المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الحالف يكره شرطين وجوديين: - الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق - جـ ١

[ابن تيمية]

الفصل: ‌ الحالف يكره شرطين وجوديين:

لا جملة أخرى لم تخطر بباله، وبسط هذا له موضع آخر

(1)

.

والمقصود هنا: أَنَّ الشرط قد يتقدم وقد يتأخر، لكن المنفي فيه مثبت في صيغة القسم والمثبت فيه منفي؛ فقول القائل لِيُرَغِّبَ عبده في فعلٍ: إِنْ فعلتَ هذا فأنت حر، كقوله: إِنْ أعطيتني ألفًا فأنت حر، وإِنْ قتلتَ عدوي فلانًا فأنت حر، كما قال جبير بن مطعم

(2)

لغلامه وحشي: إِنْ قتلتَ حمزة فأنت حر، ونحو ذلك من باب التعليق الذي يقصد به الشرط والجزاء جميعًا، كقول الناذر: إِنْ شفى الله مريضي فعبدي حر، وهذا إيقاع للعتق عند الصفة، ليس بحلف بالعتق عند أحد من العقلاء لا من الفقهاء ولا غيرهم.

فإنَّ‌

‌ الحالف يكره شرطين وجوديين:

يَكرهُ الشرط ويَكرهُ الجزاءَ عنده؛ كقوله: إِنْ كلمتُ فلانًا فعبيدي أحرار ونسائي طوالق، وإذا كان الشرط منفيًا كقول ليلى بنت العجماء: إِنْ لم أفرق بينكما فكل مملوك لي حر وعليَّ المشي وأنا يومًا يهودية ويومًا نصرانية؛ فالشرط عدم هذه الأمور وهو يكره هذا العدم ويريد وجود نقيضه وهو التفريق؛ فالشرط في اليمين أبدًا مكروه والجزاء أيضًا مكروه، فإن كان الشرط ثبوتيًا كُرِهَ ثبوته وأريد عدمه، وإِنْ كان عدميًا كره عدمه وأريد وجوده، والجزاء مكروه وإن تحقق الشرط.

وقوله: إِنْ قتلتَ عدوي فلانًا فأنت حر؛ كقول سيد وحشي له: إِنْ قتلتَ

(1)

مجموع الفتاوى (6/ 225)(7/ 454، 460)(8/ 426)(17/ 196)(20/ 490)، شرح الأصبهانية (ص 257 وما بعدها).

وانظر: بدائع الفوائد (1/ 186).

(2)

في الأصل: (طعيمة بن عدي)، وصوابه ما أثبتُّ كما تقدم التنبيه عليه.

ص: 68

حمزة فأنت حر = هو فيه مريدٌ للشرط الذي هو قتل حمزة، وقد جعل العتق لازمًا له، وإرادة الملزوم تستلزم إرادة اللازم؛ كسائر من يعلق العتق بشرط يريد وجوده، فإنَّ هذا يقع به العتق، ولم ينازع أحدٌ في هذا؛ بل ذَكَرَ غيرُ واحدٍ الإجماعَ على وقوعِ العتقِ المعلَّقِ بالصفةِ المقصودةِ والعتقِ المعلَّقِ إذا قُصِدَ إيقاعه عند الصفة

(1)

، وإنما النزاع فيما إذا عَلق العتق قاصدًا [21/ ب] لليمين كقوله: إِنْ لم أُفَرِّق بينك وبين امرأتك فعبدي حر، وإنْ فعلتَ كذا فكل مملوك لي حر.

ومنه إذا قال: والله لا أبيع هذا المملوك وإن بعته فهو حر، وقصده ألا يبيعه وألا يكون حرًّا = فهذا حالفٌ؛ فيه النزاع: هل يكفِّر يمينه أم لا يكفِّر؟ والذين قالوا: لا يكفر اضطربوا؛ هل يَعتق أو لا يَعتِق أو يَعتِق إذا شرط الخيار؟ وكلُّ قولٍ فيها ضعيف، لأنَّ الرجل لم يقصد أن يعتقه بعد خروجه من ملكه إلى ملك المشتري، ولا يقصد هذا عاقل، وليس هذا كالتدبير؛ فإنَّ الذين قالوا يَعْتِق شبهوه بالمدبَّر، لأنَّ المدبَّر لم ينتقل إلى ملك الورثة بل عتق عقب الموت، والتدبير منعه من الانتقال.

وهنا إذا قال: إِنْ بعتك فأنت حر؛ فإنْ أراد البيع الشرعي اللازم، فالبيع الشرعي اللازم لا يكون إلا ناقلًا للملك إلى المشتري، وإن أراد بالبيع التلفظ ببيع لا ينقل الملك لم يكن هذا بيعًا، بل كان بمنزلة بيع المجنون والمحجور عليه وغيرهما. وبعد هذا إذا قال لغيره: بعتك، وقال الآخر: قبلت ــ إِنْ كان هذا بيعًا ــ فقد صار له موجَبان متضادان: انتقاله إلى المشتري وعتقه، بخلاف موت سيد المدبَّر؛ فإنَّ موته لم يوجب انتقاله إلى الورثة مع

(1)

انظر ما سيأتي (ص 416).

ص: 69

عتقه، بل لولا العتق لانتقل إلى الورثة مع وجود السبب وهو الموت، وهنا إذا عتق لم يكن هناك بيع أصلًا؛ وحقيقة كلامه: إذا بعتك فلا بعتك أو إذا بعتك لم أكن بعتك، فقد عَلَّقَ على الشرط نقيض موجبه، والنقيضان لا يجتمعان، وهو لو قصد هذا المعنى فقال: إذا بعتك لم أكن بعتك لم يلتفت إليه، بل إذا باعه انتقل إلى المشتري.

وأيضًا؛ فمثل هذا يكون لاعبًا بالمشتري هازئًا به، وذلك لأنه لم يقصد أن يعتقه إذا باعه، وإنما قصد ألا يبيعه، وجعل العتق لازمًا لبيعه لكراهته عتقه وإن وجد البيع، لا لإرادته عتقه إذا وجد البيع، وهو بمنزلة قوله: إِنْ بعتك فثمنك عليَّ حرام، فإذا باعَهُ لم يحرم ثمنه عليه، لكن عليه كفارة يمين في أظهر قولي العلماء وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما، كما لو قال ابتداءً: ثمنك عليَّ حرام، ومراده أنه لا يبيعه، وأما إِنْ كان مراده التزام عتقه فهذا نذر لعتقه.

ومن قال: إنه لا يعتق لكونه [22/ أ] قد خرج عن ملكه بالبيع إما مطلقًا، وإما إذا لم يكن للمشتري خيارٌ، أو كان ثَمَّ خيار وقيل

(1)

ذلك للمشتري؟

فيقال له: هَبْ أَنَّ البيع سبب لنقل الملك إلى المشتري، فهو ــ أيضًا ــ سبب لزوال الرق وثبوت الحرية، وتعليق العتق مُقَدَّم؛ فَلِمَ قُدِّمَ أَحَدُ المسبَّبَين دون الآخر وكلاهما ثبت بقوله؟ فهذا الذي جعل البيع مستلزمًا لعتقه وهو الذي باع بيعًا يكون ناقلًا للملك.

وأما قول بني لحيان لسرية عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح: لكم العهد

(1)

الكلمة غير منقوطة في الأصل.

ص: 70

والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلًا. فقال عاصم: أَمَّا أنا فلا أنزل في ذمة كافر؛ فهذا كقول يعقوب ــ عليه السلام ــ: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف: 66]، ومسألة قول القائل: عَليَّ عهدُ الله وميثاقه لأفعلنَّ كذا= وهذا يمين.

وأما قوله: (فوجه الاستدلال من هاتين القصتين: أَنَّ المقصود بهذين التعليقين

(1)

الحث على تحصيل الشرط من القتل والنزول، فهو يشبه قوله: إن لم أفعل

(2)

كذا فأنت حر، فلو كان ذلك التعليق لا يترتب عليه الحرية

(3)

ولم يحصل مشروطه لكان هنا كذلك لا يترتب عليه عتق وحشي ولا حصول الذمة لسرية عاصم، وهو خلاف ما فهموه وفهمه كُلُّ أَحَدٍ، وهم أهل اللسان وَصِحَابُهُ ــ أعني: سرية عاصم ــ، فليس يخفى عنهم مدلول اللفظ لغة وشرعًا، وكذلك ما لا يحصى من الشروط الواردة في الكتاب والسنة).

فيقال له: لم يقل أحد إن كُلَّ ما يُقصد به الحث على تحصيل الشرط يكون يمينًا، كقوله: إِنْ لم أفعل كذا فأنت حر، ولا يقول هذا عاقل، بل الناس كلهم يُفَرِّقُونَ بين قوله: إِنْ قتلتَ عدوي فأنت حر، وبين قوله: إِنْ لم أفعل كذا وكذا فأنت حر، ويعلمون أَنَّ الأول عَلَّقَ العتقَ على قتل عدوِّهِ، ومقصودُهُ أَنْ يقتل عدوَّه ويعتِق إذا قتله، فهو يقصد الشرط ويريد وقوع

(1)

من قوله: (أنَّ المقصود) إلى هنا غير موجود في الأصل، والمثبت من «التحقيق» ، وقد تقدم ذكرها في أول الفصل.

(2)

في «التحقيق» : (تفعل).

(3)

في «التحقيق» : (الكفارة).

ص: 71

الجزاء إذا وقع، والثاني كارهٌ

(1)

للشرط الذي هو عدم الفعل مريدٌ لنقيضه وهو الفعل، وكارهٌ للحريَّةِ وَإِنْ وجد الشرط، كقول ليلى بنت العجماء: إِنْ لم أُفَرِّق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لي حر

(2)

.

وكذلك قوله: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل أحدًا منكم؛ فمعناه: نعاهدكم بالله إن نزلتم إلينا ألا نقتل، ونعطيكم عهد الله وميثاقه إن [22/ ب] نزلتم ألا نقتل، فهو بمنزلة مَنْ حلف لا يقتل زيدًا إذا أتى إليه.

وإذا عَبَّرَ عن هذا بصيغة الشرط قيل فيه: إن نزلت إليَّ فلك العهد والميثاق ألا أقتلك، فهو إثبات للعهد والميثاق إذا وجد الشرط، وهو تعليق للجزاء المقصود على الشرط المقصود، وهو يشبه قوله: لكَ عهد الله وميثاقه لئن أديت إليَّ ألفًا لأُعتقنَّك، وقوله: لكِ عهد الله وميثاقه لئن أديتِ إليَّ ألفًا لأطلقنَّك.

ولو قصد الإيقاع عند الشرط لوقع، فلو قال: إن أديتَ إليَّ ألفًا فأنت حر أو إن أديتِ إليَّ ألفًا فأنت طالق؛ وقع الطلاق والعتاق إذا وجد الشرط، كما لو قال الناذر: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ عتق رقبة أو فعبدي حر أو فعليَّ الحجُّ، فإنه إن وجد الشرط وجد الجزاء.

بخلاف قوله: إِنْ سافرتُ معكم أو إن كلمت فلانًا فعليَّ عتق عبد أو

(3)

فمالي صدقة؛ فإنَّ هذا مقصوده ألا يسافر، ومقصوده ألا يعتق عبده ولا يكون ماله صدقة، وإن سافر وكلم فهو ممتنع من فعل الشرط وممتنع من

(1)

في الأصل: (كان)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2)

سيأتي تخريجه في (ص 201 - 209).

(3)

في الأصل زيادة: (قتلت)، ولعل حذفها هو الصواب، فلم يُشِر لها فيما بعد.

ص: 72

إيقاع الجزاء وإن وجد الشرط = فهذا هو الحالف.

فأهل اللغة والصحابة ــ كعاصم وغيره ــ فهموا [فهمًا]

(1)

صحيحًا، والذي فهموه هو مقتضى اللغة والشرع ولم ينازع في ذلك أحد، ولكن مَنْ جَعَلَ مقتضى هذا مثل قصد التعليق الذي يقصد به اليمين، فقد أثبت اللغة والشرع بالقياس الفاسد، وجعلَ ما يُقْصَدُ وجودُهُ مثلما لا يقصد وجوده، وجعل المريد لإيقاع الشيء مثل الممتنع من إيقاعه، وخالفَ الصحابةَ والتابعينَ وعامة العلماء الذين جعلوا الممتنع من الشرط والجزاء حالفًا، وجعلوا ذلك التعليق يمينًا بخلاف ما يقصد وقوعه لا سيما إذا قصد الشرط كما في القصتين، فإنَّ في إحداهما: إعتاق. وفي الأخرى: أَمَانٌ على نفي القتل إذا نزلوا لا على إثباته، فهو كما لو قال: إِنْ نزلتم إلينا وقتلنا منكم أحدًا فنحن برآء من الله؛ فهذا يمين على نفس القتل.

واليمين إذا كانت على العقود بين الناس كانت لازمة لا يجوز فيها الحنث والتكفير باتفاق الناس، كما في اليمين على النذر كقوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) [23/ أ] فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 ــ 77]، فمعاهدتهم لله إن آتاهم من فضله لنصدقنَّ ولنكوننَّ من الصالحين هو نظير معاهدة أولئك لسرية عاصم لئن نزلتم إلينا لا نقتل منكم أحدًا، والأول نذر لله مؤكد باليمين، والثاني مصالحة ومهادنة

(1)

إضافة يقتضيها السياق.

ص: 73

ومعاهدة لسرية عاصم مؤكدة باليمين، ومثل هذا يجب الوفاء به باتفاق المسلمين ولا يجوز فيه الحنث والتكفير.

ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} [الأحزاب: 15]، فإن تولية الأدبار من الكبائر، والامتناع من التولي واجب بالشرع، فإذا عاهدوا الله عليه توكَّد وجوبه؛ كالذي يعاهد الله على العمل بطاعته، وكالذين يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على الإيمان به وطاعته قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] فقد بين أن ما بايعوا الله عليه فقد عاهدوا الله عليه.

ومنه قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] قال غير واحد من السلف: يتساءلون به أي: يتعاقدون ويتعاهدون؛ فإنَّ كل واحد من المتعاهدين المتعاقدين يسأل بالله

(1)

ويطلب منه ما عاهده عليه

(2)

،

وهذه معاهدة بالله وإن لم يتكلم بها بحرف القسم، وتسمى هذه أيمانًا؛ قال تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ

(1)

في الأصل: (الله)، والصواب ما أثبتُّ.

(2)

انظر آثار السلف في ذلك: تفسير الطبري (6/ 342 وما بعدها)، تفسير ابن المنذر (2/ 548)، تفسير ابن أبي حاتم (3/ 854).

وانظر: مجموع الفتاوى (29/ 139 - 140، 32/ 13)، الفتاوى الكبرى (4/ 83 - 84)، القواعد الكلية (ص 385)، اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 308، 327)، الصارم المسلول (2/ 42)، أحكام أهل الذمة (3/ 1387 وما بعدها).

ص: 74

أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 1 ــ 4] إلى قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ [23/ ب] إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 7 ــ 8] والإِلُّ: القرابة، والذمة: العهد. إلى قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ [وَطَعَنُوا]

(1)

فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: 12 ــ 13].

وقال: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} [النحل: 91 ــ 92].

قال المفسرون: نزلت في الرجل كان يعاهد القوم، فإذا وجد قومًا أَرْبَا

(1)

ليست في الأصل ..

ص: 75

منهم، غَدَرَ بالأولين ونكث عهدهم وعاهد هؤلاء

(1)

.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ عاقدت

(2)

أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] وكانوا يسمون الرجل حليفًا مأخوذ من الحِلْف

(3)

، وهذه الأيمان لا يجوز فيها النكث والتكفير بل هذه يجب الوفاء بها بمطلق العقد، فإنَّ مطلق العقود التي بين الناس هي معقودة بالله، والله أمر بالوفاء بها، وإذا وَكَّدُوهَا بالحلف باسمه كان ذلك توكيدًا لها.

ولفظ اليمين في الأصل هو يمين الرجل، ثم لما كان إذا عاهد غيره يعقد يمينه بيمينه سُمِّي ذلك عقدًا ويمينًا، كما يسمى صفقة لأنه يصفق بيده على يده، وسمي مبايعة لأن كلا منهما يَمُدُّ باعه إلى الآخر، كما سميت المعانقة لأن كلًا منهما يمد عنقه إلى الآخر، والمصافحة لأن كلًا منهما يصفح يده بيد الآخر؛ أي: يمس صفحة يده بصفحة يده.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] يدل على أن مبايعتهم كانت بأيديهم مع أقوالهم، وكذلك كان

(1)

الفتاوى الكبرى (4/ 83)، القواعد الكلية (ص 385)، الصارم المسلول (2/ 42).

وانظر: تفسير الطبري (14/ 340، 346 - 347)، أحكام أهل الذمة (3/ 1387 وما بعدها).

(2)

كذا في الأصل، وهي قراءة أبي عمرو وغيره من السبعة، والتي كان يقرأ بها شيخ الإسلام.

انظر: جامع البيان في القراءات السبع (3/ 1010)، والنشر في القراءات العشر (2/ 249).

(3)

مجموع الفتاوى (35/ 321).

ص: 76

النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الرجال بيده

(1)

، وأما النساء فقد روي في الصحيح: أنه ما مس امرأة بيده

(2)

، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال:«لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة»

(3)

،

وروي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يضع يده في ماء ويضعن أيديهن فيه

(4)

، وفي هذا نظر والأول أعرف.

(1)

ثبت هذا في أحاديث كثيرة وحوادث متعددة؛ منها: حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه: أخرجه مسلم في صحيحه (121).

وحديث كعب بن مالك رضي الله عنه: أخرجه ابن حبان في صحيحه (15/ 471).

وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أخرجه الشاشي في مسنده (3/ 122).

وحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (14/ 482).

وأخرج مسلم في صحيحه (1844) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا: «ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقةَ يده» .

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2713) من حديث عائشة رضي الله عنها ولفظه: والله ما مست يده يدَ امرأةٍ قط في المبايعة.

(3)

أخرجه مالك في الموطأ (2/ 578)، والطيالسي (3/ 192)، وعبد الرزاق في مصنفه (9826)، والإمام أحمد في مسنده (44/ 556)، والنسائي (4181)، والترمذي (1597)، وابن ماجه (2874) من حديث أُميمة بنت رُقيقة رضي الله عنها.

وصححه ابن حبان (10/ 417)، وقال الترمذي في روايةٍ مختصرةٍ له: هذا حديث حسن صحيح

وسألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: لا أعرف لأميمة بنت رقيقة غير هذا الحديث، وأميمة امرأة أخرى لها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانظر: السلسلة الصحيحة (2/ 63).

(4)

أخرجه ابن إسحاق في المغازي ــ كما في الفتح 8/ 637 ــ عن أَبَان بن صالح، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغمس يده في إناء، وتغمس المرأة يدها فيه.

قال السُّهيلي في الروض الأنف (4/ 71): وقد ذكر أبو بكر محمد بن الحسن المقري النقَّاش في صفة بيعة النساء وجهًا ثالثًا أورد فيه آثارًا، وهو أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغمس يده في إناء، وتغمس المرأة يدها فيه عند المبايعة، فيكون ذلك عقدًا للبيعة، وليس هذا بالمشهور، ولا هو عند أهل الحديث بالثبت، غير أنَّ ابن إسحاق ــ أيضًا ــ قد ذكره في روايةٍ عن يونس عن أبان بن صالح. وانظر: جامع المسائل (5/ 221).

ص: 77

وقد أنكر هذا بعضهم

(1)

قال: لأن البيع من ذوات الياء؛ يقال: باع يبيع بيعًا، والباع من ذوات الواو أصله؛ يقال: باع وأبواع.

وجوابه: أنَّ هذا من باب الاشتقاق الأكبر، وهو اتفاق اللفظتين في أكثر الحروف وفي بعضها يتفقان [24/ أ] في جنسها لا في عينها؛ كما قال أبو جعفر: العامة اسم مشتق من العَمَى، ما رضي الله بأن شبههم بالأنعام حتى قال:{بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}

(2)

[الفرقان: 44]، والعامة من عَمَّ يَعم، والعمى مِنْ عَمَى يعمى، لكن العرب تعاقب بين الحرف المعتل والمضعَّف كما يقولون: تقضَّى البازي وتَقَضَّضَ

(3)

.

(1)

اعترض على هذا صاحب المُطْلِع على أبواب المقنع (ص 227) من وجهين: أحدهما: أنه مصدر، والصحيح أنَّ المصادر غير مشتقة. والثاني: أنَّ الباع عينه واو، والبيع عينه ياء؛ وشرط صحة الاشتقاق موافقةُ الأصل والفرع في جميع الأصول.

(2)

أخرجه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 168) من طريق عبد الله بن محمد بن عجلان وجعله من قول علي بن محمد بن الرضا. وأخرجه ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد (19/ 141) من طريق ابن عجلان هذا وجعله من قول علي بن موسى بن جعفر الرضا. وقد أطال ابن النجار النفس في تضعيف هذا الأثر.

والذي يبدو أن ابن تيمية يقصد أبا جعفر الباقر ــ واسمه: محمد بن علي بن الحسين ــ حيث نسب ابن القيم في شفاء العليل (1/ 252) هذا الأثر إليه، ولم أجده مسندًا عنه.

(3)

قال في مجموع الفتاوى (10/ 369): قال أبو جعفر: العامة اسم مشتق من العمى؛ فراعوا الاشتراك في الحروف دون الترتيب؛ وهو الاشتقاق الأوسط، أو الاشتراك في جنس الحروف دون أعيانها وهو الأكبر. وانظر: منهاج السنة (5/ 190).

ص: 78

ومنه قيل: سُرِّيَّة مأخوذة من السِّرِّ وهو الجماع، والسرر من المضعَّف، والسرية من المعتل كما قال امرؤ القيس:

ألا زعمت شباب

(1)

الحي أني

كبرت وأن لا يحسن السِّرَّ أمثالي

(2)

والله ــ تعالى ــ إذا شرع للمؤمنين تحلة أيمانهم ــ وهي الأيمان التي يعقدونها ليحض أحدهم نفسه أو غيره أو يمنعها ــ وعقدوها بالله ولله توكيدًا= كذلك الحض والمنع، وأما ما يكون من العقود بينهم وبين غيرهم؛ فهذا

(3)

لم يفرض الله تحلته وإنْ سُمِّيَ يمينًا، وكذلك ما عقدوه لله بالتزام ما أوجبه عليهم، فهذا واجب بأمر الله ــ تعالى ــ لم يَفْرِض الله تحلته؛ فكل عقدٍ أمر الله بالوفاء به عينًا ــ إما لحقِّه وإما لحق العباد ــ فلم يفرض تحلته، وإِنْ حلف حالف بالله ليوفين فيه، وما وَفَى بل غدر كان عليه مع الإثم الكفارة، مع أنَّ إثم الغدر والنكث باقٍ عليه.

ثم قد يقال: إنما سمي من العقود يمينًا ما يتضمن الحلف بالله وإن كان الوفاء به واجبًا

(4)

وإن لم يُذكر فيه اسم الله بل ذكر فيه ألفاظ أخرى؛ كقوله: عليَّ عهد الله وميثاقه، أو عليَّ العهد والميثاق؛ والفقهاء متنازعون في انعقاد

(1)

في هامش الأصل: (بسباب) وفوقها حرف (ظ) وقبله حرف (خ).

(2)

ديوان امرئ القيس (ص 28)، والبيت فيه هكذا:

أَلا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ اليومِ أنني

كبرتُ وَأَنْ لا يُحْسِنَ اللهوَ أمثالي

وفي غريب الحديث لأبي عبيد (1/ 238) وغيره: «السِّرَّ» بدلًا عن «اللهو» .

(3)

في الأصل: (غيرها فلهذا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(4)

في الأصل: (واجب)، والصواب ما أثبتُّ.

ص: 79

اليمين بهذه الألفاظ وإن لم يذكر فيها اسم الله؛ فأكثرهم يقولون: ينعقد بها اليمين، ومنهم من يقول: لا ينعقد إلا إذا ذكر اسم الله

(1)

.

وأما لفظ العهد المجرد كقوله: أَمَّنْتُكَ أو بعتك أو أجرتك أو أنكحتك أو [

]

(2)

فهذا موجبه يقتضي الوفاء بالعقد، لكن يمنع كون هذا يسمى يمينًا فلا يتناوله قوله تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وقوله:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] فإنَّ هذا لا كفارة فيه إذا غدر، بل فيه الإثم.

* * * *

(1)

بدائع الصنائع (3/ 8)، الاختيار في تعليل المختار (3/ 394)، المدونة (1/ 579 وما بعدها)، الأم (8/ 152)، الحاوي الكبير (15/ 279)، نهاية المطلب (18/ 301)، المغني (13/ 463)، الفروع (10/ 435).

انظر: مجموع الفتاوى (29/ 138)، الفتاوى الكبرى (4/ 83)، القواعد الكلية (ص 384 - 388). وانظر ما سيأتي (ص 533 - 536).

(2)

بياض مقدار كلمة.

ص: 80

فصل

قال المعترض:

(الثامن عشر: أنَّ معظم ما استدل به ابن تيمية في الطلاق قياسه على العتق، وسنذكر الفرق بينهما على تقدير تسليم الحكم في العتق فيمتنع إلحاقه به)

(1)

.

فيقال:

أولًا: أنت في ذكر أدلة الشرع الدالة على [24/ ب] أَنَّ التعليقين: التعليق المجرد عن قصد اليمين، والتعليق الذي يقصد به اليمين ليتبين بذلك حكم تعليق الطلاق المجرد وتعليقه المتضمن قصد اليمين= أنت

(2)

لم تذكر البتة دليلًا لا على هذا ولا على هذا؛ بل إما مقدمات مُدَّعَاةٌ بلا حجة، وإما حُجَّةُ عمومٍ وإطلاقٍ لا تقول بموجبه، بل هو عندك منقسم إلى قسمين، ولم تذكر ما يميز أحد القسمين من الآخر وأنَّ الطلاق من أحدهما، وإما قياسٌ لم تُبيِّن فيه أن المشترك هو المؤثر في الحكم، وإما أدلة لا تتناول محل النزاع بل إنما تدل على غيره؛ كالتعليق الذي يقصد به الوعيد، والذي يقصد به الشرط والجزاء، والذي يقصد به فسخ العقد عند الشرط ونحو ذلك، ثم ذكرت من الأدلة ما ليس دليلًا، وإنما هو من باب الجواب عن حجة من احتج على أن هذه يمين فتدخل في النص، وقاسها على نذر اللجاج والغضب؛ كتفريقك بين ذلك وبين تعليق نذر اللجاج والغضب ومنعك تسمية هذه أيمانًا، ومثل هذا الوجه وهو وعدك بالفرق بينه وبين العتق.

(1)

«التحقيق» (33/ ب)، وهو الوجه العاشر.

(2)

في الأصل: (وأنت)، والصواب ما أثبتُّ، أو حذفها كاملة.

ص: 81

ومعلوم أَنَّ ذكر الجواب عن هذه المعارضة من الأدلة كلامُ مَنْ لا يفرق بين الدليل وبين الجواب عن المعارضة، والمستدِلُّ عليه أَنْ يقيم الأدلة ثم يجيب عن المعارضة؛ ولهذا كان جنس الأسولَةِ الواردة عليه تنحصر في نوعين في الممانعة وفي المعارضات: إما أن يمنع مقدمات دليله، وإما أن يعارض بما يدل على نقيضها، ثم قد يعارض في أدلة المقدمات وقد يعارض في حكمها؛ ففي الأدلة يجيب عن الممانعات ثم يذكر ما استدل به المعارض ويجيب عنه، وهذا قد انتدب أولًا للاعتراض على المجيب المستدل على أن هذه يمين مكفرة، ثم نصب نفسه منصب المستدل، فإنَّ المعترض لو منع مقدمة استدل على صحة منعها بإثبات الحكم المتنازع فيه، مثلُ أَنْ يقول: الدليلُ على فسادها أنه يلزم من صحتها الحكم المتنازع فيه وهو باطل= لكان هذا غصبًا لمنصب الاستدلال وهو غير مقبول.

فكيف إذا شرع يستدل ابتداء وهو في مقام الاعتراض قبل أن يعترض على أدلة المستدل، ثم لما استدل على نقيض قول المستدل الأول= جعل

(1)

من جملة أدلته ما زعم أنه جواب [25/ أ] عن أدلة المستدل؛ وهذا خروج عن قانون النظر والاستدلال والمناظرة المستقيمة، ثم المستدل سامحه في ذلك كله ولم يؤاخذه إذ كان مقصوده الكلام على ما أبداه، هل فيه دليل صحيح على بطلانه أو جواب صحيح على دليل المجيب، فلم يكن منه ــ مع التخليط المذكور ــ لا دليل صحيح ولا جواب صحيح عن أدلة المستدل المجيب أولًا، وذلك مثل قوله هنا:(إِنَّ معظم ما استدل به ابن تيمية في الطلاق قياسه على العتق وسنذكر الفرق).

(1)

في الأصل: (وجعل)، والصواب ما أثبتُّ.

ص: 82

فيقال لك: هذا وأمثاله من الاعتراضات على أجوبة المجيب لا يصلح أن يكون دليلًا لك في المسألة، وإنما يصلح أن يكون جوابًا عن استدلاله؛ ومع هذا فليس بجواب صحيح، بل كلا المقدمتين اللتين

(1)

ذكرتَهما في الجواب ظاهرة البطلان، فإنَّ ابن تيمية لم يكن معظم استدلاله هو القياس على العتق، ولا ذكرتَ بينهما فرقًا مؤثرًا في الشرع، بل أنت معترف بفساد الفرق بينهما، وأنَّ هذا الفرق وإن كان قد قاله أحد من الصحابة فقد أخطأوا في ذلك.

أما المقدمة الأولى: فمعلومٌ أن النزاع في العتق مشهور، والأربعة وغيرهم ينازعون في العتق، وقد ادعى بعضهم الإجماع على وقوع العتق المحلوف به؛ فكيف يكون هذا حجة؟! بل إذا قيس الطلاق على العتق فلا بُدَّ من إثبات الحكم في الأصل بدليل يدل عليه.

وأيضًا؛ فالمجيب استدل بالكتاب والسنة ودلالتهما من جهة عموم الخطاب عمومًا محفوظًا من أظهر الأدلة القولية، ومن جهة عموم المعنى المؤثر في سائر الصور؛ وهذا غاية ما يُستدل به على الأحكام الشرعية، فإن النص على كل فردٍ فردٍ ممتنع، وإنما بُعث الشارع بجوامع الكلم التي تَجْمَعُ في الكلمة الواحدة أنواعًا وأعيانًا؛ كما قال:«بعثت بجوامع الكلم»

(2)

. ولما

(3)

سُئل عن الحُمُر قال: لم يَنزل عَلَيَّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ

(1)

في الأصل: (التين)!

(2)

أخرجه البخاري (2977)، ومسلم (523) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

في الأصل: (لما)، ولا يستقيم الكلام إلا بما أثبتُّ.

ص: 83

شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ــ 8] أخرجاه في الصحيحين

(1)

، وقال:«إذا قلتم: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض»

(2)

، وفي الصحيحين ــ أيضًا ــ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أَنَّ [25/ ب] النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن الأشربة، فقيل: عندنا شرابٌ

(3)

يُصْنَعُ من الذرة يقال له: المِزْر، وشرابٌ

(4)

يصنع من العسل يقال له: البِتْع، وكان قد أوتي جوامع الكلم؛ فقال:«كل مسكر حرام»

(5)

.

وكلماته الجامعة هي القواعد الكلية وهي الألفاظ العامة، وهي ضوابط شرعه وقوانين دينه، لكن بعض الألفاظ يدخلها تقييدٌ يُجْعَلُ تخصيصًا لها، وقد لا يفهم منها المعنى العام الذي جعله الشارع مناط الحكم، فإذا كان خطابه العام وكلمته الجامعة باقية على عمومها لم يخص منها صورة، والمعنى الذي جعله مناط الحكم موجودًا في الصورة المستدل عليها= كان هذا غاية ما يستدل به على الأحكام، وإذا تم تصور الإنسان لمقصود الشارع كان علمه بذلك قطعيًا وإن كان غيره لم يفهم ذلك أو لم يحصل له فيه إلا ظن

(6)

.

وأيضًا؛ فالقياس الجلي في المسألة وهو قياسه على ما ثبت إما بإجماع

(1)

أخرجه البخاري (2371)، ومسلم (987) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (6328)، ومسلم (402) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(3)

في الأصل: (شرابًا)؛ ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(4)

في الأصل: (وشرابًا)، ولعل الصواب ما أثبت.

(5)

أخرجه البخاري (4343)، ومسلم (1733) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(6)

لابن تيمية رحمه الله قاعدة بعنوان (شمول النصوص للأحكام) طبعت ضمن جامع المسائل (2/ 237).

ص: 84

الأمة وإما بإجماع الصحابة وإما بدلالة الكتاب والسنة من أن تعليق النذر الذي يقصد به اليمين هو يمين تجري فيه كفارة يمين، وهذا المعنى موجود في تعليق الطلاق والعتاق إذا قصد به اليمين؛ فهذه الأدلة تدل على أن تعليق الطلاق والعتاق جميعًا إذا قُصِدَ به اليمين كانت يمينًا مكفرة، ثم ذكرنا الآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين في العتق لنبين النزاع فيه وندفع من ظن في ذلك إجماعًا، وكان تعليق العتق قد اشتهر النقل فيه عن الصحابة والتابعين لكون الحلف بالتزام القُرَبِ كان قد ظهر في زمن الصحابة، بخلاف الحلف بالطلاق والظهار والحرام فإنَّ هذا لم يكن مشهورًا في زمنهم [قد كثر في كلامهم من ذلك]

(1)

ليعلم أنهم إذا أجابوا في ذلك بكفارة يمين معللين ذلك بأنه يمين كان جوابهم في الحلف بالطلاق بكفارة يمين أولى وأحرى لشمول الدليل والعلة له، وأنَّ العتق مع كونه قربة يَلزم بالنذر إذا كان قصد اليمين في تعليقه مانعًا من لزومه فلأن يكون هذا مانعًا من لزوم الطلاق الذي لا يلزم بنذر وليس بقربة بطريق الأولى والأحرى.

ومذاهب العلماء المجتهدين يؤخذ من عموم خطابهم وعموم [26/ أ] تعليلهم، كما يؤخذ حكم الشارع من عموم خطابه وعموم علته

(2)

؛ وعموم العلة أقوى من عموم اللفظ، فإنَّ العموم اللفظي يَقبل التخصيص لمطلق الأدلة، وأما العلة فلا يجوز تخصيصها إلا بفرقٍ معنوي مؤثِّر يبين اختصاص صورة الفرق بوصف يوجب انتفاء الحكم عنها، وإلا فلو ساوت سائر الصور في العلة الموجبة للحكم= لوجب أن يساويها في الحكم، وإلا

(1)

كذا في الأصل.

(2)

انظر ما سيأتي (ص 607، 819).

ص: 85

كان ذلك تناقضًا ينزه الشارع عنه.

فإنه إذا قال: كل مسكر خمر وكل مسكر حرام؛ فعلَّق الحكم بوصف مشتق مناسب وهو السُكر، ثم أباح بعض المسكرات دون بعض مع عدم اختصاص ذلك المسكر بوصف يوجب الإباحة = كان هذا تناقضًا؛ بخلاف ما إذا أباح المسكر للضرورة ــ كما أباح الميتة للضرورة ــ مثل إباحته لدفع الغصة أو إباحته لمن أُكْرِهَ على شربه أو للعطش ــ إِنْ قيل إنه يدفع العطش ــ فهذا تخصيص بمعنى يوجب الفرق، كما يوجد مثل هذا التخصيص في تحريم الميتة، ولكن هو ــ سبحانه ــ في القرآن قال في الميتة والدم ولحم الخنزير:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173] ولم يَذكر مثل ذلك في تحريم الخمر، لأنَّ الحاجة إلى الغذاء حاجة عامة، فالاضطرار إلى أكل هذه المحرمات يقع كثيرًا، وأما الخمر فلا يكاد أَحَدٌ يحتاج إلى شربها؛ فإنه لا يكاد أَحدٌ يغص بالطعام وليس عنده إلا خمر، وكذلك لا يكاد أحد يعطش وليس عنده إلا خمر، فإن الماء متيسر غالبًا، وكذلك وجود غيرها من المرطبات التي هي أبلغ منها في دفع العطش كثير جدًا، وأما هي فقد قيل تزيل العطش وقيل لا تزيله، ولهذا اختلف الفقهاء في شربها للعطش بناء على هذا المأخذ

(1)

.

(1)

قال في مجموع الفتاوى (14/ 471): (وكذلك الخمر يباح لدفع الغصة بالاتفاق، ويباح لدفع العطش في أحد قولي العلماء؛ ومَنْ لم يبحها قال: إنها لا تدفع العطش، وهذا مأخذ أحمد؛ فحينئذٍ فالأمر موقوف على دفع العطش بها؛ فإنْ عُلِمَ أنها تدفعه أُبيحت بلا ريبٍ؛ كما يباح لحم الخنزير لدفع المجاعة، وضرورةُ العطش الذي يرى أنه يُهلكُهُ أعظم من ضرورة الجوع؛ ولهذا يباح شرب النجاسات عند العطش بلا نزاع، فإن اندفع العطش وإلا فلا إباحةَ في شيءٍ من ذلك).

وانظر: مجموع الفتاوى (10/ 462)(27/ 230 وما بعدها)، جامع الرسائل (2/ 82).

ص: 86

وكذلك في الأيمان إذا قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وكان هذا الخطاب يتناول ما هو يمين من أيمان المسلمين وإن كان بصيغة التعليق كقوله: إِنْ فعلت كذا فعليَّ الحج ومالي صدقة ونحو ذلك كما ثبت ذلك عن الصحابة وجمهور التابعين، بل ويتناول قوله: وكل مملوك لي حر؛ فمن المعلوم أَنَّ تناول ذلك ــ أيضًا ــ للحلف بالطلاق واجب كتناوله لهذه الصورة وأولى، ويمتنع أن يكون الشارع قد جعل هذا الخطاب متناولًا للحلف بالنذر أو بالنذر والعتق دون [26/ ب] الحلف بالطلاق، ويمتنع أن يكون كون التعليق يمينًا هو الوصف المؤثر في تحليل هذه اليمين بالكفارة، ثم تعليق الطلاق الذي يقصد به اليمين لا يؤثر كونه يمينًا في تحليل هذه اليمين بالكفارة، فإنَّ هذا من أعظم التناقض الذي يُنَزَّهُ عنه الصحابة رضي الله عنهم فضلًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم فضلًا عن رب العالمين ــ سبحانه وتعالى ــ.

ويمتنع أن يقوم دليل شرعي إجماع أو غير إجماع على [أنَّ]

(1)

هذا التعليق القسمي يكفر دون هذا التعليق، كما يمتنع أن يقوم إجماع أو غير إجماع على الفرق بين هذا المسكر وهذا المسكر مع تساويهما من كل وجه في الصفات المعتبرة في الشرع، فإن الأمة لا تجتمع على خطأ ولا على ضلالة

(2)

،

(1)

إضافة يقتضيها السياق.

(2)

في الأصل: (ظلاله)؛ والصواب ما أثبتُّ.

ص: 87

والفرق بين المتماثلين ونقض العلة مع تساويها في محالها، ومخالفة الكتاب والسنة = من الخطأ الذي نَزَّه الله الأمة أن تجتمع عليه

(1)

.

ولهذا ــ ولله الحمد والمنة ــ لا توجد الأمة مجتمعة على حكم إلا وأدلته أدلة صحيحة سالمة عن المعارض المقاوم، والاحتجاج بدعاوى الإجماعات المخالفة للكتاب والسنة والقياس الجلي في مثل هذه المسائل مما ابتدع في الإسلام بعد انقراض عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان بل وبعد عصر التابعين، ولهذا أنكر أئمة الإسلام مثل هذه الدعاوى؛ كما أنكر ذلك أحمد بن حنبل وغيره، وكذلك الشافعي ذكر أن السلف لم يكونوا يَدَّعُون مثل هذه الإجماعات

(2)

.

* * * *

(1)

انظر: (ص 13).

(2)

انظر: (ص 157 - 158).

ص: 88

فصلٌ

قال المعترض:

(التاسع عشر: أن الأدلة التي ذكرها ابن تيمية

(1)

والتي يتخَيَّل ــ أيضًا ــ ترجع إلى شيئين: أحدهما: أَنَّ التعليق على هذه الصورة يسمى يمينًا، والثاني: أنه لا يسمى تطليقًا.

أما الأول: فقد منعناه؛ وبَيَّنَّا أَنَّ ذلك إنما هو بحسب الاصطلاح لا بحسب اللغة والشرع، وإيقاع الطلاق به إذا عُلِّقَ بالحلف إنما هو إذا قُيِّدَ كقوله:

(2)

حلفت بطلاقك.

وأما الثاني: فممنوع أيضًا؛ وقد بَيَّنَّا أن ذلك تطليق.

ثم إما أنْ يكون قول القائل: عَلَّمْتُهُ فما تَعَلَّم حقيقة أو مجازًا، فإنْ كان حقيقةً وَجَبَ أَنْ يكون مجرد تعليق الطلاق تطليقًا، وإن كان مجازًا فلا إشكال أنه إذا حصل العلم بصدق التعلم

(3)

حقيقة، ولا [27/ أ] امتناع في توقف إطلاق اسم التعليم على محاولة أسبابه إلى أَنْ يحصل أثرها، فإذا حصل أثرها صدق عليها اسم التعليم حقيقة، وإلا لوجب ألا يصدق التعليم أصلًا، لا قبل حصول العلم

(4)

ولا بعده؛ فإنَّ العلم في الغالب لا يحصل وقت التعليم بل لا بُدَّ من مُهلة= كذلك التطليق المعلَّقِ يتوقف إطلاق اسم

(1)

في «التحقيق» زيادة: (جميعها).

(2)

في «التحقيق» زيادة: (إن) وهو خطأ، كما سيأتي في (ص 95).

(3)

في «التحقيق» : (التعليم)، وانظر ما سيأتي (ص 95).

(4)

في الأصل زيادة: (أصلًا)، وليست في «التحقيق» ، وانظر ما سيأتي (ص 96).

ص: 89

التطليق عليه على وجود شرطه، فإذا وُجِدَ تَرَتَّبَ عليه أثره وسُمِّيَ تطليقًا؛ كما يُسَمَّى التعليم عند وجود أثره تعليمًا، ولو لم يكن كذلك لزم ألا يقع الطلاق المعلَّق بالصفات التي ليس فيها يمين كطلوع الشمس، وابن تيمية يوافق على وقوعه فيلزم

(1)

على سياق كلامه أَنَّ ذلك غير داخل تحت اسم التطليق، فإنْ قال: إنه عند الصفة يصير تطليقًا، فليقل: بأنه عند وجود الشرط والحنث يصير تطليقًا)

(2)

.

والجواب:

أنَّ هذا معناه على الوجه الصحيح: دليلان أو مقدمتا دليل؛ أنَّ هذين الأصلين عليهما يُبْنى الحكم في هذه المسائل باتفاق المسلمين، فإنَّ من أوقع الطلاق جعل ذلك كله تطليقًا تتناوله النصوص، ومن لم يوقعه لم يجعله تطليقًا، وكذلك من قال بالكفارة جعله يمينًا تتناوله النصوص، ومن لم يجعل فيه كفارة؛ فإما أَنْ يُنَازع في كونه يمينًا، أو في كونه يمينًا من أيمان المؤمنين.

فإنَّ الله قال لعباده بعد قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ

(1)

في «التحقيق» : (فيلزمه)، وانظر ما سيأتي (ص 96).

(2)

«التحقيق» (33/ ب)، وهو الوجه الحادي عشر.

ص: 90

ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 87 - 89]، وقال ــ أيضًا ــ:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وقال ــ أيضًا ــ:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]، فذكر تعالى في كتابه: حكم أيمان المؤمنين وذكر حكم الطلاق؛ فمن الأقوال ما هو طلاق شرعي باتفاق المسلمين؛ كالطلاق المنجَّز إذا أوقعه على الوجه المباح مع سائر شروطه، مثل أن يقول لها: أنت طالق أو مطلقة أو قد طلقتك ونحو ذلك، ومنها ما هو يمين مكفَّرة باتفاق المسلمين؛ كالحلف باسم الله، مثل أنْ [27/ ب] يقول: والله لأفعلنَّ كذا؛ إذا حلف مع الشروط التي معها تكون اليمين مكفرة، ومن الأقوال ما تنازع فيه المسلمون.

وكذلك من الأقوال ما هو عتق، ومنها ما هو ظهار، ومنها ما هو نذر، ومنها ما تنازع فيه المسلمون هل هو طلاق وظهار ونذر؛ وإذا كان يمينًا فهل هو يمين مكفرة كفارة يمين أم ليست

(1)

مكفرة كفارة يمين.

فالطلاق إذا قيل ليس بيمين فهو طلاق، ولا كفارة في الطلاق بإجماع المسلمين.

وكذلك العتق لا كفارة فيه. فإذا قيل: ليس بيمين كان عتقًا واقعًا.

وأما الظهار إذا قيل ليس بيمين بل هو ظهار، ففي الظهار كفارة الظهار بالنص والإجماع.

وكذلك تعليق النذر إذا قيل ليس هو بيمين بل هو نذر، فقد تجب فيه

(1)

في الأصل: (ليس)، والصواب ما أثبتُّ.

ص: 91

كفارة يمين إذا لم يفعل المنذور عند كثير من العلماء؛ فمذهب أحمد أَنَّ المنذور لا بُدَّ فيه مِنْ فعلِهِ أو فعلِ بَدَلِهِ أو كفارة يمين، وهذا معنى ما نُقِلَ عن كثير من الصحابة والتابعين؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«كفارة النذر كفارة يمين»

(1)

.

فمن جَوَّزَ النزاع في التعليقات التي يُقصد بها اليمين كقوله: إِنْ فعلت كذا فعليَّ الحج ومالي صدقة وكل مملوك لي حر وامرأتي عليَّ كظهر أمي والحِلُّ عليَّ حرام وأنا يهودي ونصراني؛ فمن العلماء من يقول: إذا وجد الفعل كان مُطَلِّقًا وناذرًا ومعتقًا ومظاهرًا ومُحَرِّمًا ولكن ليس بكافر، وهذا قول مالك رحمه الله.

ومنهم من يقول: بل يكون مُطَلِّقًا ومعتقًا ومظاهرًا ومُحَرِّمًا ولا يكون ناذرًا بل حالفًا يجزئه كفارة يمين، وكذلك في الكفر تجزئه كفارة يمين وهذا هو المنصوص عن أحمد، وتجزئه عنده كفارة واحدة، واتَّبَعَ في ذلك حديث ليلى بنت العجماء

(2)

، والكفارة عنده إنما هي في النذر.

ومنهم من يقول: هو حالفٌ في الجميع إلا في الطلاق والعتاق.

ومنهم من يقول: هو حالفٌ في الجميع إلا في الطلاق فإنه مُطَلِّق.

ومنهم من يقول: بل هو في الجميع حالف

(3)

.

ومن العلماء مَنْ جعل هذه التعليقات أو أكثرها أيمانًا، ويجعلها من جنس

(1)

أخرجه مسلم (1645) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.

(2)

سيأتي تفصيل روايات هذا الأثر في كلام المجيب فيما سيأتي (ص 201 - 209).

(3)

في الأصل: (حالفٌ في الجميع)، ووضع الناسخ علامة التقديم والتأخير، وكتب في الهامش ما هو مثبت.

ص: 92

الأيمان بالمخلوقات فلا تنعقد ولا يجب فيها كفارة

(1)

، ثم مِنْ هؤلاء مَنْ طرد هذا في الجميع، ومنهم من استثنى الطلاق، ومنهم من استثنى الطلاق والعتاق.

[28/ أ] ومن السلف

(2)

مَنْ عُرِفَ قوله في بعض هذه الأيمان ولم يُعرف قوله في الآخر؛ فمن العلماء من استثنى الطلاق والعتاق، ولا أعلم قوله في الحلف بالظهار والحرام، هل هو عنده من باب الحلف بالنذر أو من باب الحلف بالطلاق والعتاق؟

والشافعي رضي الله عنه رأيته استثنى الطلاق والعتاق، ولم أقف له على نَصٍّ في الحلف بالظهار والحرام لكن أصحابه [يقولون: الحلف بالظهار والحرام في لزوم المحلوف به؛ كالحلف بالطلاق والعتاق]

(3)

.

وإذا كان منشأ النزاع بين العلماء في التعليق الذي يُقصد به اليمين هل هو يمين أم هو من جنس ما عُلِّقَ فيه نذرٌ أو طلاق أو عتاق= فقد عادَ النزاعُ في هذه المسائل إلى تحقيق المناط الذي عَلَّقَ الله به الحُكْمَ؛ هل هو موجودٌ

(1)

الحلف بالمخلوقات يمينٌ غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء، ووقع الخلاف في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبعض أهل العلم عَدَّاه إلى غيره من الأنبياء.

انظر: مجموع الفتاوى (1/ 286، 335)(27/ 226)(33/ 62، 68، 122، 126، 136، 142، 222)(35/ 243)، الفتاوى الكبرى (3/ 222 وما بعدها، 236، 245، 308، 312)، (4/ 110، 115 - 117)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 440)، قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 231)، والقواعد الأصولية والفقهية من مجموع الفتاوى لابن غديان (2/ 69 - 70).

وانظر: (ص 132، 364)، ومعطية الأمان من حنث الأيمان (ص 80 - 85).

(2)

في الأصل: (ومنهم)، وفي الهامش كتب الناسخ ما أثبتُّ وفوقها حرف (خ).

(3)

يوجد هنا بياض في الأصل بمقدار سطر إلا كلمتين. وانظر: قاعدة العقود (1/ 224).

ص: 93

في هذه التعليقات التي يقصد بها اليمين أم لا؟ هل هي يمين أم هي تطليق ونذر وإعتاق وظهار وحرام؟

وحينئذٍ؛ فمن قال: إنها يمين وليست بطلاق عليه أَنْ يُبَيِّنَ هذا وهذا، ومن قال: هي تطليق وليست يمينًا عليه أَنْ يبين هذا وهذا.

والقائلون بأنَّ هذا يمين يقولون: ليس هذا بمطلِّقٍ ولا ناذر ولا مظاهر ولا محرم ويُصرِّحونَ بذلك، سواء ادعوا أنها يمين مكفَّرة أو غير مكفرة ــ وقد تقدم بعض كلامهم في ذلك ــ؛ وإذا كان كذلك فهذا المعترض لم يُقِم دليلًا على أَنَّ هذا مُطَلِّق ولا على أنه ليس بيمين.

وقد تقدم ذكر ما زعم أنه دليل على أنه تطليق وأنه ليس في شيء منها دليل، وأما كونها ليست يمينًا فلم يُقِم عليه دليلًا

(1)

بل اكتفى بمجرد الدعوى، ولو قام مقام المانع المطالِب لكونها يمينًا لم يكن عليه دليل على النفي، وإنما قام مقام النافي الجازم بكونها ليست أيمانًا، ومعلوم أنَّ عليه دليلًا على نفي كونها من الأيمان، كما أَنَّ المثبت لكونها من الأيمان عليه الدليل، وهو لم يقم دليلًا على النفي، وإنما غايته دعاوى مجردة، أو نقل من ليس معه إلا الدعوى المجردة.

وأما المجيب فبيَّن أنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين يمين بالنقول المستفيضة عن الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ والتابعين وعلماء المسلمين وعامتهم، بل بإجماع [28/ ب] الصحابة والتابعين على أنها تسمى أيمانًا من غير خلاف يُعرف عنهم في التسمية، وباتفاق الأمم عربهم وعجمهم على تسمية ما

(1)

في الأصل: (دليل)، والجادة ما أثبتُّ.

ص: 94

يقصد به هذا المعنى يمينًا، وبَيَّنَّا أنَّ المعقول في اليمين موجود في هذه التعليقات التي يقصد بها اليمين

(1)

وأن ذلك لا يختلف باختلاف اللغات، وباتفاق الفقهاء على

(2)

إدخال هذه في مسمى اليمين والحلف

(3)

.

وأما قوله: (أنه لا يتناوله اسم الحلف واليمين في كلام الفقهاء وغيرهم إلا مع القيد كقوله: حلفت بطلاقك).

فعنه جوابان؛ أحدهما: أنَّ هذا باطل؛ فإن الصحابة وغيرهم سموا التعليق الذي يقصد به الحلف يمينًا باللفظ المطلق لا بالقيد؛ كقولهم: هذه يمينٌ من الأيمان، وكَفِّر عن يمينك ونحو ذلك، بل أدرجوها في لفظ الأيمان في قوله:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وكذلك الفقهاء أدرجوها في ذلك

(4)

.

فصلٌ

قال: (وقد بَيَّنَّا أَنَّ ذلك تطليق؛ ثم إما أَنْ يكون قول القائل: عَلَّمْتُهُ فما تَعلَّم حقيقة أو مجازًا؛ فإنْ كانَ حقيقة وجب أن يكون مجرد تعليق الطلاق تطليقًا، وإنْ كان مجازًا فلا إشكال أنه إذا حصل العلم بصدق التعليم حقيقة، ولا امتناع في توقف إطلاق اسم التعليم على محاولة أسبابه إلى أنْ يحصل

(1)

في الأصل زيادة: (يمينًا)، والصواب حذفها.

(2)

في الأصل زيادة: (أنَّ)، والصواب حذفها.

(3)

انظر (ص 878).

(4)

لم يذكر الجواب الثاني إلا أنْ يكون الجواب الأول: منع دعوى بطلان حجة الخصم، والثاني: إثبات صحة كلام المجيب بما ذكره هنا.

ص: 95

أثرها، فإذا حصل أثرها صدق عليها اسم التعليم حقيقة، وإلا لوجب ألا يَصدق التعليم أصلًا لا قبل حصول العلم ولا بعده؛ فإنَّ العلم في الغالب لا يحصل وقت التعليم بل لابد من مهلةٍ.

كذلك التطليق المعلَّق يتوقف إطلاق اسم التطليق عليه على وجود شرطه، فإذا وجد ترتب عليه أثره وسمي تطليقًا كما يسمى التعليم عند وجود أثره تعليمًا، ولو لم يكن كذلك لزم ألا يقع الطلاق المعلق بالصفات التي ليس فيها يمين؛ كطلوع الشمس.

وابن تيمية يوافقُ على وقوعه، فيلزم على مساقِ كلامه أنَّ ذلك غير داخل تحت اسم التطليق.

فإنْ قال: إنه عند الصفة يصير تطليقًا، فليقل: بأنه عند وجود الشرط والحنث يصير تطليقًا)

(1)

.

فيقال: قد تقدم الكلام على أنه ليس فيما ذَكَرَ دليل على أنه تطليق.

وأيضًا؛ فتمثيل ذلك [29/ أ] بقوله: (عَلَّمْتُهُ فتعلَّم أو ما تعلم) لو كان التمثيل صحيحًا لكان حجة عليه؛ لأنه حينئذٍ يقال: عَلَّمْتُهُ فَتَعَلَّمَ وَعَلَّمْتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ، فيجب إِنْ كان مثله أنْ يقال: طلقتُها فَطَلُقَتْ وطلقتها فما طلقت؛ وليس الأمر كذلك، لأنَّ التطليق لا يتوقف على أمر تفعله المطلَّقة كما يتوقف التعليم على أمر يفعله المتعلم، لكن التطليق يتوقف على كون المحل قابلًا للطلاق؛ فلو طلق الأجنبية من زوجها لم تطلق باتفاق المسلمين، كما في

(1)

«التحقيق» (33/ ب)، وقد تقدم في أول الفصل السابق.

ص: 96

السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك»

(1)

، وإنما الطلاق الذي قَصَدَ إيقاعه عند الصفة، فهو تطليق عند الصفة من غير أن يحتاج إلى فعل في الصفة بل بمنزلة الظرف؛ كما لو قال: أنتِ طالق عند الهلال.

وأما قوله: (وابن تيمية يوافق على وقوع الطلاق المعلق بالصفة التي ليس فيها يمين؛ فيلزمه على مساق كلامه إذا قال: إنه عند الصفة يصير تطليقًا، فليقل: بأنه عند وجود الشرط والحنث يصير تعليقًا).

فيقال: ابن تيمية مع قوله بالفرق يقول: لا حجة للمعترض وأمثاله ممن يجمع ويُفَرِّق في أحكام التعليقات بغير دليل شرعي على من نفى وقوع

(1)

أخرجه أبو داود (2190)، والترمذي (1181)، وابن ماجه (2047) وغيرهم من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده بألفاظ متقاربة.

وقال الترمذي: حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن صحيح، وهذا أحسن شيءٍ روي في الباب. وقال في العلل (برقم 302): وسألتُ محمدًا عن هذا الحديث، فقلتُ: أيَّ حديثٍ في هذا الباب أصحُّ في الطلاق قبل النكاح؟ فقال: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.

وصححه الحاكم (2/ 222)، وابن الجارود (برقم 743)، وابن الملقن في تحفة المحتاج (2/ 206).

وقال ابن معين ــ كما في علل ابن أبي حاتم 4/ 132 ــ: لا يصحُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا طلاق قبل نكاح» ، وأصحُّ شيءٍ فيه حديث الثوري، عن ابن المنكدر، عمن سمع طاوسًا، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا طلاق قبل نكاح» .

انظر: نصب الراية (3/ 230)، البدر المنير (8/ 88)، صحيح أبي داود (الأم)(6/ 393).

ص: 97

الطلاق المعلَّق، فإنهم يجمعون بين ما فرق الله بينه ويفرقون بين ما جمع الله بينه، فلم يكن لهم حجةٌ شرعيةٌ على ما يذكرونه من وقوع الطلاق المعلق ــ سواءً قصد به اليمين أو الإيقاع ــ من المنع من وقوع غيره من الأحكام المعلقة؛ كالولايات والوكالات والضمانات والأنكحة وغيرها من الأحكام.

وأما ابن تيمية فإنه يقول: الطلاق الذي يَقصد إيقاعه عند الصفة يَلزم، كما يلزم النذر المعلَّق بالصفة والعتق المعلَّق بالصفة والجعالة المعلَّقة بالصفة والظهار المعلَّق بالصفة والتحريم المعلَّق بالصفة والولايات المعلَّقة بالصفات، وغير ذلك من الأحكام مما يدخل في مسمى الاسم الذي عُلِّقَت به الأحكام لفظًا ومعنى، ويُفَرِّقُ بين التعليق الذي يقصد به اليمين والذي يقصد به الإيقاع، وهو يقول: كما أَنَّ لفظ النذر والعتق يتناول مُنَجَّزَهُ ومُعَلَّقَهُ= فكذلك لفظ الطلاق وغيره لا فرق بينهما لا من جهة اللغة ولا من جهة الشرع [29/ ب] ولا العقل.

فلما كان قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه»

(1)

يتناول المُطْلَقَ والمعلَّق بالنص والإجماع، وقوله:«الولاء لمن أعتق»

(2)

يتناول المنجِّزَ للعتق والمعلِّقَ له بالإجماع= فكذلك قوله: «الزعيم غارم»

(3)

يتناول المنجِّز

(1)

تقدم تخريجه (ص 6)، وهو في البخاري.

(2)

أخرجه البخاري (456)، ومسلم (1504) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

أخرجه الطيالسي في مسنده (2/ 451)، وعبد الرزاق في المصنف (4/ 148)(8/ 173، 181)(9/ 48)، وابن أبي شيبة (20562، 22843)، وأحمد في المسند (36/ 628)، وأبو داود (3565)، والترمذي (1265، 2120)، وابن ماجه (2405) وغيرهم من حديث أبي أُمامة رضي الله عنه.

وقال الترمذي: حديث حسن، وقد روي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه، ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل العراق وأهل الحجاز ليست بذلك فيما تفرد به؛ لأنه روى عنهم مناكير، وروايته عن أهل الشام أصح. وصححه ابن الجارود (رقم 1023)، وحسنه البغوي في شرح السنة (8/ 252).

وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (4/ 144): هذا الحديث حسنه الترمذي، ورواية إسماعيل عن أهل الشام جيدة، وشرحبيل من ثقات الشاميين؛ قاله الإمام أحمد، ووثقه - أيضًا - العجلي وابن حبان، وضعفه ابن معين.

انظر: نصب الراية (4/ 57 وما بعدها)، الدراية (2/ 163)، البدر المنير (6/ 707)، إرواء الغليل (5/ 245)، سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 166/ ح 610).

ص: 98

للضمان والمعلِّق له، كقوله:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] فهذا ضمانٌ بحِمْلِ بعير، وهو معلَّق على المجيء بالصاع، وهو تعليق للجعالة وللكفالة، لكنه تعليق على سبب الوجوب، ولهذا كان جمهور العلماء أحمد وغيره على أنَّ تعليق الضمان على سبب الوجوب يجوز، مثل أن يقول: إنْ أقرضتَهُ ألفًا فأنا ضامنٌ له، وتنازعوا فيما إذا عَلَّقَهُ بغيره كطلوع الشمس، وفيه وجهان في مذهب أحمد؛ والأظهر جوازه.

وعلى هذا فالمطلِّق موقعٌ للطلاق عند الصفة، كما أَنَّ الناذرَ ملتزمٌ للمنذور عند وجود الصفة، وهو من جنس التعليق يُطَلِّقُ طلاقًا مقيدًا موصوفًا لا طلاقًا منجزًا مرسلًا، كما أَنَّ الناذر من حين يعلق النذر ناذرٌ نذرًا مقيدًا موصوفًا لا نذرًا مطلقًا، ولا فرقَ بينَ حال المطلِّق والناذر والجاعل بين عقد التعليق وبين وجود الصفة التي لا تتعلق بفعله، فإنه لم يتجدد منه

ص: 99

شيء، لكن إذا حدثت الصفة وقع الطلاق الذي كان عَلَّقَهُ به، كما يجب المنذور الذي كان عَلَّقَهُ بالصفة، ويحصل العتق الذي عَلَّقَهُ بالصفة، ويجب الجُعْلُ الذي علقه بالصفة إذا قال: مَنْ رَدَّ عبدي الآبق له عشرة دراهم فإذا حصل الرد وجب الجعل، فالتطليق متقدم من حين عقد التعليق، ووقوعُ الطلاقِ حاصلٌ إذا حصلت الصفة التي عَلَّقَ بها الطلاق كسائر الأمور المعلقة بأسبابها.

ومجرد تعليق الطلاق تطليقٌ معلَّقٌ بالصفة

(1)

ليس تطليقًا مجردًا منجزًا مرسلًا، ولا يقول: إنه لا يسمى تطليقًا معلقًا بالصفة إلا عند وجودها، بل هو موجود، ويسمى بذلك قبل أنْ يقع، لكن عند وقوعها وقع الطلاق وصارت المرأة مطلَّقة؛ فحصول المجموع وهو في تلك الحال صار مطلقًا بالفعل طلاقًا وَقَعَ وَحَصَل.

وأما القاصد لليمين فهذا لا نُسلِّم أنه مُطلِّق؛ كما أنَّ المعلِّق للنذر القاصد لليمين لا نسلم [30/ أ] أنه ناذر، بل هذا حالف وهذا ناذر، لا هذا أراد النذر ولا هذا أراد الطلاق، ولا المعلِّق للعتق والظهار والحرام على وجه اليمين أراد العتق والظهار والحرام، لا هو ناذرٌ لا مطلقًا ولا مقيدًا، ولا مُطلِّقٌ لا مطلقًا ولا مقيدًا، ولا معتقٌ ومظاهِرٌ ومحرِّم لا مطلقًا ولا مقيدًا؛ فكيف يصير مُطَلِّقًا عند وجود الصفة بدون أن يكون عند التعليق لا مُطَلِّق لا مطلقًا ولا مقيدًا؟!

وليس بين تعليق النذر على وجه اليمين وبين تعليق الطلاق والعتاق

(1)

في الأصل: (بالعقد)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

ص: 100

والظهار والحرام إلا فرقٌ غير مؤثر في الشرع، فإنَّ الناذر عَلَّقَ الوجوب بالشرط، والوجوب مقتضاه أَنْ يفعل ما أوجبه، فمقتضى التعليق أفعالٌ

(1)

يؤمر بها، والموقِعُ عَلَّقَ بالشرط وقوع الطلاق والظهار والحرام.

والوقوع مقتضاه حرمة أفعال وتركها والكَفُّ عنها؛ فمقتضاه ترك محظورات، كما أَنَّ مقتضى النذر فعل مأمورات، ولما كانت الحرية إذا ثبتت لم يؤمر الإنسان بفعلٍ ينشئه بعدها بل الكَفُّ والإمساك، والوجوب يؤمر فيه بفعل المنذور، وصار الناذر يفعل، ثم إنه بعد الحلف بالنذر قد يخير بين فعل المنذور والتكفير.

وأما الحرية فهي إذا ثبتت لم توجب إلا الكَفَّ والإمساك، فلا يُعْقَلُ تَخَيُّرٌ بينَ فعلٍ وبين تكفير وهذا فرق صوري؛ فإنه إذا كان قصده اليمين لم يثبت هناك وجوب، بل كان مخيرًا بين فِعْلِ ما عقد سبب وجوبه من التكفير؛ وهنا إذا كان قصده اليمين لم يثبت وقوع، بل كان مخيرًا بين إيقاع ما انعقد سبب وقوعه وبين التكفير، وهو مخيرٌ بين التكفير وبين الإيقاع الموجب للوقوع والمقتضي للكف، وهناك

(2)

مخيرٌ بين التكفير وبين الفعل الذي انعقد سبب وجوبه؛ فالوقوع هناك متقدم على الفعل الذي يخير بينه وبين التكفير، وهنا الوقوع متأخر عن الإيقاع الذي يخير بينه وبين التكفير، وهذا فَرْقٌ لا تأثير له في الشرع.

والجمع والفرق إنما يكون بالصفات المؤثرة في الشرع، المعتبرة في

(1)

في الأصل: (أفعالًا)، والجادة ما أثبتُّ.

(2)

كتبها الناسخ في الهامش وفوقها حرف (ظ) و (خ)، وفي الأصل:(وهنا).

ص: 101

الكتاب والسنة؛ وهي الصفات التي عَلَّقَ الشارع بها الأحكام، ولهذا يقول

(1)

[30/ ب] الفقهاء: هذا وَصْفٌ شَهِدَ له الشرعُ بالاعتبار، وهذا وَصْفٌ شَهِدَ له بالإلغاء والإهدار، وتكلم كثيرٌ منهم في المناسب المرسل والمصالح المرسلة هل يجوز تعليق الأحكام بها أم لا؟ بناءً على اعتقادهم أن في الوجود مناسبًا ومصالحَ

(2)

لم يعتبرها الشرع ولم يلغها؛ وهذا غلط، فليس في الوجود وصف يظن أنه مناسب أو مصلحة إلا والشارع قد اعتبره أو أهدره

(3)

.

وقد بَيَّنَ الرسول صلى الله عليه وسلم جميع الدين وما تعلق به الشرع من الأوصاف، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك»

(4)

، وقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ

(1)

الكلمة غير واضحة، ولعلها ما أثبت.

(2)

في الأصل: (ومصالحًا)، والجادة ما أثبتُّ.

(3)

مجموع الفتاوى (11/ 342 - 344)، مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 22)، جامع المسائل (2/ 192)، (4/ 46)، قاعدة في المحبة (ص 81). وانظر ما سيأتي (ص 807).

(4)

أخرجه أحمد (28/ 367/ رقم 17142)، وابن ماجه (43) وغيرهما من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.

وصححه الحاكم (1/ 175)، وقال أبو نعيم في مستخرجه (1/ 36): وهذا حديث جيد من صحيح حديث الشاميين، وهو وإنْ تركه الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج فليس ذلك من جهة إنكار منهما له، فإنهما ــ رحمهما الله ــ قد تركا كثيرًا مما هو بشرطهما أولى وإلى طريقتهما أقرب، وقد روى هذا الحديث عن العرباض بن سارية ثلاثة من تابعي الشام معروفين مشهورين: عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر ويحيى بن أبي المطاع؛ وثلاثتهم من معروفي تابعي الشام.

انظر: السلسلة الصحيحة (2/ 610/ رقم 937).

ص: 102

نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

لكن قد يخفى على كثيرٍ من الناس ما بيَّنه الله ــ تعالى ــ وَدَلَّ عليه من الأحكام وما عَلَّقَ به تلك الأحكام من الصفات المعتبرة المناسبة وما في ضمن ذلك من المصالح والحِكَم، وقد يَظُنُّ أنَّ ما أهدره وألغاه فيه مصلحة وهو مناسب، وتكون مصلحته ــ إِنْ كان فيه مصلحة ــ مرجوحة بالمفسدة الراجحة، وكذلك إن كان فيه نوع مناسب فتكون مرجوحة بالمناسبة التي تقتضي خلافه.

والشارع أحكم الحكماء يُرَجِّح عند التعارض والتزاحم أرجح المصلحتين وإن فاتت أدناهما

(1)

؛ كما يدفع أعظم المفسدتين وإن لزمت أدناهما، كما قال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، وقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217]، وقال تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ

(1)

انظر: القواعد الأصولية والقواعد والضوابط والفوائد الفقهية من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 15 - 33).

ص: 103

تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ [لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ]

(1)

لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25]، وقال:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، وبسط هذا له موضعٌ آخر

(2)

.

والمقصود هنا: أَنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين، إذا كان المعلَّقُ وجوبَ فعلٍ خُيِّر بين ذلك الفعل وبين التكفير، وإذا كان المعلَّق وقوع طلاق أو ظهار يقتضي ترك فعلٍ خُيِّرَ بين التزام

(3)

ذلك الطلاق والظهار وبين التكفير، والطلاق لا يكون لازمًا له [31/ أ] حتى يوقعه، فيكون الفعل هنا الذي خير بينه وبين التكفير الذي أوجبه التعليق هو الموجِب للوقوع المقتضي للكف والإمساك، وهناك الفعل الذي يخير بينه وبين التكفير هو الذي أوجبه التعليق، والتعليق هناك أوجب فعلًا أو أوجب تركًا، فإذا خير هناك لم يحتج إلى فعلٍ يقتضي الحكم، بل يخير بين الفعل الذي جعله واجبًا

(1)

ليست في الأصل ..

(2)

مجموع الفتاوى (1/ 138، 265)، (8/ 94، (10/ 512)، (13/ 96)، (15/ 312 وما بعدها)، (20/ 48)، (23/ 182، 343)، (24/ 278)، (27/ 178)، (28/ 591)، (29/ 251، 271)، (30/ 136، 193، 234، 359)، (31/ 266)، الفتاوى الكبرى (3/ 14)، (4/ 362)، (5/ 153)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 383)، جامع الرسائل (2/ 141)، مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 123)، جامع المسائل (1/ 177، 179)، (6/ 416، 422)، الاستقامة (1/ 288، 439)، الجواب الصحيح (2/ 215)، (6/ 17)، منهاج السنة (1/ 551)، (3/ 84)، (4/ 527)، (6/ 118)، الواسطة بين الحق والخلق (ص 33)، قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 200).

(3)

في الأصل: (إلزام)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

ص: 104

عليه وبين التكفير، وإذا خير هنا احتاج إلى فعلٍ يقتضي الحكم الذي جعله واقعًا منه، فإنَّ الوقوع بعد الإيقاع الذي يريد أن يفعله إذا لم يكفر، وهناك لا يحتاج إلا إلى الفعل الذي أوجبه، لا يحتاج إلى فعلِ مقتضٍ للحكم الذي هو الوجوب، وهذا لأن المقصود من الوجوب فعل الواجب فإذا فعله هناك فقد فعل ما جعله لازمًا له، والمقصود من الوقوع الترك، والوقوع لا يحصل إلا بعد إيقاع، فإذا اختاره لم يحصل بمجرد كَفِّهِ وإمساكه وامتناعه، بل لا بُدَّ من إنشاء طلاق تصير به مطلقة.

وأما في الظهار والتحريم إذا اختار أن تصير مظاهرة ومحرمة؛ فهذا حرام عليه

(1)

، لا يجوز له أن يظاهر

(2)

ولا يحرم؛ بل يُنهى عن ذلك فلا نخيره نحن، بل لو حرمها أو ظاهر منها صار مظاهرًا ولزمته كفارة الظهار

(3)

، كما لو كان الطلاق الذي علَّقه في تعليق اليمين محرمًا مثل الطلاق الثلاث أو الطلاق في الحيض ونحو ذلك لم نخيِّره بين التكفير وبين التطليق؛ بل نأمره بالكفارة عينًا، لكن إِنْ طَلَّقَ لزمه الطلاق وسقطت عنه الكفارة عند من يقول الطلاق المحرم واقع، وأما من يقول إنه غير واقع فلا يخيره، وإذا طلق في الحيض لم يقع به الطلاق؛ فيتعين في مثل هذه الصورة عليه الكفارة.

وأما إذا قال: إن فعلت كذا؛ كما لو قال: والله لئن فعلت كذا لأطلقنك في الحيض، فإنه تتعين الكفارة، والطلاق في الحيض متعذر؛ كما لو قال: والله لأنكحنَّك في العِدَّة ولأشترينَّ هذه الجرار الخمر؛ هذا إذا كان مقصوده

(1)

في الأصل: (عليها به)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2)

في الأصل: (يظهار).

(3)

في الأصل: (الطلاق)، والصواب ما أثبتُّ.

ص: 105

النكاح والبيع والطلاق الذي يحصل

(1)

به مقصوده وهو الذي يريده عامة الناس، وأما إن كان مقصوده

(2)

[31/ ب] صورة العقد بَرَّ في يمينه بفعل ذلك، وأما إذا كان المعلَّق هو الطلاق الثلاث كان تقدير الكلام: والله إن فعلتِ ذلك ليقعن بك الطلاق الثلاث، فإذا أوقع بها الثلاث ــ وقلنا: لا يقع به إلا واحدة ــ فقد حنث في يمينه.

فإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فامرأتي طالق ثلاثًا، وَقُدِّرَ أنه اختار أَنْ يطلقها ولا يكفر يمينه لم يجز له أن يطلقها إلا واحدة، فلو طَلَّقَ ثلاثًا لم يقع به إلا واحدة؛ وحينئذ فتتعين عليه الكفارة هنا أيضًا.

فمتى كان المعلَّق في تعليق اليمين طلاقًا محرمًا أو ظهارًا أو تحريم حلال تعينت الكفارة، كما لو كان المعلَّق في تعليق النذر فعلًا محرمًا مثل أن يقول: إن فعلت كذا فلله عليَّ قتل فلان أو ذبح نفسي ونحو ذلك، فهنا تتعين عليه الكفارة؛ فإنه من التزم لله أو بالله معصية لم يكن له أن يفعلها وتعينت الكفارة عليه.

ولو كَفَّرَ المعلِّق للظهار والتحريم كفارة ظهار من غير إنشاء ظهار كان قد أتى بأعلى الكفارتين، كما لو كَفَّرَ في اليمين بذلك، فإذا كانت الكفارة عتقًا أو إطعام ستين مسكينًا فهذا يجزئ باتفاق المسلمين، وأما إن كانت صوم شهرين متتابعين، والواجب كفارة اليمين عتقًا أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم

(3)

.

(1)

سواد في الأصل، ولعل ما أثبتُّ هو الصواب.

(2)

سواد في الأصل، وهكذا قرأتها.

(3)

بهذا انتهى الفصل، وكأن الكلام لم يتم بعد.

ص: 106

فصل

قال المعترض:

(العشرون: لو لم يكن الطلاق بحيث يقع عند الشرط لم تنعقد اليمين به، كما لو قال للأجنبية: إنْ دخلتِ الدار فأنت طالق، وتزوجها بعد ذلك ثم دخلتِ الدار؛ فهذا لا يلزمه شيء بلا خلاف، فلو كان قَصْدُ اليمين وحده كافيًا لكفى ههنا.

فإن قلتَ: قصد اليمين مع كون الشيء بحيث يقع لولا إرادة اليمين، فإرادة اليمين مانعة؛ وكذلك نذر اللجاج فإنَّ ما سماه في نذر اللجاج لا يحصل عند القائلين بالكفارة أو التنجيز ومع ذلك تنعقد اليمين به.

قلتُ: الناذر في اللجاج ملتزم لاقتران الفعل الذي مقصوده الامتناع منه بالإعتاق مثلًا، كما أَنَّ الحالف ملتزم لاقتران ما حلف عليه بتعظيم المحلوف به، فإذا حصل ذلك الفعل فنقول له: إن أعتقت

(1)

فقد وَفَّيْتَ بمقتضى التزامك من اقتران الإعتاق بالفعل، [32/ أ] وصار كما لو لم يحنث في الأيمان، واستمريت في التزام حرمة الاسم، وإنْ تركتَ العتق تكون قد خالفته

(2)

وتركت ما التزمت اقترانه بالفعل، كما لو خالف الحالف بالحنث فترك مقتضى ما التزمه من حرمة الاسم، فتجب

(3)

عليك الكفارة؛ فهي حينئذٍ مكفَّرة لترك العتق لا لحصول الفعل، وصار النذر كاليمين المعلقة، كأنه

(1)

في الأصل: (عتقت)، والمثبت من «التحقيق» .

(2)

في «التحقيق» : (خالفت).

(3)

في الأصل: (تجب)، والمثبت من «التحقيق» .

ص: 107

قال: والله إِنْ فعلتُ كذا أعتقت هذا العبد

(1)

، فإن أعتق فقد بَرَّ في قسمه ولم يحنث، وإن لم يعتق وجبت الكفارة؛ فافهم هذا فإنه من نفيس البحث، وبه يظهر قوله صلى الله عليه وسلم:«كفارة النذر كفارة يمين»

(2)

، وسيكون لنا عودة إلى هذا البحث إن شاء الله)

(3)

.

والجواب من وجوه:

أحدها: أن يقال: إن أراد أنه لو لم يقع عند الشرط مطلقًا لم تنعقد به اليمين؛ فهذه دعوى مجردة تضمنت دعوى محل النزاع بلا دليل. وحقيقة كلامه أن الحالف لو لم يلزمه الطلاق المعلق إذا قصد بتعليقه اليمين لم تنعقد اليمين به، وهو كمن يقول: لو لم يلزمه النذر المعلَّق والظهار المعلَّق والتحريم المعلَّق والهدي

(4)

المعلَّق والكفر المعلَّق والوقف المعلَّق والأضحية المعلَّقة على وجه اليمين لم تنعقد اليمين به؛ وهذا باطل، فإنه لو علَّق النذر بشرط يقصده لزم، فإذا قال: إنْ شفاني الله من هذا المرض فَثُلُثُ مالي صدقة، أو هذا البعير هدي، أو هذه الشاة أضحية ونحو ذلك صَحَّ، ولو قصد به اليمين فقال: إِنْ سافرتُ معكم فثلث مالي صدقة، وهذا البعير هدي أو هذه الشاة أضحية أجزأته كفارة يمين عند الجمهور والمعترض وغيره.

ولو قال: إن سافرت معكم فأنا بريء من الله ورسوله لم يبرأ، ولو قال: إنْ أعطيتموني ألفًا فأنا بريءٌ من الله ورسوله صار بريئًا من حين قال ذلك،

(1)

انظر ما سيأتي (ص 120 وما بعدها).

(2)

سبق تخريجه (ص 92)، وهو في صحيح مسلم.

(3)

«التحقيق» (33/ ب ــ 34/ أ)، وهو الوجه الثاني عشر.

(4)

في الأصل: (وبالهدي)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

ص: 108