الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: آداب المداينة
ما زال الناس يحتاج بعضهم إلى بعض، فيستدين المحتاج من أخيه ما يقضي حاجته، ويرده إليه بعد حين، فتُفرج كربته، ويشاركُه أخوه الذي أدانه فرحته وينال الأجر من ربه.
وقد جعل الله عز وجل هذه الدنيا داراً للابتلاء، فكلٌ فيها مبتلى، فالبعض يبتليه الله بالعوز والحاجة والضنْك، وآخرون يبتليهم الله بالرخاء والسعة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 35).
فأما أولئك الذين ابتلاهم الله بالخير، فوسع عليهم أرزاقهم، وجعل حاجاتِ الناس إليهم، فيلزمهم شكر المنعمِ تبارك وتعالى بالإحسان إلى عبيده، وبذلِ الفضلِ لهم، ومنه إقراض المحتاجين منهمُ القرضَ الحسن، ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه؛ كان الله في حاجته، ومن سعى في قضاء حاجة أخيه؛ قضى الله حاجاته، ومن فرج عن أخيه كُربة؛ فرج الله عنه بها كُربة من كرَب يوم القيامة» (1).
(1) أخرجه البخاري ح (2442)، ومسلم ح (2580).
ورغَّب النبي صلى الله عليه وسلم أمتَّه في إقراض المعسر وعونه في قضاء حاجته، فأخبرهم أن الله جعل تكرر الإقراض معادلاً أجر الصدقة، مع أن المال المقرض مسترد؛ يعود إلى صاحبه، يقول صلى الله عليه وسلم:«ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقةٍ مرة» (1).
والممتنع عن إقراض الناس بغير سبب متوعد من الله لمنعه الفضلَ عمن يحتاجُه، ففي الحديث:«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم» ، فذكر منهم «ورجل منع فضل ماء، فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعتَ فضلَ ما لم تعمل يداك» (2)، وهذا مصداق قول الله تعالى:{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (الماعون: 4 - 6).
والأصل في الإنسان أن لا يستدين إلا لحاجة، لأن الدَّين أمانة ثقيلة ومسئولية كبيرة، فعن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى عنها: أن يموت رجلٌ وعليه دين لا يدع له
(1) أخرجه ابن ماجه ح (2430).
(2)
أخرجه البخاري ح (2369).
قضاء» (1)، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم الإقراض ذنباً؛ لتعلقه بحقوق الآدميين التي مبناها على المشاحة والمطالبة؛ بينما حقوق الله مبناها على المساهلة والمسامحة.
وتبدأ مسؤولية الإنسان عن الدَّيْن عندما يهُم باستدانة أموال الناس، فإن كان عازماً على أدائها أعانه الله على ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:«من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» (2)، وفي رواية:«ما من عبد كانت له نية في أداء دينه إلا كان له من الله عون» (3).
وعنون البخاري هذا الحديث بقوله: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى ومن تصدق وهو محتاج أو أهله محتاج أو عليه دين فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة، وهو رد عليه ليس له أن يتلف أموال "، ومعناه: "الحض على ترك استئكال أموال الناس والتنزهُ عنها، وحسن التأدية إليهم عند المداينة
…
[و] الثواب قد يكون من جنس الحسنة، وأن العقوبة قد تكون
(1) أخرجه أبو داود ح (2901).
(2)
أخرجه البخاري ح (2387).
(3)
أخرجه أحمد ح (24158).
من جنس الذنوب، لأنه جعل مكانَ أداء الإنسان أداءَ الله عنه، ومكان إتلافِه إتلافَ الله له" (1).
ولثِقَل أمر الدين وخطورة شأنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعين بالله عليه، عن عبد الله بنِ عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات:«اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو وشماتة الأعداء» (2).
وذات يوم دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة فقال: «يا أبا أمامة، ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟» فقال أبو أمامة: هموم لزمتني، وديون يا رسول الله. قال:«أفلا أعلمك كلاماً إذا أنت قلتَه أذهبَ الله عز وجل همك وقضى عنك دينك» . فقال: بلى يا رسول الله.
فقال صلى الله عليه وسلم: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزَن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ
(1) شرح ابن بطال (6/ 513).
(2)
أخرجه النسائي ح (5487)، وأحمد ح (6581)، ونحوه عند أبي داود ح (1555).
بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال».
قال أبو أمامة: ففعلتُ ذلك، فأذهب الله عز وجل همي، وقضى عني ديني (1).
وحتى يستشعر الصحابة عِظم شأن الدين فإن النبي صلى الله عليه وسلم صنع أمامهم أمراً يثير عجبهم واهتمامهم، لقد امتنع صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على بعض أصحابه حين مات وعليه دَين، بل كان إذا قُدِّم إليه ميت لم يصل عليه حتى يسألَ إن كان مَديناً أم لا، يقول سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بجنازة، فقالوا: يا رسول الله صلِ عليها، قال:«هل ترك شيئاً؟» قالوا: لا، قال:«فهل عليه دين؟» قالوا: ثلاثة دنانير. فقال صلى الله عليه وسلم: «صلوا على صاحبكم» .
فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعليَّ دينُه، فصلى عليه (2).
(1) أخرجه أبو داود ح (1330).
(2)
أخرجه البخاري ح (2291).
وفي رواية للحديث من طريق جابر أن رسولَ الله كان إذا لقي أبا قتادة يقول: «ما صنعتِ الدنانير؟ حتى كان آخر ذلك أن قال: قد قضيتُها يا رسول الله، قال: الآن بردت عليه جلدُه» (1).
والشهيد رغم عِظم قدره وبلائه ومنزلتِه عند الله؛ فإنه لا يَغفِر له دينَه، فقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن قتلتُ في سبيل الله أتكفَّر عني خطاياي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «نعم، وأنت صابرٌ محتسب، مقبلٌ غيرُ مدبر؛ إلا الدَّين» (2).
وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: «يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدَين» (3).
وذات يوم وضع النبي صلى الله عليه وسلم راحته على جبهته، وقال:«سبحان الله! ماذا نزل من التشديد؟» فسكت الصحابة وفزعوا.
ثم في الغد قالوا: يا رسول الله! ما هذا التشديد الذي نزل؟ فقال: «والذي نفسي بيده، لو أن رجلاً قُتل في سبيل الله، ثم أُحيى، ثم قُتل، ثم أحيى، ثم قُتل وعليه دين ما دخل
(1) أخرجه أحمد ح (14127)، والبيهقي في السنن (6/ 75).
(2)
أخرجه مسلم ح (1885).
(3)
أخرجه مسلم ح (1886).
الجنة حتى يُقضى عنه دينُه» (1)، فالدين يحجب الشهيد على باب الجنة حتى يُقضى عنه دينه.
وحين وجد النبي صلى الله عليه وسلم سعة من المال؛ تولى سداد ديون المتوفين من الصحابة؛ حرصاً منه صلى الله عليه وسلم على براءة ذمتهم وسلامة عاقبتهم، فكان يقول:«من حمل من أمتي ديناً ثم جهد في قضائه ثم مات قبل أن يقضيه؛ فأنا وليه» (2) ويقول: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دَيناً فعلي قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته» (3).
قال النووي: " قيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان يقضيه من مال مصالح المسلمين، وقيل: من خالص مال نفسه .. ومعنى هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا قائم بمصالحكم في حياة أحدكم وموته، وأنا وليه في الحالين، فإن كان عليه دين قضيته من عندي إن لم يخلف وفاء، وإن كان له مال فهو لورثته لا آخذ منه شيئاً، وإن خلف عيالاً محتاجين ضائعين فليأتوا إلي، فعلي نفقتهم ومؤنتهم"(4).
(1) أخرجه النسائي ح (4684)، وأحمد ح (21987).
(2)
أخرجه أحمد ح (25211).
(3)
أخرجه البخاري ح (2297)، ومسلم ح (1619).
(4)
شرح النووي على صحيح مسلم (11/ 61).
ويرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته من بعده إلى طريقة تحفظ حقوق الناس عن الضياع وتعين المَدين على سداد دينه، ألا وهي كتابة الوصية التي يبين فيها المدين الحقوق المتعلقة برقبته، لتؤدى عنه لو مات قبل سدادها، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيتُه مكتوبة عنده» (1).
ولهذا الحديث نقل ابن المنذر عن أبي ثور أن الوصية واجبة على من عليه حق شرعي، يُخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به، كوديعةٍ ودَينٍ لله أو لآدمي (2).
وأما التنكر للدَين وجحده فذلك من أقبح الإثم وأرذله، فهو مقابلة للحسنة بضدها، وآكل حقوق الناس متوعد بالنار، على الصغير منها والكبير، فحين مات مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى كركرة، قال صلى الله عليه وسلم:«هو في النار» ، فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها (3).
وفي يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا: فلان
(1) أخرجه البخاري ح (2738)، ومسلم ح (1627).
(2)
انظر فتح الباري (5/ 359).
(3)
أخرجه البخاري ح (3074).
شهيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا إني رأيته في النار في بُردة غلَّها، أو في عباءة غلَّها» (1).
ويحوط النبي صلى الله عليه وسلم مسألة الإقراض بآداب منها ما يتعلق بالمقرِض، وفي أولها: أن يستشعر المقرض فضل الله عليه وتوسيعه عليه في رزقه؛ بما يعينه على عون إخوانه، فيقلبل النعمة بشكر الله والإخلاص له في هذا العمل، وتخليص النية مما يشينها من مراءاة الناس وانتظار تبجيلهم والتطلع إلى قولهم أو المِنَّة على المقترض، فهذا كله لا يصنعه من أراد بقرضه وجه الله تعالى وأجره في الدار الآخرة.
وأعظم ما ينبغي أن يتنزه عنه أكل الربا؛ باشتراط زيادة في المال عند السداد، فهذا من اكبر الكبائر، وصاحبه متوعد بالحرب من الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 278 - 279)، كما لا يجوز للمقرِض أن يستفيد من مدينه بمنافع أخرى سوى المال؛ كالهدايا وطلب
(1) أخرجه مسلم ح (114).
الشفاعات، وقد روي عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قولهم:«كل قرض جر نفعاً فهو رباً» (1).
وقد استنكر عبد الله بن سلام على بعض أهل المدينة النبوية قبولَهم الهدية من المقترِض، وعدَّه من الربا، فقال لأبي موسى الأشعري: إنك بأرض فيها الربا فاشٍ، فإذا كان لك على رجل حقٌ، فأهدى إليك حِمل تِبنٍ أو حِمل شعير أو حِمل قَتٍ؛ فلا تأخذْه. فإنه رباً» (2).
قال ابن القيم: "المنفعة التي تجر إلى الربا في القرض، هي التي تخص المقرِض، كسكنى دار المقترِض وركوبِ دوابه، واستعمالِه، وقَبولِ هديته، فإنه لا مصلحة للمقترض في ذلك، بخلاف المسائل ذات المنفعة المشتركة بينهما، وهما متعاونان عليها، فهي من جنس التعاون والمشاركة"(3).
ومن آداب المقرِض أن يكون حسن الاستقضاء إذا حل وقت السداد، فيطلب ماله بأحسن طريقة وأجمل سبيل، لا أن
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبدالله بن سلام وابن عباس موقوفاً (5/ 350)، والمرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح. انظر صحيح وضعيف الجامع الصغير ح (9728).
(2)
أخرجه البخاري ح (3814).
(3)
حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (9/ 297).
يفعل ما فعله الحبر اليهودي زيد بن سعنة مع النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء يطلب ماله، فأغلظ في مطالبته وأساء؛ حتى قام إليه عمر صلى الله عليه وسلم يريد أن ينال منه وأن يعلمه أدب الخطاب مع الأنبياء.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم بحلمه قال لعمر: «يا عمر، أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج: أن تأمرني بحسن القضاء، وتأمرَه بحسن التقاضي، انطلق يا عمر أوفه حقه، أما إنه قد بقي من أجله ثلاث، فزده [يا عمر] ثلاثين صاعاً لتزويرك عليه» (1).
وهنيئاً لمن رزقه الله حسن التقاضي، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب هذا الفعل بالرحمة، فقال:«رحم الله عبداً سمْحاً إذا باع، سمْحاً إذا اشترى، سمْحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى» (2).
وأسمح صور التقاضي وأحسنها؛ التجاوزُ عن المعسر وإنظارُه في الدَّين الذي حلَّ سدادُه، كما قال تعالى:{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة:280).
فإنظار المعسر من أفضل ما يتقرب به المسلم إلى ربه، وهو سبب في مغفرة الرب للعبد، يقول صلى الله عليه وسلم: «تلقت الملائكة روح
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه (2/ 37) والبيهقي في السنن (6/ 52).
(2)
أخرجه البخاري ح (2079).
رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئاً؟ قال: لا. قالوا: تذكر. قال: كنت أداين الناس، فآمر فتياني أن يُنظِروا المعسر ويتجوزوا عن الموسر، فقال الله عز وجل:«تجوزوا عنه» ، وفي رواية:«فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي» (1).
وفي تأكيد هذا المعنى أخرج مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه طلب غريماً له فتوارى عنه، ثم وجده، فقال الغريم: إني معسر. فقال أبو قتادة: آللهُ؟ قال الرجل: آلله. فقال أبو قتادة: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن ينجيه الله من كُرَب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضعْ عنه» (2).
ومن الكُرب التي يرفعها الله يوم القيامة المكث في حرِّه المديد الشديد، يقول صلى الله عليه وسلم:«من أنظر معسراً أو وضع له؛ أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يومَ لا ظلَ إلا ظِلُه» (3).
وفي إنظار المعسر أجرُ الصدقة بل ضعفُ أجرها، فقد سمع بريدة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من أنظر معسراً فله بكل يومٍ
(1) أخرجه البخاري ح (2077)، ومسلم ح (1560).
(2)
أخرجه مسلم ح (1563).
(3)
أخرجه الترمذي ح (136)، وأحمد ح (8494).
مثلِه صدقةٌ». ثم سمعه يقول: «من أنظر معسراً فله بكل يوم مِثليْه صدقة» .
فقال بريدة: يا رسول الله! إني سمعتك تقول: «فله بكل يومٍ مثلِه صدقة» ، ثم سمعتك تقول:«من أنظر معسراً فله بكل يوم مثليه صدقة» ، فقال صلى الله عليه وسلم:«له بكل يوم صدقة قبل أن يحِلَّ الدين، فإذا حلَّ الدين فأنظره، فله بكل يوم مِثليه صدقة» (1).
كما يعلم النبي صلى الله عليه وسلم المقترضَ جملةً من الآداب، أولُها: العجلةُ بتسديد الدَين وعدم تأخير السداد عند القدرة على القضاء، فهذا أقل ما نقابلُ فيه معروفَ الدائن {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن:60). وكيف تسمح للإنسان نفسُه أن يماطل في رد الحق إلى من أحسن إليه وفرج بماله كربَه، إنه بذلك يضع نفسه موضع التهمة والإثم، قال صلى الله عليه وسلم:«ليُّ الواجدِ يُحِلُّ عِرضَه وعقوبتَه» (2)، أي "يحِل عِرضه بأن يقول: ظلمني ومطلني، ويحل عقوبتَه أي الحبسُ والتعزير" (3).
(1) أخرجه أحمد ح (22537).
(2)
أخرجه النسائي ح (4689)، وأبو داود ح (3628)، وابن ماجه ح (2427)، وأحمد ح (18962).
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم (10/ 227).
وفي حديث آخر يعتبر صلى الله عليه وسلم التأخر في السداد مع القدرة عليه من الظلم المحرم، فيقول صلى الله عليه وسلم:«مطل الغني ظلم» (1)، وأما غير الواجد فليس بمأزور.
وإذا حان وقت السداد، ولم يجد المَدينُ ما يرد به دينه، فينبغي عليه أن يجتهدَ في الوفاء بالأجل الذي حدده للسداد، ولو أن يستدين من آخر ليرد للأول، وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه أعرابي يتقاضاه دَيناً كان عليه، فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى خولة بنت قيس، فقال لها:«إن كان عندَك تمر فأقرضيْنا حتى يأتيَنا تمرُنا؛ فنقضيكِ» ، فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله. فأقرضَتْهُ، فقضى الأعرابيَ (2).
ويحكي النبي صلى الله عليه وسلم قصة عجيبة في الحرص على قضاء الدين في أجله، يحكيها ليعلم أمته الحرص على سداد الدين والاجتهاد فيه، إنها قصة رجل من بني إسرائيل سأل بعضَ بني إسرائيل أن يُسلِفَه ألف دينار فقال: «ائتني بالشهداء أُشهِدُهم. فقال: كفى بالله شهيداً.
(1) أخرجه البخاري ح (2400)، ومسلم ح (1564).
(2)
أخرجه ابن ماجه ح (2426).
قال: فأتني بالكفيل. فقال: كفى بالله كفيلاً قال: صدقت.
فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر، فقضى حاجته، ثم التمس مركِباً يركبها يَقدَم عليه للأجل الذي أجَّله، فلم يجد مركباً، فأخذ خشَبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفةً منه إلى صاحبه، ثم زجَّج موضِعَها، ثم أتى بها إلى البحر فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلاناً ألف دينار فسألني كفيلاً فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً، فرضي بك، وإني جهَدت أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له، فلم أقدر، وإني أستودعُكَها. فرمى بها في البحر، وانصرف وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده.
فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة.
ثم قدِم الذي كان أسلفه (أي المدين)، فأتى بالألف دينار [وهو لا يظن أن ماله وصل] فقال: «والله ما زلت جاهداً في طلب مركبٍ لآتيك بمالك، فما وجدتُ مركباً قبل الذي أتيتُ فيه.
فقال: هل كنت بعثت إليَّ بشيء؟ فإن الله قد أدى عنك الذي بعثتَ في الخشبة، فانصرِفْ بالألف الدينار راشداً» (1).
ومن الآداب التي ينبه صلى الله عليه وسلم المقترض عليها؛ أن يرُد المَدينُ الدين بأفضل منه، من غير أن يكون هذا شرطاً عليه حين استدان، ولا عُرفاً لازماً تعارف الناس عليه، حتى لا يكون ذلك من الربا.
يقول جابر بنُ عبد الله رضي الله عنه: كان لي على النبي صلى الله عليه وسلم دين، فقضاني وزادني (2).
واستدان النبي صلى الله عليه وسلم من أعرابي، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب دينه بجفاء، فزجره الصحابة ورفَق به النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لأصحابه:«اشتروا له سِناً» ، فأعطوه إياه. فقالوا: إنا لا نجد إلا سِنَّاً هو خيرٌ من سِنِّه. قال: «فاشتروه، فأعطوه إياه، فإن من خيركم أحسنَكم قضاءً» .
وفي رواية أن الرجل قال: "أوفيتني أوفاك الله"(3).
(1) أخرجه البخاري في باب الكفالة في القروض.
(2)
أخرجه البخاري ح (2394)، ومسلم ح (715).
(3)
أخرجه البخاري ح (2390)، ومسلم ح (1601).
قال ابن حجر: "وفي الحديث جوازُ المطالبة بالدين إذا حلَّ أجلُه، وفيه حسنُ خلقِ النبي صلى الله عليه وسلم وعِظَم حِلمه، وتواضعُه وإنصافُه، وأن من عليه دين لا ينبغي له مجافاةُ صاحبِ الحق
…
وفيه جوازُ وفاء ما هو أفضل من المِثل المقترَض؛ إذا لم تقع شرطيةُ ذلك في العقد، فيحرم حينئذ اتفاقاً" (1).
ومما ينبغي للمَدين أن يشكر الدائنَ على إحسانه، ولو بكلمة طيبة؛ يشكر له فيها معروفه، وقد صنعه النبي كما ينقل لنا عبدالله بن أبي ربيعة بقوله: استقرض مني النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألفاً، فجاءه مال، فدفعه إلي، وقال:«بارك الله تعالى في أهلك ومالك» (2).
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: «إنما جزاءُ السلَف الحمدُ والأداءُ» (3).
وشرحه المناوي فرأى أنه ينبغي "حمدُ المقترِض للمقرِض والثناءُ عليه وأداءُ حقِه له، قال الغزالي: فيستحب للمَدين عند قضاء الدين أن يحمَد المقضيَّ له، بأن يقول: بارك الله لك في أهلك ومالك"(4)، فالدعاء للمحسن من أحسن صور مقابلة
(1) فتح الباري (5/ 57).
(2)
أخرجه النسائي ح (4683).
(3)
أخرجه النسائي ح (4683)، وابن ماجه ح (2424).
(4)
فيض القدير (2/ 573).
الإحسان، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«من صُنِعَ إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيراً؛ فقد أبلغ في الثناء» (1).
وهكذا ففي تلمس هدي النبي صلى الله عليه وسلم وامتثاله ما يحوط المجتمع من كثير من أسباب الشقاق، ويقارب بين المسلمين، فيحفظ إلفتهم ويزيد محبتهم، ويحقق أخوتهم، فهم كالجسد الواحد {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 63).
(1) أخرجه الترمذي ح (2035).