المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ كل ما يجب بالعتق المعلق يجب بتعليق إيجاب العتق وزيادة - الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق - جـ ١

[ابن تيمية]

الفصل: ‌ كل ما يجب بالعتق المعلق يجب بتعليق إيجاب العتق وزيادة

ولا يلزم من قوله: إذا فعلت كذا فهذا هدي وهذه أضحية وهذه الأرض وقفٌ على المسلمين، بل قوله: فعليَّ أَنْ أُطلِّق أو أعتق لأن تلك قربة تعلقت بالأعيان لا بالذمة ومع هذا لم يلزم وهذا كذلك، وإذا قيل هناك: عليه أفعال واجبة كالذبح والصدقة. قيل: وهنا عليه أفعال واجبة كتخلية سبيل العبد والمرأة.

وأيضًا؛ فإنه إذا كان العقدُ الواجب في الذمة الموجب عليه أفعالًا في أعيان وأحكامًا لا يصير مع قصد اليمين موجبًا؛ فالعقد الذي لا يقتضي إلا حُكمًا في عينٍ أولى ألا يصيرَ مع قصدِ اليمين موجبًا، فإنه من المعلوم أنه إذا وجب عليه أن يعتق فقد وجب عليه ما وجب عليه بالعتق وزيادة، فإنه يجب عليه أن ينشئ العتق، ثم ــ حينئذٍ ــ يفعل ما يفعل إذا عتق العبد، وكذلك إذا وجب عليه [38/ أ] أَنْ يطلق المرأة فإنه يجب عليه أن يطلقها، ثم يفعل ما يفعل إذا كان قد طلقها.

وإذا قال: عليَّ أَنْ أُهدي شاة أو بعيرًا؛ فعليه أَنْ يهديه ويذبحه ثم يفعل ما يفعله بالهدي المعين إذا ذبحه، وإذا قال: لله عليَّ أن أتصدق بثلث مالي فعليه أنْ يتصدق؛ فهذه التعليقات توجب عليه أفعالًا، وتلك الأفعال توجب أحكامًا، وتلك الأحكام توجب أفعالًا أخرى.

فقوله: لله عليَّ أن أُعتق؛ يُوجب عليه أن يعتق، والإعتاق يوجب العتق، والعتق يوجب تخلية سبيله؛ فهذه الواجبات بإيجاب العتق أكثر من الواجب بالعتق المعلق.

فإن‌

‌ كُلَّ ما يجب بالعتق المعلق يجب بتعليق إيجاب العتق وزيادة

، ثم قصد اليمين منع تلك الواجبات إنْ ثبت شيءٌ منها

(1)

فرفع إيجابَ العتق

(1)

كذا في الأصل، ولعل صوابها:(أَنْ يَثْبُتَ شيءٌ منها).

ص: 128

ووجوبه، فلا يقع إعتاق ولا عتق ولا تخلية سبيل، فإذا منع قصد اليمين هذا كله= فلأن يمنع بعض ذلك وهو الإيقاع والوقوع بطريق الأولى والأحرى؛ فإن اقتضاء التعليق للإيقاع والوقوع كاقتضائِهِ للإيجاب والوجوب، وذلك يتضمن الإيقاع والوقوع، فإذا لم يثبت شيءٌ من ذلك لأجل اليمين= فَلَأَن لا يثبت الإيقاع والوقوع بطريق الأولى.

لكنَّ الغالط يظن أنه إذا كان المعلَّق إيقاعًا فقد حصل، ويظن هناك أَنَّ المعلَّق هو الفعل وهو باختياره، وليس الأمر كذلك، بل المعلَّق هناك إيجاب الفعل ووجوبه، وهو حكم شرعي، وهو يوجب على العبد الإيقاع والوقوع، وقَصْدُ اليمين منع ذلك الإيجاب ومقتضى ذلك الإيجاب وهو الإيقاع ولازم الإيقاع وهو الوقوع؛ فإذا منع ذلك كله= فلأن يمنع مقتضى الوجوب وهو الوقوع الذي هو لازم للإيقاع الذي يقتضيه الوجوب بطريق الأولى والأحرى.

ووقوع الطلاق بالإيقاع هنا كحصول الملك للفقير بالصدقة عليه الذي هو موجَب المتصدَّق المنذور إذا قال: فمالي صدقة، ووقوع العتق بالإعتاق كمصير الماشية هديًا وأضحيةً والدار وقفًا، كمصيرها نسكًا بالذبح الذي هو فعله، فإنه إذا ذبحها صارت لله بذلك فلا يمكنه بيع اللحم.

* * * *

ص: 129

فصلٌ

قال المعترض:

(الحادي والعشرون: قوله صلى الله عليه وسلم [38/ ب]: «المؤمنون عند شروطهم إلا شرطًا أَحلَّ حرامًا أو حرم حلالًا»

(1)

فدخل الشرط الذي عَلَّقَ الطلاق به في الشروط، فيجب الوفاء بمقتضاه الذي جُعل شرطًا فيه وهو الطلاق عملًا بالحديث، والله أعلم. و

(2)

كذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1])

(3)

.

والجواب من وجوه

(4)

:

(1)

لم أجده بهذا اللفظ؛ وإنما ورد بلفظ: «المسلمون على شروطهم؛ إلا شرطًا حرَّم حلالاً، أو أحلَّ حرامًا» .

أخرجه الترمذي في جامعه (1352)، وابن ماجه (2353)، والطبراني في المعجم الكبير (17/ 22) من حديث عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح.

كما أخرجه أبو دواد (3594)، وابن الجارود (برقم 367، 1001)، والحاكم في المستدرك (2/ 57) عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه. وقال الحاكم: رواة هذا الحديث مدنيون، ولم يُخَرِّجَاه.

وجاء عن غيرهما من الصحابة.

انظر: البدر المنير (6/ 552)، إرواء الغليل (5/ 142)، السلسلة الصحيحة (6/ 992/ رقم 2915).

(2)

إضافة من «التحقيق» .

(3)

«التحقيق» (34/ أ)، وهو الوجه الثالث عشر.

(4)

لم يذكر إلا وجهًا واحدًا.

ص: 130

أحدها: أن يقال: ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أَنَّ ما كان من العقود من أيمان المسلمين فالوفاء به إنْ أريد به أنه لا بُدَّ من الكفارة عند الحنث وأنه يجب عليه أن يحفظ يمينه فإما أَنْ تَبَرَّ وإما أنْ تحنث= فهذا الوفاء بهذه العقود واجب بالنص والإجماع.

وإنْ أريد بالوفاء بعقود الأيمان أنه يلزمه جعله لازمًا بيمينه فهذا خلاف دين المسلمين، ولكن هذا يقال إنه كان شرعًا لمن قبلنا، وكذلك كان الأمر في الجاهلية، واستمروا على ذلك في أول الإسلام حتى أنزل الله للمسلمين ما شرع به كفارة الأيمان وفرض للمؤمنين تحلة أيمانهم، فبقي الوفاء بالعقود والشروط التي يقصد بها الأيمان أنه إذا حنث كَفَّرَ، وصار شرعُ المسلمين أن أيمان المسلمين لا تُغَيِّرُ شرائع الدين؛ بل ما كان واجبًا قبل اليمين فهو واجبٌ بعدها، وما كان محرمًا قبل اليمين فهو محرمٌ بعدها، فاليمين لا توجب فعلًا ولا تحرم فعلًا، ولا توجب لزوم شيء مما جعله الحالف لازمًا لنفسه إذا كَفَّر يمينه، بل إذا كَفَّر يمينه صار بمنزلة من لم يحلف ولم يُلْزِم نفسه بشيء مما جعله لازمًا

(1)

.

ومن جعل شيئًا من أيمان المسلمين توجب لزوم شيء من الأشياء وَجَعَلَهَا يمينًا غير مكفرة= كان قوله هذا موافقًا لما كانوا عليه في أول الأمر وفي الجاهلية وما قيل إنه كان شرع من قبلنا، ولم يكن هذا هو الشرع الذي أنزل الله ــ عز وجل ــ به القرآن وشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته وجعله شرعًا للمسلمين؛ بل من جعل شيئا من أيمان المسلمين تُلْزِم الحالفَ ما جعله

(1)

قال في الفتاوى الكبرى (5/ 552): (ولم يقل أحدٌ إن اليمين على شيء تغيره عن صفته بحيث توجب إيجابًا أو تحرم تحريمًا لا ترفعه الكفارة).

ص: 131

لازمًا له إذا حنث ولا يجزئه في رفع ذلك اللزوم الكفارة، فإنه يقابله من جعل هذه الأيمان لا توجب شيئًا من الأشياء، لا ما جعله لازمًا ولا الكفارة ولا غير ذلك، حتى إن من الناس من يقول: قول هؤلاء أرجح من قول أولئك، ومنهم مَنْ [39/ أ] يقول: قول أولئك أرجح.

والقول الوسط الذي بعث الله ــ تعالى ــ به رسوله صلى الله عليه وسلم هو: ما أنزل الله ــ سبحانه ــ في كتابه وجاء به رسوله المتضمنة للتعظيم لله، وهو أنه ليس من الأيمان قط يمين توجب على المسلمين شيئًا ولا تحرم على المسلمين شيئًا، ولا تُلْزِمُ بشيء لا مما ألزموه أنفسهم عند الحنث ولا غيره، بل ما كان مقصوده تعظيم المخلوقات فهو يمينُ شركٍ لا حرمة لها ولا كفارة فيها إذا حلف، وما كان المقصود به تعظيم الخالق ــ تعالى ــ فإنَّ فيه كفارة إذا حنث الحالف، ثم إنه يُؤمر بالحنث تارةً إذا كان فيه طاعة لله، وَيُنْهَى عنه أخرى إذا كان معصية، وَيُبَاح له تارة إذا كان كلا الأمرين مباح؛ والكفارة واجبة عليه بالحنث في الأنواع الثلاثة.

وحدثني بعض الفقهاء الثقات عن بعض أهل العلم الذين كانوا يفتون بالكفارة في الحلف بالطلاق أنه كان يقول لمن ينازعه: يا كذا وكذا لم تُدْخِلُونَ في دين الإسلام ما ليس منه، وتُضَيِّقُون على المسلمين ما وسَّعَ الله عليهم؟! أين في دين المسلمين يمينٌ يَلزم صاحبها موجبها من غير أن يكون فيها كفارة؟! أو نحو هذا الكلام

(1)

.

* * * *

(1)

سيذكر المجيب هذه القصة مرةً أخرى في (ص 176).

ص: 132

فصلٌ

قال المعترض:

(قال ــ يعني المجيب ــ: وهذا مذهب

(1)

أبي ثور وغيره من الفقهاء في العتق، وكذلك رواه حماد بن سلمة في جامعه عن حبيب بن الشهيد أنه سأل الحسن البصري عن رجل قال: كل مملوكٍ لي حر إن دخل على أخيه. قال: يكفر عن يمينه

(2)

. وروي ذلك عن أبي هريرة وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم

(3)

.

قلت: هذا والذي قبله مقصودٌ به إنْ ثبتَ الخلاف في العتق، ولاشك أَنَّ غيره قد نقل ذلك ــ أيضًا ــ في العتق عنهم، على أَنَّ ابن المنذر نقل عن أبي ثور في الإشراف

(4)

فيما إذا قال لعبده: إنْ لم أضربك فأنت حر، وأراد بيعه أنه إذا لم يجعل لذلك وقتًا لا يقع العتق عليه؛ وهذا يقتضي أنه إذا جعل له وقتًا يقع.

وكذلك نُقِلَ عن الحسن فيما إذا قال لعبده: إن بعتك فأنت حر، أنه يعتق من مال البائع

(5)

ــ يعني: إذا باعه ــ فهذا تصريحٌ من الحسن بوقوع العتق في

(1)

في «التحقيق» والفتوى المعترض عليها: (قول).

(2)

لم أجده، وقد نقله المعترِض من فتوى ابن تيمية. انظر: مجموع الفتاوى (33/ 188). وانظر ما سيأتي (ص 149 - 150).

(3)

سيأتي تفصيلها والكلام عليها في كلام المجيب عن قصة ليلى بنت العجماء (ص 201 - 209).

(4)

الإشراف (8/ 123). وانظر: (ص 148).

(5)

رواه سحنون في المدونة (2/ 388) عن ابن وهب، عن سهل بن أبي حاتم، عن قرة بن خالد قال: سئل الحسن البصري عن رجل قال لمملوكه: إنْ بعتُكَ فأنت حرٌّ؛ فباعَهُ. قال: هو حُرٌّ من مال البائع.

وقال ابن حزم في المحلَّى (ص 1421): وقد رُوِّيْنَا هذا القول عن إبراهيم النخعي والحسن ــ أيضًا ــ وهذا تناقضٌ منه.

وذكره عن الحسن: ابن المنذر في الإشراف (8/ 105)، والإقناع (2/ 601).

وقد أشار له المجيب في مواضع من ردِّه هذا ــ كما في (ص 150، 735) ــ مشيرًا إلى أنه نقلٌ مرسلٌ ليس له إسناد.

ص: 133

الحلف به.

ونقل عنه أبو الحسن [39/ ب] الجُوْرِي

(1)

أنه إنْ باعه على ألا خيار لواحد منهما لم يكن لهما خيار المجلس فلا يعتق؛ فالحكايتان [عنه متفقتان]

(2)

على خلاف ما نقله عنه، وسنتعرض

(3)

لذلك فيما بعد ــ إن شاء الله ــ)

(4)

.

والجواب: أن هذا قد سلك في المنقولات عن الصحابة والتابعين وإجماعهم ونزاعهم مسلكًا في غاية الفساد والتناقض، ما علمتُ أحدًا سلكه من علماء المسلمين المحمودين عند الأمة لا من الأولين ولا من الآخرين، ولا يسوغ لعاقلٍ أنْ يسلكه فضلًا عنْ أَنْ يسلك مثله في الأحكام الشرعية

(1)

هو: علي بن الحسين، القاضي، أبو الحسن الجوري، والجور بضم الجيم ثم واو ساكنة ثم راء بلدةٌ من بلاد فارس، أحد الأئمة أصحاب الوجوه في مذهب الشافعي، ومن تصانيفه كتاب (المرشد في شرح مختصر المزني).

انظر: طبقات الفقهاء الشافعية لابن الصلاح (2/ 614)، طبقات الشافعية لابن كثير (1/ 394)، طبقات الشافعية للسبكي (3/ 457).

(2)

زيادة من «التحقيق» .

(3)

في الأصل: (وسنعترض).

(4)

«التحقيق» (34/ ب).

ص: 134

المتلقاة عن الأدلة النبوية المتبع فيها سبيل من سلف قبلنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان.

وذلك أنه أراد أن يثبت أقوال السلف وإجماعهم بنقل منقطع، ونقلٍ عَلِمَ خطأَ صاحبه، ونقلٍ لا يدل على مقصوده، ونقلِ طائفةٍ ظنت إجماعًا؛ وينفي مع ذلك نقل هؤلاء وغيرهم لأقوال الصحابة والتابعين المشهورة عند عامة أهل العلم المذكورة في عامة كتب الإجماع والخلاف؛ وذلك أنه أراد أن يثبت إجماعهم على الطلاق وليس معه نقلٌ صحيحٌ صريحٌ عن أحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم بأنَّ الطلاق المحلوف به يقع، فضلًا عن أن يكونوا مجمعين على ذلك، بل ويُثبت إجماعَ التابعين ومن بعدهم إلى زماننا ويطعن فيما استفاض عنهم من قولهم في العتق المحلوف به أنه لا يلزم، بل وفيما استفاض عنهم من أنَّ التعليق الذي يُقصدُ به اليمين يمينٌ

(1)

؛ فيأتي إلى الروايات الثابتة على شرط الصحيحين التي تداولها أهل العلم قديمًا وحديثًا يُعللها بعلل لا يُقْدَحُ فيها عند أهل العلم، مع أنَّ أهل العلم بالإجماع والاختلاف الذين يَعتمد هو وأمثاله في الإجماع في هذه المسألة على نقلهم كلُّهم متفقون على نقل النزاع في العتق، ومعهم غيرهم ممن ينقل النزاع في الطلاق ــ أيضًا ــ، والذين اعْتَمَدَ في نقل الإجماع على قولهم؛ أولهم أبو ثور كمحمد بن نصر وابن جرير وابن عبد البر، ومن أخذه عن ابن عبد البر كابن رشد الحفيد

(2)

، ومن نقل إجماع منْ يحفظ قوله في المسألة كابن المنذر؛

(1)

في الأصل: (يمينًا)، والوجه الرفع.

(2)

انظر: بداية المجتهد (1/ 411). ومثله جَدُّه في المقدمات الممهدات (1/ 567) وانظر: (ص 169).

ص: 135

وكل هؤلاء نقلوا النزاع في

(1)

العتق وأثبتوه وصححوه، وهو عندهم وعند كُلِّ [40/ أ] عالم أثبتُ وأَصَحُّ

(2)

من نفي النزاع في الطلاق.

فكيف يسوغ لمن يدري ما يقول أن يحتج بنقل هؤلاء للإجماع في الطلاق ولا يُمَكِّنَ غيره أَنْ يحتج بنقلهم للنزاع في العتق؟! مع أَنَّ العلم بالنزاع أيسر من العلم بالإجماع؛ فإن النزاع يُعرف بقول بعض أهل العلم، وأما الإجماع فلا يعرف حتى يعرف أقوال أهل الإجماع وأنه لم ينازعهم أحد من العلماء، وهذا العلم باتفاق العقلاء إما متعذر وإما متعسر

(3)

.

لا يقول عاقلٌ أَنَّ علم العلماء الناقلين لأقوال أهل الإجماع والنزاع بعدم النزاع أقوى ولا أيسر من علمهم بالنزاع؛ فإنَّ ذلك غاية أحدهم فيه عدم العلم بالنزاع، وكذلك صَرَّح أبو ثور

(4)

ــ إمام هؤلاء الذين نقلوا الإجماع على عدم التكفير في اليمين بالطلاق ــ، صَرَّحَ بأنَّ ما أذكره من الإجماع مرادي به عدم علمي بالنزاع، وعلى ذلك يجب أَنْ يُحْمَل كلام مثله وأمثاله من أهل العلم والعدل الذين يتقون الله ويقولون قولًا سديدًا.

ومع هذا؛ فلمَّا كان يُحكى عنه وعن غيره أنه يَدَّعِي الإجماع في مثل هذه الأمور، أنكر الإمام أحمد على من يَدَّعِي هذا، وكان إنكار أحمد هذه الدعوى تتضمن الإنكار على أبي ثور خصوصًا لا سيما في مثل هذه المسألة، فإنَّ أبا ثور

(1)

في الأصل: (وفي).

(2)

في الأصل: (واحتج)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(3)

انظر ما سيأتي (ص 611، 692 - 693).

(4)

كتب الناسخ في الهامش: (حاشية: الثور: السيد).

وانظر: مجمل اللغة (1/ 165)، لسان العرب (4/ 108).

ص: 136

كان هو أشهر الناس بالاجتهاد في عصر أحمد وغيره، وكان من أشهر الناس بالاستدلال على هذه الإجماعات، وكان أحمد يُسأل عما يَدَّعِيه هو وغيره من ذلك فيقول:(من ادعى الإجماع فقد كذب). ولهذا لم يَدَّعِ أحمد ولا إسحاق ولا أبو عبيد ولا أمثالهم إجماعًا في ذلك، بل كان غاية أحمد في العتق أَنْ يحكي ذلك عن بعض الصحابة، ويعارض بذلك بما نقل عنهم فيه.

وأما الطلاق؛ فلا أحمد ولا غيره من الأئمة لا الأربعة ولا غيرهم نقلوا عن الصحابة حرفًا واحدًا في أنَّ الطلاق المحلوف به يقع، هذا مع فرط عنايته وعناية أمثاله بآثار الصحابة، وأنه كان من أحرص الناس على معرفتها واتِّبَاعِهَا، وكان يقول:(العلم أن تكتب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء عن الصحابة، ثم أنت في التابعين مخيَّرٌ). وفي رواية: (ثم ما جاء عن التابعين)

(1)

. وكان يقول: (ما تكلم الناس في مسألة إلا وقد تكلم الصحابة فيها أو في نظيرها)

(2)

.

وهو كما قال؛ [40/ب] فإنَّ الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ وإنْ كانوا لم يتكلموا في الحلف بالطلاق، فقد تكلموا في نظيره وهو الحلف بالعتق والنذر، ولو كان عند أحمد أو غيره في الحلف بالطلاق لذكروه وقاسوا عليه العتق، بل أحمد لما سئل عن الطلاق المؤجل لم يكن عنده فيه عن الصحابة أثر إلا عن أبي ذر

(3)

في العتق المؤجل

(4)

،

وقاس الطلاق المؤجل عليه،

(1)

مسائل الإمام أحمد لأبي داود (رقم 1789). وانظر: مجموع الفتاوى (10/ 364).

(2)

مجموع الفتاوى (19/ 200، 285)، الفتاوى الكبرى (1/ 156). وانظر (ص 226 - 227).

(3)

أخرج ابن أبي شيبة في المصنف (17896) عن أبي ذر أنه قال لغلامٍ له: (هو عتيقٌ إلى الحول).

(4)

مسائل الإمام أحمد لابنه صالح (3/ 130) قلت: الرجل يقول: أنت طالق رأس الشهر؟ قال: إذا جاز رأس الشهر طلقت؛ أذهب إلى حديث أبي ذر: هو عتيق إلى رأس الحول.

وانظر: مسائل الإمام أحمد لابن هانئ (1/ 237)، وأحكام أهل الملل (ص 353).

ص: 137

وهذا بخلاف الطلاق المعلَّق بالصفة إذا قصد به الإيقاع

(1)

فإنَّ فيه آثارًا

(2)

عن الصحابة، لكن لا يلزم من جواز تعليقه بالشرط الذي يمكن وجوده وعدمه جواز تعليقه بالشرط الذي يأتي لا محالة، بل في هذا نزاعًا مشهورًا، لأنَّ هذا يوجب أن يصير النكاح مؤقتًا بوقت، فهو يشبه نكاح المتعة لكنه صار مؤقتًا بعد أنْ كان مطلقًا.

ولهذا اختلف كلام أحمد في ذلك إذا كان الطلاق يوجب تحريمًا كالطلقة الثالثة هل تتوقت أم لا تتوقت؟ على روايتين، وأما الرجعي فلم يختلف كلامه أنه يتوقت، لأن الرجعية زوجة فلا تصير مثل نكاح المتعة، وقد نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما جواز توقيت الطلاق

(3)

.

والمقصود: أَنَّ هذا المعترض عمدته فيما ينقله من الإجماع على وقوع الطلاق على هؤلاء المذكورين أبي ثور ومن وافقه؛ وهؤلاء كلهم نقلوا النزاع في العتق؛ فممن نَقَلَ عمن نَقَلَ عنه من الصحابة والتابعين أن الحالف بالعتق إذا قال: إِنْ فعلت كذا فكل مملوك لي حر؛ أنه لا يعتق شيء من مماليكه إذا فعله بل تجزئه كفارة يمين = نقل هذا عمن سماه من الصحابة والتابعين: أبو ثور، وذهب إلى ما نقله من ذلك، وبنى عليه مذهبه المتواتر

(1)

في الأصل: (الإع)؛ وما أثبتُّ هو الصواب.

(2)

في الأصل: (آثار)؛ وما أثبتُّ هو الصواب.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (18194).

ص: 138

عنه، وروى هذا الحديث حديث ليلى بنت العجماء عن محمد بن عبد الله الأنصاري ــ قاضي البصرة صاحب الجزء المشهور ــ

(1)

، عن أشعث بن عبد الملك

(2)

الحمراني، عن بكر بن عبد الله المزني.

وهذه الطريق لم تبلغ أحمد بن حنبل، كما لم تبلغه طريق جسر بن الحسن عن بكر، وإنما بلغه طريق سليمان التيمي فتكلم عليها.

ومعلومٌ أَنَّ علم أبا ثور بما نقله بإسناده المعروف واتبعه وجعله مذهبًا له أعظم من علمه بما نفاه من عدم علمه بالنزاع في تكفير اليمين بالطلاق؛ فكيف يجوز [41/ أ/ أ]

(3)

أن يعتمد على نقل أبي ثور للإجماع على نفي الكفارة للطلاق مع القدح في نقله للنزاع في العتق؟! وهو أثبت عنده وعند جميع أهل العلم وهذا يجزم به، ونفي النزاع يقول: ليس عندي فيه إلا عدم العلم بالمنازع؛ فاعتقاده لذلك الإثبات أعظم من اعتقاده لهذا النفي، وحجته في ذلك الإثبات النقلي أعظم من حجته في هذا النفي النقلي.

وأحمد بن حنبل لم يطعن في هذه الطريق التي احتج بها أبو ثور وغيره على النزاع في العتق؛ وطعنهم فيه بانفراد التيمي عنه مسألة اجتهادية من أهل النقل، وأما طعن أحمد في دعوى الإجماع الذي ينقله أبو ثور ونحوه فظاهر مشهور وحجته فيه واضحة، وأحمد لم يدَّعِ إجماعًا لا في هذا ولا في هذا،

(1)

طبع برواية أبي مسلم الكجِّي وأبي محمد بن ماسي عنه. بتحقيق: مسعد بن عبد الحميد السعدني، لدى مكتبة أضواء السلف.

(2)

في الأصل: (عبد الله)، والصواب ما أثبتُّ، وسيأتي على الصواب في عدة مواضع.

(3)

صُوِّرت هذه اللوحة مرتين، في الوجه الثاني من الصورة الأولى ورقة في الوسط تحجب ما تحتها من الأصل، وفي الصورة الثانية تم التصوير بعد إزالة الورقة؛ فرمزت للأولى بالألف الثانية. وسيأتي نظائر لذلك في لوحات أخرى.

ص: 139

فإنه كان أعلم وأعقل وأفقه وأتقى لله من ذلك، ولكن عرضت له شبهة في ذكر العتق فذكر ما عنده فيه، وهو جازم بتخطئة من جزم بالإجماع في الطلاق ونحوه، ويقول: ليس معهم في مثل ذلك إلا عدم العلم، فإن جاز أنَّ يحتج بقول أحمد: انفرد به التيمي، وقد علمنا من جهة أخرى أنه لم ينفرد به، ولكن قال أحمد بحسب ما بلغه = فَلَأَن يحتج بقول أحمد وإنكاره على من ادعى ما لا علم له به من الإجماع بطريق الأولى والأحرى؛ فإنَّ هذا يجعل عدم علمه حجة لله على جميع المسلمين يجب عليهم اتباعها، والإعراض عما بينه الله ورسوله في كتابه وسنة رسوله وعما يعارض عدم علمه من علم غيره ما في ذلك من النزاع.

وأما قول القائل: لم أعلم روى هذا إلا التيمي؛ فليس في هذا إثبات حجة شرعية على غيره، وهب أن ذكر العتق في حديث ليلى لم يذكر بحال، فالنزاع في العتق عن السلف

(1)

معروف بدون ذلك، وقد نَقَلَ النزاع في العتق مع أبي ثور: محمد بن نصر المروزي ومحمد بن جرير الطبري وداود بن علي الظاهري وأبو بكر بن المنذر وأبو عمر بن عبد البر وأبو محمد بن حزم، ونقله عامة الفقهاء من المالكية والشافعية والحنبلية، لكن جمهورهم يتبعون حديث ليلى بنت العجماء وأنها يمين مكفَّرة مع تنازعهم في العتق إلا ابن جرير وداود وابن حزم، فإنَّ [41/ ب/ ب] هؤلاء يقولون: بأنها ليست بشيء بل لا شيء في ذلك؛ ومع هذا فقد نقل هؤلاء في الحلف بالعتق عن الصحابة كما نقلوا عنهم التكفير في الحلف بالنذر= فَعُلِمَ أَنَّ هذا نقلٌ ثابتٌ عند الموافقين له والمخالفين له، فإنه مع اعتراف المخالف له

(1)

في الأصل زيادة: (في العتق)، ولعل الأقرب حذفها.

ص: 140

بصحته نَعلم أنهم لم يتمكنوا من القدح فيه.

وقد قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري لما تكلم على مسألة نذر اللجاج والغضب في كتابه (اللطيف)

(1)

قال: (وَيُسْأَلُ القائلون: إِنَّ العتق واقع بمملوكِ القائلِ: مملوكُهُ فلانٌ حر إنْ كَلَّمَ اليوم فلانًا إذا حنث في يمينه؛ أتسقطون

(2)

عنه [الكفارة]؟

(3)

).

إلى أنْ قال: (فإن ادعوا أنَّ ذلك إجماع.

قيل لهم: لا علم لكم باختلاف أهل العلم، وقد روي عن ابن عمر وعائشة وحفصة وأم سلمة وعطاء وطاووس والقاسم وسالم وجماعة يكثر عددهم من أئمة الصحابة والتابعين أنَّ في ذلك كفارة يمين)

(4)

. هذا نقل ابن جرير مع اختياره أنه لا يعتق ولا كفارة عليه.

وكذلك ابن حزم وهو مع داود يقولون ــ أيضًا ــ: إنه لا يعتق ولا كفارة عليه، كما يقول ذلك في الحلف بالنذر، ويقولون ــ أيضًا ــ: لا تطلق المرأة

(1)

للطبري رحمه الله كتاب بعنوان: (لطيف القول في أحكام شرائع الدين) وأحيانًا يُسميه (لطيف القول من البيان عن أصول الأحكام) ذكره في مواضع متعددة من تفسيره وتهذيب الآثار واختلاف الفقهاء، ولا أعلم عن وجوده شيئًا.

انظر: تاريخ دمشق (52/ 196)، معجم الأدباء (6/ 2458) وقد أثنى عليه ثناءً عاطرًا، سير أعلام النبلاء (14/ 273).

(2)

في الأصل: (المسقطون)، والمثبت من قاعدة العقود (2/ 332).

(3)

زيادة من الموضعين الآتيين، وقاعدة العقود.

(4)

ذكر المجيب هذا النص عن الطبري مرةً أخرى في (ص 698)، وبأطول منه في (ص 212 - 215).

ص: 141

المحلوف بطلاقها ولا كفارة عليه ــ وهذا قول ابن جرير ــ مع أنه يقول

(1)

:

(وصح عن عائشة وأم سلمة ــ أمي المؤمنين ــ، وعن ابن عمر أنَّه جعل في قول ليلى بنت العجماء كل مملوك لها حر وكل مالٍ لها

(2)

هدي وهي يهودية و

(3)

نصرانية إنْ لم تطلق امرأتك: كفارة يمين واحدة

(4)

.

وعن عائشة ــ أم المؤمنين ــ أنها قالت فيمن قال في [يمينٍ: مالي]

(5)

ضرائب في سبيل الله، أو قال: مالي [كله]

(6)

في رتاج الكعبة = كفارة يمين

(7)

.

وعن أم سلمة وعائشة ــ أمي المؤمنين ــ فيمن قال: عليَّ المشي إلى بيت الله إن لم يكن كذا = كفارة يمين، من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أشعث الحمراني، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع

(1)

من هنا بدأ نقل المجيب كلام ابن حزم من المحلى (ص 991).

(2)

في الأصل: (لي)، والمثبت من المحلَّى.

(3)

في المحلَّى: (أو).

(4)

أخرجه الدارقطني (5/ 288)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 174/ ح 20070).

وسيأتي كلام المجيب عنه في (ص 201 - 209).

(5)

زيادة من المحلَّى.

(6)

زيادة من المحلَّى.

(7)

أخرجه مالك في الموطأ (2/ 214)، وعبد الرزاق في مصنفه (8/ 483)، وابن المنذر في الأوسط (12/ 109 - 110)، والبغوي في شرح السنة (10/ 35) وغيرهم.

ص: 142

عنهما

(1)

.

قال: وروينا عن جابر بن عبد الله أنه قال: النذر كفارته كفارة يمين

(2)

.

وعن ابن عباس مثل هذا

(3)

.

وعن عمر بن الخطاب [نحوه]

(4)

.

وعن عكرمة والحسن فيمن قال: مالي كله في رتاج الكعبة = كفارة يمين

(5)

.

قال: وصح عن طاووس وعطاء؛ أما طاووس فقال: الحلف بالعتاق ومالي هدي وكل شيء لي [42/ أ] في سبيل الله وهذا النحو= كفارة يمين

(6)

. وأما عطاء فقال فيمن قال: عليَّ بدنة، أو قال: عليَّ ألف حجة، أو قال: مالي هدي، أو قال: مالي في المساكين= كل ذلك

(1)

لم أجده، والمروي من هذا الطريق ما جاء عن أم سلمة وعائشة، في قصة ليلى بنت العجماء.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 442).

(3)

أخرجه عبد الرزاق (8/ 480)، وابن أبي شيبة (12172، 12175)، وفيهما أنها يمين مغلظة.

(4)

زيادة من المحلَّى.

والأثر أخرجه البيهقي في السنن الكبير (20/ 177/ ح 20073).

(5)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 483، 489).

(6)

أخرجه عبد الرزاق (8/ 483).

ص: 143

يمين

(1)

.

قال: وهو قول قتادة، وسليمان بن يسار، وسالم بن عبد الله بن عمر

(2)

.

قال أبو محمد بن حزم: كل هذا خلافٌ لقول أبي حنيفة ومالك والشافعي، لأنَّ الشافعي أخرج من ذلك العتق المعين.

قال: والذي ذكرنا عمن ذكرنا من الصحابة والتابعين هو قول عبيد الله بن الحسن وشريك وأبي ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد، وبه يقول الطحاوي، وذكر أنه قول زفر بن الهذيل وأحد قولي محمد بن الحسن.

قال: وقد روينا من طريق ثابتة عن ابن القاسم ــ صاحب مالك ــ أنه أفتى ابنه في المشي إلى مكة بكفارة يمين)

(3)

.

قلتُ: مقصوده بذلك النقل عن هؤلاء أنهم أفتوا في التعليق الذي يقصد به اليمين بكفارة يمين، ليس مقصوده أنهم كلهم أفتوا في العتق بعينه، بل فيهم من أفتى بذلك في العتق أيضًا؛ كأبي ثور، ومنهم من نفاه كأحمد وإسحاق وأبي عبيد، ومنهم من لم يعرف قوله في العتق.

(1)

أخرجه عبد الرزاق (8/ 483).

(2)

نقله عنهم أبو عمر ابن عبد البر في الاستذكار (15/ 47)، ولم أقف عليها مسندةً.

(3)

هنا انتهى النقل من المحلَّى.

والرواية عن ابن القاسم أسندها ابن حزم في المحلَّى (ص 991)، وابن عبد البر في الاستذكار (15/ 43) وقال عنها: رواها الثقات العدول. وقال ابن رشد في البيان والتحصيل (3/ 474): إنْ صحَّ ذلك عنه.

ص: 144

قال

(1)

: (وقد روينا مثل تفريق الشافعي ــ أيضًا ــ بخلاف قوله ــ أيضًا ــ عن ابن عمر وابن عباس من طريق إسماعيل بن أمية، عن عثمان بن حاضر قال: حَلَفَت امرأة: مالي في سبيل الله وجاريتي حرة إن لم تفعل [كذا]

(2)

. فقال ابن عباس وابن عمر: أما الجارية فتعتق، وأما قولها: مالي في سبيل الله فتصَّدَّق بزكاة مالها)

(3)

.

قلتُ: معنى قوله مثل تفريق الشافعي؛ أي: مثل قوله في أَنَّ العتق يلزم، لم يُرِدْ مثلَ تفريقِ الشافعي بين العتق والنذر، حيث قال في النذر كفارة يمين، وفي العتق يلزم؛ فإن هذه الفتيا إنما فيها التسوية بين العتق والنذر في لزوم الجميع، وفيها ــ أيضًا ــ أنه يجزئه أن يتصدق بزكاة ماله ليس فيها تكفير ذلك كما يقوله الشافعي وأحمد وغيرهما.

قال

(4)

: (وقد روينا مثل قول أبي حنيفة [ومالك]

(5)

عن ابن عمر من طريق لا يصح، وقد خالفوه ــ أيضًا ــ فيها؛ كما روينا من طريق سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية، حدثنا جميل بن زيد، عن ابن عمر

(6)

[42/ ب] قال: مَنْ حلف على يمين إِصْرٍ فلا كفارة له

(7)

. والإصْرُ: أَنْ يحلف بطلاق أو عتاق أو مشي أو نذر،

(1)

ابن حزم في المحلَّى (ص 991).

(2)

زيادة من المحلَّى.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف (15998)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 182/ ح 20081).

(4)

ابن حزم في المحلَّى (ص 991).

(5)

ما بين المعقوفتين ليس في المحلى.

(6)

الكلمة غير واضحة في الأصل، والمثبت من المحلَّى.

(7)

لم أجده عند سعيد بن منصور في المطبوع من سننه وتفسيره.

والأثر أخرجه ابن قتيبة في غريب الحديث (2/ 316)، وابن المنذر في الأوسط (12/ 131) وقال: ليس بثابت. وضعفه ابن حزم كما سيأتي.

ص: 145

ومن حلف على يمين غير ذلك؛ فليأت الذي هو خير فهو كفارته.

قال ابن حزم: جميل بن زيد ساقط، ولو صح لكانوا قد خالفوه في هذا الخبر نفسه، لأنه لم يجعل فيمن أتى خيرًا مما ترك

(1)

أن يفعله كفارة إلا فعله ذلك فقط.

قال: فإن قالوا: قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا بالكفارة.

قلنا: نعم؛ وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله

(2)

، ونهى عن الوفاء بنذر المعصية

(3)

؛ فإن كان قولُهُ يمينًا فهي

(4)

معصية، وإن كان نذرًا فهو معصية إذا

(5)

لم يقصد به قصد القربة إلى الله، فلا وفاء فيه ولا كفارة؛ فحصل قول هؤلاء القوم خارجًا عن أقوال السلف).

(1)

في المحلَّى: (حلف).

(2)

جاء في الباب نصوص كثيرة بالنهي والوعيد لمن حلف بغير الله؛ منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركبٍ وهو يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أَلَا إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم؛ فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو فليصمت» أخرجه البخاري (6108) ومسلم (1646). وحديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم» أخرجه ابن أبي شيبة (889)، وابن ماجه (2095).

(3)

فقال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ، وقد تقدم تخريجه (ص 6).

(4)

في المحلَّى: (فهو).

(5)

في المحلَّى: (إذ).

ص: 146

قلتُ: ليس المقصود ذكر بحثه لقوله الذي اختاره هو أَنَّ هذه التعليقات التي يقصد بها اليمين ليس نذرًا ولا يمينًا منعقدة، وهذه قول طائفة من السلف، وهي أصل مذهب داود وابن حزم أيضًا؛ لكن المقصود: جزمه وتصحيحه لما نقل عن الصحابة والتابعين من أن الحالف بالعتق إذا قال: كل مملوك لي حر إن فعلت فإنها يمين مكفرة عند من ذكر عنه ذلك من الصحابة والتابعين، وأنَّ ما ذهب إليه من إلزام الحالف بهذه التعليقات بجميع ما التزمه أو ألزمه بغير العتق فإنه مما نقله ابن حزم قولٌ خارج عن أقوال السلف، وهذا كما قال ابن حزم فإنه لا يُعْرف عن أحد من الصحابة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه ألزم الحالف بهذه الأيمان بجميع ما أَلزم نفسَهُ فيها ولا أَلزمَهُ بجميع ذلك إلا العتق، بل ولا ألزمه بجميع ذلك إلا

(1)

العتق والطلاق، فليس مع القائل بشيءٍ من هذه الأقوال نقل مسند

(2)

عن أحد من الصحابة، ولكن ذكره ابن عبد البر بلا إسناد عن عائشة

(3)

في استثناء الطلاق والعتاق

(4)

.

والمروي عن عائشة رضي الله عنها بالإسناد المعروف يناقض ذلك؛ فتارة تصرح بالتكفير في العتق وغيره

(5)

، وتارة يعم لفظها جميع الأيمان

(6)

، ولم

(1)

كذا في الأصل، وفوقها حرف (ظ).

(2)

في الأصل: (سند)، والصواب ما أثبتُّ.

(3)

(عن) وحرف العين من عائشة غير واضح في الأصل، وبما أثبت يستقيم الكلام.

(4)

لم أجده مسندًا. وقد ذكره ابن عبد البر في الاستذكار (15/ 406) بلفظ: (كلُّ يمين ليس فيها طلاق ولا عتاق، فكفارتها كفارة يمين).

(5)

كما في قصة مولاة أبي رافع، وسيأتي ذكرها في كلام المجيب.

(6)

كما في قولها: (كل يمين ــ وإنْ عظمت ــ فكفارتها كفارة يمين).

ص: 147

يُسْنَد عنها لفظ تستثني [43/ أ] فيه الطلاق والعتاق فيما بلغنا، ولا ذكر ذلك أحد عنها مسندًا.

فكيف يسوغ مع هذا أنْ يُنْكِرَ أقوال الصحابة رضي الله عنهم، أو الصحابة والتابعين في العتق مع كثرة من نقل عنهم، وجلالة أقدارهم، وسعة علمهم، وتثبتهم فيما ينقلونه، وهم يَرْوون ذلك بالأسانيد الثابتة المعروفة عن الصحابة والتابعين، ثم يَدَّعِي الإجماع على الطلاق؟!

وبعضُ هؤلاء هو الذي نَقَلَ الطلاق، وقد نازعه غيره من هؤلاء، فهم متفقون على نقل النزاع في العتق مختلفون في نقل الإجماع في الطلاق، فلو لم نعلم خلافًا ثابتًا في الطلاق لكان إمساكنا عن نقل الإجماع في الطلاق مع اختلافهم فيه ونَقْلُنا للنزاع في العتق الذي اتفقوا على نقل النزاع فيه= أولى من أنْ نجزم بالإجماع في الطلاق مع ما ثبت من نقل النزاع فيه، وننفي النزاع في العتق مع ما ثبت واشتهر وعرفه الفقهاء من نقل النزاع فيه.

وأما ما نقله ابن المنذر في الإشراف عن أبي ثور فيما إذا قال لعبده: إنْ لم أضربك فأنت حر وأراد بيعه؛ أنه إذا لم يجعل لذلك وقتًا لا يقع عليه العتق، وقوله: وهذا يقتضي أنه إذا جعل له وقتًا يقع

(1)

.

فيقال له: ابن المنذر نفسه ممن نقل النزاع في العتق عن الصحابة والتابعين، وعن أبي ثور نفسه، وهو في هذا النقل موافق لسائر العلماء الناقلين لأقوال السلف مسندة بألفاظها ومرسلة بمعانيها أو بألفاظها، وقول أبي ثور في العتق مشهور يعرفه عامة العلماء، فلا يحتج بمفهوم نقل ابن

(1)

تقدمت الإشارة له في (ص 133).

ص: 148

المنذر على نقيض ما صرح به هو وغيره.

بل قوله: (إذا لم يجعل لذلك وقتًا لا يقع العتق عليه) كلامٌ صحيحٌ؛ ومقصوده: أنه يخالف قول من يقول: يقع العتق عليه، أو يُلْزَم بإيقاع العتق إما مطلقًا وإما مع نية القربة، كما هو قول كثير من أهل العلم، وأبو ثور يقول في مثل ذلك: لا عتق عليه ولا كفارة، وابن المنذر لم يقل ولا كفارة عليه، مع أنَّ هذا مذهب أبي ثور في هذا الموضع، وأما بعد وجود الصفة فمذهبه أنه إن شاء أعتقه، وإن شاء كَفَّر ولا عتق عليه.

وما نقله عن الحسن؛ إن صحَّ كان روايةً عن الحسن

(1)

.

وقد روي عنه رواية أخرى ذكرها حرب: أنه يستثني [43/ ب] الطلاق والعتاق

(2)

.

وقد نُقِلَ عن غير واحد من التابعين في هذا الأصل اختلاف؛ كما نقل عن الشعبي وغيره

(3)

، والرواية التي ذكرناها عن الحسن في العتق ثابتة معروفة، وقد نَقَلَ ذلك عن الحسن عامة العلماء مثل: أبي ثور، ومحمد بن

(1)

نقله المعترض كما سبق (ص 133).

(2)

ساق المصنف رحمه الله إسناد حرب الكرماني في القواعد الكلية (ص 471): عن معتمر بن سليمان، عن عوف، عن الحسن قال:(كل يمين ــ وإِنْ عظمت ــ ولو حلف بالحج والعمرة، وإِنْ جعل ماله في المساكين؛ ما لم يكن طلاق امرأة في ملكه يوم حَلَفَ، أو عتق غلام في ملكه يوم حلف؛ فإنما هي يمين).

وانظر: مجموع الفتاوى (35/ 259)، الفتاوى الكبرى (4/ 121).

(3)

سينقل المصنف إسناد أثر الشعبي وغيره من كتاب اللطيف لابن جرير، كما في (ص 214).

ص: 149

نصر، وابن عبد البر، وقد ذكرنا الإسناد الثابت عن الحسن، وقد رواه حماد بن سلمة في (جامعه) المعروف عن حبيب بن الشهيد أنه سأل الحسن البصري عن رجل قال:(كل مملوك له حر إِنْ دخل على أخيه. فقال: يكفر يمينه). وكذلك نقله ابن عبد البر.

وأما ما نقله

(1)

عنه من قوله لعبده: (إِنْ بعتك فأنت حر؛ أنه يعتق من مال البائع)، فهذا لم يذكر إسناده؛ ومع هذا فينبغي أَنْ يُعرف أَنَّ ما ذكرناه صريح عنه بأنه إذا قصد اليمين كفر يمينه ولا يلزمه العتق، لأن هذه الصيغة وهو قول: كل مملوك له حر إن فعل كذا؛ لا يقصد به في العادة إلا اليمين، فالصيغة ظاهرة في اليمين، بخلاف قوله: إن بعتك فأنت حر؛ فإنه لا يظهر فيها قصد اليمين كما يظهر في تلك، فقد يكون الحسن لم يتبين له أَنَّ هذا قَصَدَ اليمين، بل رآه تعليقًا للعتق فرتَّب عليه موجبه، وكذلك ما نقل عنه في الطلاق.

وقد تكون الصيغة التي تحتمل قصد اليمين وقصد العتق والطلاق يحملها على ذلك، ولا يقبل من القائل خلاف ذلك بخلاف ما يظهر منه قصد اليمين؛ وذلك أَنَّ قولَهُ: إن بعتك فأنت حُرٌّ؛ قد يقصد به: أَيَّ وقت قصدتُ إخراجَكَ من ملكي بالبيع فأنت حر يقصد إعتاقه، ولهذا جعله يَعتق من مال البائع، فإنه ليس مراده: إذا بعتك بيعًا يخرج به عن ملكي؛ فإنَّ هذا لا يقصده عاقل، فإنه جَمْعٌ بين المتناقضين، بل يكون مراده: إذا قصدتُ أَنْ أبيعك وعقدتُ بيعك، فالبيع باطل وأنت حُرٌّ لوجه الله؛ ومن أراد هذا عَتَقَ

(1)

أي: المعترض في صفحة (133).

ص: 150

عليه من ملكه، فنجمع بين قولي الحسن ولا نضرب أحدهما بالآخر

(1)

.

وما نقله أبو الحسن الجُوري عنه

(2)

من أنه إذا باعه على أنه لا خيار لواحد منهما، لم يكن لهما خيار المجلس فلا يعتق، فهذا نَقْلٌ [لا]

(3)

يُعرف إسناده، ولا الناقل من المشهورين بنقل أقوال الصحابة والتابعين العارفين بها؛ فلا يعارض مثلُ هذا النقلِ الثابتَ بالإسناد المعروف [44/ أ].

وهذا يناقض قوله: إنه يعتق من مال البائع مطلقًا، وهذا القول هو معروف لبعض المتأخرين من أصحاب أحمد الذين يعللون العتق بكون البائع له في مدة الخيار أن يعتقه، بخلاف ما إذا لم يكن له خيار. وقال هؤلاء: يعتق إلا إذا شرط نفي الخيار، وقلنا: يصح الشرط، فإنَّ هذا هو إحدى الروايتين عن أحمد. وأما الشافعي فعنده هذا شرط باطل، لأنه إسقاط للحق قبل وجوبه بخلاف ما إذا أسقطه في المجلس، وأحمد عنده في الموضعين روايتان، لأنَّ الإسقاط قَارَنَ سبب الإيجاب.

* * * *

(1)

انظر ما سيأتي (ص 735).

(2)

أي: عن الحسن؛ كما تقدم في أول الفصل.

(3)

يوجد طمس هنا، وبما أثبت يستقيم المعنى.

ص: 151

فصلٌ

قال المعترض:

(ولو صَحَّ الخلاف في مسألة العتق لم يَلزم طرده في الطلاق للإجماع المتقدم، وللفرق الذي سنذكره ــ إن شاء الله تعالى ــ.

وقد تمسك في النقل عن الصحابة الذين ذكرهم في العتق بالأثر الذي يذكره، وذلك لو ثبت لا يفيده للفرق الذي سنذكره ــ إن شاء الله ــ، وللإجماع على الطلاق المانع من الإلحاق.

فقد عَرَّفْتُكَ ــ فيما تقدم ــ أني تتبعت أقوال الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم إلى زمننا هذا؛ فلم أعلم أحدًا قال بهذا القول الذي اخترعه ابن تيمية من سلف ولا خلف!)

(1)

.

قوله: (لو صح الخلاف في العتق لم يلزم طرده في الطلاق للإجماع)؛ فعنه جوابان:

أحدهما: أَنَّ المجيب لم يذكر النزاع في الطلاق أخذًا له من النزاع في العتق، بل الطلاق فيه نزاع مذكور فيه بخصوصه بين السلف والخلف، لا نحتاج في نقل النزاع في الطلاق إلى نقله في العتق، وليس في كلام المجيب قط أَنَّ النزاع في الطلاق ذُكِرَ لأجل النزاع في العتق، وإنما ذَكَرَ النزاع في العتق لأنَّ أحدًا من السلف والأئمة المشهورين لم يفرق بين الطلاق والعتاق، بل يقولون بلزومهما جميعًا؛ فإذا عُرِفَ الخلاف المشهور عن الصحابة والتابعين

(1)

«التحقيق» (35/ ب).

ص: 152

في العتق= كان الدليل الدال على أنه لا يلزم بل يجزئ فيه كفارة يمين هو بعينه يدل على ذلك في تعليق الطلاق وأولى، فيكون ذلك عملًا بالدليل الجامع لهما، واستثنينا النزاع في العتق لئلا يَدَّعِي من لا يعلم النزاع فيه أنَّ فيه إجماعًا؛ كما ادعى ذلك طائفة ادعوا أَنَّ الطلاق والعتاق لا كفارة فيهما بالإجماع [44/ ب] إذ كان لم يبلغهم النزاع في ذلك فذكروا ما عندهم.

ولهذا أنكر ابن جرير الطبري

(1)

على هؤلاء وقال لمن ادعى ذلك: لا علم لكم باختلاف أهل العلم، ثم ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في إجزاء الكفارة في الحلف بذلك إذا قال: إِنْ فعلت كذا فمملوكي حر؛ وكان ما نَقَلَهُ هؤلاء الأئمة وما يُنْقَلُ بالإسناد الثابت يتضمن الرد على من يحرف الكلم عن مواضعه، ويجعل قولهم في الحلف بالعتق إذا قال: العتق يلزمني وأراد به نذر العتق لا إيقاعه؛ مع أَنَّ هذا كما زعمه المعترض مع أنه يقول في قوله: الطلاق يلزمني؛ أنه إيقاع

(2)

.

فيقال له: كلا اللفظين سواء؛ والمشهور عند الناس إذا قال أحدهم: العتق يلزمني أو الطلاق يلزمني؛ أنه جعل اللازم له وقوع الطلاق والعتق، لم يجعل اللازم له إيقاعًا في ذمته حتى يكون بمنزلة الناذر لذلك

(3)

.

وكذلك قولهم: أيمان المسلمين تلزمني والحرام يلزمني ونحو ذلك؛ إنما يريد به الناس في العرف المعروف بينهم أنه يلزمه أن يكون الحلال حرامًا، لم يرد أنه يلزمه أن ينشئ بعد ذلك تحريمًا للحلال.

(1)

في كتابه (اللطيف) كما تقدم (ص 141).

(2)

عبارة المجيب من قوله: (ويجعل قولهم في الحلف بالعتق) إلى هنا فيها إشكال.

(3)

في الأصل: (كذلك)، والصواب ما أثبتُّ.

ص: 153

وكذلك إذا قال: أيمان المسلمين تلزمني؛ مراده: أنه يلزمني ما يلزم المسلمين في أيمانهم إذا حلفوا بها، لم يرد أنه يلزمني أن أحلف بها فيما بعد.

الثاني: أن الصحابة والتابعين الذين أفتوا في قوله: إِنْ فعلتُ كذا فكل مملوك لي حر؛ إذا كانوا قد عللوا ذلك بأنه يمين وسووا بين ذلك وبين قوله: إِنْ فعلت فمالي في سبيل الله ومالي هدي= عُلِمَ أَنَّ الفرق الذي يذكره مَنْ يُفَرِّق بين الحلف بالعتق والحلف بالنذر باطل عندهم، وأَنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين يمينٌ

(1)

عندهم سواء كان المعلَّق وجوبًا في الذمة أو كان المعلَّق وقوعًا في عين.

فعلم بذلك أن ما يذكره المعترض وغيره من أصحاب الشافعي وأحمد ممن يُفَرِّقُ بين الطلاق والعتاق وبين النذر باطل عند هؤلاء الصحابة والتابعين، وأَنَّ مناطَ الحكمِ عندهم كونه قَصَدَ اليمين دَلَّ

(2)

على ذلك كلامهم؛ وحينئذٍ فيستدل بذلك على أن كل من قصد اليمين

(3)

بتعليقه هو حالفٌ عندهم، وإنْ كان المعلق وقوعًا.

والشافعي [45/ أ] وأحمد وغيرهما من الفقهاء طردوا أقوال الصحابة والتابعين في جنس الحلف بالنذر، وليس معهم إلا فتياهم في بعض الصور، لأنهم جعلوا ذلك يمينًا وعلقوا الحكم بذلك.

(1)

في الأصل: (يمينًا)، والجادَّة الرفع.

(2)

مقدار كلمة لم أستطع قراءتها، ويظهر في آخرها حرف اللام، ولعلها ما أثبتُّ.

(3)

كلمة (اليمين) لم يظهر منها إلا بعض الحروف، وبها يستقيم الكلام.

ص: 154

وهذا معنى عام لكل ما يقصد به اليمين من التعليقات مثل قوله: إِنْ فعلت كذا فمالي في الأضاحي ومالي وَقْفٌ ونحو ذلك مما لم ينقل عن الصحابة، وكذلك إذا قال: إِنْ فعلت كذا فالحلُّ عليَّ حرام وأنت عليَّ كظهر أمي وامرأتي طالق؛ هذا ــ أيضًا ــ إنما قَصَدَ به صاحبه اليمين، فالمعنى الذي جَعَلَ الصحابةُ التعليقَ يمينًا لأجلِهِ موجودٌ في هذه التعليقات، وعموم علتهم تتناوله كما تتناول غير ذلك من الصور.

ومعلوم أن العلماء كلهم إذا أفتى أحدهم في عين أو نوع وعَلَّلَ ذلك بعلة يوجد في غيرها= لزم أن يكون قوله في تلك الصورة كذلك؛ ولهذا ينقل الناس مذاهب السلف إذا عرفوا عللهم ومآخذهم، لاسيما إذا لم يكن بين الصورتين فرق يذهب إليه مجتهد

(1)

، وليس بين الطلاق والظهار والحرام وبين العتق فرق يذهب إليه مجتهد، بل كل من تدبر الشرع علم قطعًا أنه إذا كان قوله: إِنْ فعلت كذا فكل مملوك لي حر= لا يلزم عتق شيء من مماليكه، بل تجزئه كفارة يمين= فقوله: إِنْ فعلت كذا فأنتِ عليَّ كظهر أمي والحِلُّ عليَّ حرام ونسائي طوالق= أولى ألا يقع به الظهار والتحريم والطلاق، بل تجزئه كفارة يمين؛ فإنَّ العتق يتشوف إليه الشارع، وهو من القُرَبِ والطاعات، وله سراية ونفوذ في ملك الغير، وهو مما يلزم بالنذر إذا نذره وقد جعله واقعًا عند وجود الصفة.

ثم هؤلاء الصحابة والتابعون لهم بإحسان الذين أفتوا بأنه لا يقع العتق الذي عَلَّقَهُ بالصفة وجعله واقعًا عند وجود الصفة لكونه قصد اليمين لم

(1)

مجموع الفتاوى (29/ 40)، الفتاوى الكبرى (4/ 26)، القواعد الكلية (ص 252). انظر (ص 160، 274 - 276، 278 - 280، 288 - 290).

ص: 155

يقصد الإيقاع ولا الوقوع إذا وجدت الصفة، بل هو من أبعد الناس عن ذلك= يقولون ــ أيضًا ــ: إنه لا يلزمه الظهار والتحريم والطلاق الذي جعله واقعًا عند وجود الصفة إذا قصد به اليمين بطريق الأولى والأحرى.

فإنَّ الشارع على الالتزام بالطلاق أبعد منه عن الالتزام بالعتاق، والعتق يأمر به ويحض عليه، والطلاق لا يأمر به إلا إذا لم يقوما بالواجب، [45/ ب] بل يحرمه في مواضع باتفاق المسلمين، وفي مواضع أخر إما أن يكرهه أو لا يستحبه بل يحب تركه.

وهذا المعترض ونحوه ممن يقول على هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم ما لم يقولوه من التفريق بين الطلاق والعتاق يقول: إنهم أخطأوا في هذا القول والتفريق، فيحكي عنهم قولًا يَشهد بفساده، ولم يقولوه قط، ولا قالوا ما يدل عليه، ولا نُقِلَ عنهم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، بل كلامهم الثابت عنهم يدل على أنهم يُسوون بين النوعين ويقولون بالتكفير فيهما.

وهذا القول إذا قالوه لم يمكن أحدًا أن يقول: إنهم تناقضوا وأخطأوا، بل يكون الذي قالوه موافقًا للكتاب والسنة والقياس الجلي؛ فأي الفريقين أولى بالصواب: مَنْ يحمل أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان على ما يدل عليه لفظهم وتعليلهم وسائر كلامهم مع أنه صواب مستقيم موافق للمعقول والمنقول للكتاب والسنة والقياس الجلي، أم من يحمل كلامهم على شيء لم يقولوه ولم يقولوا ما يدل عليه لا لفظًا ولا معنى بل قالوا ما يدل على نقيضه؟!

ثم مع نقله هذا عنهم يقول: إنهم أخطأوا وغلطوا؛ فلينظر أي الطريقين أحق بالصواب وأعلم وأصدق وأعدل وأقوم بما أوجبه الله ــ عز وجل ــ من حقوق

ص: 156

الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وبما يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار؟

وهذا الذي يُقَوِّلُهُم ما لم يقولوه ويزعم أنهم أخطأوا ليس معه بذلك نقل عنهم أصلًا، لكن معه عدم علم أبي ثور بالنزاع في مسألة الطلاق، وعدم علم من اتبعه؛ فكان عدم علم هؤلاء عند هذا المعترض وأمثاله موجبًا لما سلكه من تقويل الصحابة ما لم يقولوه، بل قالوا ما يدل على نقيضه، وتخطئتهم فيما قوَّلهم إياه مع أنهم أحق الناس بالصواب في هذا وغيره.

فإنَّا كما أَنَّا نعلم مجملًا أنهم فوقنا في كُلِّ علم وهدى وفقه وفضل وفهم وكُلِّ سببٍ ينال به علم أو يدرك به حق= كان رأيهم لنا خيرٌ من رأينا لأنفسنا، فإنا ــ ولله الحمد ــ قد علمنا مفصلًا أن أقوالهم التي يخالفهم فيها مَنْ بعدهم هي الصواب دون قول منازعيهم، كما عرفنا ذلك في مسائل الأيمان والطلاق وغير ذلك.

وأبو ثور رحمه الله [46/ أ] لم يفرِّق بين الطلاق والعتاق بفرقٍ معنوي ولا دليلٍ شرعي من الكتاب والسنة يذهب إليه المجتهد من الصحابة، بل جعل ذلك موضع استحسان، وجَوَّزَ تخصيص العلة لغير فوات شرط ولا وجود مانع لما ظنه من الإجماع

(1)

.

ومعلومٌ أن هذه طريقة باطلة؛ وهي ممتنعة من الصحابة، فإنه لا إجماع قبل زمانهم يَعتمدون عليه كما اعتمد عليه أبو ثور ونحوه

(2)

، والحلف بالطلاق في عهد الصحابة كان أقل من غيره، وقد علم يقينًا أنه لم يكن فيه

(1)

انظر ما سيأتي (ص 160 - 161، 378).

(2)

انظر ما سيأتي (ص 168 - 169، 345، 377، 676).

ص: 157

إجماع في عهد الخلفاء الراشدين، بل ولا ينقل عن أحد منهم الإفتاء فيه ولا الحكم في شيء منه، ولا هو مما يدل القرآن عليه دلالة بينة، ولا فيه سنة معروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تقدم عائشة وحفصة وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ونحوهم من الصحابة الذين أفتوا في الحلف بالعتق والنذر بالكفارة لكون ذلك يمينًا = لم يتقدمهم من الخلفاء رضي الله عنهم نقل مشهور في الحلف بالطلاق يُظَنُّ أنه إجماع ليفعلوا ما فعل أبو ثور، بل لا يُعرف قَطُّ عن أحدٍ من المسلمين قبل أبي ثور أنه فَرَّقَ بين الحلف بالطلاق والعتاق.

وابن جرير إنما فَرَّقَ موافقة لأبي ثور لعدم العلم بالنزاع، لأنَّ له في دعوى الإجماع أصلًا ضعيفًا؛ فإنه يجعل قول الجمهور إجماعًا ولا يعتد بخلاف الواحد والاثنين

(1)

، بخلاف ما يحكيه من النزاع فإنه ليس له فيه أصل ضعيف؛ فلهذا كان الواجب أن نعتمد على نقله للنزاع دون نقله للإجماع كما فعله المجيب، دون ما فعله المعترض ونحوه من اعتماده على نقله للإجماع دون نقله للنزاع.

والمقصود: أَنَّ الصحابة رضي الله عنهم لم يسبقهم إجماع يعتمدون عليه ليظنوا إجماعًا كما ظنه أبو ثور.

والشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة يذكرون أن الصحابة والتابعين لم يكونوا يَدَّعون الإجماعات في مثل هذه الأمور.

قال الشافعي: [

]

(2)

.

(1)

انظر ما تقدم (ص 9).

(2)

بياض مقدار سطر ونصف.

ص: 158

فلو فرقوا لم يفرقوا إلا بكتاب أو سنة أو قياس، ومن المعلوم أنه ليس في [46/ ب] الكتاب والسنة فرق بينهما ولا في القياس، بل الفرق بينهما خطأ محض، كما اتفق على ذلك سلف الأمة وجمهورُها، لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء أنه فرق بين الحلف بالطلاق والحلف بالعتاق، بل كلهم متفقون على أن هذا الفرق خطأ، وكلام الصحابة الذين سَوَّوا بين العتاق والنذر بل والذين أفتوا في النذر بالكفارة يدل على التسوية، وأن التعليق الذي يقصد به يمين من أيمان المسلمين هو يمين عندهم ليس إيقاعًا لعتاق ولا نذر ولا ظهار ولا تحريم ولا طلاق.

فتبيَّن أَنَّ المجيب ذكر نصوصهم في العتق لِتَبِينَ

(1)

بذلك أقوالهم في الطلاق = كان ما سلكه أحسن مما يسلكه المعترض، حيث جعل قولهم ما لم يقولوه من الفرق، وَخَطَّأَهم في ذلك لمجرد ظَنِّ ظانٍّ بعدهم بأكثر من مائتي سنة أنه لا يَعرف نزاعًا في الحلف بالطلاق، والحلف بالطلاق لا يُعرف عن أحدٍ من الصحابة بإسناد ثابت صريح أنه يلزم، ولا يُعْرَف أَنَّ أحدًا نقل ذلك عنهم، بل من نقله إما أن ينقله بإسنادٍ ضعيفٍ بل مكذوبٍ، أو بلفظٍ لا يدل دلالة بينة، مع أن الأظهر عنهم نقيض ذلك؛ وغايته أن ينقله عن ابن عمر الذي اختلفت النقول عنه في التعليق الذي يقصد به اليمين. نُقِلَ عنه: أنه يُلزِم به؛ نُقِلَ ذلك عنه من وجه صحيح ووجه متوسط ووجه ضعيف. ونُقِلَ عنه من وجوه أثبت من ذلك: أنه لا يُلْزِم به، بل يقول فيه بالتكفير؛ نقل ذلك عنه من وجه صحيح ومن وجه متوسط، وفيه أنه رجع عن ذلك القول، ومثل هذا يوجب أن يكون عنه روايتان في هذا الأصل، وكثيرًا ما اختلف

(1)

الكلمة غير منقوطة، وتحتمل:(لِيُبَيِّنَ).

ص: 159

اجتهاده واجتهاد غيره من الصحابة رضي الله عنهم.

وهذا الأصل ـ وهو أن هذا التعليق الذي يقصد به اليمين ـ هل هو يمين أم لا؟ مما اختلف فيه اجتهاد التابعين ومن بعدهم، وصار إلى كل قول طوائف من أكابر العلماء، كما اختلفوا في مسألة نذر اللجاج والغضب.

فإذا قيل عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول بهذا تارة وبهذا تارة = كان هذا مما يليق بمثله وأمثاله من أهل العلم والدين، وابن عمر قد أفتى في روايةٍ بالتكفير في العتق

(1)

ورواية الإلزام بالعتق، فإنَّ الحلف بالعتق كالحلف بالنذر، تارة يقول [47/ أ] بتكفير الجميع وتارة يقول بأنه يلزم الجميع، لم يُقَوِّلْهُ أَحَدٌ ولا نَقَلَ عنه أحد أنه يفرق بين العتق والنذر، فَيُلْزِمُ بالعتق ويقول في النذر بالتكفير، مع أَنَّ هذا قولُ جماعةٍ من أكابر العلماء كالشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد ومحمد بن نصر وغيرهم، ولهؤلاء مأخذ قد يشتبه على أكابر المجتهدين، وإن كان جمهور الناس على إبطال هذا الفرق وإفساده.

فإذا كان الصحابة لم يَرُجْ عليهم مثل هذا الفرق، ولم يُفَرِّقْ أحدٌ منهم بين العتق والنذر فيلزمون بالعتق دون النذر، بل كان ما أعطاهم من العلم والإيمان كاشفًا لهم عن فساد هذا الفرق؛ فكيف يظن بهم أنهم فرقوا بين الطلاق والعتاق مع أَنَّ هذا لم يقله أحد قبل أبي ثور؟! ولا بينهما فرق معنوي يجوز أن يذهب إليه مجتهد.

وأبو ثور رحمه الله لم يذهب إلى الفرق لفرقٍ معنوي يَذْهَبُ إليه مجتهد،

(1)

في الأصل: (التكفير للعتق)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

ص: 160

بل جعله استحسانًا خارجًا عن القياس لغير معنًى أصلًا، ولا ذكر معنى اختص به الطلاق يفرق بينه وبين العتق، بل لظنه الإجماع؛ فمن ادعى بعد هؤلاء فرقًا معنويًا يدل عليه كتاب وسنة وقياس = فهو المبتدع قولًا في الإسلام لم يَسْبِقهُ إليه أحد، ولا يُحكى هذا عن أحد من العلماء البتة؛ فكيف إن اعترف بفساد الفرق؟!

وقول هذا لا [

]

(1)

الأمة من الصحابة والتابعين وجعلهم مخطئين مع أنه ليس في كلامهم ما يدل على الفرق، بل على التسوية والجمع بين ما جمع الله ــ عز وجل ــ ورسوله صلى الله عليه وسلم بينهما؛ فالله ــ تعالى ــ ينتصر لأوليائه الذين هم صفوة الأمة وخلاصتها، ويُبيِّن الحق، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، وهو الذي أرسل رسوله

(2)

بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا.

ومعلومٌ أَنَّ أصحاب الأئمة كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والثوري وإسحاق لا يرضون لأئمتهم بهذا، بل إذا نَصَّ أحدهم على مسألةٍ لعلةٍ وَنَصَّ على نظيرها بخلاف ذلك، فإنه إنْ كان بينهما ما قد يُظَنُّ أنه فَرْقٌ مؤثِّر اختلف اجتهادهم؛ فمنهم من يرى التسوية [فيحكي]

(3)

لذلك الإمام في المسألة قولين، وينصر في أحدهما خلاف نصه، ويجعله قوله [47/ ب] حيث كان مقتضى تعليله، ومنهم من يرى أَنَّ ذلك فَرْقٌ صحيحٌ فيفرِّقُ بينهما وينتصر لصحة الفرق، وأما أَنْ يَنقل عن إمامه الفرق مع اعترافه بفساد الفرق

(1)

كلمة مطموسة لم يظهر منها إلا حرف الألف والنون (ـان).

(2)

في الأصل: (رسله)، والصواب ما أثبتُّ.

(3)

كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ.

ص: 161

ويجعل ذلك قوله؛ فهذا لا يرضى به أصحاب الأئمة لهم، بل يقولون نصه على فردٍ من نوع نَصٌّ على ذلك النوع؛ فكيف يُرضى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان بما لا يُرضى لمن بعدهم؟! مع أَنَّ غايةَ مَنْ بعدهم خصوصًا في هذه المسائل أنْ يتبعهم فيها.

فهذا الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد غايتهم أن تبعوا فيها ما روي عن أولئك، والشافعي أَصْلُ قوله هو قول عطاء، وعليه فَرَّع كما صَرَّحَ بذلك في كتبه

(1)

، ولو علم الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم ما قاله الصحابة في العتق لم يعدلوا عنه؛ لكنَّ الشافعي بلغه أثر ليلى مجملًا ولم يكن عنده به إسناد، ولا ذكر إسناده ولا متنه في كتبه، بل قال:(ولو قال: مالي في سبيل الله أو صدقة على معاني الأيمان؛ فمذهب عائشة وعدد من الصحابة وعطاء والقياس: أَنَّ عليه كفارة يمين)

(2)

، وهؤلاء العدد هم المذكورون في حديث ليلى بنت العجماء مثل ابن عمر وزينب ومثل ابن عباس وأبي هريرة وحفصة وأم سلمة، وَنُقِلَ قبلهم عن عمر؛ فهؤلاء السبعة مجموع الصحابة الذين نَقَلَ عنهم ذلك الشافعي، كما ذكر أصحابه وغير أصحابه، واعتمد أصحابه وغير أصحابه على حديث ليلى بنت العجماء، وعليه اعتمد أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة.

وأما أبو حنيفة ومالك فلم يبلغهما ذلك، ولو بلغهما لم يعدلا عنه مع موافقته للقياس ولدلالة القرآن؛ كيف وقد اتبعا رضي الله عنهما فيما إذا حلف بذبح

(1)

الأم (3/ 656).

(2)

الأم (3/ 656).

ص: 162

ولده فتيا بلغتهما عن ابن عباس؟! فأبو حنيفة يقول بها مع اعترافه بمخالفتها القياس

(1)

، ومالك ــ أيضًا ــ يقول بها؛ فتارة يوجب هديًا وتارة كفارة يمين

(2)

، وكل ذلك منقول عن ابن عباس، وهما لا يقولان بذلك في سائر نذور المعاصي.

وأحمد بن حنبل ــ أيضًا ــ اتبع ابن عباس في ذلك وقال بقوليه، فإنَّ ابن عباس ثبت عنه الإفتاء في ذلك بكفارة يمين، وثبت عنه الإفتاء بهدي؛ وكذلك أحمد بن حنبل أفتى تارة بكفارة يمين وتارة بهدي كما أفتى ابن عباس

(3)

.

[48/ أ] لكن من الناس من يظن أن ابن عباس اختلف كلامه في ذلك، كما يظنون ذلك بأحمد بن حنبل ــ أيضًا ــ، ولهذا ذكر أصحابه عنه في ذلك روايات: رواية أنه يجب فيه الهدي؛ وهي اختيار أكثرهم كالقاضي أبي يعلى وأكثر أصحابه، ورواية أنه يجب فيه كفارة يمين لأنه معصية؛ وكفارة نذر المعصية عنده كفارة يمين وهو اختيار أبي الخطاب وأبي محمد، ورواية ثالثة بالجمع، ورواية رابعة لا شيء عليه كقول الشافعي.

والصحيح الذي كان أحمد بن حنبل يفتي به، وهو حقيقة قول ابن عباس: أنه إنْ نذر ذبح ولده تقربًا إلى الله ــ تعالى ــ أجزأه كبش، لأنه بدل النفس كما فدا الله الذبيح بكبش، وإن حلف بذلك فقال: إنْ فعلت كذا فعليَّ

(1)

المبسوط (8/ 139).

(2)

المدونة (1/ 576).

(3)

الروايتين والوجهين (3/ 70).

ص: 163

ذبح ولدي فهنا

(1)

يجزئه كفارة يمين، لأنه حالف بالذبح لا ناذر له

(2)

.

وهذا الفرق حقيقة قول ابن عباس وغيره من الصحابة يفرقون بين النذر وبين الحلف بالنذر، وهو حقيقة مذهب أحمد بن حنبل، وهو ــ أيضًا ــ حقيقة قول أبي حنيفة إذا نذر المعصية لقصد الحلف لا لقصد النذر فعليه كفارة يمين، وكذلك ذكر الخراسانيون من أصحاب الشافعي.

والمقصود: أَنَّ الأئمة الأربعة وغيرهم مِن اِتِّبَاع الصحابة وتعظيم أقوالهم بهذه المنزلة، ولكن قد يخفى عليهم بعض أقوالهم، كما قد يخفى عليهم بعض النصوص؛ ولهذا لم يُفْتُوا في الحلف بالعتق ونحوه بكفارة يمين لَمَّا لم يبلغهم ذلك عنهم، كما لم يفت أبو حنيفة ومالك في الحلف بالنذر بكفارة يمين لَمَّا لم يبلغهم ما قال الصحابة في ذلك، ثم أبو حنيفة رجع إلى أصل الصحابة قبل موته بثلاث، ومالك خالفه ابن وهب

(3)

وابن

(1)

في الأصل: (وهنا).

(2)

أخرج هذه المرويات عن ابن عباس: ابن حزم في المحلى (995 - 996)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 194 - 199).

ووجَّه البيهقي اختلاف المرويات عن ابن عباس بقوله: (اختلاف فتاويه في ذلك (فيمن نذر أَنْ ينحر نفسه) وفيمن نذر أن ينحر ابنه يدلُّ على أنه كان يقوله استدلالًا ونظرًا، لا أنه عرف فيه توقيفًا، والله أعلم).

وانظر لزامًا: قاعدة العقود (1/ 282 - 284)، والمسائل الفقهية التي حُكِيَ فيها رجوع الصحابة (2/ 701).

(3)

عبد الله بن وهب بن مسلم، أبو محمد المصري، ولد سنة خمسٍ وعشرين ومائة، روى عن مالك والليث وخلق كثير، توفي سنة سبعٍ وتسعين ومائة، عن اثنين وسبعين عامًا.

ترتيب المدارك وتقريب المسالك (3/ 228 - 243)، الديباج المذهب لابن فرحون (ص 132)، سير أعلام النبلاء (9/ 223).

ص: 164

أبي الغمر

(1)

وغيرهما من أصحابه

(2)

، وكان ابن وهب أعلم بالآثار، ولم يكن مالك يكتب إلى أحدٍ (الفقيه) إلا إليه

(3)

.

وأما نقل أبي ثور ومحمد بن نصر وابن عبد البر للنزاع فقد اعترف به

(4)

هذا المعترض، ونقل ما ذكره ابن عبد البر من نقل محمد بن نصر لكلامهم وكلام أبي ثور، وقد نقلت أنا كلام محمد بن نصر من مصنفه في الاختلاف

(5)

، كما نقله منه ابن عبد البر، وقد ذكر هذا المعترض ذلك نقلا له من الاختلاف

(6)

.

[48/ ب] قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي

(7)

: (إذا حلف بالمشي إلى مكة أو بثلاثين حجة أو بصيام أوجبه على نفسه في اليمين أو بغير ذلك من الأيمان سوى الطلاق والعتاق؛ فإن أهل العلم اختلفوا في ذلك: ففي قول أصحابنا كلهم كفارة يمين [و]

(8)

ليس عليه أكثر من ذلك،

(1)

عبد الرحمن بن عمر بن أبي الغمر، أبو زيد، ولد سنة (160)، رأى مالكًا ولم يأخذ عنه، وكان فقيهًا متقنًا، توفي سنة (234).

ترتيب المدارك (4/ 22)، الديباج المذهب (ص 148).

(2)

مجموع الفتاوى (32/ 84)(33/ 320).

(3)

ترتيب المدارك (3/ 230 وما بعدها).

(4)

كلمة غير واضحة تحتمل ما أثبتُّ.

(5)

كلمة (الاختلاف) غير واضحة؛ ولعل ما أثبتُّ هو الصواب، لأنَّ للمروزي كتابًا بعنوان (اختلاف الفقهاء).

(6)

في الأصل كلمة لم يظهر منها إلا هذه الأحرف: الا، ولعلها ما أثبتُّ.

(7)

في كتابه اختلاف الفقهاء (ص 491).

(8)

إضافة من (اختلاف الفقهاء) للمروزي.

ص: 165

وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد، فإن حلف بطلاق [أو عتاق]

(1)

فقد أجمعت الأمة على أَنَّ الطلاق لا كفارة فيه، وأنه إِنْ حنث في يمينه فالطلاق لازم له.

واختلفوا في العتق؛ فقال أكثرهم: الطلاق والعتاق سواء، لا كفارة في العتاق كما لا كفارة في الطلاق، وهو لازم للحالف به كلزوم الطلاق، وممن قال ذلك: مالك بن أنس وسفيان الثوري [وأصحاب الرأي]

(2)

والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وإسحاق.

وقال أبو ثور: من حلف بالعتق فعليه كفارة يمين ولا عتق عليه؛ وذلك أن الله أوجب في كتابه كفارة اليمين على كل حالف، فقال تعالى:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] يعني: فحنثتم.

قال أبو ثور: وكل يمين حلف بها الإنسان فحنث فعليه الكفارة على ظاهر الكتاب إلا أن تجتمع الأمة على أنه لا كفارة عليه في شيءٍ ما، ولم يجتمعوا على ذلك إلا في الطلاق، فأسقطنا عن الحالف بالطلاق الكفارة وألزمناه الطلاق للإجماع، وجعلنا في العتق الكفارة لأنَّ الأُمَّةَ لم تجتمع على أن لا كفارة فيه

(3)

.

(1)

إضافة من (اختلاف الفقهاء) للمروزي.

(2)

إضافة من (اختلاف الفقهاء) للمروزي.

(3)

العبارة في المطبوع فيها اختلاف يسير، وبعدها الزيادة التالية:

(ورووا عن الأنصاري، عن الأشعث، عن بكر بن عبد الله، عن أبي رافع أنَّ مولاته حَلَفَت بالمشي إلى بيت الله، وكل مملوك لها حر، وهي يومٌ يهودية ويومٌ نصرانية، وكل شيءٍ لها في سبيل الله أَنْ تُفَرِّقَ بينه وبين امرأته. قال: فسألتُ ابن عمر وابن عباس وأبا هريرة وعائشة وحفصةَ وأم سلمة رضي الله عنهم فكلهم يقولون لها: كفِّري عن يمينك، وخلِّي بينهما. ففعلت.

ويروى عن طاووس والحسن مثل قولِهِ).

ص: 166

قال أبو عبد الله: وقد روي عن الحسن وطاووس مثل قول أبي ثور).

قال أبو عمر

(1)

: (الخلاف الذي ذكره أبو ثور في العتق هو ما رواه معتمر بن سليمان؛ يعني: حديث ليلى بنت العجماء).

فهذا نَقْلُ النزاع من أبي ثور وابن نصر وابن عبد البر، وهم الذين اعتمد عليهم في نقل الإجماع على الطلاق؛ فكيف يجوز الاعتماد عليهم في النقل الذي ليس معهم فيه إلا عدم العلم بالنزاع، ولا يعتمد عليهم في النقل الذي أثبتوه وأسندوه ونقلوه كما ينقل سائر أقوال الصحابة والتابعين، بل وليس معهم عن الصحابة نقل في إثبات الطلاق مثل هذا النقل عن الصحابة في نفي العتاق، والنقل عن التابعين بنفي العتاق المحلوف به مشهور كثير أشهر من النقل [49/ أ/ أ]

(2)

عنهم بإثبات الطلاق المحلوف به، وقد ثبت عنهم النزاع في الطلاق، ولم يعرف عن أحد منهم الفرق بين الطلاق والعتاق، ولا اشتهر عنهم الفرق بين الطلاق والعتاق وبين غيرهما كما اشتهر عنهم التسوية بين العتق والنذر وغيرهما، ولا عنهم نَقْلٌ بأنَّ كُلَّ حالف بالطلاق أو بالطلاق والعتاق يلزمه ما حلف به، وإنما يُنقل اللفظ العام ــ إِنْ نُقِلَ ــ عن نفرٍ قليل، والنقل بإلزام الطلاق للحالف عن عدد قليل لا يبلغون عشرين رجلًا؛ كما تقدم التنبيه عليه.

(1)

في الاستذكار (15/ 46).

(2)

سبق التنبيه على سبب وجود الألف الثانية في (ص 139).

ص: 167

فصلٌ

وأما قوله: (وقد تمسك في النقل عن الصحابة الذين ذكرهم في العتق بالأثر الذي يذكره، ولو ثبت ذلك لا يفيده للفرق الذي سنذكره، وللإجماع على الطلاق المانع من الإلحاق؛ فقد عَرَّفْتُك ــ فيما تقدم ــ أني تتبعت أقوال الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم فلم أعلم أحدًا قال بهذا القول الذي اخترعه ابن تيمية من سلف ولا خلف)

(1)

.

فيقال:

أولًا: ليس عمدته قياسه على العتق؛ بل الأدلة الشرعية: الكتاب والسنة لفظًا ومعنى تدل على ذلك في الحلف بالطلاق، كما يدل عليه في الحلف بالعتاق والنذر.

وأيضًا؛ فقياسه على العتق قياس صحيح في معنى الأصل، بل هو من قياس الأولى، والفرق الذي وعد به المعترض قد اعترف هو بفساده، والأمة قبل أبي ثور مجمعة على بطلان هذا الفرق، وهذا إجماعٌ محققٌ لا يقدر أحد أن يَنقل لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أَنَّ أحدًا قبل أبي ثور فَرَّقَ بين الطلاق والعتاق.

وأبو ثور فَرْقُهُ عَدَمُ عِلْمٍ لا لفرق وجده من كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا فَرْقُ قياسٍ استنبطه من الكتاب والسنة، ولكن فَرَّقَ لعدم العلم، وهو يُسمِّي عدم العلم بالنزاع إجماعًا، وهذا حقيقة ظنه عدم النزاع، ومن

(1)

«التحقيق» (35/ ب).

ص: 168

جعل هذا جزمًا بالإجماع فهو جاهل جهلًا بينًا؛ بل لو كُلِّفَ أَنْ يحلف بالطلاق ــ مع اعتقاده لزومه ــ أَنَّ أحدًا من الأمة لم يخالف في الطلاق لَمَا اجترأَ على ذلك

(1)

، وأما المثبِت للخلاف فيحلف الأيمان المغلظة ويباهل من يباهله على أَنَّ الخلاف موجود في الأمة من سلفها وخلفها في وقوع الطلاق وفي التكفير.

وأئمة العلم ينكرون على مثل هذا المعترض وأمثاله الذين يتكلمون بالجهل، ويَقْفون ما ليس لهم به علم، ويجزمون بإجماع الأمة على ذلك، وليس لهم بهذا الإجماع من علم البتة؛ وغاية ما عندهم نَقْلُ مَنْ نَقَلَ ذلك، وأسبق من نقل الإجماع في ذلك أبو ثور، وكل من جاء بعده فعنه أخذ ذلك؛ ومحمد بن نصر عنه أخذه، وكذلك ابن جرير الطبري، وابن عبد البر عنه أخذه ابن رشد الحفيد

(2)

.

وابن المنذر لَمَّا كان أوسع علمًا بالاختلاف في هذا، وعَلِمَ قلة عدد القائلين بذلك= لم يذكر إلا إجماع من يحفظ قوله ــ لم يذكر إجماع العلماء ــ كما جرت عادته في المسائل التي لم يحفظ فيها أقوال عامة الأمة، وإنما يحفظ فيها قول عددٍ منهم، فيقول: أجمع من نحفظ قوله؛ يعني: مَنْ يحفظ قوله في تلك المسألة لا يريد كُلَّ من قال قولًا ما، وهذا بَيِّنٌ في كتابه، وقد ذكرت ألفاظه وألفاظ غيره في غير هذا الموضع

(3)

.

(1)

كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ.

(2)

انظر ما تقدم (ص 135).

(3)

انظر (ص 597 - 600، 625) ففيه كلامٌ مطوَّل للمجيب حول إجماعات ابن المنذر.

ص: 169

وقول هذا المعترض أنه تتبع أقوال الصحابة والتابعين فلم يعلم أحدًا قال بهذا القول؛ فهو مُصَدَّقٌ في هذا القول الذي أخبر فيه بعدم علمه ولم يكن في ذلك إلا مثل ابن عبد البر وأمثاله، ومثل ابن [41/ أ/ ب]

(1)

حزم وأمثاله؛ بل وأبي ثور ومحمد بن جرير ومحمد بن نصر وأمثالهم ممن يقول مثل هذا القول في مسائل كثيرة ويكون فيها نزاع لم يعلمه، كما قد بسط الكلام على ذلك في موضع آخر.

وأما قوله: إنه لم يعلم أحدًا قال بهذا القول الذي اخترعه ابن تيمية من سلف ولا خلف؛ فهذا قاله بناء على عدم علمه وظنه الفاسد الذي لا يغني من الحق شيئًا، وابن تيمية يَعلم علمًا جزمًا

(2)

بأنه لم يخترع هذا القول بل قد سبقه إليه غير واحد من السلف والخلف، بل هم ــ والله ــ من أَجَلِّ السلف وأجلِّ الخلف، وهم في أعصارهم وأمصارهم أفضل من غيرهم، ويَعلم مع ذلك أنه شرع الله ــ تعالى ــ الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.

وابن تيمية يجزم بذلك، ويباهل عليه من يباهله، بل يباهل على هذا وعلى أَنَّ هذا القول هو القول الذي بعث الله ــ عز وجل ــ به رسوله؛ فَلْيَقُمْ هذا وأمثاله فليباهلون على أن هذا لم يقله أحد من السلف والخلف، وأنه خطأ مخالف لشرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد تناظر مرة الأوزاعي والثوري في مسألة رفع اليدين في المواطن الثلاثة؛ فاحتج الأوزاعي على الرفع بحديث الزهري عن سالم عن ابن عمر

(1)

سبق التنبيه على سبب إضافة الحرف الثاني.

(2)

كذا في الأصل، وله وجه.

ص: 170

أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا كَبَّرَ (41/ ب/ أ) وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع

(1)

، واحتج عليه الثوري بحديث يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن البراء أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في أول مرة ثم لا يعود

(2)

، فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري عن سالم عن ابن عمر، وتحدثني عن يزيد بن أبي زياد؟! قم إلى الحجر الأسود لنبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين! فلما رأى الثوري غضب الأوزاعي سكت

(3)

؛ فمن كان جازمًا بقوله نقلًا وبحثًا فليباهل عليه.

ثم هذا المعترض يعترف بالنزاع في وقوع الطلاق، وإنما يظن هو ونحوه أنه لم يقل أحد بالتكفير مع عدم الوقوع، بل إما أن يقع وإما ألا يقع ولا كفارة عليه.

(1)

أخرجه البخاري (735).

(2)

أخرجه أبو داود (479) وغيره.

وقد ضعَّف زيادة: (ثم لا يعود) الإمام أحمد والبخاري وأبو داود وابن حبان وابن القيم وغيرهم.

وقد جاء الحديث بنحوه عن ابن عمر وابن مسعود وغيرهما.

انظر: كتاب رفع اليدين في الصلاة للبخاري (ص 86)، والمجروحين (2/ 450)، زاد المعاد (1/ 219)، تهذيب السنن (1/ 380)، رفع اليدين في الصلاة لابن القيم (ص 43 وما بعدها)، نصب الراية (1/ 402)، البدر المنير (3/ 480)، ضعيف سنن أبي داود (الأم)(1/ 285)، السلسلة الضعيفة (2/ 346).

(3)

أسند هذه القصة: البيهقي في السنن الكبير (3/ 500/ ح 2574).

وذكرها غير واحدٍ من المصنفين؛ كالذهبي في سير أعلام النبلاء (7/ 112)، وابن القيم في زاد المعاد (3/ 643)، وابن كثير في البداية والنهاية (13/ 445)، وابن رجب في الفتح (6/ 329)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (7/ 112).

ص: 171

فيقال لهم: إذا كان النزاع في وقوع الطلاق معلومًا، لم يكن إثبات الوقوع بالإجماع بل لا بُدَّ من دليل، وأنتم لم تذكروا دليلًا صحيحًا على الوقوع، ثم إذا قُدِّرَ أَنَّ المجيب أو غيره قويت عنده الأدلة الدالة على عدم الوقوع، والتكفير قد نقل فيه خلاف ولم يُعلم ثبوتُهُ ولا انتفاؤه؛ ألم يكن في الاحتياط إذا رأى الرجل أنه لا يقع به الطلاق أَنْ يُكَفِّرَ مع ذلك خشية أن تكون الكفارة واجبة عليه؟! هذا إذا سمع أن فيها خلافًا ولم يَعلم بطلانه، فالاحتياط بإخراج [49/ أ/ ب]

(1)

الكفارة مع الشك أولى من الاحتياط بإيقاع الطلاق مع الشك؛ فإنَّ هذا يتضمن مع تحريمها على زوجها تحليلها لغيره.

وهب أَنَّ الاحتياط مشروع فيما إذا اشتبه الحلال بالحرام، فإنه ليس مشروعًا في تحليل ما كان محرمًا بيقين، وهذه المرأة محرمة على الأجانب بيقين؛ فمن أوقع الطلاق بها مع الشك فقد أَحَلَّ الحرام بالشك، وهذا لا يجوز بالاتفاق، وأما إذا أمر بالتكفير مع الشك فليس فيه إلا أمر بعبادة يشك في وجوبها، ولا ريب أَنَّ مَنْ شَكَّ في عبادة عليه فاحتاط بأدائها كان محسنًا، وإذا أمره الآمر بأن يحتاط لنفسه فيؤدي ما يشك في وجوبه كان محسنًا في ذلك لم يكن هذا بمنزلة من يحرم المرأة عليه ويحلها للأجنبي بالشك، فإنه لا يقدر أحد أن يقيم حجة على وقوع الطلاق المحلوف به.

والمسألة التي تَنازع العلماء في وقوع الطلاق [فيها]

(2)

إذا لم يترجح

(1)

صورت هذه اللوحة مرتين، لوجود ورقة معترضة تحجب اللوحة الأساسية، كما تقدم التنبيه على نظائرها.

(2)

إضافة يقتضيها السياق.

ص: 172

عند المفتي أحد القولين لم يجز له أن يفتي بما لم يترجح عنده، والأصل بقاء النكاح؛ ولهذا كان أحمد يقول في طلاق السكران: إن من قال: إنه يقع؛ فقد حرمها على زوجها وأحلها لغيره، فقد فعل شيئين، ومن لم يحرمها أبقاها على ما هي [49/ ب/ أ] عليه، فلم يفعل إلا شيئًا واحدًا

(1)

.

فالاحتياط للمفتي إذا لم يحرم ويحلل بالشك، بل أمسك عن ذلك، وأمر بالكفارة للاحتياط بأدائها لِمَا نُقِلَ من الخلاف في وجوبها؛ فهذا أحوط الأقوال الثلاثة قبل أن ينظر في الأدلة المفصلة مع ما ينضم إلى ذلك من المرجحات الكثيرة؛ فكيف ولست تجد في كلام أحد من العلماء على الإيقاع دليلًا يُعتمد عليه فضلًا عن أن يكون راجحًا، بل ليس معهم كتاب ولا سنة ولا آثار عن الصحابة ولا قياس جلي؛ بل الكتاب والسنة والقياس الجلي يدل على عدم الوقوع.

والنزاع في الوقوع ثابت بلا ريب وكذلك النزاع في الكفارة؛ ولكن المقصود أن ندرج الكلام في مقامات هذه المسألة درجة درجة؛ فإنَّ من الناس من يقول: لم يَثبت عندي النزاع في الكفارة، فيقال له: لا ريب أنه قد نقل النزاع في ذلك، كما نقله غير واحد منهم ابن حزم، وأنت لا تجزم جزمًا قاطعًا بأن الأمة اتفقت على نفي التكفير؛ وحينئذٍ فإذا ترجح عندك القول

(1)

لم أجده في المطبوع من مسائل الإمام أحمد، ولكن نقل غلام الخلال في زاد المسافر (3/ 291)، وابن القيم في مواضع من كتبه ــ كإعلام الموقعين (5/ 454)، وإغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان (ص 26)، وزاد المعاد (5/ 191، 220) ــ عن الإمام أحمد أنه قال في رواية أبي طالب: (والذي لا يَأمر بالطلاق فإنما أتى خَصلة واحدة، والذي يأمر بالطلاق قد أتى خصلتين: حَرَّمَهَا عليه، وأحلَّها لغيره؛ فهذا خيرٌ من هذا، وأنا أنفي جميعها). وفي بعض المصادر: (وأنا أتقي جميعًا).

ص: 173

بعدم الوقوع كان احتياطك بالتكفير أولى في العقل، وأمرك بالتكفير لغيرك احتياطًا أبرأ لعرض كل منهما ودينه، وهذا [49/ ب/ ب] احتياطٌ بفعل خيرٍ وبر، ليس فيه شيء من الشر، وهو دائر بين الإيجاب والاستحباب، فإن لم يكن واجبًا فلا ريب أنه مستحب.

وأما إيقاع الطلاق فليس بواجب ولا مستحب من الزوج فضلًا عن أن يكون واجبًا أو مستحبًا من المفتي؛ فإنَّ المفتي والحاكم وولي الأمر كلٌّ منهم لا يَحِلُّ له أن يحرمها على زوجها ويحلها لغيره إلا بدليل شرعي سالم عن المعارض، ومع النزاع في الإيقاع لا يمكنه دعوى الإجماع، وليس معه كتاب ولا سنة ولا قياس.

وإذا كان معه تقليد طائفة من علماء المسلمين؛ فالتقليد ليس فيه علم بالشرع ودليله الخاص، وإنما فيه علمٌ بأنَّ هذا قول فلان، وأنه يسوغ تقليده، فالمقلِّد لا يعلم ولا يظن أن هذا حكم الله في نفس الأمر إن لم يقترن بذلك أمارات تقوي ظنه أن هذا حكم الله في نفس الأمر؛ وحينئذٍ فلا يكون تقليدًا محضًا.

وإذا عَرَفَ المقلد أنَّ النزاع حاصلٌ في المسألة، وأن الذين يُقَلِّدُهُم لم يظهر لهم حجة يقطعون بها مَنْ نازعهم، ولا أظهروا علمًا يجب على الأمة اتباعه، مع توفر الهمم والدواعي على إظهار العلم ومسيس الحاجة إلى ذلك، ووجود ما يحمل النفوس على إظهار ما عندها من العلم لما وجد في ذلك من التحدي

(1)

والمعارضة والمخاصمة، وتشوف همم العامة

(1)

وتحتمل في الأصل: (التحري)؛ والأقرب ما أثبتُّ.

ص: 174

والخاصة إلى ما في ذلك من العلم وإلى ما يحصل لصاحبه من مصلحة الدنيا والدين والآخرة= فإن هذا مما يوجب عند المقلد أنه لا علم عند من كان يقلده بهذه المسألة.

وطالب العلم الذي له معرفة بالدليل الشرعي، وهو ممن يمكنه الاجتهاد في بعض المسائل ــ وإن لم يكن مجتهدًا مطلقًا ــ إذا استفرغ وسعه فيما ذكره العلماء في هذه المسألة ونحوها من النقل والبحث= جَزَمَ جَزْمَ مثله أنه ليس عندهم علم جازم بوقوع الطلاق، لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، بل ولا ظنّ راجح مستند إلى دليل شرعي، بل إنما معهم عادات وتقليد وليس شيء منه حجة شرعية باتفاق المسلمين.

ومن قال: إنَّ قول أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة أو عشرة أو اثني عشر معينين أو غير معينين من علماء المسلمين حجةٌ معصومةٌ يجب

(1)

على الناس اتباعها ويحرم مخالفتها= فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع [50/ أ] من الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين الأئمة الأربعة وغيرهم، فإنهم متفقون على أَنَّ مثل هذا ليس بحجة شرعية تفصل النزاع بين المسلمين فيما تنازعوا فيه من أمر دينهم.

وقول هذا المعترض: (إن هذا القول قول مخترع) له أسوة بما يقوله هو وأمثاله من أقوال تخالف الكتاب والسُنة واتفاق السلف مع دعواهم أن القول الذي يخالفهم قول مخترع، فليس هذا بأول بدعة يقولونها ويقولون لمن يخالفها إنه مبتدع، فهذا أمر يكثر فيمن يتكلم في الدين في أصوله

(1)

هكذا قرأتها.

ص: 175

وفروعه بغير اعتصام بالكتاب والسنة، بل بما يظنه هو وأمثاله إما إجماعًا وإما رأيًا.

وعامة أهل البدع يخالفون الكتاب والسنة بدعوى إجماع أو معقول؛ ولهذا قال أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب، هذه دعوى الأصم والمَرِيسي وابن عُلَيَّة. ولهذا المعترض أسوة بهؤلاء المبتدعين وأمثالهم في هذا وغيره الذين يتكلمون في الدين بلا علم.

والقول الذي يقوله هذا المعترض وأمثاله من أن هذا قول مبتدع، قد قابلهم عليه من هو أعلم منهم بشرع الله ــ تعالى ــ في هذه المسألة ممن كان يفتي فيها بالكفارة قبل أن يتكلم فيها المجيب، بل وقبل أَنْ يُخْلَق، فكان يقول لمن ينازعه فيها: يا دجاجلة! لم تدخلون في الإسلام ما ليس منه؟! أين في دين المسلمين يمين منعقدة لا كفارة فيها؟!

(1)

.

وهذا هو الحق؛ فإن القول بأن من أيمان المسلمين المنعقدة ما لا كفارة فيه هو قول مبتدع لا ريب فيه، لكن قد قاله كثير من أهل العلم والدين مجتهدون مثابون على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم؛ كسائر الأقوال المخالفة في نفس الأمر لِمَا جاء به الرسول، فإنها في الحقيقة مبتدعة لم يشرعها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكن القائل بها مجتهد قصد الحق بحسب استطاعته، واعتقد أن هذا هو شرع الله، فأثابه الله على اجتهاده، وغفر له قوله، ولو كان بدعة في نفس الأمر.

وما أحسن ما كان الصحابة رضي الله عنهم يقولون كما قال أبو بكر وابن مسعود

(1)

تقدمت الإشارة إلى هذه القصة في (ص 132).

ص: 176

وغيرهما من الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ: أقول فيها برأيي؛ فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه

(1)

.

ومن تَدَبَّر هذه

(2)

[50/ ب] الإجماعات التي يذكرها مثل هؤلاء القاصرين في معرفة علم الكتاب والسنة وأقوال السلف والخلف لا سيما في أصول الدين فضلًا عن فروعه= وَجَدَ من ذلك أمورًا كثيرة، فلا يعجب بعدها من دعواهم إجماعات لا علم لهم بحقيقتها، فإنَّ هذا كثير منهم جدًا، وهو من البدع التي انتشرت بعد انقضاء القرون المفضلة حتى كان الأئمة كأحمد بن حنبل رضي الله عنه وغيره يذمون هؤلاء المبتدعين على دعواهم ما لا علم لهم به.

ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه

(3)

: وإنما الأقوال المبتدعة المخالفة للكتاب والسنة ولما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون التي هي أقوال منكرة تناقض مقصود الرسالة، وتُسَلِّطُ أعداءَ الملة على القدح فيها = هي الأقوال التي أُحدثت لما كَثُرَ القول بلزوم الطلاق ووقوعه حيث لم يوقعه الله ورسوله، فأحدثت لأجل ذلك بدعة كالقول بأن تتزوج المرأة من لا يريد أن يتزوج بها ولا يريد إلا أن يحلها للأول، وقد لعن الله ورسوله هذا المحلِّل والمحلَّل له

(4)

.

(1)

تقدم تخريج الأثرين في (ص 40).

(2)

كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ.

(3)

لم أجد هذا النقل عن الشافعي، وأخشى أن يكون كلام الشافعي قد سقط من الأصل؛ والله أعلم.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة (36190)، وأحمد في مسنده (7/ 313)، والنسائي (3416)، والترمذي (1120)، والبغوي في شرح السنة (9/ 100) وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح. وقال ابن حزم (ص 1763): لا يصح في هذا الباب سواه. وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 159): وقد روي هذا المعنى من طرق صحاح عن ابن مسعود وغيره.

انظر: العلل لابن أبي حاتم (4/ 35)، نصب الراية (3/ 238)، البدر المنير (7/ 612)، إرواء الغليل (6/ 307)، صحيح أبي داود (الأم)(6/ 315).

ص: 177

وكذلك استفاض ذمه وتحريمه عن الخلفاء الراشدين المهديين وغيرهم من الصحابة مثل: عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم؛ حتى قال ابن عمر: لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة، إذا علم الله من قلبه أنه يريد أن يحلها له

(1)

.

وقال أبوه عمر رضي الله عنهما: لا أُوتَى بمحلِّل ومحلَّل له إلا رجمتهما

(2)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 265)، ومسدد ــ كما في إتحاف الخيرة المهرة 4/ 109 - .

وعزاه ابن تيمية في بيان الدليل (ص 403 - 404) إلى حسين بن حفص في جامعه، والجوزجاني.

وانظر: إرواء الغليل (6/ 311 - 312).

(2)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 265)، وسعيد بن منصور في سننه (2/ 75)، وابن أبي شيبة (37344) وغيرهم.

قال ابن تيمية في المجموع (33/ 30): وقد ثبت عن عمر ثم ذكر هذا الأثر. وقال في بيان الدليل (ص 400): وهو مشهور محفوظ عن عمر، ورووه بالأسانيد الثابتة.

وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 480): وهو صحيحٌ عن عمر.

انظر: تخريج أحاديث الكشاف (1/ 148)، التحجيل (ص 368).

ص: 178

وقال عثمان رضي الله عنه: لا يُحلها إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة

(1)

.

ولم يُعرف أَنَّ أحدًا من الخلفاء والصحابة أعاد امرأة إلى زوجها بنكاح تحليل

(2)

.

وكذلك من جنسه أن يؤمر الزوجان بالخلع، مع أن الرجل مريد لامرأته، وهي مريدة له، ليس لواحد منهما غرض في مفارقة الآخر فيؤمر بالخلع في مثل هذه الحال مع قوله تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].

ومثل دور الطلاق الذي يَجعل نكاح المسلمين مثل نكاح النصارى لا

(1)

أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 152)، وابن حزم في المحلى (ص 1763)، والبيهقي في السنن الكبير (14/ 405/ ح 14309) بلفظ:(لا تَرجع إليه إلا بنكاح رغبةٍ غيرَ دُلْسَةٍ).

وعزاه ابن تيمية في بيان الدليل (ص 402) إلى ابن وهب. وعزاه ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 272) إلى أبي إسحاق الجوزجاني في كتاب (المترجم).

انظر: تخريج أحاديث الكشاف (1/ 149)، التحجيل (ص 369).

وروي معنى هذا الأثر مرفوعًا؛ كما نقل ذلك ابن تيمية في بيان الدليل (ص 394 وما بعدها)، وأطال النفس في الكلام عليه.

(2)

قال الترمذي بعد حديث ابن مسعود: والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمرو وغيرهم، وهو قول الفقهاء من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

ص: 179

طلاق فيه بحال، وهي [51/ أ] بدعة مخالفة لصريح المعقول مع مناقضتها لشرع الرسول؛ إذ كان معنى قول القائل: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا، [و] إذا طلقتك فلم أطلقك، وإذا وقع عليك طلاق لم يكن قد وقع عليك طلاق، وهو جمع بين النقيضين مع تضمنه محالًا آخر، وهو إيقاع طلقة مسبوقة بثلاث تطليقات، وهذا ممتنع في الشرع

(1)

.

ومثل الاحتيال بطلب إفساد النكاح، مع أنه لولا الطلاق لكان النكاح عندهم صحيحًا، يَستحِلَّان به ما يستحلان بالنكاح الصحيح من الوطء والميراث وغير ذلك إلى أن يطلقها= جعلوه فاسدًا لئلا يقع الطلاق

(2)

.

ومثل الاحتيال في ألفاظ الأيمان بما يخالف قصد الحالف ومراده

(3)

؛

(1)

وهذه المسألة تُسمى (السُّرَيجية)، ولابن تيمية كلام كثير حولها؛ بل صنَّف فيها قاعدة خاصةً؛ ذكرها ابن رشيق في أسماء مؤلفاته (ص 309 ضمن الجامع)، وابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 80)، وأشار إلى هذه القاعدة في كتابه (الرد على المنطقيين)(ص 301 - 302) حيث تكلَّم عن (الدور الحكمي الفقهي) وذكر أنه أفرد هذا الدور بمصنفات تبيِّن حقيقته، وأنه باطل عقلاً وشرعًا، وفي مصنفٍ آخر هل في الشريعة شيءٌ من هذا الدور أم لا؟

وانظر: مجموع الفتاوى (33/ 39، 64، 240 - 245)، (35/ 294)، الفتاوى الكبرى (3/ 137، 237، 300، 316)، القواعد الكلية (ص 523).

ولابن القيم كلامٌ مطوَّل عن هذه المسألة في إعلام الموقعين (5/ 201 وما بعدها).

وانظر ما سيأتي (ص 600).

(2)

مجموع الفتاوى (33/ 39، 64)، الفتاوى الكبرى (3/ 237، 300)، القواعد الكلية (ص 522).

وانظر ما سيأتي (ص 600).

(3)

مجموع الفتاوى (33/ 39، 64، 148)، الفتاوى الكبرى (3/ 237، 267، 300).

ص: 180

فهذه هي البدع التي أُحدثت في الإسلام لما صاروا يعتقدون وقوع الطلاق المحلوف وغيره مما ليس هو بطلاق واقع في الشرع، فصاروا لأجل ذلك حزبين: حزبًا دخلوا في هذه الحيل التي تتضمن تحريم ما أحله الله ورسوله وتحليل ما حرمه الله ورسوله، وإن كان المجتهد فيها مأجورًا وخطؤه مغفورًا والمقلد له معذورًا، وكذلك الحزب الآخر الذين ألزموا الناس بالآصار والأغلال وتحريم ما أباحه الله من الحلال؛ والله يرضى عن جميع أئمة الدين ويغفره لجميع المؤمنين والمؤمنات

(1)

.

لكن المقصود بيان ما هي الأقوال المخترعة المبتدعة في الإسلام، وإن كان أهلها مجتهدين مأجورين غير مأزورين، وما هي الأقوال الموافقة لشرع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78] فَخَصَّ أحد النبيين بالفهم مع ثنائه على كُلٍّ منهما بما آتاه من العلم والحكم؛ والعلماء ورثة الأنبياء

(2)

.

وهذا الموضع الذي غلط فيه مثل المعترض وأمثاله، قد وقع نظيره لقوم

(1)

مجموع الفتاوى (33/ 64)، الفتاوى الكبرى (3/ 237). وانظر: إغاثة اللهفان (1/ 581).

(2)

مجموع الفتاوى (20/ 224، 305)، (33/ 29، 41، 159)، (35/ 360 وما بعدها، 387)، الفتاوى الكبرى (3/ 274، 293، 302، 5/ 97)، جامع المسائل (3/ 81)، اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 153)، الجواب الصحيح (6/ 494)، منهاج السنة (3/ 411)، رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص 38). وانظر ما سيأتي (ص 808).

ص: 181

في مواضع يظنون في المسألة إجماعًا فيعملون به، مع مخالفتهم في ذلك الكتاب والسنة، مثل: من اعتقد أن نكاح الزانية قبل التوبة جائزٌ

(1)

بالإجماع، وخالف بذلك الكتاب والسنة

(2)

.

ومن هؤلاء مَنْ يقول: الإجماع [51/ ب] يَنسخ الكتاب والسنة؛ وكنا نَظُنُّ بمن يقول ذلك أنه يريد به: أَنَّ الإجماعَ دَلَّ على نَصٍّ ناسخٍ، حتى ذَكَرَ مَنْ صَرَّحَ في نقله بأن نفس الإجماع يُنسخ به، وهذا من جنس قول النصارى الذين يُجوِّزون لأحبارهم أن يغيروا شريعة الأنبياء برأيهم، وهؤلاء ممن عناهم الله بقوله:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين قال: ما عبدوهم. فقال: «أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم؛ فكانت تلك عبادتهم إياهم»

(3)

؛ فمن جوَّز لعلماء

(1)

في الأصل: (جائزًا)، وصوابها ما أثبتُّ.

(2)

مجموع الفتاوى (32/ 109 وما بعدها، 145)، الفتاوى الكبرى (3/ 151 وما بعدها، 176 وما بعدها)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 446). وانظر ما سيأتي (ص 774).

(3)

أخرجه البخاري في تاريخه (7/ 106)، والترمذي في جامعه (3095)، وابن جرير في التفسير (11/ 417) وغيرهم بألفاظ متقاربة.

وقال الترمذي: هذا حديثٌ غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغُطيف بن أَعين ليس بمعروفٍ في الحديث.

وقال ابن تيمية في الإيمان (ص 58) ــ وهو في الفتاوى 7/ 67 - : وهو حديث حسن طويل.

وقال الذهبي في المهذب (8/ 4108): غطيف ضعفه الدارقطني، وقيل: غضيف.

وانظر: السلسلة الصحيحة (7/ 861).

ص: 182

الأمة بعد نبيها أن ينسخوا

(1)

شيئًا من شرعه كان قوله من جنس هذا القول، وهذا بخلاف ما إذا اجتهد واحد منهم؛ فإنَّ هذا يقول كما قال أبو بكر وابن مسعود رضي الله عنهما: أقول فيها برأيي؛ فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه

(2)

.

والواحد من العلماء ليس بمعصوم يجب اتباعه، بخلاف الأمة فإنها معصومة.

فإذا قيل: إنها قد تنسخ نص الرسول صلى الله عليه وسلم بإجماعها على خلافه، وهي معصومة في إجماعها = فهذا اتخاذ لهم أربابًا من دون الله، يحللون الحرام ويحرمون الحلال

(3)

.

ومثل من اعتقد إجماع الأمة على أَنَّ مسافة القصر لا تكون أقل من يومين

(4)

، فلزمهم ألا يقصر أهل مكة في عرفة ومزدلفة ومنىً، وهو خلاف

(1)

في الأصل: (ينسخ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2)

تقدم تخريجه في (ص 40).

(3)

مجموع الفتاوى (19/ 257)، (33/ 94)، الفتاوى الكبرى (3/ 259).

وقد صرَّح في بعض المواضع بمن قال بذلك؛ فذكر منهم: عيسى بن أَبان وغيره من أهل الكلام والرأي من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة ومالك. وانظر ما سيأتي (ص 633 - 634).

(4)

ذكر المجيب في (ص 695) وابن القيم في الصواعق المرسلة (2/ 587) أنَّ الليث بن سعد حكى الإجماع على أنَّ المسافر لا يقصر الصلاة في أقلَّ من يومين. وانظر ما سيأتي (ص 775).

ص: 183

سنته ــ التي لا ريب فيها ــ من أَنَّ أهل مكة صلوا بصلاته في عرفة ومزدلفة ومنى جمعًا وقصرًا

(1)

، وكذلك كانوا يفعلون في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وصدرًا من خلافة عثمان رضي الله عنه لمَّا كان يقصر الصلاة

(2)

، ثم لما أتمها للاجتهاد الذي رآه. تشعب للناس عن ذلك أقوال مذكورة في غير هذا الموضع.

واختلف الناس في مأخذه في اجتهاده: هل كان ذلك لأنه كان تَأَهَّلَ بمكة؟ أو لأن بعض الأعراب ظنوا الصلاة لا تكون إلا قصرًا؟ أو لأنه رأى جواز الأمرين ففعل الجائز؟ أو لأنه لما عُمِرَت منى وكان المقيم بها لا يحمل الزاد والمزاد رأى عثمان رضي الله عنه أنَّ النازل بها مقيم، ولهذا لم يقصر بعرفة ومزدلفة مع وجود [52/ أ] ما ذكر من الإتمام، ولم يكن عثمان رضي الله عنه يقصر في طريقه من المدينة إلى مكة، ولا كان ممن يجوز له المقام بمكة، بل كان إذا اعتمر يُنيخ راحلته ويعتمر ثم يخرج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رَخَّص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد نسكه ثلاثًا. أخرجاه في الصحيحين

(3)

.

(1)

هذا الكلام من المجيب مجمل؛ بيانه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جمع وقصر في عرفة ومزدلفة، أما منى فقد كان يقصر فيها دون جمع. وهذا واضحٌ من سياق الأحاديث الواردة في حجة النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما.

وانظر: مجموع الفتاوى (24/ 45، 124)، مجموعة الرسائل والمسائل (2/ 11 مهم، 72)، جامع المسائل (6/ 323)، الفتاوى العراقية (1/ 319).

(2)

أخرجه البخاري (1082) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وفي (1084) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري (3933)، ومسلم (1352) من حديث العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه.

ص: 184

ومثل من ظن إجماع

(1)

الصحابة على أن التكبير على الجنازة لا يجوز أن يزاد على أربع، وخالف السنة الثابتة في جواز التكبير أكثر من ذلك

(2)

.

ومثل من ظن إجماع الصحابة على وجوب جلد ثمانين للشارب، وخالف بذلك ما تقدم من السنة في جواز الاقتصار على أربعين

(3)

.

ومثل من ظن الإجماع على أنه لا يجوز قتل الشارب بحال، وخالف بذلك [ما]

(4)

ثبت من جواز القتل في الجملة، وبعض الناس جعل القتل واجبًا، والسنةُ إنما دلت على الجواز فإنه أمر بالقتل في الرابعة

(5)

، وأُتي

(1)

في الأصل: (الإجماع)، والصواب ما أثبتُّ.

(2)

أخرج مسلم في صحيحه (957) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كان يكبر على الجنائز أربعًا، وأنه كبَّر على جنازة خمسًا. فسأله عبد الرحمن بن أبي ليلى. فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبِّرُها.

وانظر لأحاديث الباب: نصب الراية (2/ 267)، البدر المنير (5/ 260)، وأحكام الجنائز للألباني (ص 141 وما بعدها).

وانظر: مجموع الفتاوى (24/ 22)، القواعد الكلية (ص 148 - 149).

(3)

مجموع الفتاوى (28/ 336)، (34/ 214)، الفتاوى الكبرى (3/ 425)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 498)، جامع المسائل (1/ 337)، المسودة (2/ 629) ونقله في المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 120)، منهاج السنة (6/ 39، 82 وما بعدها)، السياسة الشرعية (ص 134 وما بعدها). وانظر ما سيأتي (ص 740، 774).

(4)

إضافة يقتضيها السياق.

(5)

جاء هذا عن جماعةٍ من الصحابة منهم: معاوية بن أبي سفيان، وابن عمر، وأبي هريرة ــ رضوان الله عليهم ــ وغيرهم.

وأقوى ما ورد في الباب: حديث معاوية بن أبي سفيان؛ أخرجه أبو داود (4482)، والترمذي (1444)، والنسائي في الكبرى (5278)، وابن ماجه (2573) وغيرهم.

وقال البخاري: حديث أبي صالح، عن معاوية، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا أصحُّ من حديث أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ورجَّح الدارقطني في العلل (10/ 91) روايةَ معاوية بن أبي سفيان وأنها هي المحفوظة.

وصححه ابن حبان (10/ 295)، والحاكم (4/ 414).

وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (34/ 219) عندما سئل عن قتل شارب الخمر: نعم؛ له أصل، وهو مرويٌ من وجوه متعددة، وهو ثابت عند أهل الحديث.

انظر: شرح العلل (1/ 4)، نصب الراية (3/ 346)، السلسلة الصحيحة (3/ 347/ ح 1360).

ص: 185

بشخص أكثر من الشرب ولم يقتله

(1)

، وقيل له صلى الله عليه وسلم عن طائفة لم ينتهوا. قال:«فاقتلوهم»

(2)

.

ومن الناس من ظن الإجماع على ترك حديث المصرَّاة

(3)

.

(1)

جاء عن جماعةٍ من الصحابة؛ فقد أخرجه البخاري (6780) من حديث عمر بن الخطاب، وأخرجه أبو داود (4485) من حديث قبيصة بن ذؤيب. كما أخرجه عبد الرزاق في المصنف (7/ 379) من حديث أبي هريرة. وأخرجه النسائي في الكبرى (5283، 5284) من حديث جابر بن عبد الله.

(2)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (29/ 567 - 571)، وأبو داود في سننه (3683) من حديث ديلم الحميري.

(3)

أخرجه البخاري (2151)، ومسلم (1524) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وانظر: مجموع الفتاوى (4/ 532 وما بعدها)، (29/ 426 وما بعدها)، وحاشية ابن عابدين (5/ 44).

وينظر في المسألة بحث الدكتور/ ذيب بن مصري القحطاني في مجلة الجامعة الإسلامية في عددها (81 - 82). وانظر ما سيأتي (ص 774 - 775).

ص: 186

ومنهم من ظن الإجماع على أن شهادة العبد لا تقبل، وأنس

(1)

بن مالك قد ذكر الإجماع على أنها مقبولة

(2)

.

ومن الناس مَنْ ظَنَّ الإجماع على أَنَّ فسخ الحج الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم في حجة الوداع لا يجوز، مع أَنَّ طائفةً من السلف والخلف يقولون: لا يجوز الحج بدون سوق الهدي إلا للمتمتع إما مبتدئًا وإما فاسخًا

(3)

؛ ومثل هذا كثير.

* * * *

(1)

وضع الناسخ هنا علامة اللحق، وفي الهامش وضع حرف (ظ).

(2)

مجموع الفتاوى (20/ 247 وما بعدها)، رفع الملام (ص 32)، النبوات (1/ 479)، الطرق الحكمية (1/ 442 وما بعدها)، الصواعق المرسلة (2/ 583)، بدائع الفوائد (1/ 9). وانظر ما سيأتي (ص 775).

(3)

مجموع الفتاوى (22/ 336)، (26/ 49، 54، 67)، الفتاوى الكبرى (3/ 261، 284)، جامع المسائل (1/ 365 وما بعدها)، منهاج السنة (4/ 183 وما بعدها)، شرح العمدة (2/ 501 وما بعدها).

وانظر: شرح علل الترمذي (1/ 331).

ص: 187

فصلٌ

قال:

(قال أبو بكر الأثرم في سننه: حدثنا عارم بن الفضل، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، قال: قال أبي: حدثنا بكر بن عبد الله، أخبرني أبو رافع قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها محرر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية إنْ لم تُطَلِّق امرأتك أو تفرِّق بينك وبين امرأتك. قال: فأتيت زينب بنت أم سلمة ــ وكانت إذا ذُكِرَت امرأة [بالمدينة]

(1)

فقيهة ذكرت زينب ــ. قال: فأتيتها، فجاءت يعني إليها. فقالت: في البيت هاروت وماروت؟! قالت: يا زينب؛ جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مالٍ لها [52/ ب] هدي، وهي يهودية وهي نصرانية. فقالت: يهودية ونصرانية! خَلِّ بين الرجل وبين امرأته، يعني: وكفري عن يمينك. [فأتيت حفصة أم المؤمنين، فأرسلت إليها فأتتها، فقالت: يا أم المؤمنين؛ جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها محرر وكل مالٍ لها هدي وهي يهودية وهي نصرانية. فقالت: يهودية ونصرانية؟! خلي بين الرجل وبين امرأته]

(2)

فأتيت عبد الله بن عمر فجاء ــ يعني إليها ــ فقام على الباب فَسَلَّمَ. فقالت: بِيَبِي أنت وَبِيَبِي أبوك

(3)

. فقال: أمن حجارةٍ أنتِ أم من حديد

(4)

؟ أم من أي شيء أنت؟ أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين

(1)

زيادة من «التحقيق» .

(2)

إضافة يقتضيها السياق التالي، أثبتها من القواعد الكلية (ص 464 - 465).

(3)

في «التحقيق» : (سي أنت وسي أبوك) بدون نقط، وفي الأصل نقط الباء الثانية. وهي لغة في «بأبي». انظر: الزاهر لابن الأنباري (1/ 233)، والبيان والتبين (1/ 182).

(4)

في الأصل زيادة: (أنت). وليست في «التحقيق» .

ص: 188

فلم تقبلي فتياهما. قالت: يا أبا عبد الرحمن؛ جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية. فقال: يهودية ونصرانية! كَفِّرِي عن يمينك، وَخَلِّ بين الرجل وبين امرأته.

قال: قلتُ: هذا الأثر عمدته في النقل عن هؤلاء الصحابة، والكلام عليه في أمرين:

أحدهما: في إثبات الحلف بالعتق فيه، وسيأتي الكلام في ذلك عند كلام الإمام أحمد عليه، وأجمع طرقه ــ إن شاء الله تعالى ــ.

والثاني: على تقدير صحته فنقول: إنَّ لفظ زينب وابن عمر

(1)

كما رأيت كل منهما صدَّر فتياه بقوله يهودية ونصرانية؟! فيحتمل أن يكون اقتصر في الجواب على هذه اليمين؛ لعظمها عند المستفتية، وتوهمها أن لا مُخَلِّصَ منها، وأنَّ مقتضاها الخروج من الدين الذي لا شيء عند المسلم أخوف منه، وسكت عن العتق والصدقة لسهولة أمرهما عليها

(2)

، وفي تصدير كل منهما فتياه بذلك إشعار بما قلناه، وإن لم يكن ظاهرًا فهو محتمل، وكأنه قال: كفري عن يمينك [هذه.

وفي الرواية عن زينب نظرٌ آخر، وهو: أنَّ الراوي قال عنها: خلِّ بين الرجل وبين امرأته؛ يعني: كفري عن يمينك]

(3)

؛ فزينب لم تقل: وكفري يمينك، فلعل ذلك فَهْمٌ من الراوي؛ فمن أين أن مراد زينب ذلك؟ ولعلهما أرادا أن التفريق بين الزوجين حرام، وهذه اليمين معصية، فَخَلِّ بين الرجل وبين امرأته، وَإِنْ أَوجَبَ

(1)

وكذلك أم المؤمنين حفصة؛ كما تقدم.

(2)

في الأصل: (عليهما)، والمثبت من «التحقيق» .

(3)

زيادة من «التحقيق» .

ص: 189

الحنثُ ما أَوجب؛ ومع هذين الاحتمالين لا يجوز نسبة هذا القول إليها.

والقائل: يعني: وكفري عن يمينك؛ لا أعلم مَنْ هو مِنَ الرواة، والظاهر أنه المصنف، فإني لم أقف على هذه اللفظة في شيء من طرق الحديث، بل بعضهم لا يتعرض للتكفير البتة، وكذلك رواه ابن حزم

(1)

بإسقاط التكفير من فتيا زينب وحفصة مستدلًا به على عدم وجوب شيء لا كفارة ولا غيرها، وبعضهم يَذْكُرُ عنها الأمر بالتكفير، وأما لفظ

(2)

: (يعني) فما رأيته

(3)

، وسنجمع في آخر [53/ أ] الفصل طرق هذا الأثر ــ إن شاء الله تعالى ــ

(4)

).

والجواب:

أن هذا الذي ذكره من أن ابن عمر وزينب رضي الله عنهما إنما أفتيا في قوله هي يهودية ونصرانية دون العتق والصدقة = من أظهر القول الباطل؛ وهو خلاف ما أجمع الناس عليه في هذه القضية؛ فإنَّ جميع العلماء الذين ذكروا قصة ليلى بنت العجماء هذه اتفقوا على أنهم أفتوها في الحلف بالصدقة وغيرها مما ذكرته، لم يقل أَحَدٌ أنهم أفتوها في بعض ما ذكرته دون بعض، وَمَنْ عَرَفَ أَنَّ فيها ذكر العتق قال: إنهم أفتوها في الحلف بالعتق، لم يقل أحدٌ إنه كان في كلامها من الأيمان ما لم يجيبوها عنه؛ فهذا الذي قاله مخالفٌ لإجماع العلماء قاطبة بلا ريب.

فلا يُعْرَف أحد من المسلمين حمل هذه القضية على ما ذكره، مع العلم بأنَّ هذا الأثر ما زال يتداوله العلماء قديمًا وحديثًا، وهو مما اعتمد عليه

(1)

في المحلى (ص 991).

(2)

كذا في الأصل، وفي «التحقيق»:(لفظة).

(3)

كذا في الأصل، وفي «التحقيق»:(رأيتها).

(4)

«التحقيق» (35/ ب ــ 36/ أ).

ص: 190

الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو ثور ومحمد بن نصر المروزي وأبو بكر بن المنذر ومحمد بن جرير والطحاوي وابن عبد البر وابن حزم وغيرهم، وعامة أصحاب الشافعي وأحمد، متقدميهم ومتأخريهم، من زمن الإمامين إلى هذا الوقت؛ فكل من ذكر هذا الأثر منهم ــ كالشيخ أبي حامد الإسفراييني والقاضي أبي الطيب والماوردي، وكأبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي يعلى وأبي الخطاب وغيرهم ــ يذكرون أن الصحابة أجابوا ليلى بنت العجماء فيما ذكرته من الأيمان سواءً وافقوا هذا الأثر أو خالفوه، لكن نقل الأقوال أمانة.

والذين لم يقولوا بهذا الأثر من أصحاب أبي حنيفة ومالك لم يَطعن أحدٌ منهم في صحته، ولا تأولوه على ما ذكره هذا المعترض من أن الجواب كان عن غير الصدقة والعتق، بل عارضوا ذلك بحديث عثمان بن حاضر الذي اعتمد عليه المعترض.

وذكر أبو جعفر الهِنْدُواني

(1)

: (إن القول بلزوم النذر المحلوف به هو قول العبادلة)

(2)

،

ومستنده حديث عثمان بن حاضر، وطعن في ذلك

(1)

محمد بن عبد الله بن محمد، أبو جعفر الهندواني، نسبةً إلى محلةِ باب هندوان، فقيه حنفي، كان يقال له من كمال فقهه:(أبو حنيفة الصغير)، توفي سنة (362).

انظر: الجواهر المضية (3/ 192)، تاج التراجم في طبقات الحنفية (2/ 74)، سير أعلام النبلاء (16/ 131)، تاريخ الإسلام (8/ 207).

(2)

نقل كلام أبي جعفر الهندواني: الماوردي في الحاوي (15/ 459)، والمجيب في قاعدة العقود (2/ 328 مهم)، وسيعيد هذا النقل مرة أخرى في (ص 260 - 261).

والمراد بالعبادلة هنا: ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير ــ كما في قاعدة العقود (2/ 328)، وما سيأتي (ص 260 - 261) ــ، وهذا خلاف ما ذكره عبد القادر القرشي في الجواهر المضية في طبقات الحنفية (4/ 531):(كثيرًا ما يقول أصحابنا الحنفية في كتبهم: وهو قول العبادلة. والمراد بهم عندنا: ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر؛ هكذا ذكره صاحب المُغْرِب. وذكر صاحب الهداية في الحج في مسألة أشهر الحج (شوال وذو القَعدة وذو الحجة) كذا رُوي عن العبادلة الثلاثة وابن الزبير).

ص: 191

أصحاب الشافعي وأحمد كالشيخ أبي حامد [53/ ب] والقاضي أبي يعلى وأتباعهما قالوا: إنَّ هذا لا يُعرف.

وأما حديث ليلى بنت العجماء فلم يطعن فيه أحد من العلماء، ولا حَرَّفَ معناه ــ كما حرف معناه هذا ــ أحد من العلماء، فما ذكره هذا المعترض من التعليل له والتحريف لمعناه= قول ابتدعه لم يسبقه إليه أحد من علماء المسلمين، لا الموافقين لهذا الأثر ولا المخالفين له، ولكن من يريد أن يخالف الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بُدَّ له من تكذيب المنقول الصحيح أو تحريف الكلم عن مواضعه، كما يفعل سائر أهل البدع، فمن جعل السنة بدعة والبدعة سنة = كان أحق بأن يجعل قوله كذلك.

ثم مما يُبَيِّنُ غلط ما ذكره: أَنَّ هؤلاء الصحابة أمروها أَنْ تُخَلِّيَ بين الرجل وبين امرأته، وذموها على إصرارها على التفريق بينهما، فإنْ لم يجيبوها عن الحلف بجميع أيمانها لم يحصل المقصود، فإنها لو كان مماليكها يعتقون وكل مالها هدي لَبَيَّنُوا لها ذلك، ولو عَرَفَتْ ذلك؛ فالأظهر أنها لا تجيبهم إلى ذلك، فإنه يَعِزُّ عليها عتق مماليكها وجعل مالها هديًا.

وقولهم لها: (يهودية ونصرانية؟!) إنكارٌ عليها أَنْ تحلف بهذه اليمين، فإنَّ الحلف بالكفر يمين منكرة بخلاف الحلف بالعتق والنذر، ولهذا قال

ص: 192

- صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حلف بملة غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال»

(1)

فهذا وعيدٌ شديدٌ.

والناس متنازعون في اليمين الغموس إذا حلف هل يَكْفُر أم لا يَكْفُر؟ وظاهر الحديث يقتضي كفره ولكن كنظائره، مثل قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] قال ابن عباس وطاووس وأحمد وغيرهم: كفر دون كفر

(2)

، ومثله قوله:«كُفْرٌ بالله تبرؤٌ من نسب»

(3)

،

وقوله: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر؛ فقد باء به

(1)

تقدم تخريجه (ص 42).

(2)

ما ورد عن ابن عباس: أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 342)، والبيهقي في السنن الكبير (16/ 147/ح 15951). وقال الحاكم: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقد روي عنه تفسير الآية بألفاظ مختلفة.

وما ورد عن طاووس: أخرجه الثوري في تفسيره (ص 101) ــ ومن طريقه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (2/ 522)، والخلال في السنة (4/ 160) ــ وغيرهم بلفظ:(ليس بكفرٍ ينقل عن الملة).

وما ورد عن الإمام أحمد: نقله إسماعيل الشالنجي ــ كما في فتح الباري لابن رجب (1/ 139) ــ حيث ذكر له قول ابن عباس المتقدم وسأَلَهُ: ما هذا الكفر؟ قال: هو كفرٌ لا ينقل عن الملة. مثل الإيمان بعضه دون بعض؛ فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمرٌ لا يُختلف فيه.

(3)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (11/ 592)، وابن ماجه (2744) وغيرهما عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 379): وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه ابن الجعد في مسنده (ح 2785)، والدارمي (4/ 1890)، والبزار (1/ 139) وغيرهما من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

قال البزار: وهذا الكلام لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عن أبي بكر عنه. ورواه عن أبي بكر قيس بن أبي حازم بهذا الإسناد. ورواه أبو معمر عن أبي بكر، واختلفوا في رفع حديث أبي معمر: فرواه جماعة عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن أبي معمر، عن أبي بكر موقوفًا، وأسنده بعضهم، والذي أسنده فليس بالحجة في الحديث، والسري بن إسماعيل ليس بالقوي، وقد حَدَّثَ عنه الزهري، وجماعة كثيرة واحتملوا حديثه. قال ابن حجر في إتحاف المهرة (8/ 217): أبو معمر لم يسمع من أبي بكر. وقد قال البزار: إنَّ بعض أصحاب حماد رفعه عن الحجاج عن الأعمش، والحفاظ يوقفونه. وقال الدارقطني: والموقوف أشبه بالصواب.

وقال الإمام أحمد في أصول السنة ــ كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 175) ــ بعد أن ذكر جملةً من الأحاديث: ونحوه من الأحاديث مما قد صحَّ وحُفِظَ.

انظر: العلل للدارقطني (1/ 254، 262)، السلسلة الصحيحة (7/ 1111/ ح 3370)، تنبيه الهاجد (1/ 592/ ح 494).

ص: 193

(1)

أخرجه البخاري (6103) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (6830) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وقد أخرج البخاري (6768) ومسلم (62) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «لا ترغبوا عن آبائكم؛ فمن رغب عن أبيه فهو كفر» .

(3)

أخرجه مسلم (68) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.

(4)

أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.

ص: 194

يكون [54/ أ] في الرجل شعبة من النفاق والكفر، وإن كان معه من الإيمان ما يخرج به من النار ولا يخلد فيها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الإيمان ما يزن ذرة»

(1)

.

ومذهب أهل السنة والحديث: أن الإيمان يَتبعَّض؛ فبعضه يمنع الخلود في النار، وبعض الكفر والنفاق يقتضي دخول النار كسائر الكبائر.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «فهو كما قال» مع أن الحالف لم يقصد أن يكون كافرًا، لا يستلزم أن يكون من حلف يمينًا غموسًا بنذر أو طلاق أو عتاق، لأنَّ هذا من باب الوعيد

(2)

[54/ ب] كقوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف يمينًا فاجرة ليقتطع بها مال امرئ مسلم؛ لقي الله وهو عليه غضبان»

(3)

ثم غضبه عليه إذا لقيه يزول بالتوبة وبالحسنات الماحية وبغير ذلك؛ فكذلك كونه «كما قال» هو ــ أيضًا ــ وعيد يزول بالتوبة وبالحسنات الماحية.

وأما كونه مُطلِّقًا ومعتقًا وناذرًا فهو مشروط بقصد المتكلم بأسباب ذلك، أو بقصد حكم ذلك لأجل النزاع في الهازل، والحالف بذلك لم يقصد واحدًا منهما فلا نثبت حكم ذلك في حقه ــ كما أَنَّ المكره على ذلك لا يثبت في حقه حكم ذلك ــ ولكن هو داخل تحت الوعيد.

فقوله: «لقي الله وهو عليه غضبان» فهذا الوعيد لكل من حلف يمينًا فاجرة من أيمان المسلمين ولو كانت بنذر أو طلاق أو عتاق، ولهذا من

(1)

أخرجه البخاري (44)، ومسلم (193) من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ مقارب.

(2)

باقي الورقة قام الناسخ بشطبها، لأنها إعادة لما ورد في الصفحة التي قبلها.

(3)

أخرجه البخاري (2356)، ومسلم (138) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 195

حلف يمينًا غموسًا بالكفر لم يُجعل مرتدًّا كسائر المرتدين الذين تباح دماؤهم بالردة لأنهم بدلوا دينهم، فلزوم الطلاق والعتاق والنذر له عند كذبه في الغموس وحنثه في غيرهما بمنزلة جعله مرتدًّا عند كذبه وحنثه وهذا باطل؛ فكذلك الأول.

وأيضًا؛ فقول الصحابة لها: كَفِّرِي يمينك، ينصرف إلى اليمين التي ذَكَرَتْها لهم، وهي قولها: كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدي وهي يهودية وهي نصرانية إِنْ لم تفرق بينك وبين امرأتك، وهي يمين واحدة عَلَّقَتْ فيها الهديَ والعتقَ والكفرَ، ولهذا لما أخذ أحمد بهذا الأثر، جعل كفارة واحدة تجزئ في هذا كُلِّهِ، فقال فيمن قال: إنْ فعلتُ كذا فمالي هدي وعليَّ الحج وأنا يهودي ونصراني: تجزئه كفارة يمين واحدة

(1)

، واستدل بهذا ــ أيضًا ــ على أَنَّ الحلف بالكفر فيه الكفارة عند هؤلاء الصحابة، واتبعهم في ذلك إذ لم يخالفهم غيرهم، فإنه لو لم تكن يمينًا مُكَفَّرَة لأفتوها بالكفارة فيما يُكَفَّر، وقالوا في الباقي: لا كفارة فيه.

وأما قوله: (إنه ليس في قول زينب: خَلِّ بين الرجل وبين امرأته؛ أمرًا بالتكفير).

فيقال: إِنْ كانت زينب وحفصة لم يأمرا بالتكفير، بل جعلا هذه يمينَ لغوٍ، فهذا يصلح أَنْ يحتج به مَنْ رأَى ذلك يمينًا غير منعقدة، فلا يقع عتق ولا نذر ولا كفارة في ذلك، وهذا مذهب ابن جرير [55/ أ] وداود وأصحابه كابن حزم، واحتج هؤلاء بهذا.

(1)

مسائل الإمام أحمد لابنه صالح (2/ 484).

ص: 196