الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: صناعة المعروف
صناعة المعروف خَصلة جليلة وخَلَّة كريمة، وهي خدمة الآخرين وقضاء حوائجهم المختلفة ونفعُهم بصور النفع المختلفة، كالإطعامِ وسقاية الماء وسدادِ الديون، أو الإصلاحِ بين المتهاجرين منهم، أو بذلِ الشفاعةِ والجاه، أو سائرِ المصالح التي يحتاجها الناس، وهو ما نسميه صناعة المعروف للآخرين.
وقضاء حوائج الناس خَلّة كريمة صنعها الأنبياء من قبل، وقد دعا الله عز وجل حبيبه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من بعده إلى الاقتداء بهم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90).
وهم صلوات الله وسلامه عليهم كانوا أكثر الناس نفعاً للخلق، فهذا موسى عليه السلام يسقي للمرأتين المديانيتين {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (القصص: 23 - 24).
وأما عيسى عليه السلام فيقول عن نفسه: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} (مريم: 31) أي جعلني نفاعاً للناس أينما اتجهت وحللت.
ونبينا صلى الله عليه وسلم كان أكثرَ الناس نفعاً للآخرين وأشدَهم حرصاً على قضاء الحوائج، فقد قيل لعائشة رضي الله عنها: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو قاعد؟ قالت: (نعم، بعد ما حطمه الناس) أي أتعبوه بكثرة حوائجهم التي يقضيها لهم صلى الله عليه وسلم (1).
وتصفه أم المؤمنين خديجة في أول بعثته، فتقول:«والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتُكسِب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» (2).
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم نفاعاً للناس حتى حطمه الناس بقضاء حوائجهم، وكيف لا يكون كذلك، وهو صلى الله عليه وسلم القائل:«أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً (في مسجده بالمدينة المنورة) .. ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام» (3).
(1) أخرجه مسلم ح (732).
(2)
أخرجه البخاري ح (4)، ومسلم ح (160).
(3)
أخرجه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج، وحسّن الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة ح (906).
ومن قضائه لحوائج الناس ما رواه مسلم من قصة امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عقلها شيء فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فلم يضجر النبي صلى الله عليه وسلم منها لخفة عقلها، بل قال:«يا أم فلان، انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك» ، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها (1).
ويصفه عبد الله بن أبي أوفى بقوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثِر الذكر، ويُقِل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصِّر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين، فيقضيَ له الحاجة)(2).
فضل صناعة المعروف:
وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في صناعة المعروف، لأنها عبادة لا غناء لنا عنها، نحتاجها في منافع الدنيا قبل الآخرة، إذ هي سبب في قضاء حاجاتنا وتفريج كروبنا، قال صلى الله عليه وسلم:«من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» (3).
(1) أخرجه مسلم ح (2326).
(2)
أخرجه النسائي ح (1414)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح ح (5833).
(3)
أخرجه البخاري ح (2442)، ومسلم ح (2580).
ويخبر الأسوة الحسنة صلى الله عليه وسلم أن الله يدفع بصناعة المعروف ميتة السوء التي كثرت في هذا الزمان بين موت فجأة وحادث طريق، وغير هذا وذاك:«صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب» (1).
ويعتبر النبي صلى الله عليه وسلم صُنَّاع المعروف مفاتيحَ للخير، ويرغب أمته أن تكون على هذا الوصف الجليل بقوله:«إن من الناس مفاتيحَ للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيحَ للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل اللهُ مفاتيحَ الخير على يديه، وويل لمن جعل اللهُ مفاتيح الشر على يديه» (2).
ويحكي النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه قصة أقوام عملوا القليل من صناعة المعروف، فكان جزاؤهم كبيراً عند الله، من هؤلاء رجل أزال الأذى من الطريق «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخذه، فشكر الله له فغفر له» (3)،
(1) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح (8014)، وحسّن الهيثمي إسناده في مجمع الزوائد (3/ 115).
(2)
أخرجه ابن ماجه ح (237)، وحسنه الألباني بطرقه في السلسلة الصحيحة ح (1322).
(3)
أخرجه البخاري ح (2471)، ومسلم ح (1914).
وفي رواية: «لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس» (1).
كما يحكي صلى الله عليه وسلم قصة رجل آخر صنع معروفاً لحيوان فدخل الجنة: «بينا رجل بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبَ من العطش مثلُ الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له» ، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً؟ فأجابهم صلى الله عليه وسلم:«في كل ذات كبد رطبة أجر» (2).
وأما ثالث الناجين بصناعة المعروف فرجل سمح يداين الناس ويصبر عليهم في السداد، ويحكي النبي صلى الله عليه وسلم قصته فيقول:«تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئاً؟ قال: لا. قالوا: تذكر. قال: كنت أداين الناس، فآمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجوزوا عن الموسر، فقال الله عز وجل: «تجوزوا عنه» ، وفي رواية:«فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي» (3).
(1) أخرجه مسلم ح (1914).
(2)
أخرجه البخاري ح (2466)، ومسلم ح (2244).
(3)
أخرجه البخاري ح (2077)، ومسلم ح (1560).
قال النووي: "وفي هذه الأحاديث فضل إنظار المعسر، والوضع عنه إما كل الدين، وإما بعضه من كثير أو قليل، وفيه فضل المسامحة في الاقتضاء وفي الاستيفاء؛ سواء استوفي من موسر أو معسر، وفضل الوضع من الدين، وأنه لا يُحتقر شيء من أفعال الخير؛ فلعله سبب السعادة والرحمة"(1).
ويؤكد صلى الله عليه وسلم على أهمية وفضل صناعة المعروف، فكل عَظْم من عِظام الإنسانِ ينبغي أن يُتصدق عنه، وصناعة المعروف هي صدقة من الإنسان على الآخرين، وفيها أيضاً بعض أداء حق الله المنعِم، قال صلى الله عليه وسلم:«كلُ سُلامى عليه صدقة، كل يوم يعين الرجل في دابته يُحامله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، ودل الطريق صدقة» (2).
وهكذا فصناعة المعروف للآخرين نوع من الصدقة عليهم وعلى النفس، وهي أيضاً شكر للنعمة التي أسداها الله لصانع المعروف، فعن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (10/ 224).
(2)
أخرجه البخاري ح (2891)، ومسلم ح (1009).
«على كل مسلم صدقة» فقالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد؟ قال:«يعمل بيده، فينفع نفسه ويتصدق» .
قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «يعين ذا الحاجة الملهوف» قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «فليعمل بالمعروف، وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة» (1).
وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تُفرغ من دلوك في إناء أخيك» (2).
وصناعة المعروف معاملة مع الله قبل أن تكون معاملةً مع الخلق، لذا يبذل المعروف للإنسان ولو كان كافراً، وقد وصف الله المؤمنين بقوله:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} (الإنسان: 7 - 10).
(1) أخرجه البخاري ح (1445)، ومسلم ح (1008).
(2)
أخرجه الترمذي ح (1970).
فقوله: {وَأَسِيراً} يقصد به الأسير الكافر ولاريب، فالآية توصي بإطعامه الطعام على حبه، قال ابن عباس:"كان أُسراؤهم يومئذ مشركين".
وعقَّب ابن كثير بالقول: "يشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأُسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء"(1).
بل ويبذل المعروف للحيوان أيضاً، فكل ذلك صدقة، يقول صلى الله عليه وسلم:«ما من مسلم يغرِس غرساً إلا كان ما أُكِل منه له صدقة، وما سُرق منه له صدقة، وما أَكل السبُع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطيرُ فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحدٌ [أي يسأله] إلا كان له صدقة» (2).
وقد صنع النبي صلى الله عليه وسلم المعروف للحيوان، ولم يمنعه عن ذلك كثرة أعبائه ومشاغله، فقد دخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبيَ صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذِفراه فسكت فقال:«من ربُ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟» فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله
(1) تفسير القرآن العظيم (4/ 584).
(2)
أخرجه مسلم ح (1552).
فقال: «أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئِبُه» (1).
التقصير في صناعة المعروف:
وصناعة المعروف تتراوح في حكمها بين المندوب والواجب، بحسب المعروف والحاجة إليه، لذا فالبخل بصناعة المعروف أحياناً والامتناع عن بذله من مهلكات الأمور، لذا ما فتئت آيات القرآن الكريم تحذر منه، فياللعجب كيف يقصر بعض المسلمين في خدمة الآخرين وهو يسمع آيات القرآن تحكي الوعيد لمن صنع ذلك:{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (الماعون: 4 - 7).
قال الشوكاني: " قال أكثر المفسرين: {الْمَاعُونَ}: اسم لما يتعاوزه الناس بينهم: من الدلو والفأس والقِدر، وما لا يمنع كالماء والملح"(2).
وفي دركات النار وأَتونها يُسأل أصحابها عن سبب دخولهم النار، فيقال لهم:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} فيجيبون
(1) أخرجه أبو داود ح (2549).
(2)
فتح القدير (5/ 712).
بأن سبب ذلك أمور، من بينها أنهم بخلوا بمعروفهم عن المساكين:{قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} (المدثر: 41 - 44).
وفي آية أخرى يعدد الله سواءت أهل النار؛ فإذا من بينها ترك صناعة المعروف: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} (الحاقة: 34 - 35).
والذين يقصرون في صناعة المعروف يعاتبهم الله يوم القيامة، ففي الحديث القدسي أن: «الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده.
يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي.
يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي» (1).
قال النووي: "قال العلماء: إنما أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى، والمراد العبد تشريفاً للعبد وتقريباً له. قالوا: ومعنى «وجدتني عنده» أي: وجدت ثوابي وكرامتي، ويدل عليه قوله تعالى في تمام الحديث: «لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، لو أسقيته لوجدت ذلك عندي» أي ثوابه"(2).
وأكد صلى الله عليه وسلم على خسران وبوار المقصرين في صناعة المعروف في خبر يرويه الصحابي الجليل أنس بنُ مالك رضي الله عنه فيقول: استشهد رجل منا يوم أُحد، فوجِد على بطنه صخرةٌ مربوطة من الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت: هنيئاً لك يا بنيَّ الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريكِ، فلعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، ويمنع ما لا يضره» (3)، وكأني به صلى الله عليه وسلم يقول: إن مما يمنع المرء عن دخول الجنة منع المعروف الذي لا يضره
(1) أخرجه مسلم ح (2569).
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 126).
(3)
أخرجه الترمذي ح (2316)، وأبو يعلى ح (3908)، واللفظ له.
بذله، ولم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشهادة بعدم دخول الجنة لهذا الصحابي الذي استشهد وهو رابطٌ حجراً على بطنه من شدة الجوع.
لكنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يعلمنا أن مما يحجب المرء عن الجنة خصلتان يقع فيهما كثير من الناس، وهما: الثرثرة والكلام فيما لا فائدة منه، ومنع المعروف عن الآخرين والتقصير في بذله.
ومن الوعيد الذي يتوعد الله به أولئك المقصرين في صناعة المعروف - فيما زاد عن حاجتهم ولا يضرهم نقصه - ما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم» فذكر منهم «ورجل منع فضل ماء، فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك» (1).
قال ابن بطال: "وفيه عقوبة من منع ابن السبيل فضل ماء عنده، ويدخل في معنى الحديث منع غير الماء وكل ما بالناس الحاجة إليه"(2).
(1) أخرجه البخاري ح (2369).
(2)
شرح ابن بطال (8/ 279).
ومن الفضل والمعروف ما يكون بين الجيران، كأن يحتاج الجار إلى بعض منافع دار الجار التي لا يضره بذلها، يقول صلى الله عليه وسلم:«لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره» (1).
لكن أبا هريرة رأى من بعض التابعين استثقالاً وإعراضاً عن هذا الأمر من صناعة المعروف، فقال:(ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم).
قال العلماء: "وكل ما طلبه جاره من فتح باب وإرفاق بماء أو مختلف في طريق، أو فتح طريق في غير موضعه وشبهِ ذلك؛ فلا ينبغي في الترغيب أن يمنعه مما لا يضره ولا ينفعه ولا يحكم به عليه"(2).
وهكذا فالتقصير في صناعة المعروف سبب للملامة في الدنيا والعقوبة في الآخرة، وبخاصة إذا كان بخلاً بما لا يحتاجه، أو بما تشتد إليه حاجة الآخرين.
آداب صناعة المعروف:
وصناعة المعروف عبادة أحاطها النبي صلى الله عليه وسلم بآداب تضبطها وتحافظ عليها، وأولها أن يعي المسلمون أن بذل المعروف
(1) أخرجه البخاري ح (2463)، ومسلم ح (1609).
(2)
المنتقى شرح الموطأ (4/ 42).
معاملة مع الله، لا توزن بالقلة والكثرة، بل تحمد عند الله على كل حال، فقليلها عنده كثير، وهين العمل عند الرب الكريم كبير «فاتقوا النار ولو بشق تمرة» (1).
يقول جابر بن سليم الهُجيميّ: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إنّا قوم من أهل البادية، فعلّمنا شيئًا ينفعنا الله تبارك وتعالى به؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«لا تحقرنّ من المعروف شيئًا؛ ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلّم أخاك ووجهك إليه منبسط» (2).
وبمثل هذا التعليم لأهل البادية علم صلى الله عليه وسلم أهل الحضر، فقال:«يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» (3).
ويعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم قبول هذا القليل وعدم انتقاصه في حديث آخر، فيقول:«لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت» (4).
(1) أخرجه البخاري ح (1417)، ومسلم ح (1016).
(2)
أخرجه أحمد ح (20110).
(3)
أخرجه البخاري ح (2566)، ومسلم ح (1030).
(4)
أخرجه البخاري ح (2568).
قال ابن حجر: "وفي الحديث دليل على حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وتواضعه وجبره لقلوب الناس، وعلى قبول الهدية وإجابة من يدعو الرجل إلى منزله، ولو علم أن الذي يدعوه إليه شيء قليل"(1).
وأحياناً يُخذِّل الشيطان الواحد منا عن صنع المعروف، بحجة أن من نصنع له المعروف قد لا يكون محتاجاً، فقد يكون مدعياً كذاباً اعتاد التسول واحترفه، لكن ينبغي أن لا ننسى أنه قد يكون صادقاً محتاجاً، فلا يصح أن نمتنع عن بذل المعروف، فنعاقب المحتاج بجريرة الكذاب.
وحتى يتجاوز المسلم هذا التخذيل الشيطاني ويستمر في بذل المعروف؛ يسوق صلى الله عليه وسلم قصة رجل تصدق على غير مستحق للصدقة، وقبِل الله صدقته التي وقعت مرة في يد غني، وأخرى في يد تستحق القطع (سارق)، وثالثة في يد آثمة لامرأة زانية، يقول صلى الله عليه وسلم: «قال رجل: لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصدِّق على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة.
(1) فتح الباري (9/ 246).
فخرج بصدقته فوضعها في يدي زانية، فأصبحوا يتحدثون: تُصدِّق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية، لأتصدقن بصدقة.
فخرج بصدقته فوضعها في يدي غني فأصبحوا يتحدثون: تُصدِّق على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على سارق، وعلى زانية، وعلى غني.
فأُتي فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله» (1).
قال ابن بطال: "إن الصدقة إذا خرجت من مال المتصدق على نية الصدقة، أنها جازية عنه حيث وقعت ممن بسط إليها إذا كان مسلماً بدليل هذا الحديث"(2).
وكما حث النبي على صناعة المعروف، فإنه حذر مما يحبطه ويبطل ثوابه كتلبسه المنَّ والأذى، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (البقرة: 264).
(1) أخرجه البخاري ح (1421)، ومسلم ح (1022).
(2)
شرح ابن بطال (3/ 423).
ولأجل ذلك يحب الله من عباده إخفاء صدقاتهم ومعروفهم قال تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} (البقرة: 271)، فالعبد الذي يُسِر بعمله يحبه الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم:«إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء» (1)، ويوم القيامة يحشرهم في ظلال عرشه، في يوم لا ظل فيه إلا ظله، فقد ورد في حديث السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» (2).
بذل الشفاعة باب من صناعة المعروف:
ومن صور صناعة المعروف ما لا يكلف مالاً، ومقصودي بذلُ الشفاعة والجاه بغية كشف كرُبات الناس وحلِّ مشكلاتهم، وقد صنعه صلى الله عليه وسلم سعياً في تفريج هموم الناس والتخفيف من معاناتهم، من ذلك شفاعته لعبد يدعى مُغيث عند زوجته السابقة بَريرة، والقصة يرويها البخاري، وفيها أن زوجَ بريرة كان عبداً يقال له مغيث، وكان يحبها، ففارقته.
(1) أخرجه الحاكم (1/ 44)، وابن ماجه ح (3989).
(2)
أخرجه البخاري ح (660)، ومسلم ح (1031).
يقول ابن عباس وهو يصور حال هذا الزوج المحب لزوجته السابقة: كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي، ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس:«يا عباسُ ألا تعجب من حب مغيثٍ بريرةَ، ومن بغضِ بريرةَ مغيثاً؟!» .
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم رفِق بهذا المحب؛ فذهب إلى بريرة يشفع لزوجها عندها، لعلها ترجعُ إليه، فقال لها:«لو راجعتِه» فقالت بريرة: يا رسول الله تأمرني؟ فأجابها صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا أشفع» . فقالت: لا حاجة لي فيه (1).
ويعلم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ممارسة الشفاعة والتوسط للناس في قضاء الحوائج بطريقة عملية، كان إذا جاءه السائل أو طُلبت إليه حاجة يقول:«اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء» (2)، وفي رواية:«إنَّ الرجل ليسألني الشيء، فأمنعُه حتى تشفعوا فيه؛ فتُؤجروا» (3).
قال ابن بطال: "الشفاعة في الصدقة وسائر أفعال البر، مرغَّب فيها، مندوب إليها، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم: «اشفعوا
(1) أخرجه البخاري ح (5283).
(2)
أخرجه البخاري ح (1432)، ومسلم ح (2627).
(3)
أخرجه النسائي ح (2557)، وأبو داود ح (5132).
تؤجروا»، فندب أمته إلى السعي في حوائج الناس، وشرط الأجر على ذلك، ودَلَّ قوله صلى الله عليه وسلم:«ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء» أن الساعي مأجور على كل حال، وإن خاب سعيه ولم تنجح طُلبتُه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» " (1).
لكن الشفاعة لا تمدح مطلقاً، فإن منها ما هو حسن يحبه الله ويثيب عليه ويجعلُ صاحبه شريكاً في الأجر، وإن منها ما يَمقُته الله ويجعل صاحبها شريكاً في الوزر، وهي الشفاعة السيئة، قال الله تعالى:{مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} (النساء: 85).
ويشرح الإمام الشوكاني الفرق بين الشفاعتين بقوله: "والشفاعة الحسنة هي: في البرّ والطاعة. والشفاعة السيئة في المعاصي، فمن شفع في الخير لينفع؛ فله نصيب منها، أي: من أجرها، ومن شَفَع في الشر، كمن يسعى بالنميمة والغيبة كان له كفل منها، أي: نصيب من وزرها"(2).
(1) شرح ابن بطال (3/ 434)، والحديث أخرجه مسلم ح (2669).
(2)
فتح القدير (1/ 743).
فالشفاعة الحسنة هي التوسط والسعي في قضاء حوائج الناس من غير الإضرار بمصالح الآخرين وحاجاتهم، وأما الشفاعة السيئة فهي السعي بتحقيق مصالح البعض على حساب الآخرين، كما لو تقدم بعضهم لوظيفة يتنافسون عليها، فشفَع لأحدهم ليقدم على الآخرين بغير موجب إلا معرفته لوجيه شفع له، فهذه من الشفاعة السيئة، لأنها أضرت بالآخرين.
ومن الشفاعة السيئة ما أدى إلى ضياع حقوق الناس وأكلها، كالتوسط والشفاعة في دفع حدود الله عند الحاكم والقاضي، وقد نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين رفض شفاعة أسامةَ بنِ زيد في المرأة المخزومية التي سرقت، وقال لأسامة:«أتشفع في حد من حدود الله؟!» .
ثم قام فخطب الناس وقال: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيْمُ الله لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقت؛ لقطعتُ يدها» (1).
(1) أخرجه البخاري ح (3475)، ومسلم ح (1688).
وحين يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة، فإنه يوصينا بأمر آخر لا غناء لنا عنه، وهو الإخلاص فيها لله عز وجل، فحين نشفع لأحدهم ونتوسط له؛ فإنا لا نصنع ذلك ترقباً لنفع دنيوي، كأن يهدي لنا أو أن يتوسطَ لنا في قابل الأيام، أو أن يذكرَنا الناس بالذكر الحسن، فيصفوننا بالشهامة وكثرة الخير، فطلبُ هذه الأمور مما يحبط العمل ويبطل ثوابه، فالله يريد منا الإخلاص في العمل له تبارك وتعالى:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} (الإنسان: 9 - 12).
وحتى يبقى هذا العمل خالصاً لوجه الله مجرداً من طمع الدنيا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يحذر الشافع من أخذ شيء من الأجرة عليه في الدنيا، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها؛ فقبلها، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا» (1).
ومن أراد أن يستوضح منزلة الإخلاص، فليسمع إلى الحوار الذي جرى بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعدي بن حاتمٍ الطائي الذي كان يضرب به المثل في الكرم، فقد جاء عدي بن حاتم
(1) أخرجه أبو داود ح (3541).
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن المعروف والخير الذي كان يصنعه أبوه في الجاهلية ابتغاء المدح والذكر الحسن، فقال صلى الله عليه وسلم:«إن أباك أراد شيئاً فأدركه» (1) أي طلب الأجر من الناس بالثناء، فنال أجره، فليس له عند الله شيء.
وهكذا فإن صناعة المعروف خصلة فاضلة نقدم فيها النفع والخير للناس {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج: 77)، وهي خَلة شريفة إيجابية يتصدق بها المرء على نفسه أولاً ثم على أصحاب الحاجات ثانياً؛ إنها بعض عطاء الإسلام للحضارة الإنسانية، وبعض تنميته للإنسان، فما أحوجنا إلى هدي الإسلام في زمن طغت فيه الأثرة والأنانية وحب الذات.
(1) أخرجه أحمد ح (1888).