ما بين السماء والأرض» (2).

ويضمن النبي صلى الله عليه وسلم الجنة لمن فعل ثلاث خصال، ومنها ترك الكذب في المزاح، يقول صلى الله عليه وسلم:«أنا زعيم ببيت في رَبَض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه» (3).

وهكذا فالمزاح مباح ما لم يتلبس بالكذب، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يكذب، قال له أصحابه: يا رسول الله إنك تداعبنا! فقال: «إني لا أقول إلا حقاً» (4).

ومما يجعل المزاح حراماً أن يتلبس بترويع الآمنين وتخويفهم، كالاختباء للشخص؛ ثم مفاجأته بقصد تخويفه

(1) أخرجه الترمذي ح (2315)، وأبو داود ح (4990)، الدارمي ح (2702)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي ح (2315).

(2)

أخرجه أحمد ح (10903).

(3)

أخرجه أبو داود ح (4800).

(4)

أخرجه الترمذي ح (1990)، وأحمد ح (8366).

ص: 108

للضحك من ذلك، ومثله ترويعه بإخفاء جواله أو مفاتيح سيارته أو غيرها، بقصد الضحك والممازحة.

ولمن أراد أن ينظر هدي محمد صلى الله عليه وسلم نذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسيرون مع رسول الله في مسير، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى نبل معه فأخذها، فلما استيقظ الرجل فزع، فضحك القوم، فقال صلى الله عليه وسلم:«ما يضحككم؟» فقالوا: لا، إلا أنا أخذنا نُبُل هذا ففزع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً» (1) أي "لا يحل لمسلم أي يفزع مسلماً؛ وإن كان هازلاً كإشارته بسيف أو حديدة أو أفعى أو أخذ متاعه؛ فيفزع لفقده، لما فيه من إدخال الأذى والضرر عليه، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"(2).

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يأخذنَّ أحدُكم متاعَ صاحبه جاداً ولا لاعباً، وإذا وجد أحدكم عصا صاحبه؛ فليردها عليه» (3).

ومن أعظم الترويع وأمقته إلى الله رفعُ السلاح في وجه المؤمن ولو بالمزاح، فكم من مزاح انقلب إلى مأساة، لعدم

(1) أخرجه أحمد في مسنده ح (21986)، ونحوه أبو داود ح (5004).

(2)

فيض القدير، المناوي (6/ 579).

(3)

أخرجه أحمد في مسنده ح (17261) وأبو داود ح (2194).

ص: 109

الوقوف عند حدود الهدي النبوي: «لا يشير أحدُكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار» (1).

وفي حديث آخر من الوعيد ما فيه مزدجر لكل من ألقى السمع وهو شهيد: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه» (2).

كما يذم المزاح إذا اقترن بمنكرات يفعلها البعض، فتهدم الأسر أحياناً وتهدم الدين في أحيانَ أخرى.

وأما ما يهدم الأسر فهو ما دأب عليه بعض الأزواج من جعل الحلف بالطلاق فاكهة لمجالسهم، فإذا أراد من زميله أن يكمل عشاءه حلف عليه بالطلاق؛ فلربما أكل الزميل فسعدت الأسرة، ولربما امتنع فوقعت المصيبة وتشتت الأبناء، وكذلك إذا أراد هذا العابث التأكيد على حضوره لموعد ما أقسم بالطلاق، ولربما أراد ممازحة زميل له، فطلق زوجته هازلاً في ذلك، أو لربما زوج بعضهم ابنته لصديقه وهو يمزح في ذلك

(1) أخرجه مسلم ح (2616).

(2)

أخرجه البخاري ح (7072)، ومسلم ح (2617).

ص: 110

كله ولا يقصده، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» (1).

وأما ما يهدم الدين من المزاح، فهو ما خرج عن دائرة الشرع وضوابطه، وأوقع صاحبه في أبواب الكبائر، ونراه عند كثيرين اليوم، ممن لا يجدون مادة لطرفتهم وظُرْفهم إلا الدين وما يتعلق به من مقدسات، فالبعض يطلق نكاتاً وطُرفاً يتلبسها الاستهزاء ببعض القرآن أو الأنبياء أو الأحكام الفقهية أو العلماء حملة الدين، وهذا باب خطير حذر منه القرآن، واعتبره نوعاً من النفاق.

وقد وقع هذا النوع من المزاح من بعض المنافقين يوم تبوك حين استهزؤوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء.

فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم، فأقروا واعتذروا إليه بأنهم كانوا يمزحون ويهزلون، وأنهم لم يقولوا هذا جادين، فأنزل الله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ

(1) أخرجه الترمذي ح (1184)، وأبو داود ح (2194)، وابن ماجه ح (2039).

ص: 111

وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (التوبة:64 - 65)(1).

قال القاضي ابن العربي: "لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جداً أو هزلاً، وهو - كيفما كان - كفر، فإن الهزْل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة، فإن التحقيق أخو العلم والحق، والهزل أخو الباطل والجهل"(2).

والإمام ابن تيمية ينقل اتفاق المسلمين على أن كفر مرتكب الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولو بالهزل: " قد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقص له [صلى الله عليه وسلم] كفر مبيح للدم .. ولا فرق في ذلك بين أن يقصد عيبه .. أو لا يقصد شيئاً من ذلك، بل يهزل ويمزح أو يفعل غير ذلك، فهذا كله يشترك في هذا الحكم إذا كان القول نفسه سباً، فإن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛ يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب"(3).

(1) أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 333).

(2)

نقلاً عن الجامع لحكام القرآن (8/ 197).

(3)

الصارم المسلول (1/ 526).

ص: 112

وأما ما نراه من بعض الناس من استخدام آيات القرآن في غير ما نزلت له من المزاح واللغو من غير الوقوع في الاستهزاء، فإن أقل ما يقال في فعل هؤلاء أنه مكروه، قال النووي:"يكره من ذلك ضرب الأمثال في المحاورات والمزح ولغو الحديث، فيكره في كل ذلك تعظيماً لكتاب الله تعالى"(1).

وقد استقبح القرآن الكريم اتهام اليهود لموسى عليه السلام بالهزل والمزاح حين أمرهم بذبح البقرة فقالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} ، أي أتمازحنا وتهزل معنا؟ وما درى هؤلاء أن الهزل لا يكون في مثل هذا، فالدين والوحي والبلاغ عن الله هو أبعد ما يكون عن هذا الباب، لذا أجابهم موسى عليه السلام بقوله:{أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (البقرة: 67).

والبعض يتجنب المزاح الحرام، لكنه لا يمتنع عن مجالسة أهله، ولربما شاركهم بالتبسم والاستماع، وهذا باب من الحرام والمشاركة في الإثم، وقد حذر الله منه في القرآن فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من بعده:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 86)، فالخوض مع هؤلاء

(1) شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 164).

ص: 113

يعرضهم لسخط الله {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} (المدثر: 42 - 45)، فالجلوس مع هؤلاء الهازلين ومشاركتهم الضحكَ على طرفهم التي جعلت من الدين مادة للسخرية سبب في استجلاب مقت الله، وهو نوع من المشاركة والرضا بما يصدر منهم {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} (النساء:140).

قال الطبري في تفسيره: "وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها وأنتم تسمعون، فأنتم مثله، يعني: فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال، مثلُهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم، وأنتم تسمعون آياتِ الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله، فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتَوْه منها، فأنتم إذاً مثلهم في ركوبكم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه"(1).

(1) جامع البيان (9/ 320).

ص: 114

ولما كان الاستماع إلى المزاح الحرام يشرك السامع في المعصية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرض به في مجلسه، بل استنكره، فقد صعد ابن مسعود رضي الله عنه على شجرة، فنظر أصحابه إلى ساقه وكانت نحيلة جداً، فضحكوا من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما تضحكون! لرِجلُ عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد» (1).

وهكذا فالمزاح يحرم ويكره حين تتلبسه المحرمات والمكروهات، ولكنه مباح حين يبرأ من هذه الرزايا وأمثالها، بشرط أن لا يجاوز قدره.

صور من مزاح النبي صلى الله عليه وسلم:

وقد أجاز العلماء المزاح، ونقل المناوي أنه "قيل لابن عيينة: المزاح سبة؟ فقال: بل سُنَّة، ولكن من يحسنه، وإنما كان [صلى الله عليه وسلم] يمزح، لأن الناس مأمورون بالتأسي به والاقتداء بهديه، فلو ترك اللطافة والبشاشة، ولزِم العبوس والقطوب لأخذ الناس من أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة من الشفقة والعناء، فمزح ليمزحوا، ولا يناقض ذلك خبر «ما أنا من دد،

(1) أخرجه أحمد ح (922)، والبخاري في الأدب المفرد ح (237)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ح (105).

ص: 115

ولا الدد مني» فإن الدد اللهو والباطل، وهو كان إذا مزح لا يقول إلا حقاً" (1).

وقد مزح النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، فكيف كان صلى الله عليه وسلم يمزح، ولم كان يمزح، هل لمجرد الضحك والتسلي، أم كان له صلى الله عليه وسلم في مزاحه مقاصد سامية؟

لا ريب أن مزاح النبي صلى الله عليه وسلم مبرء عن العبث؛ مشتمل على مقاصد عظيمة ودروس تربوية بليغة، ما أحرانا أن نعمل على تلمسها من خلال تتبع بعض صور مزاحه صلى الله عليه وسلم.

وأول ما يلوح لنا من هذه المقاصد في تحببه صلى الله عليه وسلم لأصحابه ومؤانسته لهم، وقد نبه عليه النووي بقوله: "المزاح المنهي عنه ما فيه إفراط ومداومة، فإنه يورث الضحك والقسوة، ويشغل عن الذكر والفكر في مهمات الدين، فيورث الحقد، ويسقط المهابة والوقار.

وما سلم من ذلك هو المباح الذي كان المصطفى صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يفعله، فإنه إنما كان يفعله نادراً

(1) فيض القدير (3/ 18)، والحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد ح (785)، والطبراني في الأوسط ح (413)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع ح (4673).

ص: 116

لمصلحة، كمؤانسة وتطييب نفس المخاطب، وهذا لا منع منه قطعاً، بل هو مستحب" (1).

ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم الذي يتحبب به إلى أصحابه أنه قدم إليه صهيب الرومي وهو رمد العين، وبين يدي النبي صلى الله عليه وسلم تمر وخبز، فقال لصهيب:«أدن فكُل» ، فأخذ صهيب يأكل من التمر دون الخبز، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مازحاً:«تأكل تمراً وبك رمد؟!» قال: إني أمضغ من ناحية أخرى. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).

وفي مرة أخرى دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله احملني، قال النبي صلى الله عليه وسلم مازحاً:«إنا حاملوك على ولد ناقة» ، فظن الرجل أن النبي صلى الله عليه وسلم يحمله على ابن صغير للناقة فقال: وما أصنع بولد الناقة، فقال صلى الله عليه وسلم:«وهل تلد الإبل إلا النوق» (3).

وفي رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك جلس في قبة صغيرة، فأتاه عوف بن مالك الأشجعي يستأذن في الدخول عليه، يقول عوف: فسلمتُ، فردَّ وقال:«ادخل» .

(1) الأذكار، ص (327).

(2)

أخرجه أحمد ح (16155)، وابن ماجه ح (3443).

(3)

أخرجه أبو داود ح (4998)، والترمذي ح (1991).

ص: 117

فلما رأى عوف صغر القبة قال للنبي صلى الله عليه وسلم ممازحاً: أكلي يا رسول الله؟ قال: «كلُّك» ، فدخل رضي الله عنه (1).

وجاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تقول له: يا رسول الله، ادع الله لي أن يدخلني الجنة. فقال لها:«يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز» .

ولم تفطن المرأة لمزاح النبي صلى الله عليه وسلم معها، فانزعجت، وبكت ظناً منها أن العجائز من أمثالها لا يدخلون الجنة، فلما رأى ذلك صلى الله عليه وسلم منها بيَّن أن العجوز لن تدخل الجنة عجوزاً، بل ينشئها الله خلقاً آخر، فتدخلها شابة بكراً، وتلا عليها قول الله تعالى:{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا} (الواقعة: 35 - 37)(2).

ومن مزاح النبي صلى الله عليه وسلم بقصد التحبب وتطييب النفس مزاحُه مع أعرابي ذميم الخِلقة، يستنكف الكثيرون عن المزاح مع مثله، أما النبي صلى الله عليه وسلم الذي يزن الرجال بميزان الله؛ الإيمان

(1) أخرجه أبو داود ح (5000) وأحمد ح (22846)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه ح (4042).

(2)

أخرجه الطبراني في الأوسط ح (5545)، وهناد بن السري في الزهد ح (24)، والترمذي في الشمائل ح (238)، وحسنه الألباني في تحقيقه لشمائل الترمذي ح (205).

ص: 118

والتقوى، فلا يستنكف عن ممازحة هؤلاء، بل لعلهم أحق به لضعفهم وإعراض الناس عنهم.

والقصة يحكيها أنس بن مالك، فيذكر أن زاهراً من أهل البادية، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان رجلاً دميماً، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه، وزاهر لا يبصره، فقال الرجل: أرسلني. من هذا؟

فالتفت، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألوا ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول ممازحاً:«من يشتري العبد؟» فقال: يا رسول الله: إذاً والله تجدني كاسداً. فقال صلى الله عليه وسلم: «لكن عند الله لست بكاسد» أو قال: «لكن عند الله أنت غالٍ» (1).

ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه أنه كان يقول لهم: «ارموا، من بلغ العدو بسهم رفعه الله به درجة» [أي في الجنة] فسأله أحد أصحابه: يا رسول الله وما الدرجة؟ فقال صلى الله عليه وسلم له مداعباً: «أما إنها ليست بعتَبة أمك، ولكن ما بين الدرجتين مائة عام» (2).

(1) أخرجه أحمد ح (12187).

(2)

أخرجه النسائي ح (3144)، وأحمد ح (17369)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ح (1287).

ص: 119

ولكن أهم ما يمزح لأجله العقلاء؛ التربية والتنبيه على الخطأ بعيداً عن أساليب الجفاء والغلظة والمواجهة بالخطأ، وهذا ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم مع خوات بن جبير الأنصاري حين رآه جالساً إلى نسوة بطريق مكة فقال له:«يا أبا عبد الله مالك مع النسوة؟» ، فتلعثم خوات، وبدلاً من أن يقر بخطئه ويستغفر قال: يفتلن ضفيراً لجمل لي شرود.

فمضى رسول الله لحاجته، ثم عاد فلقي خوات فقال له:«يا أبا عبد الله، أما ترك ذلك الجمل الشِّراد بعد؟» .

قال خوات: فاستحيت وسكت، فكنت بعد ذلك أتفرر منه؛ حتى قدمت المدينة، فرآني في المسجد يوماً أصلي، فجلس إلي، فطوَّلتُ في صلاتي فقال:«لا تطوِّل، فإني أنتظرُك» ، فلما سلمت، قال:«يا أبا عبد الله، أما ترك ذلك الجمل الشِّرادَ بعد؟» .

فسكتُّ واستحيت فقام، وكنت بعد ذلك أتفرر منه، حتى لحقني يوماً، فقال:«يا أبا عبد الله، أما ترك ذلك الجمل الشِّرادَ بعد؟» .

وهنا آتى المزاح ثماره في التنبيه على الخطأ والإرشاد؛ فقال خوات معترفاً بالحقيقة: والذي بعثك بالحق ما شرد منذ

ص: 120

أسلمت. فقال صلى الله عليه وسلم وهو مسرور بإنابة خوات: «الله أكبر، الله أكبر، اللهم اهد أبا عبد الله» . فحسن إسلامه وهداه الله (1).

وهكذا فإنه صلى الله عليه وسلم كان يمزح مع أصحابه من غير أن يكون هذا ديدنه، وكان مزاحه صلى الله عليه وسلم بقصد الإيناس والتحبب، لا مجرد الهزل واللعب، وكان في مزاحه لا يقول إلا حقاً، وصدق ابن قتيبة بقوله:"وقد درج الصالحون والخيار على أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم في التبسم والطلاقة والمزاح بالكلام المجانب للقدح والشتم والكذب "(2)، فهذا أدب النبي صلى الله عليه وسلم في المزاح وأدب أصحابه من بعده، فقد وصفهم بكر بن عبد الله فقال:"كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال"(3)، فمزاحهم لا يشغلهم عن الحق، ولا يغيِّب علامات الجد والرجولة.

(1) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح (4083)، قال الهيثمي: أخرجه الطبراني من طريقين، ورجال أحدهما رجال الصحيح غير الجراح بن مخلد، وهو ثقة. مجمع الزوائد (9/ 401).

(2)

تأويل مختلف الحديث، ص (294).

(3)

أخرجه البخاري في الأدب المفرد ح (266)، وصححه الألباني في صحيح الأدب ح (41)، المقصود بالبطيخ ذو القشرة الصفراء اللينة، فالبدح رميك بكل شيء فيه رخاوة. انظر فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للجيلاني (1/ 366).

ص: 121