الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: آداب الممادحة
مما شاع بين الناس اليوم تمادحهم في المجالس وعلى صفحات الجرائد وفي شاشات الفضائيات، وهذا التمادح بعضه بحق، وكثير منه جاوز الحق وجافاه.
وبداية نقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم مُدح في وجهه، ومدَح هو بعضَ أصحابه في وجوههم، مما يدل على جواز المدح، إذا أُمنت الفتنة منه على الممدوح.
ومن صور ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف يوماً بين أصحابه، فقال:«من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير. فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة» .
قال أبو بكر صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من هذه الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«نعم وأرجو أن تكون منهم» (1)،
(1) أخرجه البخاري ح (1897)، ومسلم ح (1027).
فهذا مدح من النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في حضوره، و"فيه من الفقه: أنه يجوز الثناء على الناس بما فيهم على وجه الإعلام بصفاتهم، لتُعرف لهم سابقتُهم وتقدمُهم في الفضل، فينزلوا منازلهم، ويُقدَّموا على من لايساويهم، ويُقتدى بهم في الخير، ولو لم يجز وصفُهم بالخير والثناءُ عليهم بأحوالهم لم يُعلم أهل الفضل من غيرهم، ألا ترى أن النبي عليه السلام خص أصحابه بخواص من الفضائل بانُوا بها عن سائر الناس وعُرفوا بها إلى يوم القيامة " (1).
ومدح النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب في حضوره فقال: «ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك» (2)، "وهذا من جملة المدح، لكنه لما كان صدقاً محضاً وكان الممدوح يؤمن معه الإعجاب والكبر مدح به، ولا يدخل ذلك في المنع، ومن جملة ذلك الأحاديثُ المتقدمة في مناقب الصحابة ووصف كل واحد منهم بما وصِف به من الأوصاف الجميلة"(3).
(1) شرح ابن بطال (9/ 255).
(2)
أخرجه البخاري ح (3683)، ومسلم ح (2397).
(3)
فتح الباري، ابن حجر (10/ 479).
ولا يخلو التمادح والثناء على الناس من فوائد، ففيه استنهاض للهمم وتذكير بحق الله بالحمد والشكر على نعمة الذكر الحسن والشهادة الصادقة من المؤمنين، فعن أبي ذر رضي الله عنه أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أريت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «تلك عاجل بشرى المؤمن» (1).
قال النووي: "قال العلماء: معناه هذه البشرى المعجلة له بالخير، وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه، ومحبته له، فيحببه إلى الخلق
…
هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم، وإلا فالتعرض مذموم" (2).
وهكذا فإن مدح الإنسان في وجهه جائز، إذا أُمنت غائلة هذا المدح، وانضبطت بالضوابط التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تجنب هذه الظاهرة ما تستخره من الفتنة والغرور وفساد قلبه.
وقد استحب العلماء لمن مُدح أن يتواضع لله، وأن يستشعر ضعفه وتقصيره، حتى لا يغلب عليه الكبر والعجب،
(1) أخرجه مسلم ح (2642).
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 189).
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا أُثني عليهم يقولون: (اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون)(1)، وقال بعض السلف:(اللهم إنَّ هؤلاء لا يعرفوني، وأنت تعرفني)(2).
التمادح المذموم:
ولترشيد ظاهرة التمادح نتأمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم لنقف على المواطن التي يذم فيها مدح الآخرين والثناء عليهم.
وأولها: عدم المدح في حضور الممدوح إذا ظُن أن يؤدي إلى مفاسد تَضر به، كأن تصيبه بالإعجاب أو الغرور، أو غيره من الآفات القلبية، فإن ذلك من الفتنة والإهلاك، لذا لما سمع صلى الله عليه وسلم رجلاً يثني على رجلٍ ويطريه في المدح في حضوره، فقال:«أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل» (3).
قال ابن بطال: "حاصل النهي هنا أنه إذا أفرط في مدح آخر بما ليس فيه، لم يأمن على الممدوح العجب لظنه أنه بتلك
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد ح (761)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ح (589).
(2)
أخرجه أبو نعيم في الحلية عن واحد من السلف لم يسمه (6/ 224).
(3)
أخرجه البخاري ح (2663)، ومسلم ح (3001).
المنزلة، فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالاً على ما وصف به" (1).
وفي مثل هذه الحالة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحثي التراب في وجه المادح، ففي حديث المقداد رضي الله عنه أن رجلاً جعل يمدح عثمان رضي الله عنه، فعمد المقداد، فجثا على ركبتيه، فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب» (2).
وهذه الأخبار التي تمنع المدح وتذمه لا تتعارض مع ما ذكرناه من أخبار تقتضي الإباحة، فقد جُمع بينهما "أنه إن كان عند الممدوح كمال إيمان وحسن يقين ورياضة، بحيث لا يفتن ولا يغتر ولا تلعب به نفسه، فلا يحرم ولا يكره، وإن خيف عليه شيء من ذلك كره مدحه"(3).
وأخرج الإمام أحمد أن معاوية كان لا يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات اللاتي يحدث بهن عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن يرد الله به خيراً يفقه في الدين، وإن هذا المال حلو خضر، فمن يأخذه
(1) فتح الباري (10/ 477).
(2)
أخرجه مسلم ح (3002).
(3)
المجموع، النووي (4/ 651).
بحقه يبارك له فيه، وإياكم والتمادح؛ فإنه الذبح» (1)، وذلك "لما فيه من الآفة في دين المادح والممدوح، وسماه ذبحاً لأنه يميت القلب، فيخرج من دينه، وفيه ذبح للممدوح، فإنه يغره بأحواله، ويغريه بالعجب والكبر، ويرى نفسه أهلاً للمِدْحة، سيما إذا كان من أبناء الدنيا أصحاب النفوس وعبيد الهوى"(2).
وثانيها: أن يؤدي المدح إلى المبالغة، فيحمل من الإطراء ما جاوز الحقيقة أو خرج عن حده إلى التكلف، وقد كرهه النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع من بعض المسلمين ثناء عليه متكلفاً، فقد قيل له: يا سيدَنا وابنَ سيدِنا، ويا خيرَنا وابنَ خيرِنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا أيها الناس عليكم بتقواكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بنُ عبدِ الله، عبدُ الله ورسولُه، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» (3).
وفي موقف آخر جاءه رجل فقال: أنت سيد قريش. فقال صلى الله عليه وسلم: «السيد الله» فقال الرجل: أنت أفضلُها فيها قولاً،
(1) أخرجه أحمد ح (16395)، وابن ماجه ح (3733)، وحسن الألباني إسناده في صحيح ابن ماجه ح (3017).
(2)
فيض القدير، المناوي (3/ 167).
(3)
أخرجه أحمد ح (12141).
وأعظمُها فيها طولاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ليقل أحدكم بقوله، ولا يستجرُه الشيطان» (1).
وفي موقف ثالث سمع النبي صلى الله عليه وسلم جارية تغني بشعر في ندب من مات في بدر، فلما قالت: وفينا نبي يعلم ما في غد؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين» (2) أي من الشعر الذي لا إطراء فيه، وفي هذا الحديث "جواز مدح الرجل في وجهه ما لم يخرج إلى ما ليس فيه .. وإنما أنكر عليها ما ذكر من الإطراء حين أطلق علم الغيب له، وهو صفة تختص بالله تعالى"(3).
لقد رفض صلى الله عليه وسلم كل صور الثناء والمبالغة في المدح، الذي يجاوز الحقيقة فقال محذراً وناهياً:«لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابنَ مريم، فإنما أنا عبدٌ، فقولوا عبد الله ورسوله» (4)، أي:"لاتصفوني بما ليس لي من الصفات تلتمسون بذلك مدحي، كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله، فكفروا بذلك وضلوا"(5).
(1) أخرجه أحمد ح (15872).
(2)
أخرجه البخاري ح (4001).
(3)
فتح الباري، ابن حجر (9/ 203).
(4)
أخرجه البخاري ح (3445).
(5)
شرح ابن بطال (9/ 254).
وفي هذا براءة نبوية من كثير مما يصنعه ويقوله عنه بعض المسلمين، كادعاء بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم يعرف الغيب، أو أنه يحضر بعض مجالسهم ومحافلهم، أو أنه يقدر على دفع الضر أو جلب النفع لهم وهو ميت في قبره، وغيرها مما لم يثبت له ولا عنه صلى الله عليه وسلم.
وقد اتفق أن خسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابنُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعض الصحابة: إنها خسفت لموت إبراهيم، وهو ربط غير صحيح ينطوي على الإطراء والمبالغة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب الناس ونبههم على خطأِ ربطهم، فقال:«إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة» (1).
وأما ثالث المواضع التي يذم فيها المدح؛ فهو مدح الظالمين، كرئيسِ شركة يظلم عماله أو مديرِ مصنع يأكل حقوق مستخدميه، أو حاكم يظلم شعبه، فالثناء على أمثال هؤلاء يغُرهم ويغريهم بالمزيد من الظلم، وهذا ما يجعل المادح شريكاً في الظلم ومعيناً عليه، وقد قال تعالى:{وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} (هود: 113).
(1) أخرجه البخاري ح (1046)، ومسلم ح (901).
ويزداد الأمر سوءاً إذا كان المدح بالباطل وطمعاً فيما عند الممدوح من متاع الدنيا، وهذا من الكذب الذي حرمه الله، وقد كتب معاوية إلى أمِ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها: أن اكتبي إلي كتاباً توصيني فيه، ولا تكثري علي، فكتبت له رضي الله عنها: سلام عليك، أما بعد، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس» (1).
وفي رواية موقوفة على عائشة أنها قالت: (من أرضى الله بسخط الناس رضي عنه الله وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس ذاّمّاً)(2).
قال الغزالي: "آفة المدح في المادح أنه قد يكذب، وقد يرائي الممدوحَ بمدحه، ولا سيما إن كان فاسقاً أو ظالماً"(3).
وأما رابع صور المدح المذموم فهو مدح الرجل بما لا يدري حقيقته على وجه الجزم، كالحكم على معَيَّن أنه من
(1) أخرجه الترمذي ح (2414).
(2)
أخرجه ابن ابي شيبة ح (7/ 267).
(3)
نقله عنه ابن حجر في فتح الباري (10/ 478).
الصالحين أو الأتقياء، وهذا مما لا يمكن لأحد القطع فيه، فهو غيب لا يعرفه إلا الله، لذلك ينبغي أن يضيف المادح ما يعلق مدحه بالظن، كقوله: أحسبه تقياً، أو أظنه من الصالحين.
وهذا الأدب سبق إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمادح عنده: «إن كان أحدكم مادحاً لا محالة فليقل: أحسب كذا وكذا، إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يُزكي على الله أحداً» (1)، أي "لا أقطع على عاقبة أحد ولا على ما في ضميره لكون ذلك مُغيباً عنه، وجيء بذلك بلفظ الخبر «ولا يزكي على الله أحداً» ومعناه النهي، أي لا تزكوا أحداً على الله، لأنه أعلم بكم منكم"(2).
ولو أصخنا السمع إلى خبرة رجل جرب الحياة وخبَرها، لرأينا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسدي النصح لأولئك المسارعين بالمدح والثناء على الآخرين بحق وبغير حق، فقد سمع رضي الله عنه رجلاً يثني على آخر، فقال له عمر:(أسافرت معه؟) قال: لا، قال:(أخالطته في المبايعة؟) قال: لا، قال:(فأنت جاره صباحُه ومساؤه؟) قال: لا، فقال عمر:(والله الذي لا إله إلا هو ما أراك تعرفه)(3).
(1) أخرجه البخاري ح (6061)، ومسلم ح (3000).
(2)
فتح الباري، ابن حجر (10/ 477).
(3)
إحياء علوم الدين (3/ 160).
وإذا كان المدح للناس شهادة نشهدها لهم بين يدي الله علام الغيوب، وشهادة لهم عند الناس، تُبنى عليها بيوت أو تجارات أو غيرُها من المصالح، فحري بالمسلم أن لا يشهد إلا عن علم، وأن لا يشهد إلا بحق، وأن ينأى عن الإطراء والمبالغة، والقطع بما لا يعلم، فهذه من آفات المدح التي تجعله مذموماً.