المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الخامس: سلامة المجتمع من الشقاق - الدين المعاملة

[منقذ السقار]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأول:معاملة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في بيته

- ‌المبحث الأول: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في عشرة النساء

- ‌المبحث الثاني: معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للأطفال

- ‌المبحث الثالث:معاملة النبي صلى الله عليه وسلم مع الخدم وصغار الموظفين

- ‌الفصل الثاني:معاملة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في حال الخطأ

- ‌المبحث الأول: القود من النفس

- ‌المبحث الثاني: التعامل مع المخطئ

- ‌الفصل الثالث:من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صناعة الشخصية المسلمة

- ‌المبحث الأول: آداب الممادحة

- ‌المبحث الثاني: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المزاح

- ‌المبحث الثالث:الوفاء للزوجة وأهل العشرة والمعروف

- ‌الفصل الرابع:من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صناعة المجتمع المسلم

- ‌المبحث الأول: الميزان في وزن الرجال

- ‌المبحث الثاني: صناعة المعروف

- ‌المبحث الثالث: الهدية

- ‌المبحث الرابع: آداب المداينة

- ‌المبحث الخامس: سلامة المجتمع من الشقاق

الفصل: ‌المبحث الخامس: سلامة المجتمع من الشقاق

‌المبحث الخامس: سلامة المجتمع من الشقاق

الاختلاف بين الناس أمر طبعي جِبلِّي، فمازال الناس يختلفون بسبب اختلاف طبائعهم وتصوراتهم للأمور، لكن هذا الاختلاف لا يصح أن يؤدي بالإخوة إلى التشاحن وفساد ذات البين، فالشقاق والتشاحن الذي يقع بين الناس إنما هو في حقيقته بعضُ كيد إبليس الذي يجعل الخلاف الصغير كبيراً، وما يزال ينفخ في أوداج الواحد فينا حتى يوغرَ صدره ويوقعَه في إخوانه، وقد نبه إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمُهم فتنة، يجيء أحدُهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا. فيقول: ما صنعتَ شيئاً حتى يجيء أحدُهم فيقول: ما تركته حتى فرقتُ بينه وبين امرأته. فيدنيه منه: ويقول: نِعمَ أنت» (1).

ولبيان مدى حرص الشيطان على الإفساد بين المسلمين نستمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «إن الشيطان قد أيِس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم» (2)، فهذا الحديث من المعجزات النبوية لما فيه من إخبار بالغيب،

(1) أخرجه مسلم ح (2813).

(2)

أخرجه مسلم ح (2812).

ص: 216

ومعناه: أن الشيطان " آيس [أي أصابه اليأس] أن يعبده أهل جزيرة العرب، ولكنه يسعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن ونحوِها"(1)، فالخصام بين المسلمين بعض كيد الشيطان {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (المائدة: 91).

والتفرق والشحناء بين المسلمين يفسد على المرء دينه، ويكفي أنه مانعٌ مغفرةَ الله لذنوب العباد، قال صلى الله عليه وسلم:«تفتَح أبواب الجنة يومَ الاثنين ويوم الخميس، فيُغفر لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئاً؛ إلا رجلاً كانت بينَه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا» (2).

قال الباجي: " يعني - والله أعلم - أخروا الغفران لهما حتى يصطلحا"(3).

وفي حديث آخر - وفي إسناده ضعف - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً: رجل أمَّ

(1) نقله عنه المباركفوري في تحفة الأحوذي (6/ 57).

(2)

أخرجه مسلم ح (2565).

(3)

المنتقى شرح الموطأ (4/ 301).

ص: 217

قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجُها عليها ساخط، وأخَوانِ متصارمان» (1) أي متشاحنان.

وفي مواجهة هذا الخطب الجلل؛ أمر الله بأمرين مهمين أولهما يقطع دابر الخصومة ويسد بابها، وهو حسن الظن بالعباد، والثاني هو الإصلاح بين المتخاصمين.

أولاً: حسن الظن بالآخرين

إن كثيراً من المشكلات التي تقع بيننا ليس مردها إلى أسباب حقيقية، بل ترجع إلى ظنون يقذفها الشيطان في صدورنا، ننساق إليها، فتكون سبباً في وقوع العداوة وزيادة الشقاق.

والأصل في المسلم السلامة من السوء، والبراءة من التهمة، فقد قال ابن عمر: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: «ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه، وأن يظن به إلا خيراً ًً» (2).

(1) أخرجه ابن ماجه ح (971).

(2)

أخرجه ابن ماجه ح (2932).

ص: 218

وقد ذم الله تعالى التعرض للمسلم بما يقدح في سلامته، ولو بالظن، إذا لم يكن لهذا الظن ما يبرره، فقال تعالى:{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12).

ورأى العلماء في الآية ما يشير إلى وجود ظن يأثم فيه المرء، وآخر لا يأثم فيه، فاجتهدوا في بيان الفرق بينهما، فقال عيسى بن دينار في الظن المذموم:"يريد ظن السوء ومعناه أن تعادي أهلك وصديقك على ظن تظنه به دون تحقيق، أو تحدث بأمر على ما تظنه فتنقله على أنك قد علمته"(1).

وهكذا فإن الحكم على الناس بمجرد الظن دون استدلال بدليل هو الظن الآثم، وقد قال عز وجل:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء: 36).

ومن الظن المحرم ما يؤدي بصاحبه إلى التجسس والتوثق للظنون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً» (2)، فالمراد "ترك تحقيق الظن

(1) المنتقى شرح الموطأ (4/ 299).

(2)

أخرجه مسلم ح (2563).

ص: 219

الذي يضر بالمظنون به، وكذا ما يقع في القلب بغير دليل، وذلك أن أوائل الظنون إنما هي خواطر لا يمكن دفعها، وما لا يُقدر عليه لا يُكلف به، ويؤيده حديث:«تجاوز الله للأمة عما حدثت به أنفسها» " (1).

قال البيهقي: "أراد أن ظن القبيح بالمسلم كهمزه، ولمزه والسخريةِ والهزء به نُهي عنه، وأخبر أنه إثم، ونهى عنه وعن التجسس، وهو تتبع أحواله في خلواته وجوف داره والتعرف لها، فإن ذلك إذا بلغه ساءه وشق عليه، فكان التعرض له من باب الأذى الذي لا موجب له، ولا مرخص فيه

قال سهل بن عبد الله: (من أراد أن يسلم من الغيبة، فليسد على نفسه باب الظنون، فمن سلم من الظن سلم من التجسس، ومن سلم من التجسس سلم من الغيبة، ومن سلم من الغيبة سلم من الزور، ومن سلم من الزور سلم من البهتان)(2).

ومثل هذا المعنى ورد في حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد فيه ضعف؛ لكن معناه صحيح، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الإنسان ثلاثة: الطيرة، والظن، والحسد، فمخرجه

(1) فتح الباري (10/ 481).

(2)

انظر البيهقي في شعب الإيمان (5/ 294، 316).

ص: 220

من الطيرة أن لا يرجع، ومخرجه من الظن ألا يحقق، ومخرجه من الحسد أن لا يبغي» (1).

ومما ينبغي أيضاً الابتعاد عما يجلب سوء الظن ويؤدي إليه، فليس من الحكمة أن يضع المرء نفسه في مواطن الشبهة ثم ينتظر من الناس أن يتلمسوا له المعاذير، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان أبعد الناس عن مواطن الشبهة وسوء الظن، فهو النبي الذي يؤمن الناس بعصمته وتزكيته من قبل ربه، لكنه ورغم ذلك سعى في إظهار براءة حاله وسلامته، لما أتته زوجته صفية تزوره في معتكفه في المسجد في اعتكافه في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت معه ساعة، ثم قامت تريد بيتها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يرافقها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم:«على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي» .

فقالا: سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً» (2)، وفيه "بيان شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته

(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 63)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير ح (8437).

(2)

أخرجه البخاري (2035).

ص: 221

وإرشادهم إلى ما يدفع عنهم الإثم. وفيه التحرز من التعرض لسوء الظن والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار، قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكد في حق العلماء ومن يُقتدى به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب سوء الظن بهم وإن كان لهم فيه مَخلص، لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم" (1).

أما من قصد مواضع الشبهات فقد أحل عرضه واستحق سوء الظن فيه، كمن دخل إلى مكان يظن بداخله السوء أو صاحَبَ الفساق والفجار أو غاب عن الجمع والجماعات، قال ابن بطال:"سوء الظن جائز عن أهل العلم لمن كان مظهراً للقبيح ومجانباً لأهل الصلاح وغير مشاهد في الصلوات في الجماعة، وقد قال ابن عمر: (كنا إذا فقدنا الرجل فى صلاة العشاء والصبح أسأنا الظن به) "(2).

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من تعرض للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن، ومن كتم سره كان الخيار إليه، ومن أفشاه كان الخيار عليه، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً، وأنت

(1) فتح الباري (4/ 280).

(2)

شرح ابن بطال (9/ 226)، والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ح (3353)، والبيهقي في سننه (3/ 59).

ص: 222

تجد لها في الخير محملاً، وكن في اكتساب الإخوان فإنهم جنة عند الرخاء وعدة عند البلاء، وآخ الإخوان على قدر التقوى، وشاور في أمرك الذين يخافون الله) (1).

ومما يحسن التنبيه عليه أنه شاع على ألسنة بعض العوام أحاديث منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى بعض أصحابه تدعو إلى إساءة الظن بالناس طلباً للسلامة منهم، فهذه الآثار لا تصح، وإن وجهها بعض العلماء وحملها على معاني جميلة.

ومن ذلك ما نسب إليه صلى الله عليه وسلم: «الحزم سوء الظن» ، ومثله:«احترسوا من الناس بسوء الظن» ، وهذان الحديثان حكم عليهما العلماء بالضعف الشديد. قال الألباني عن كليهما:"ضعيف جداً"، ثم قال عن الثاني منهما:"ثم إن الحديث منكر عندي؛ لمخالفته للأحاديث الكثيرة التي يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها المسلمين بأن لا يسيئوا الظن بإخوانهم"(2).

ثانياً: الإصلاح بين المتخاصمين

وأما إذا وقعت الخصومة وأوقع الشيطان الإخوة في شباكه فإن الله يأمر المجتمع المسلم إلى المسارعة في الإصلاح

(1) أخرجه أبو داود في كتابه "الزهد" ح (83).

(2)

السلسلة الضعيفة (1/ 288).

ص: 223

بين المتخاصمين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10)، وقد اعتبره من خير القرب والأفعال:{لَاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (النساء: 114)، وكذا قال رسوله صلى الله عليه وسلم:«ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة» . قالوا: بلى. قال: «صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، وفي رواية: «لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين» (1).

قال الطِّيبي: "في الحديث حث وترغيب في إصلاح ذات البين واجتناب الإفساد فيها، لأن الإصلاح سببٌ للاعتصام بحبل الله وعدمِ التفرق بين المسلمين، وفسادُ ذات البين ثُلمة في الدين، فمن تعاطى إصلاحها ورفع فسادها؛ نال درجةً فوق ما يناله الصائمُ القائم المشتغل بخاصة نفسه"(2).

(1) أخرجه الترمذي ح (2509).

(2)

عون المعبود (13/ 178).

ص: 224

قال الأوزاعي: "ما خطوةٌ أحبُ إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءةً من النار".

وقد سارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الخصلة الجليلة، لما سمع أن بعض أصحابه من أهل قُباء اقتتلوا حتى ترامَوا بالحجارة فقال صلى الله عليه وسلم:«اذهبوا بنا نصلحُ بينهم» (1)، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم للإصلاح بينهم مما أخره عن صلاة الجماعة التي ليست بأعظمَ من الإصلاح بين المسلمين.

قال ابن حجر: " في هذا الحديث فضل الإصلاح بين الناس وجمعِ كلمة القبيلة وحسمِ مادة القطيعة وتوجهِ الإمام بنفسه إلى بعض رعيته لذلك، وفيه تقديمُ مثلِ ذلك على مصلحة الإمامة بنفسه"(2).

قال ابن بطال: "فيه: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع والخضوع والحرص على قطع الخلاف وحسم دواعِي الفُرقة عن أمته كما وصفه الله تعالى"(3).

(1) أخرجه البخاري ح (2639).

(2)

فتح الباري (2/ 169).

(3)

شرح ابن بطال (8/ 84).

ص: 225

كما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى حين حاول الإصلاح بين مغيث وزوجته السابقة بَريرة، فقد فارقته، وكان يحبها.

يقول ابن عباس: كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي، ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس:«يا عباسُ، ألا تعجب من حب مُغيثٍ بريرةَ، ومن بغضِ بريرةَ مُغيثاً؟!» .

وقد رفِق النبي صلى الله عليه وسلم بمغيثٍ، فذهب إلى بريرة يشفع لزوجها عندها، لعلها ترجعُ إليه، فذهب إليها وقال لها:«لو راجعتِه» فقالت بريرة: يا رسول الله تأمرني؟ فأجابها صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا أشفع» . فقالت: لا حاجة لي فيه (1).

ولأهمية الإصلاح بين الناس، أجاز النبي صلى الله عليه وسلم الكذب بين المتخاصمين بقصد الإصلاح، كأن يذكر على لسان أحد المتخاصمَين مدحاً لخصمه وثناء عليه، من غير أن يكون هذا قوله حقيقة، قال صلى الله عليه وسلم:«ليس بالكاذب من أصلح بين الناس، فقال خيراً، أو نَمَى خيراً» (2).

تقول أم كلثوم بنت عقبة: (ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الرجل يقول القول

(1) أخرجه البخاري ح (5283).

(2)

أخرجه الترمذي ح (1938).

ص: 226

يريد به الإصلاح، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته، والمرأة تحدث زوجها) (1).

قال ابن العربي: الكذب في هذا وأمثاله جائز بالنص رفقاً بالمسلمين لحاجتهم إليه" (2).

وهكذا يتبين حرص النبي صلى الله عليه وسلم على سلامة المجتمع المسلم من منغصات الأخوة ومبطلات الاعمال الصالحات، وفي الإذعان لهديه سعادة المسلم في دنياه وأخراه.

(1) أخرجه أحمد ح (26731).

(2)

فيض القدير (5/ 377).

ص: 227

خاتمة

إن نظرة متأملة إلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخرى إلى حياتنا تكشف للبليد قبل الحصيف البون الشاسع الذي يفصلنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ولست أبالغ إذا قلت: إنه يصدق فينا ما قاله أبو الدرداء عن زمن التابعين - وهو فينا أبين وأصدق -: (لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم إليكم ما عرف شيئاً مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة).

لقد اصطفى الله من قبل بني إسرائيل وآتاهم الكتاب والملك والسؤدد {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} (الجاثية:16)، {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ} (الأعراف:173)، فلما خالفوا منهج الله وتنكبوا هدي رسله نزع الله منهم الاصطفاء، وغيَّر حالهم إلى أبأس حال {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} (البقرة: 61)، وهكذا فسنن الله لا تتخلف، ولن تحابينا إذا تنكبنا شرع الله وأعرضنا عن هدي

ص: 229

رسوله صلى الله عليه وسلم {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43).

إذا تبين هذا عرفنا سبب تغيير الله حالنا {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 53)، فهذا الحال جزاء حيدتنا عن دين الله، وعقوبة الله إنما ترفع بالتوبة «إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» ، وفي رواية أحمد:«ليلزمنكم الله مذلة فى أعناقكم، ثم لا تنزع منكم حتى ترجعون إلى ما كنتم عليه وتتوبون إلى الله» (1).

واللهَ أسأل أن يرجعنا إلى ديننا، وأن يغفر الذنب الذي لأجله سلط علينا أعداءنا، كما أسأله تبارك وتعالى أن يقيمنا على سنته صلى الله عليه وسلم، وأن يحشرنا تحت لوائه، في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(1) أخرجه أبو داود ح (3462)، وأحمد ح (27573).

ص: 230

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم.

- تاريخ الأمم والملوك، ابن جرير الطبري (ت 311هـ)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط2، دار المعارف، مصر.

- تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (ت 774هـ)، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ.

- جامع البيان في تفسير القرآن، ابن جرير الطبري (ت 311هـ)، ط2، دار المعرفة، بيروت.

- الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، محمد بن سورة الترمذي (ت 279هـ)، تحقيق: أحمد شاكر، المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة.

- الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله القرطبي (ت 671هـ)، دار الكتب العربية، بيروت، 1413هـ.

- زاد المسير في علم التفسير، جمال الدين عبد الرحمن بن علي الجوزي (ت 597هـ)، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.

- السلسلة الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض.

- سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني (ت275هـ)

ص: 231

تحقيق وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، ط1، دار إحياء الكتب العربية.

- سنن أبي داود، أبو داود السجستاني (ت 275هـ)، دار الحديث، 1391هـ.

- سنن النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت 303هـ)، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، ط2، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1406هـ.

- شرح ابن بطال على صحيح البخاري (ت 449هـ)، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، ط2، مكتبة الرشد، الرياض، 1423هـ.

- شرح النووي على صحيح مسلم، يحيى بن شرف النووي (ت 676هـ)، ط1، عالم الكتب، الرياض، 1424هـ.

- الشفا بتعريف حقوق المصطفى، أبو الفضل عياض اليحصبي (ت 544هـ)، دار الفكر الطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1409هـ.

- صحيح ابن حبان، أبو حاتم البستي، (ت 354هـ) ترتيب: علاء الدين بن بلبان، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، وحسين أسد، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1404هـ.

- صحيح ابن خزيمة، محمد بن خزيمة (ت311هـ)، تحقيق:

ص: 232

محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي.

- صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ)، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، في تحقيقه لكتاب فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، ط2، القاهرة، دار الريان للتراث، 1407هـ.

- صحيح الترغيب والترهيب، محمد ناصر الدين الألباني، ط5، الرياض، مكتبة المعارف.

- صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري (ت 261هـ)، ترقيم: محمد فؤاد الباقي، ط1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1375هـ.

- عمدة القاري، بدر الدين العيني (ت 855هـ)، دار الفكر.

- عون المعبود شرح سنن أبي داود، أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي (ت 1329هـ)، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ.

- فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852هـ)، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ط2، دار الريان للتراث، القاهرة، 1407هـ.

- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807هـ)، دار الفكر، بيروت، 1412 هـ.

ص: 233

- المستدرك على الصحيحين، أبو عبدالله محمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري (ت 401هـ)، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411هـ.

- المسند، أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني (ت 241هـ)، دار إحياء التراث العربي، 1991م.

- مشكاة المصابيح، محمد الخطيب التبريزي (ت 737هـ)، تحقيق: محمد ناصر الألباني، ط3، المكتب الإسلامي، بيروت، 1405هـ.

- المصنف، أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211هـ)، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط2، المكتب الإسلامي، بيروت، 1403هـ.

- المعجم الكبير، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني (ت 360هـ)، تحقيق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي، ط2، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، 1404هـ.

ص: 234