المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: القود من النفس - الدين المعاملة

[منقذ السقار]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأول:معاملة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في بيته

- ‌المبحث الأول: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في عشرة النساء

- ‌المبحث الثاني: معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للأطفال

- ‌المبحث الثالث:معاملة النبي صلى الله عليه وسلم مع الخدم وصغار الموظفين

- ‌الفصل الثاني:معاملة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في حال الخطأ

- ‌المبحث الأول: القود من النفس

- ‌المبحث الثاني: التعامل مع المخطئ

- ‌الفصل الثالث:من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صناعة الشخصية المسلمة

- ‌المبحث الأول: آداب الممادحة

- ‌المبحث الثاني: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المزاح

- ‌المبحث الثالث:الوفاء للزوجة وأهل العشرة والمعروف

- ‌الفصل الرابع:من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صناعة المجتمع المسلم

- ‌المبحث الأول: الميزان في وزن الرجال

- ‌المبحث الثاني: صناعة المعروف

- ‌المبحث الثالث: الهدية

- ‌المبحث الرابع: آداب المداينة

- ‌المبحث الخامس: سلامة المجتمع من الشقاق

الفصل: ‌المبحث الأول: القود من النفس

‌المبحث الأول: القود من النفس

كلٌ منا يخطئ في حق الآخرين، فلربما أخذ شيئاً من أموالهم بغير حق، ولربما استطال عليهم بالضرب أو السخرية أو الهمز واللمز، وكل ذلك مسجل علينا في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولسوف نوفى قصاصَه يومَ القيامة بين يدي الله الحكمِ العدلِ.

والعاقل الحصيف هو من يتخلص من هذه الذنوب والمظالم في الدنيا باسترضاء أصحابها وطلب صفحهم ومسامحتهم، أو بتمكين المظلومين من القود منه والأخذِ بقدر مظلمتهم، فهذا خير له من أن يأتي يوم القيامة مع المفلسين «المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه؛ أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» (1) فهذا مصير البطالين الذين ما عرفوا قدر الله ولا خافوا جزاءه.

(1) أخرجه مسلم ح (2581).

ص: 49

وأما المؤمن فيَفْرَق من عقاب الله وحسابه، فيتقيه بخصلة جميلة، وهي العدل والإنصاف من النفس والاعتراف بالحق والتراجع عن الظلم؛ هذه فضائل أمر بها الله في القرآن {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} (النحل: 90)، والتزمها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان خلقه القرآن.

قال المناوي: "والإنصاف من نفسك أي معاملة غيرك بالعدل والقسط، بحيث تحكم له على نفسك بما يجب له"(1).

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوف الناس لربه وأخشاهم له، وكان أحرصهم على أن يلقى الله وليس لأحد عليه مظلمة، وهذا بيّن وجلي لمن تدبر أحواله صلى الله عليه وسلم التي أنصف من نفسه، فلقي الله وليس لأحد في رقبته حق يسأله عنه يوم القيامة.

فقبيل وفاته صلى الله عليه وسلم وُعِك، فعصب رأسه، وأخذ بيدي الفضل، فأقبل حتى جلس على المنبر، ثم خطب فقال: «أما بعد، أيها الناس، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، وإنه قد دنا مني خُفُوق من بين أظهركم [أي اقترب موته صلى الله عليه وسلم]، فمن كنتُ جلدتُ له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن

(1) فيض القدير، المناوي (1/ 644).

ص: 50

كنتُ شتمتُ له عرضاً فهذا عرضي فليستقدْ منه، ومن كنتُ أخذتُ له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه» (1).

وحذراً من استحياء الصحابة عن المطالبة بحقوقهم قال لهم صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن رجل: إني أخشى الشحناء من قِبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حقاً إن كان له، أو حللني فلقيتُ الله وأنا طيب النفس» (2).

ولما سمع الصحابة تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على تذكيره بحقوقهم، وأن ذلك مدعاة لمحبته صلى الله عليه وسلم قام رجل فقال: يا رسول الله، إن لي عندك ثلاثة دراهم.

فقال صلى الله عليه وسلم: «أما أنا فلا أكذب قائلاً، ولا أستحلفه على يمين، فيم كانت لك عندي؟» فقال: يا رسول الله أتذكر يوم مر بك المسكين، فأمرتني، فأعطيتُه ثلاثة دراهم، فقال صلى الله عليه وسلم مخاطباً ابن عمه الفضل بن العباس:«يا فضل أعطه» (3).

(1) أخرجه البزار في مسنده. انظر البحر الزخار ح (2154).

(2)

أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح (15119)، وعبد الرزاق في مصنفه ح (18043).

(3)

أخرجه أبو يعلى في مسنده ح (6675).

ص: 51

وفي يوم بدر، وبينما النبي صلى الله عليه وسلم يعدل صفوف أصحابه بقدح في يده؛ مر بسواد بن غزية وهو خارج من الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال:«استو يا سواد» ، فقال: يا رسول الله! أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، فأقدني.

وهنا يقف التاريخ على أطراف قدميه ليرى فعل هذا النبي القائد، جنديُه يطالبه القود أمام شعبه ورعيته، الذين تثور في مخيلتهم مآثر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، فهو رحمة الله لهم، استنقذهم الله به من النار، فهل يمكن بعد هذا أن يضرب صلى الله عليه وسلم وهو حبيب رب العالمين؟ هل سيسلم أشرف الخلق وخاتم النبيين نفسه لميزان العدل الذي ما زال يدعو إليه منذ أن بعثه الله؟

نعم، لقد كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال:«استقد» .

لكن سواداً كان أعرف الناس بحق النبي صلى الله عليه وسلم وفضله على الناس، فأقبل على بطن النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّلها.

فيتساءل النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على هذا يا سواد؟» ألا تريد القود والنصف والعدل، فدونك بطني، وخذ حقك قبل الوقوف بين يدي العظيم الذي يحسب عنده الحقير والقطمير، فقال سواد: يا رسول الله، حضر ما ترى من القتال، فأردت أن

ص: 52

يكون آخر العهد بك: أن يمس جلدي جلدَك (1)، درس بليغ في الحب والعدل، لا يتسامى إلى عليائه إلا العظماء.

وفي موطن ثالث، وبينما النبي صلى الله عليه وسلم يمازح أسيدَ بن حضير؛ طعنه في خاصرته بعود، فقال أسيد: أصبرني. [أي أقدني من نفسك].

فما تريث النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر وما تلكأ، بل قال:«اصطبر» [أي استقد].

أما أسيد فقد أغراه ما يعرفه من عدل النبي صلى الله عليه وسلم وإنصافه لطلب المزيد من النصفة، فقال: يا رسول الله، إن عليك قميصاً، وليس علي قميص؟!

فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه إحقاقاً للعدل، فاحتضنه أسيد، وجعل يقبل كشحه، ويقول: إنما أردت هذا يا رسول الله (2).

وهكذا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى بأساً أن يقيد من نفسه في سبيل طلب الصفح والسلامة في الآخرة، وهو الذي غفر الله

(1) أخرجه ابن إسحاق في السيرة. سيرة ابن هشام (2/ 266)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (2835).

(2)

أخرجه البيهقي في السنن (7/ 102).

ص: 53

له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهل ترانا نصنع هذا مع من نخطئ عليهم في حياتنا اليومية؟ أولسنا أحوج إلى هذا من نبينا صلى الله عليه وسلم؟

واستدان النبي صلى الله عليه وسلم من الحبر اليهودي زيد بن سعنة، وقبل حلول أجل الدين بثلاثة أيام أقبل الحَبر يتقاضاه، فجبذ ثوب النبي صلى الله عليه وسلم عن منكبه الأيمن، ثم قال: إنكم يا بني عبد المطلب أصحاب مَطلْ [أي مماطلة وتأخير في رد الدين]، وإني بكم لعارف.

فانتهره عمر لسوء أدبه وغلظته وفجاجته، وقال:(يا يهودي، أتفعل هذا برسول الله، فو الذى بعثه بالحق لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك)، أفهكذا يطلب صاحب الحق حقه ممن لا يجحده ولا يتلكأ في أدائه؟! أنسي حبر اليهود أنه يعيش في المدينة بأمان محمد صلى الله عليه وسلم وذِمَّته؟ أهكذا تتحدث السوقة مع الخاصة؟ أما كفاه سلاطة لسانه وقلة أدبه حتى تجرأ بجذب ثوب النبي صلى الله عليه وسلم؟

لكنه صلى الله عليه وسلم نهر عمر، وقال له بإنصاف المؤمن وحِلمِه والبسمة تملأ وجهه الشريف:«يا عمر، أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج: أن تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي، انطلق يا عمر أوفه حقه» .

ص: 54

ولم يقف صلى الله عليه وسلم عند مقتضى العدل، بل قال:«أما إنه قد بقي من أجله ثلاث، فزده [يا عمر] ثلاثين صاعاً لتزويرك عليه» (1).

ويروي لنا أبو هريرة مشهداً آخر مشابهاً، فيذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم اقترض من رجل، فجاء صاحب الدين إلى النبي فأغلظ له في القول، فهمَّ به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن لصاحب الحق مقالاً، فقال لهم: اشتروا له سناً فأعطوه إياه» .

فقالوا: إنا لا نجد إلا سناً هو خير من سنه. قال: «فاشتروه، فأعطوه إياه، فإن من خيركم أو خيرَكم أحسنكم قضاء» (2).

وإن من أقاد من نفسه وأعطى العدل منها لهو من باب أولى يعطيه من قومه وعشيرته وأصحابه، وهو ما صنعه الأسوة الحسنة صلى الله عليه وسلم حين بعث أبا جهم بن حذيفة لأخذ الصدقة من بني ليث، فلاجَّه رجل في صدقته، فضربه أبو جهم فشجه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: القود يا رسول الله؟!

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عليهم الصلح، فيقول:«لكم كذا وكذا» ، فلم يرضوا.

(1) أخرجه الحاكم في مستدركه (2/ 37)، والبيهقي في السنن (6/ 52).

(2)

أخرجه البخاري ح (2306)، ومسلم ح (1601)، واللفظ له.

ص: 55

فقال: «لكم كذا وكذا» ، فلم يرضوا فقال:«لكم كذا وكذا» ، فرضوا

ثم صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر، فأخبر الناس بخبر الليثيين، وأنهم لم يرضوا أول الأمر، فقام المهاجرون وهموا بهم سوءاً لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفهم، ثم دعا الليثيين، فقال:«أرضيتم؟» ، فقالوا: نعم (1).

وقد فقه الصحابة هذا المبدأ العظيم من العدل والإنصاف من النفس، فوقف عمر يخطب الناس زمن خلافته فقال: أيها الناس، إني ما أُرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، وإنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنةَ نبيكم، فمن فُعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنَّه منه.

فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، لو أن رجلاً أدب بعض رعيته أتقصه منه؟ قال: إي والذي نفسي بيده أقصه، وكيف لا أقصه وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقصُّ من نفسه (2).

(1) أخرجه أبو داود ح (4534)، وابن ماجه ح (2638)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود ح (3801).

(2)

أخرجه أبو داود ح (4537)، وأحمد ح (288)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود ح (980).

ص: 56

ويؤكد ابن شهاب الزهري على شهرة هذا الخلق الكريم بين الصحابة، فيقول:"إن أبا بكرٍ الصديق وعمرَ بنَ الخطاب وعثمانَ بنَ عفان رضي الله عنهم أعطوا القَوَد من أنفسهم وهم سلاطين، فلم يُستقَد منهم"(1).

وهكذا، فإن الحصيف من الناس يطلب السلامة في آخرته، فيتحلل من المظالم أو يردها، خشية أن يحاسب عليها يوم القيامة، وأسوته في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم القائل:«من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهمٌ إلا الحسناتُ والسيئاتُ» (2).

(1) ذكره البيهقي في السنن الكبرى (8/ 50).

(2)

أخرجه البخاري ح (2429).

ص: 57