الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عطاء في هذا: أنه ذهب إلى [92/ ب][أنه لم يكن]
(1)
عليه قضاء ولا كفارة.
قال الشافعي
(2)
: وإنما أبطل الله النذر [في]
(3)
البحيرة والسائبة أنها معصية، ولم يذكر في ذلك كفارة، وبذلك جاءت السنة.
والجمهور الذين يخالفون هذا يقولون: النذر في البحيرة والسائبة نذر لغير الله كما أنها حبس لغير الله، وهذا بخلاف النذر لله فإنه كاليمين بالله، ولو حلف بالله ليفعلن معصية ولم يفعل = لزمه كفارة يمين عند الأربعة والجمهور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها؛ فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه»
(4)
.
و
النذر لله أقوى من الحلف باسمه
؛ فإذا كان من حلف به إذا لم يُوفِّ فلا بُدَّ له من الكفارة؛ فالناذر له إذا لم يوف فلا بُدَّ له من الكفارة بطريق الأولى، لأنَّ هذا التزم لله وذاك التزم به، والذم لتارك النذر أعظم من ذم الحالف الحانث.
ومن قال: لا شيء في نذر المعصية، فقوله من جنس قول من قال: لا شيء في الحلف على فعل المعصية وأضعف، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال:«لا نذر ولا يمين في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم»
(5)
مراده: أنه لا وفاء بذلك،
(1)
مقدار كلمتين أو ثلاث لم يظهر منها إلا (ـكن)؛ والمثبت من السنن.
(2)
نقله البيهقي في السنن الكبير (20/ 183)، ومعرفة السنن والآثار (14/ 195).
(3)
في الأصل: (و)، والمثبت من السنن والمعرفة.
(4)
تقدم تخريجه في (ص 26)، وهو في مسلم.
(5)
أخرجه أبو داود (3274)، والنسائي (3792) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا بلفظ:«لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم، ولا في معصية الله، ولا في قطيعة رحم؛ ومَنْ حَلَفَ على يمين فرأى غيرها خيرًا منها= فليدعها وليأت الذي هو خير؛ فإن تركها كفارتها» .
وانظر: العلل للدارقطني (2/ 155).
ليس مراده أنه لا كفارة في ذلك؛ فكذلك ما روي من الحديث: «لا نذر فيما لا يملك ولا في معصية» فالمراد به: أنه لا وفاء بذلك، ليس مراده أنه لا كفارة في ذلك.
والمعروف عن الصحابة الأمرُ بالكفارة لمن لم يوف بنذره مطلقًا سواء كان المنذور معصية أو معجوزًا عنه؛ كما رواه أحمد وغيره
(1)
، ورواه البيهقي
(2)
بالإسناد الثابت عن همام، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن هَيَّاج بن عمران البُرْجُمِي أَنَّ غلامًا لأبيه أَبَقَ، فجعل لله عليه لئن قدر عليه ليقطعنَّ يده، فلما قَدَرَ عليه بعثني إلى عمران بن حصين فسألته، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث في خطبته على الصدقة، وينهى عن المثلة. فقال: قل لأبيك: فليكفر عن يمينه، وليتجاوز عن غلامه. قال: وبعثني إلى سمرة بن جندب فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث في خطبته على الصدقة وينهى عن المثلة. فقال: قل لأبيك: فليكفِّر عن يمينه وليتجاوز عن غلامه.
قال البيهقي: وهذا إسناد [موصول]
(3)
[93/ أ] إلا أن الأمر بالتكفير فيه موقوف على عمران ابن حصين وسمرة
(4)
.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (33/ 78)، وأبو داود في سننه (2667).
(2)
في السنن الكبير (20/ 192/ ح 20100).
(3)
هذه الزيادة من السنن، وليست موجودة في الأصل.
(4)
انظر: العلل لابن المديني (ص 208)، إرواء الغليل (7/ 291)، وصحيح أبي داود (الأم)(7/ 419).
قلت: [قد]
(1)
قال البيهقي ذلك، لأنه قد روى عن عمران مرفوعًا:«لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين»
(2)
، وروي ذلك من وجوه
(3)
؛ وفيه للناس كلام مبسوط في غير هذا الموضع
(4)
.
والمقصود هنا: ذكر ما تقدم من رواية ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في نذر أخت عقبة في أمره لها بالهدي وفي أمره لها بكفارة يمين، كما روي هذا وهذا جميعًا عن عقبة بن عامر، ولا منافاة بين الروايتين؛ فإنها نذرت أن تحج ماشية غير مختمرة، وروي حافية وعجزت عن الركوب، فاشتمل نذرها على معصية وهو ترك الاختمار وعلى معجوز عنه، فإن المرأة مأمورة بالاختمار= فأوجب في نذر المعصية كفارة يمين كما لو قالت: والله لأحُجَّنَّ غير مختمرة، كما قال:«مَنْ حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها؛ فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه»
(5)
.
وأما المشي فهو طاعة، فأمرها أن تمشي ما قدرت وتركب ما عجزت
(1)
غير واضحة في الأصل، ولعلها ما أثبت.
(2)
السنن الكبير (20/ 190/ ح 20098).
(3)
جاء هذا المتن من حديث جماعة من الصحابة؛ كابن مسعود، وعائشة، وابن عباس رضي الله عنهم.
انظر: البدر المنير (9/ 495)، التلخيص الحبير (4/ 175)، إرواء الغليل (8/ 214).
(4)
مجموع الفتاوى (21/ 494)، الفتاوى الكبرى (1/ 247)، قاعدة العقود (1/ 175 - 178).
(5)
تقدم تخريجه في (ص 26)، وهو في مسلم.
وتهدي هديًا، لأنَّ هذا لما نذرته صار واجبًا في النسك، ومن ترك شيئًا من النسك الواجب كان عليه هدي.
والمقصود هنا: أنَّ ابن عباس رضي الله عنهما قد ثبت عنه أنه أفتى بالكبش لمن نذر ذبح نفسه، وجعل ذلك بدلًا، لأنَّ الله جعله بدل الذبح الواجب على إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وكما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الهدي بدلًا عما تركه الناذر من الركوب الذي أوجبه.
وأما فتيا ابن عباس بكفارة يمين فيحتمل أنه أفتى بذلك فيمن حلف بذبح ابنه، فقال: إِنْ فعلتُ كذا فلله عليَّ أن أذبح ابني، وهذا موافقٌ لأصل ابن عباس، وهو أن الحالف بالنذر عليه كفارة يمين، والناذر عليه [فعل]
(1)
المنذور أو بدله، وهو أصل أحمد بن حنبل، وهو المأثور عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وإذا عُرِفَ هذا؛ عُرِفَ أَنَّ رواية عثمان بن حاضر التي فيها أَنَّ ابن عباس قال: أما الجارية فتعتق، وأما المال المنذور فأدِّ زكاته، وأما نحر نفسك فانحري بدنة= هو
(3)
مخالف للروايات الثابتة عن ابن عباس التي لم يتنازع أهل العلم في صحتها عنه؛ فإن كانت هذه الرواية ــ أيضًا ــ محفوظة، فغاية ذلك أَنْ يكون [
…
]
(4)
.
(1)
إضافة يقتضيها السياق.
(2)
قاعدة العقود (1/ 274 - 275، 282 - 284 مهم).
(3)
في الأصل: (وهو)؛ ولعل الأقرب ما أثبتُّ.
(4)
لم أجد تكملة هذه الورقة.
[96/ ب] بطريق الأولى والأحرى.
وأما قول القائل: (العتقُ قربةٌ، والحالف لم يقصد التقرب بعتقه، بخلاف الطلاق فإنه ليس بقربة، فلا يشترط ذلك فيه)
(1)
.
فيقال له: لا ريب أَنَّ النزاع في اشتراط القصد في إيقاع الطلاق أظهر من النزاع في اشتراط التقرب في إيقاع العتق؛ فإنَّ طائفة ذهبوا إلى أنَّ طلاق الهازل لا يقع، وضعفوا الحديث المأثور فيه
(2)
،
وقالوا: لا يقع الطلاق إلا بالنية، وذكر أبو بكر عبد العزيز عن أحمد في اشتراط النية في الطلاق روايتين
(3)
.
وأيضًا؛ فلا ريب في اشتراط قصد المتكلم به، فلو أراد أن يقول: طاهر، فسبق بطالق، لم يلزمه فيما بينه وبين الله شيء بلا نزاع.
وأما كون العتق لا يقع إلا إذا قصد به المعتق التقرب إلى الله، فهذا من
(1)
«التحقيق» (40/ ب).
(2)
وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «ثلاثٌ جدهنَّ جد وهزلهنَّ جد: الطلاق، والنكاح، والرجعة» وفي لفظ: «والعتاق» بدل «الرجعة» .
أخرجه أبو داود (2194)، والترمذي (1184)، وابن ماجه (2039).
وقد ضعف هذا الحديث ابن حزم في المحلى (ص 1189) وغيره كما هو مبيَّنٌ في مواضع تخريج الحديث، وما سيأتي في (ص 670).
انظر: تنقيح التحقيق (4/ 411)، نصب الراية (3/ 293)، البدر المنير (8/ 81)، إرواء الغليل (6/ 224)، صحيح أبي داود (الأم)(6/ 397)، القول الجد لعمر التونسي، تنبيه الرفاق بعلل أحاديث الطلاق (ص 360).
(3)
الفتاوى الكبرى (6/ 63).
أغرب الأقوال! وما علمتُ هذا القول منقولًا عن أحد من العلماء المعروفين المعتبرين، وإنما يحكى هذا عن بعض الرافضة، وبكل حال فهو قولٌ معلومُ الفسادِ
(1)
، فإنَّ عتق الكافر يصح بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، فغير واحد من الكفار أعتق مملوكًا له وأنفذ النبي صلى الله عليه وسلم عتقهم، كما أنفذ ما فعلوه من العطية التي قصدوا بها الصدقة
(2)
.
وقد قال عمرو بن العاص: إنَّ العاص بن وائل نَذَرَ أن يعتق [
…
]
(3)
.
وما يشترط فيه التقرب إلى الله كالصلاة والحج لا يصح من كافر، وإِنْ قيل: إِنَّ الكفار كانوا يقصدون بعتقهم التقرب إلى الله ولهذا يثابون على ذلك إذا أسلموا في أظهر القولين؛ كما في الصحيح من حديث حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت أمورًا كنت أتحنث بها في الجاهلية من
(1)
انظر ما سيأتي (ص 671).
(2)
انظر حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه الآتي قريبًا.
(3)
بياض مقدار سطر ونصف.
والحديث أخرجه أبو داود (2883)، والبيهقي في السنن الكبير (13/ 58/ ح 12763) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنَّ العاص بن وائل السهمي أوصى أَنْ يُعْتَقَ عنه مائة رقبة؛ فأعتقَ ابنُهُ هشام خمسين رقبة، فأراد ابنه عمرو أنْ يُعتق الخمسين الباقية. فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنَّ أبي أوصى بعتق مائة رقبة، وإنَّ هشامًا أعتق عنه خمسين، وبقيت عليه خمسون رقبة؛ أفأعتق عنه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنه لو كان مسلمًا فأعتقتم عنه، أو تصدقتم عنه، أو حججتم عنه؛ بَلَغَهُ ذلك» .
ولم أجده بلفظ النذر إلا ما قد يُفهم من رواية عبد الرزاق في مصنفه (9/ 61) ولفظها: كان على العاص بن وائل مائة رقبة يعتقها
…
إلخ.
صدقة وعتاقة [وصلة رحم]
(1)
هل لي فيها من أجر؟ فقال: «أسلمتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ»
(2)
.
ولا ريب مع ذلك أنهم كانوا يعتقون لأسباب أخر، والكتابة جائزة بالنص والإجماع وهي معاوضة، ولو قال السيد لعبده: إِنْ أعطيتني ألفًا فأنت حر، فأعطاه عَتِقَ ــ أيضًا ــ، والمعاوضة تمنع أن تكون قربة محضة.
وفي الجملة؛ جَعْلُ العبد حرًّا إعادة له إلى [97/ أ] الأصل، وهذا أَمْرٌ لازمٌ في الشرع، سواء قصد أن يعتقه لله أو يعتقه لغرض آخر، لكن إن أعتقه لله أثابه الله على ذلك، وإذا عمل لغير الله لم يثبه الله، كما إذا أعطى غيره مالًا يُمَلِّكُهُ، وإن كان أعطاه لغرض يناله منه من [مالٍ]
(3)
وَنَفْعٍ لم يعطه لله، لكن إن أعطاه لله كان صدقة لله يثيبه الله عليها، وأما حصول الملك للمعطى فلا يشترط فيه قصد التقرب، ولهذا لو عَلَّقَ العتق تعليقًا يقصد به الإيقاع عند الصفة= لوقع وإن لم يقصد به التقرب، وقد ذكر الإجماع على ذلك غير واحد
(4)
.
وفي الجملة؛ فهذا مما لا يعرف فيه نزاع بخلاف الطلاق المعلق بالصفة، فإنَّ النزاع فيه معروف، وهو في التعليق الذي يقصد به اليمين أظهر
(1)
في الأصل بياض مقدار كلمة تقريبًا، والمثبت من الصحيحين.
(2)
أخرجه البخاري (1436)، ومسلم (123).
(3)
في الأصل: (ما لم) ووضع الناسخ عليها علامة لحق في الحاشية، وكتب (ظ) حيث كتبها استظهارًا؛ ولعل الأقرب ما أثبتُّ.
(4)
موسوعة الإجماع لسعدي أبو جيب (ص 757 - 758)، وموسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي (3/ 844).
وأظهر، فيمتنع أن يحمل كلام الصحابة على خلاف الإجماع الذي لا يعلم فيه نزاع، ولا يحمل على خلاف ما ظُنَّ من الإجماع الذي عرف فيه النزاع.
فَمَن حَمَلَ كلامَ الصحابة على أنهم أفتوا بالكفارة لكون العتق لا بُدَّ أن يقصد به التقرب، فقد حَمَلَ كلامهم على خلاف إجماعٍ، اعتقادُ كونِهِ إجماعًا= أظهر من اعتقاد كون الطلاق المعلَّق بالصفة ــ فضلًا عن المحلوف به ــ إجماعًا؛ فكان حَمْلُ كلامهم على ما لا يخالف ذلك الإجماع ــ وإن خالف الثاني ــ أولى من حمل كلامهم على ما يخالف الإجماع الأول دون الثاني.
وأيضًا؛ فالصحابة رتَّبوا الحكم على كون التعليق يمينًا، فقالوا: كَفِّرِي يمينك، وسَوَّوَا في ذلك بين جميع ما علقه على وجه اليمين، والحكم المعلَّق باسم مشتق مناسب: يدل على أن ذلك المعنى هو المؤثر في الحكم، فدلَّ على أن المؤثر عندهم كونه قصد بالتعليق اليمين، لا كونه لم يقصد التقرب بالعتق.
وأيضًا؛ فلو كان المانع كونه لم يقصد التقرب بالعتق لكان ذلك يوجب إبطال العتق لا يوجب الكفارة، والصحابة أوجبوا كفارة يمين، وكفارة اليمين لا تجب في إيقاع العتق الذي لم يقصد به القربة عند أحدٍ من المسلمين، كما أَنَّ الكفارة لا تجب في إيقاع الطلاق الذي لم يقع، فلم يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ مَنْ أوقعَ [97/ ب] الطلاق فلم يقع يلزمه كفارة يمين، ولا أَنَّ من أوقع العتق فلم يقع تلزمه كفارة يمين، فضلًا عن أَنْ يقال: إنَّ مَنْ قصد إيقاع العتق لغير الله، فلم يقع يلزمه كفارة يمين، بل لو نذر نذرًا لغير الله لم يلزمه كفارة يمين بلا ريب، فلو نذر نذرًا لبعض المخلوقات لم ينعقد ولا كفارة فيه.
فإنَّ الناذر إما أن يقصد التقرب إلى الله، وإما أن يقصد التقرب إلى غيره، وإما أن يقصد معنى اليمين لا يقصد التقرب إلى أحد؛ فهذه الأقسام الثلاثة التي تسمى نذرًا؛ فإنْ قصد التقرب به إلى الله لزمه الوفاء، وإنْ قصد التقرب إلى غيره كان شركًا، كما لو حلف بغير الله، وعليه أن يتوب إلى الله من عقد هذا النذر ويستغفر، ويؤمر أن يفعل حسنة تمحو هذا النذر، كما يؤمر الحالف بغير الله، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ حلف فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعالَ أقامرك؛ فليتصدق»
(1)
.
وفي سنن النسائي وغيره عن أبي إسحاق السبيعي، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: حلفتُ باللات والعزى. فقال لي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئسَ ما قلتَ، اِئتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فلقيته فأخبرته، فقال: «قل: لا إله إلا الله وحده ثلاث مرات، وتعوَّذَ من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن شمالك ثلاث مرات، ولا تَعُدْ
(2)
له»
(3)
.
وفي لفظ النسائي وغيره
(4)
ــ أيضًا ــ فقال: «قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، واتفل عن شمالك ثلاث مرات، وتعوَّذ بالله من الشيطان، ثم لا تعد» .
(1)
أخرجه البخاري (4860)، ومسلم (1647).
(2)
في الأصل: (تعود)، والمثبت من مصادر التخريج.
(3)
أخرجه أحمد في مسنده (3/ 150، 168)، والنسائي (3776)، وابن ماجه (2097)، وصححه ابن حبان (10/ 206 - 4365).
وانظر: إرواء الغليل (8/ 192)، العلل للدارقطني (4/ 323).
(4)
أخرجه النسائي (3777).
وأما إِنْ قصد معنى اليمين: إما بالنذر المفرد، كقوله: لله عليَّ أَنْ أقتل فلانًا إن ظفرت به، وعَليَّ أَنْ أُغِيْرَ على بني فلان ونحو ذلك، وإما بأنْ يُعَلِّقَ على الفعل ما يلزم إذا قصده، ويقصد بالتعليق اليمين لا لزومه، كقوله: إِنْ فعلت كذا فعليَّ الحج وعليَّ عتق رقبة، فهذا النوع يمين.
ومعلومٌ أنه إذا قصد النذر لغير الله ولم يقصد به اليمين لم يكن عليه كفارة يمين، فلو كان الصحابة قد أبطلوا [98/ أ] العتق لكونه لم يقصد التقرب به إلى الله لا لكون الحالف قصد اليمين = لم يكن عليه كفارة يمين، فلما أفتوه بكفارة يمين دَلَّ على أنهم جعلوا هذا يمينًا، لم يجعلوه من باب مَنْ قصد أن ينذر لغير الله أو يتقرب إلى غير الله أو يعتق لغير الله.
وأيضًا؛ لو كان العلة ما ذكره
(1)
لم تجب كفارة لا في النذر ولا في العتق، كمن نذر لغير الله، فإنه من المعلوم أن النذر لغير الله لا يلزم، بل يشترط في النذر اللازم أن يكون الناذر قصد التزامه لله؛ فإنَّ النذر أن يلتزم لله وإن كان قد التزمه على سبيل المقابلة لِمَا حصل له من النعمة، وهذا أحد الأسباب التي علل بها كراهة النذر.
قال أبو جعفر محمد بن جرير بعد أَنْ ذَكَرَ حديثي ابن عمر وأبي هريرة في النذر أنه لا يأتي بخير وأنه لا يَرُدُّ القَدَرَ
(2)
قال
(3)
: (لا ينبغي لأحدٍ ثَبَتَ عنده
(1)
في الأصل: (ذكروه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2)
أخرجه البخاري (6608)، ومسلم (1639) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، وقال:«إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل» . وهذا لفظ مسلم. وأخرجه البخاري (6609) ومسلم (1640) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لا تنذروا؛ فإن النذر لا يغني من القدر شيئًا، وإنما أستخرج به من البخيل» وهذا لفظ مسلم.
(3)
لم أجد كلام الطبري هذا فيما بين يدي من كتبه، ولا مَن نقله عنه.
نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينذر؛ فيكون جامعًا بذلك من فعله خلالًا ضارة غير نافعة؛ منها: تغريمه ما نذره من ماله؛ إذ كان يلزمه بنذر ما نذر الوفاء به من غير اعتياض منه بذلك عوضًا من ثواب الآخرة ولا من عرض الدنيا).
قلت: وهذا فيه نظرٌ وكلامٌ ليس هذا موضعه.
قال
(1)
: (ومنها: التقدمُ على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عما نهى عنه من النذر، وغير مأمون عليه بذلك من فعله العقوبة من الله إما عاجلة وإما آجلة.
ومنها: الاستخفاف بحق الله، إذ جعلَ لِمَا سَأَلَه من حاجته أن يصيب عوضًا من ماله، أو من عمل بدنه، ولم يتمحض ما كان منه من ذلك لله خالصًا لوجهه إلا بعوضٍ يُعَجَّلُ له منه، وقد ذَمَّ الله قومًا عبدوه على هذا المعنى في كتابه فقال:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآية [الحج: 11] غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإنَّ على الناذر نذرًا في طاعة الله الوفاءَ به لإجماع الجميع نقلًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الواجب عليه ذلك، وقد روي عنه بذلك من جهة نقل الآحاد آثار يستغنى بنقل الجميع عنها، غير أنا سنذكر بعضها)، ثم ذكر حديث القاسم عن عائشة
(2)
، وحديث عمر في نذره الاعتكاف
(3)
.
(1)
أي: الطبري رحمه الله.
(2)
تقدم تخريجه (ص 6)، وهو في البخاري.
(3)
أخرجه البخاري (2043)، ومسلم (1656) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في قصة نذر أبيه.
فصلٌ
وأما قول القائل: (فلا يجوز أن يَلزمهم قياس [98/ ب] ما يحتمل أنهم يفرقون)
(1)
؛ فعنه أجوبة:
أحدها: أنا لا نحتاج أن نلزمهم ذلك، ولم نكن ادعينا أن الصحابة قالوا ذلك حتى يقال: فلا يجوز إلزامهم بذلك.
الثاني: أَنَّ المفرق هو الذي يُلزمهم القول الذي هو عنده خطأ، وأما نحن فلو ألزمناهم لم نلزمهم إلا ما هو عندنا صواب؛ فأيُّ الفريقين أولى بالحق واتباع الصحابة وتعظيمهم؟!
الثالث: أنه لا بُدَّ إذا كانوا يقولون: إنَّ مَنْ قال: إِنْ فعلت كذا فكل مملوك لي حر، أنه يكفر يمينه. إما أَنْ يكون قولهم في الحلف بالطلاق إنه لا يلزم أيضًا، أو إنه يلزم أَنْ يكون الفرق هو الصواب، أو إنه يلزم ويكون قولهم خطأ.
ومعلوم أَنَّ إلزامهم بالأول أولى من الثاني والثالث، فإنهم إذا كانوا يسوون بين تعليق الطلاق والعتاق المقصود به اليمين = كان هذا قول الأمة خلفًا عن سلف قبل أبي
(2)
ثور، فكان هذا القول هو الذي تدل عليه الأدلة الشرعية: الكتابُ والسُنة والقياس الجلي، ولم يكن هناك ما يُخافُ وقوعه، فليس قبل الصحابة إجماع حتى يقال إنهم خالفوه، كما يقول ذلك من يقوله
(1)
«التحقيق» (40/ ب).
(2)
في الأصل: (أبو)، والجادة ما أثبتُّ.
من المتأخرين.
وأما إنْ علمنا أنهم فَرَّقُوا مع صحة الفرق؛ فهذا باطل قطعًا، فإنه لا يمكن أحدًا أَنْ يأتي بفرق مؤثِّرٍ بينهما، حتى أبو ثور ومحمد بن جرير وغيرهما لم يُفَرِّق أَحَدٌ منهم بين الحلف بالطلاق والحلف بالعتق بفرق مؤثر أصلًا، بل جعلوه من مواضع الاستحسان المردودة عند جمهور العلماء، وهو تخصيص العلة بدون فوات شرط ووجود مانع، والتفريق بين المتماثلين بلا سبب يخص أحدهما
(1)
.
وإِنْ قيل: بل فرقوا مع الخطأ في الفرق؛ كان هذا إلزامًا لهم بالخطأ من غير أن يكون في كلامهم دليل عليه، وكان في هذا خلافُ إجماعِ الأمة قبل أبي ثور، فإنَّ حُكمنا بأنه لم يفرق أحد من العلماء بين الحلف بالطلاق والحلف بالعتاق قبل أبي ثور= حُكْمٌ لم نعلم أحدًا نازع فيه، ولا نُقِلَ فيه خلافٌ لا شاذ ولا غير شاذ، بخلاف حُكمنا بأنَّ وقوع الطلاق مجمع عليه، فإن هذا مما قد نقل فيه النزاع قديمًا قبل أبي ثور، فكيف يُلزم الصحابة [99/ أ] بهذا دون ذاك؟
وأيضًا؛ فهذا المعترض عمدته فيما نقل عن الصحابة على ما ذكره
(1)
انظر في الكلام عن تخصيص العلة: مجموع الفتاوى (6/ 453)(20/ 167 - 168)(24/ 46)، الفتاوى الكبرى (6/ 199، 201)، جامع المسائل (2/ 178 - 219)، مجموعة الرسائل والمسائل (2/ 12)، المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 134 - 229)، تنبيه الرجل العاقل (2/ 369).
وانظر: (ص 10 - 11، 275 - 276)، وإعلام الموقعين (4/ 370).
البخاري
(1)
عن نافع قال: طَلَّقَ رجل امرأته البتة إِنْ خَرَجَتْ، فقال ابن عمر: إِنْ خَرَجَتْ فقد بُتت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء. ولم يذكر عن الصحابة في الطلاق المعلق الذي يمكن أن يكون يمينًا غير هذا.
وإن قيل: بل نعلم قول الصحابة في الحلف بالعتقِ، والحلفُ بالطلاق ليس لهم فيه قول؛ فهذا يبطل أن يكونوا أفتوا في الحلف بالطلاق بالوقوع، ثم لما تكلم التابعون في هذه المسألة وأفتى بعض التابعين بوقوع الطلاق المحلوف به، فهؤلاء لم ينقل عن أحد منهم ــ أيضًا ــ أنهم فَرَّقُوا بين الحلف بالعتاق والحلف بالطلاق مطلقًا، بل يكون قولهم هذا بناء على أَنَّ الحلف بالعتاق يلزم.
وإنْ قيل: منهم من نُقِلَ عنه أَنَّ الحلف بالعتق لا يلزم، كما نُقِلَ عن الحسن وعطاء.
قيل: ونقل عنهما أن الحلف بالعتق يلزم؛ فيحتمل أن يكون قولهما بلزوم الطلاق على هذا القول، ويحتمل أن يكون هؤلاء أفتوا في صور لا يتمحَّض فيها الحلف بالطلاق، بل يستعمل في الحلف وفي الإيقاع إما لظنهم أَنَّ ذلك كله إيقاع، وإما لأنَّ بعض ذلك لما كان يقصد فيه الإيقاع كثيرًا جعلوا الباب واحدًا لِعُسْرِ الفَرْق، فلا يجوز أن يلزمهم التعليق الذي يتمحض فيه الحلف عند الحض والمنع، كما تمحَّض الحلف بالنذر والعتق.
فإنَّ النوع الذي يظهر فيه أَنَّ قصده اليمين دون الإيقاع، ليس مثل النوع
(1)
في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون.
الذي يخفى فيه الفرق بين قصد الأيمان وقصد الإيقاع، فإذا كان قد اشتبه على العالم الخفي لم يلزم أن يشتبه عليه الجلي.
وذلك: أَنَّ تعليق الطلاق فيه ما ليس فيه حَضٌّ ولا منع ولا تصديق ولا تكذيب، كتعليقه على الطُّهْرِ وعلى دخول الشهر ونحو ذلك، فهذا ليس بيمين مكفَّرة عند أحد من المسلمين، وفيه ما فيه حض ومنع لكن قد يقصد إيقاع الطلاق عند إيقاع الصفة، فإذا قصد إيقاع الطلاق عند إيقاع الصفة= لم يكن هذا يمينًا مكفَّرة عند أحد من المسلمين، بل هذا النوع والذي قبله قد قال بعض الناس إنه لا طلاق فيهما؛ كما قال أبو عبد الرحمن [99/ ب] الشافعي
(1)
وابن
(1)
هو: أحمد بن يحيى بن عبد العزيز البغدادي، من كبار الأذكياء، ومن أعيان تلاميذ الشافعي؛ فلذا نُسِبَ إليه.
قال أبو ثور: كُنَّا نختلف إلى الشافعي، فكان يقول لنا: لا تذهبوا إلى أبي عبد الرحمن يعرض لكم، فإنه يُخطئ، وكان ضعيف البصر.
وسئل أبو داود السجستاني عن أصحاب الشافعي، فذكر جملةً منهم، ثم قال: ورجلٌ ليس بالمحمود؛ أبو عبد الرحمن أحمد بن يحيى ــ الذي يُقال له: الشافعي ــ وذلك أنه بَدَّلَ وقال بالاعتزال.
قال الدراقطني: كان من كبار أصحاب الشافعي الملازمين له ببغداد، ثم صار من أصحاب ابن أبي دؤاد واتَّبَعه على رأيه؛ وكذلك قال الشيخ أبو إسحاق.
قال ابن كثير معلِّقًا على قول أبي إسحاق بأخذ أبي عبد الرحمن بقول ابن أبي دؤاد: إنما صار إلى رأي أبي دؤاد في القول بخلق القرآن؛ فأما في الفروع فهو باقٍ على مذهب الإمام الشافعي، وله وجوهٌ تُحكى.
وقال ابن حجر في لسان الميزان (9/ 113): ومن مفردات أبي عبد الرحمن قوله: إنَّ الطلاق لا يقع بالصفات.
انظر في ترجمته: تاريخ بغداد (6/ 441)، تاريخ الإسلام (5/ 736، 981)، سير أعلام النبلاء (10/ 555)، طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (2/ 64)، طبقات الشافعية لابن كثير (1/ 124)، «التحقيق» للسبكي (10/ أ).
حزم وكثيرٌ من الشيعة مثل: المفيد
(1)
والطوسي
(2)
والموسوي
(3)
وغيرهم، ونقلوا هذا عن علماء أهل البيت.
وهؤلاء رأوا بعض الأجوبة المنقولة عن بعض أهل البيت في بعض التعليقات، ويكون ذلك مما يقصد به اليمين، فلم يتفطنوا لهذا الفرق، ونقلوا عن أولئك العلماء من أهل البيت أنهم يُسَوُّون بين التعليق الذي يقصد به اليمين والذي يقصد به الإيقاع، وغلطوا عليهم في هذا النقل، كما غلط هذا المعترض وأمثاله فيما ينقلونه عن بعض الصحابة والتابعين من التسوية بين هذين التعليقين، ومن الفرق بين التعليق الذي يقصد به اليمين وبين تعليق
(1)
هو: محمد بن محمد بن النعمان، المعروف بالمفيد شيخ الرافضة، أبو عبد الله، ولد سنة (336) وقيل (338)، وتوفي سنة (413).
انظر في ترجمته: شذرات الذهب (5/ 72)، تاريخ الإسلام (9/ 227)، سير أعلام النبلاء (17/ 344).
(2)
هو: محمد بن الحسن بن علي الطوسي، أبو جعفر، تفقَّه أولًا على مذهب الشافعي، ثم لازم المفيد فتحوَّل إلى مذهبه الرفض، توفي سنة (460).
انظر في ترجمته: تاريخ الإسلام (10/ 122)، سير أعلام النبلاء (18/ 334)، طبقات الشافعية الكبرى (4/ 126).
(3)
هو: علي بن الحسين بن موسى، أبو القاسم الموسوي العلوي، المعروف بالشريف المرتضى، وهو أخو الشريف الرضي، كان رافضيًا ورأسًا في الاعتزال، ولد سنة (355)، وتوفي سنة (436).
انظر في ترجمته: تاريخ بغداد (13/ 344)، تاريخ الإسلام (9/ 557)، شذرات الذهب (5/ 168 وما بعدها).
الطلاق وتعليق العتق.
وذلك: أَنَّ عامة الآثار المنقولة عن السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم من أهل البيت وغيرهم إنما هي أجوبة في قضايا معينة، لم يُنْقَل عن أحد من الصحابة أن كل من حلف بالطلاق يلزمه، بل ولا نقل هذا عن التابعين، ولا نقل عن أحد منهم ولا التابعين أَنَّ كل من عَلَّقَ الطلاق بصفة فإنه لا يقع، بل ولا كُلَّ مَنْ حَلَفَ بالطلاق فإنه يقع، كما أنه لم ينقل عنهم أنه لا يقع الطلاق بأحدٍ عَلَّقَهُ، بل المنقول عنهم في تعليقات لا يقصد بها اليمين الإيقاع، أو في تعليقات يقصد بها اليمين عدم الوقوع، وفي بعض ذلك نقل عنهم الوقوع.
وما علمت لفظًا عامًّا منقولًا عن الصحابة والتابعين في النفي والإثبات إلا ما ذَكَرَ ابن طاووس عن أبيه أنه كان يقول: (ليس الحلف بالطلاق شيئًا)؛ فهذا أفتى فتيا عامة في كل حالف بالطلاق أنه لا يلزمه، كما قد ذكرنا ألفاظه في هذا الباب في موضع آخر
(1)
.
وأما المنقول عن السلف من الصحابة والتابعين في تعليق الطلاق أو الحلف به، فما علمتُ أحدًا نَقَلَ عن أحدٍ من الصحابة أو التابعين أنه قال: كُلُّ طلاقٍ معلَّقٍ بصفة فإنه يقع، بل ولا من قال: كل مَنْ حَلَفَ بالطلاق فإنه يلزمه، بل نقل عنهم في كثير من صور التعليق وبعض صور الأيمان، فجعل الباقي مثله بالقياس على ما ذكره.
فإنْ كان نقل المذاهب بالقياس باطلًا؛ لم يكن لأحدٍ أَنْ ينقل عن أحدٍ
(1)
في (ص 218، 650 - 652، 715).
من الصحابة والتابعين [100/ أ] أنه قال: كل طلاق معلَّقٍ يقع، ولا كل طلاق محلوف به يقع.
وإن كان النقل بالقياس جائزًا؛ فإنه يجوز أن يُنقل عنهم أن التعليق الذي يُقْصَد به اليمين هو يمين، ليس هو طلاقًا ولا عتاقًا ولا نذرًا ولا كفرًا، بل فيه كفارة يمين، فإنهم نَصُّوا على صورٍ متعددة من هذا النوع، وجعلوا هذا التعليق يمينًا مكفرة، وأمروا فيه بالكفارة التي تجب في اليمين
(1)
.
فكان النقل عن الصحابة والتابعين الذين جعلوا التعليق الذي يقصد به اليمين يمينًا مكفرة أنهم يفتون في ذلك بكفارة يمين، سواء حلف بالعتاق أو الطلاق أو غيرهما، لا سيما مع تسويتهم بين الحلف بالعتق وغيره = أولى من أن ينقل عنهم أنهم قالوا: كُلُّ مَنْ عَلَّقَ طلاقًا بصفة فإنه يلزم، أو كل من حلف بالطلاق فإنه لم يلزم، مع أنه لم ينقل عن أحد منهم هذا العموم، وإنما نقله مَنْ نَقَلَهُ من إفتائهم في بعض صور ذلك، وجعل المسكوت كالمنطوق بالقياس، ثم قد يكون الذي أفتوا فيه من التعليق الذي لا يقصد به اليمين، فجعل هذا الناقل قولهم في التعليق الذي يقصد به اليمين كذلك، وهذا غلط عليهم.
وكذلك مَنْ نَقَلَ عن أحد من الصحابة الفرق بين الحلف بالطلاق والعتاق وغيرهما فقد غلط عليه، ومن نَقَلَ عن أحد منهم الفرق بين الحلف بالعتق والطلاق فغلطه واضح، لا سيما مع اعترافه بفساد هذا الفرق.
(1)
انظر في تخريج المذاهب بالقياس: التخريج عند الفقهاء والأصوليين (ص 232)، وتحرير المقال فيما تصح نسبته للمجتهد من الأقوال (ص 51)، والتمذهب (1/ 284، 538).
وكل من نقل إجماعًا في التعليق أو الحلف فهو أولًا إنما يَعلم قول بعض المجتهدين في تلك الأقوال، ليس فيها لفظ عام لا في التعليق ولا في الحلف، بل قاس المسكوت على المنطوق، ولم يعلم عن غيرهم نزاعًا؛ فكان نقله مبنيًا على مقدمتين:
إحداهما: نقل مذاهبهم بالقياس الصحيح تارة والفاسد أخرى.
والثانية: عدم علمه بالمنازع لا علمه بعدم المنازع؛ فأيُّ النقلين أَحَقُّ بالاتباع؟ هذا أو من ينقل ألفاظهم بأعيانها الدالة على أنهم يجعلون التعليق الذي يقصد به اليمين يمينًا مكفرة، ويجعل ما سكتوا عنه من الأيمان بمنزلة ما أفتوا فيه، مع أنه موجود عن بعضٍ لفظٌ [100/ ب] عام في الحلف بالطلاق؛ كقول طاووس:(ليس الحلف بالطلاق بشيءٍ)، ومع أنه قد ثبت عن طاووس في تعليق العتق الذي يقصد به اليمين وتعليق النذر وما كان من هذا النحو: أنه يمين مكفرة؛ فعنه نَصٌّ عامٌّ في الحلف بالطلاق، ونصٌّ في الحلف بالعتق والنذر وما كان مثله: أنه يمين مكفرة.
ومعلومٌ لمن تدبر هذه
(1)
الأقوال: أَنَّ من نقل عن هؤلاء الصحابة والتابعين أنهم يقولون في تعليق الطلاق الذي يقصد به اليمين أنه يمين ليس بطلاق لازم = كان نقله أصح وأثبت مِنْ نَقْلِ مَنْ نَقَلَ عن أحد من الصحابة والتابعين أن كل طلاق معلَّق بالصفة أو كل طلاق محلوف به يلزم.
* * * *
(1)
في الأصل: (هذا)؛ والصواب ما أثبتُّ.
فصلٌ
قال المعترض:
(قال ــ يعني المجيب
(1)
ــ: وأما ابن عباس فقد ذكر البخاري عنه في صحيحه
(2)
أنه كان يقول: لا طلاق إلا عن وطر، ولا عتق إلا ما ابتغي به وجه الله. فهذا يُبيِّن أن الحلف بالعتق والطلاق لا يقع به ذلك، فإنَّ هذا لم يكن له وطر في الطلاق، ولا الآخر قَصَدَ عتقًا يبتغي به وجه الله، وإنما حلف به قصدًا ألا يقع به العتق، [قلتُ: مقصودُهُ بهذا رَدُّ الرواية التي نقلها أحمد عن ابن عباس بوقوع العتق]
(3)
ومعارضتها بما نقله عنه البخاري كما ذكر.
واعلم أن البخاري لم ينقله عن ابن عباس بهذا اللفظ الذي ذكره، بل لفظه:(وقال ابن عباس: الطلاق عن وطر، والعتاق ما أريد به وجه الله). فَنَقَلَهُ هو بالمعنى وزاد عليه، فإنَّ لفظ البخاري ليس فيه حصر، ولا صريحًا في العموم، بخلاف اللفظ الذي نقله هو عنه، وشَرْطُ النقلِ بالمعنى: المساواةُ في الجَلاء والخفاء.
وإنما ذكر البخاري ذلك في باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران والمجنون وأمرهما
(4)
والغلط والنسيان في الطلاق والشرك
(1)
مجموع الفتاوى (33/ 197)، وهو نقلٌ لمعنى كلام المجيب.
(2)
كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره.
(3)
ما بين المعقوفتين من «التحقيق» .
(4)
في الأصل: وأمره، والمثبت من الصحيح و «التحقيق» .
وغيره؛ ومقصوده ــ والله أعلم ــ: ما إذا قام مانع من الأشياء المذكورة في الترجمة يمنع من قَصْدِ الطلاق، ولم يسق الكلام في معرض حلف ولا نذر، فكيف يجعل ذلك معارضًا لما رواه أحمد عن ابن عباس صريحًا أنه إذا حلف بعتق مملوكه؛ فحنث= يعتق
(1)
.
وفي هذا الباب نقل البخاري أثر ابن عمر الذي قدمناه عنه في الطلاق، وهو يوافق ما نقله أحمد من رواية عثمان بن حاضر عن ابن عمر [101/ أ] وابن عباس)
(2)
.
والجواب من وجوه ــ بعد أن نذكر لفظ البخاري وما نقله في هذا الباب ــ، فإنَّ هذا المعترض قد حَرَّف الكلم عن مواضعه، وحَمَلَ كلام البخاري على غير مراده، فإذا ذُكِرَ لفظه وسياقه تبين مراد البخاري ومعنى ما نقله عن السلف.
قال البخاري
(3)
: باب الطلاق في الإغلاق والكره
(4)
والسكران والمجنون وأمرهما
(5)
والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:«الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى» .
وتلى الشعبي: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. وما لا يجوز من إقرار الموسوس.
(1)
لم أقف عليه. وانظر ما سيأتي في (ص 145).
(2)
«التحقيق» (40/ ب - 41/ أ).
(3)
في صحيحه (ص 947).
(4)
في الأصل: (والمكره)، والمثبت من الصحيح.
(5)
في الأصل: (وأمره)، والمثبت من الصحيح.
قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي أقرَّ على نفسه: «أَبِكَ جنون؟» .
وقال علي رضي الله عنه: بَقَرَ حمزةُ خواصر شَارِفَيَّ، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة، فإذا حمزة قد ثَمِلَ محمرةٌ عيناه، ثم قال حمزة: هل أنتم إلا عبيد لأبي، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد ثَمِلَ، فخرج وخرجنا معه.
وقال عثمان رضي الله عنه: ليس لمجنون ولا سكران طلاق.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: طلاق السكران والمستكره ليس بجائز.
وقال عقبة بن عامر رضي الله عنه: لا يجوز طلاق الموسوس.
وقال عطاء ــ رحمة الله عليه ــ: إذا بدا بالطلاق فله شرطه.
وقال نافع ــ رحمة الله عليه ــ: طَلَّقَ رجل امرأته البتة إن خرجت. فقال ابن عمر رضي الله عنهما: إِنْ خَرَجَت فقد بُتَّتْ منه، وإن لم تخرج فليس بشيءٍ.
وقال الزهري فيمن قال: إِنْ لم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالق ثلاثًا: يُسْأَل عَمَّا قال وَعَقَدَ عليه قلبه حين حلف بتلك اليمين، فإن سَمَّى أجلًا أراده وعقد عليه قلبه حين حلف= جُعِلَ
(1)
ذلك في دينه وأمانته.
وقال إبراهيم: إِنْ قال لا حاجة لي فيك
(2)
نيته، وطلاق كل قوم بلسانهم.
وقال قتادة: إذا قال: إذا حملتِ فأنت طالق ثلاثًا، يغشاها عند كل طهر
(1)
كتب الناسخ في الهامش: (أظنه). وما ظنَّه صواب.
(2)
في الأصل: (لك فيه) ووضع الناسخ فوقها خطًا، وكتب في الهامش ما هو مثبت وبجانبها (ظ).
مرة، فإن استبان حملها فقد بانت منه.
وقال الحسن: إذا قال: الحقي بأهلك؛ نِيَّتُهُ.
وقال ابن عباس: الطلاق عن وطر، والعتق ما ابتغي به وجه الله.
قال الزهري: إِنْ قال: ما أنتِ بامرأتي؛ نِيَّتُهُ، وإن نوى طلاقها؛ فهو ما نوى [101/ ب].
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألم تعلم أنَّ القلم رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يُفيق، وعن الصبي حتى يُدرك، وعن النائم حتى يستقيظ.
وقال عليٌّ: كل الطلاق جائز إلا طلاقَ المعتوه.
ثم أسند البخاري حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم» .
وقال قتادة: إذا طَلَّقَ في نفسه فليس بشيء.
وأسند عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر أَنَّ رجلًا من أسلم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فقال: إنه قد زنا، فأعرض عنه، فتنحى لشقه الذي أعرض، فشهد على نفسه أربع شهادات، فدعاه فقال:«هل بك جنون؟ هل أحصنت؟» . قال: نعم؛ فأمر به أن يرجم بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة جَمَزَ حتى لحق بالحرة فقتل.
وأسند ــ أيضًا ــ عن الزهري، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب أَنَّ أبا هريرة قال: أتى رجل من أَسْلَم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله، إِنَّ الأَخِرَ قد زنا ــ يعني: نفسه ــ
فأعرض عنه، فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قِبَلَه. فقال
(1)
: يا رسول الله! [إنَّ] الأَخِرَ قد زنا فأعرض عنه، فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله، فعاد فقال له ذلك، فأعرض عنه، فتنحى الرابعة؛ فلما شَهِدَ على نفسه أربع شهادات دعاه فقال:«هل بك جنون؟» . قال: لا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا به فارجموه» وكان قد أحصن.
وعن الزهري قال: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: فكنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى بالمدينة، فلما أذلقته الحجارة جمز، حتى أدركناه بالحرة، فرجمناه حتى مات.
فهذا مقصود البخاري في الترجمة يُبيِّنُ أَنَّ مراده اعتبار نية المطلِّق، وحينئذٍ؛ فالجواب من وجوه:
أحدها: قوله: (مقصوده بهذا رَدُّ تلك الرواية بهذه الرواية).
فيقال له: ليس الأمر كذلك؛ لا في كلام المجيب ما يدل على ذلك ولا هو قصد ذلك، وإنما ذكر هذا لِيُبيِّنَ أنه عن ابن عباس ما يبين أَنَّ الطلاق والعتاق المحلوف به لا يقع، كما قدمناه عنه وعن غيره من الصحابة [102/أ] أَنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين يمين، وأنَّ تعليق العتق الذي يقصدُ به [اليمين]
(2)
يمينٌ مكفرة.
وذكرنا أَنَّ ما يعارض هذا عنه من رواية عثمان بن حاضر؛ إما أن تكون
(1)
في الأصل زيادة: (له ذلك)، وليست في الصحيح، ويؤدي إثباتها إلى ارتباك في السياق.
(2)
إضافة يقتضيها السياق.
باطلة، وإما أن تكون عنه روايتان، وكذلك ذكرنا هذا الأثر عنه موافقًا لما ثبت عنه مما يؤيد ذلك، وإذا ثبت هذا عنه = كان أحد الأمرين لازمًا: إما ترجيح الروايات الثابتة عنه على الرواية الضعيفة، وإما أن يكون عنه روايتان، لا أَنَّا بمجرد نقل هذا الجواب نرد تلك الرواية، فإنَّ هذا ليس بطريق صحيح.
فإنه إذا ثبتت تلك الرواية وثبتت هذه= لم يكن رَدُّ إحداهما بالأخرى بأولى من العكس، بل بَيَّنَّا أَنَّ تلك الرواية ليس فيها ولا في غيرها أَنَّ ابن عباس أو غيره من الصحابة فَرَّقُوا بين الحلف بالعتق وبين الحلف بالنذر، كما يقوله من يقول بذلك من يحتج بقولهما ممن قال: إن قوله موافق لقول أحد من الصحابة من الفرق بين الحلف بالعتق والنذر، فقوله لم يُنقل عن أحد من الصحابة.
وأحمد لم يَنقل عن أحد من الصحابة أنه فرق بين العتق وغيره لا هو ولا غيره من العلماء، بل لما نُقِلَ له عن بعضهم القول في العتق ولم تبلغه تلك الرواية إلا من طريق واحد عللها، فلم يثبت عنده عن الصحابة في العتق إفتاء بالتكفير، ثم رأى في هذه الرواية إفتاء بعضهم بلزومه إذا حلف به، فأفتى هو بلزومه ولزوم الطلاق دون لزوم النذر، كما قال ذلك أمثاله من العلماء كالشافعي وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم، وليس في هؤلاء مَنْ نَقَلَ قوله عن الصحابة، بل ولا من بعدهم كمحمد بن نصر المروزي وأمثاله مع موافقتهم لهم= لم يَنْقُلْ أَحَدٌ من هؤلاء عن أحدٍ من الصحابة أنهم فَرَّقُوا بين الحلف بالعتق والنذر، ولا بين الحلف بالطلاق والعتاق والحلف بالنذر، ولا بين الحلف بالطلاق والحلف بالعتق، ولا بين الحلف بالطلاق والحلف بالنذر = فهذه الفروق لم ينقلها أحد من العلماء عن أحد من
الصحابة بإسناد
(1)
صحيح ولا ضعيف.
ولكن نقل بعضهم ما نقله [102/ ب] أحمد من أثر عثمان بن حاضر أنهم أفتوا بلزوم العتق، ولكن إنما أفتوا بذلك مع إفتائهم بلزوم الصدقة وذبح النفس، وجعلهم في الصدقة الزكاة وفي ذبح النفس بدنة، وهذا القول إنْ كان هؤلاء الصحابة قالوه: ففيه التسوية بين الحلف بالعتق والحلف بالنذر في لزوم الجميع لا في لزوم العتق وحده وتكفير الباقي، فأمَّا أَنْ يجعل لمجرد هذه الرواية أنهم أفتوا بلزوم العتق وتكفير غيره = فهذا كذبٌ صريحٌ عليهم، بل لو قُدِّرَ أنه لم يُنقل عنهم في حديث ليلى بنت العجماء ذكر العتق بحال= لم يجز أن يقال: إنهم يفتون في العتق باللزوم وفي غيره بالتكفير بحديث عثمان بن حاضر، فإنه ليس فيه إلا الإفتاء بلزوم الجميع، بل أفتوا بأن العتق وغيره يلزم.
وحينئذٍ؛ فمقصود مَنْ نصر قول أحمد في هذا الجواب: إما أَنْ يكون مقصوده أَنْ يحكي عنهم الإفتاء بلزوم العتق وتكفير غيره؛ فهذا كذبٌ صريحٌ عليهم، وأحمد رضي الله عنه لم يقل هذا، ومن هو دون أحمد لا يستجيز مثل هذا الكذب الظاهر عليهم؛ فكيف بأحمد وأمثاله؟
وإما أَنْ يكون مقصوده أَنْ يعارض رواية التيمي برواية عثمان بن حاضر، ويقول: قد اختلف النقل عنهم في العتق؛ فهذا متوجه يسلكه أحمد ومثله من العلماء، لكن يقال: المعارضة ثبتت في العتق وفي غيره؛ فعثمان نقل في الجميع اللزوم، والتيمي نقل في حديث ليلى بنت العجماء في الجميع الكفارة، وهو ومن اتبعه وأنتم وجميع العلماء تُقَدِّمُون حديث ليلى
(1)
في الأصل: (لإسناد)، والصواب ما أثبتُّ.
بنت العجماء في الصحة والثبات
(1)
.
وأحمد مع الشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور ومحمد بن نصر وغيرهم من فقهاء الحديث مع أكثر السلف يقولون بحديث ليلى بنت العجماء في الحلف بالنذر، ولم يقل أحد من العلماء بما في حديث عثمان بن حاضر، فإذا قلتم بموافقته في العتق دون النذر= لم يكن ما قلتموه قول أحد من الصحابة، فلا يجوز لأحدٍ منكم أَنْ يجعلَ قوله في العتق قول أحد من الصحابة.
وقد تكلم العلماء فيما إذا اختلف الصحابة في مسألتين على قولين وسَوَّوا بينهما؛ هل لمن بعدهم [103/ أ] أَنْ يُحدث قولًا ثالثًا بموافقة هؤلاء في قول وموافقة هؤلاء في قول؟
(2)
.
ومَثَّلُوا ذلك باختلاف الصحابة في العمريتين: زوج وأبوين، وزوجة وأبوين؛ فإن الجمهور من الخلفاء الراشدين وغيرهم كعمر
(3)
وعثمان
(4)
(1)
في الأصل: (الثبوت)، وكتب في الحاشية ما أثبتُّ، وفوقها (صح).
(2)
مجموع الفتاوى (13/ 59)(15/ 95)(27/ 308)، الفتاوى الكبرى (6/ 498 - 499، 524)، تنبيه الرجل العاقل (1/ 359)، المسوَّدة (2/ 634)، شرح عمدة الفقه (1/ 333). وانظر ما سيأتي:(ص 803).
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/ 54/ برقم 6)، وابن أبي شيبة في مصنفه (31700) وغيرهما عن ابن مسعود قال: كان عمر بن الخطاب إذا سَلَكَ بنا طريقًا فاتبعناه وجدناه سهلًا، وإنه سُئِلَ عن امرأةٍ وأبوين. فقال: للمرأة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب.
انظر: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 110 - 111).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (31697) وغيره عن أبي المهلب: أنَّ عثمان سُئل عنها فقال: للمرأة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وسائر ذلك للأب.
انظر: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 111 - 112).
وعلي
(1)
وابن مسعود
(2)
وزيد بن ثابت
(3)
رضي الله عنهم قالوا: بأن الباقي بعد فرض الزوجين للأم ثُلُثُهُ والباقي للأب، جعلًا لما يَبقى بعد فرضهما بمنزلةِ أصلِ التركة إذا لم يكن وارث غيرهما، وجعلًا لذلك بمنزلة ما تَبَقَّى بعد الوصايا وقضاء الديون.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة: بل للأم الثلث فيهما
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (31699) وغيره عن الشعبي، عن علي في امرأة وأبوين: للمرأة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب.
انظر: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 112 - 113).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 253) عن المسيب بن رافع، عن عبد الله بن مسعود قال: ما كان الله ليراني أنْ أُفَضِّلَ أُمًّا على أب!
انظر: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 113 - 114).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 254)، وابن أبي شيبة (31710) وغيرهما عن عكرمة قال: أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن: زوج، وأبوين. فقال: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب الفضل. فقال ابن عباس: أفي كتاب الله وجدته؟! أم رأيٌ تراه؟ قال: بل رأيٌ أراه، لا أرى أنْ أُفضِّلَ أُمًّا على أب. وكان ابن عباس يجعل لها الثلث من جميع المال. وهذا لفظ عبد الرزاق.
انظر: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 114 - 116).
(4)
سبق تخريج ما ورد عن ابن عباس في الحاشية السابقة في قصته مع زيد بن ثابت رضي الله عنهما.
وانظر ما ورد في الباب من آثار في: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 116 - 119).
فقال بعض التابعين ــ إما مروان وإما ابن سيرين
(1)
ــ بقول عمر في زوج وأبوين، وبقول ابن عباس في زوجة وأبوين
(2)
، لئلا يُفَضِّلَ أُمًّا على أب، فالزوج إذا أخذ النصف وأخذت الأم الثلث يبقى للأب السدس، بخلاف ما إذا كانت زوجة فإنها تأخذ الربع والأم الثلث يبقى ثلث وزيادة
(3)
= فهذا تنازع الناس في جوازه، والأكثرون لا يُجَوِّزونه.
وقد اختلف الناس من أصحاب أحمد وغيرهم في جواز مثل هذا، فقيل: لا يجوز، وقيل: يجوز، وقيل: إِنْ صَرَّحُوا بالتسوية بين المسألتين لم يجز الفرق وإلا جاز.
وهذا في مسألتين يكون مأخذهما واحدًا كاختلافهم في الرَّدِّ وذوي الأرحام؛ فقيل: بالرد وتوريث ذوي الأرحام، وقيل: بنفيهما، ولم يقل أحد بالرَّدِّ دون توريث ذوي الأرحام والمأخذ واحد.
ولم يقل أحد من العلماء بأنه يجوز أن ينقل عن الصحابة الفرق الذي قاله بعض التابعين= فثبت أنه لا يجوز أن ينقل عن أحد من الصحابة الفرق
(1)
وفي تنبيه الرجل العاقل (1/ 359)، والمسوَّدة من كلام جد شيخ الإسلام (2/ 635) نسبة هذا القول إلى مسروق!
(2)
أخرجه ابن حزم في المحلى (ص 1469) من طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا أيوب السختياني: أنَّ محمد بن سيرين قال في رجلٍ ترك امرأته وأبويه: للمرأة الربع، وللأم ثلث جميع المال، وما بقي فللأب. وقال في امرأة تركت زوجها وأبويها: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب ما بقي. قال: إذا فضل الأب الأم بشيءٍ؛ فإنَّ للأم الثلث.
(3)
في الأصل: (وربع)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
بين الحلف بالعتق وغيره باتفاق العلماء، ولم يَحْكِ هذا عنهم لا أحمد ولا غيره، ولكن فعله الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وهؤلاء الأئمة ــ رضوان الله عليهم ــ إذا كان النقل عنهم بتكفير الحلف بالعتق وغيره ثابتًا وباللزوم وغيره ثابتًا هو نظير ما فعله بعض التابعين من الفرق بين العمريتين.
فإنَّ الصحابةَ نُقِلَ عنهم في الحلف بالعتق والنذر جوابان: أحدهما: تكفير الجميع، والثاني: الإلزام بالجميع [103/ ب]؛ فهؤلاء فَرَّقُوا بين العتق وغيره؛ فألزموا الحالف بالعتق دون غيره، كما فَرَّقَ ابن سيرين بين العمريتين.
والصحيح في مثل هذا: أنه لا يجوز التفريق بين ما سَوَّى الصحابة بينه مع اتحاد المأخذ؛ فإنَّ المأخذ أَنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين هل هو يمين أم لا؟ فإنْ كان يمينًا فهو يمين في الجميع، وإن لم يكن يمينًا فليس بيمين في الجميع، والصحابة نُقِلَ عنهم هذا وهذا، لكن النقل عنهم بأنه يمين أثبت وأكثر طُرُقًا، وهو منقول عنهم في قضايا متعددة بخلاف هذا.
وبتقدير صحة الجوابين: فالصواب موافقتهم؛ إما في هذا وإما في هذا، وأما التفريق بين ما جمعوا بينه مع اتحاد المأخذ فهذا
(1)
يُضَعَّفُ كضعف قول من فَرَّق بين العمريتين، وهذا المفرِّق ذهب إلى ما لم يذهب إليه أَحَدٌ من الصحابة من التعليل بمجرد تفضيل الأم على الأب.
كما أَنَّ هؤلاء المفرِّقين بين العتق وغيره ذهبوا إلى ما لم يذهب إليه أَحَدٌ من الصحابة من تعليل الحلف بالعتق بأنه وقوعٌ معلَّقٌ بالصفة، بخلاف النذر
(1)
في الأصل: (فليس)، وهي تعكس المعنى، فلعل الصواب ما أثبت.
فإنه وجوب معلَّقٌ بالصفة؛ فإن هذا الفرق لم يذهب إليه أحدٌ من الصحابة بل ولا من التابعين، فهو فَرْقٌ مسبوق بالإجماع على خلافه، ودعوى الإجماع القديم على إلغاء هذا الفرق أولى من دعواه على وقوع كُلِّ طلاق معلق بصفة أو محلوف به، مع أَنَّ هذا اللفظ لم يُنقل عن أحد منهم فضلًا عن أن يكون إجماعًا، وما نقل عن بعضهم من الإفتاء في بعض ذلك فإنه وإِنْ عُلِمَ مأخذه فلم يُعلم موافقة الباقين له، بل عُلِمَ أَنَّ الناس يخالفونه فامتنع عن
(1)
هذا المأخذ؛ ومع العلم بالنزاع يمتنع دعوى الإجماع، بخلاف ما لم يعلم فيه نزاع فإنَّ دعوى الإجماع فيه أظهر.
وأما إذا قيل: لم يثبت عنهم في العتق شيءٌ لا نفيًا ولا إثباتًا؛ لم يكن ما فعلوه مخالفًا لما قاله الصحابة، وإِنْ ثبتَ النقل عنهم في أحدهما ــ كما بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الثابتَ عنهم في العتق هو التكفير دون نقيضه ــ فهذا أقوى من قوة هذا القول.
وأحمد رضي الله عنه لَمَّا لم يَعْرِف ثبوت الحلف بالعتق عنهم، لم يكن فيما علمه مخالفًا لأحد منهم، وذكر الأثر الآخر [104/ أ] عنهم، وأما العتق فيلزم، وفيه التسوية بينه وبين غيره باللزوم؛ فتبيَّن أنه قد نقل عنهم في الجملة الإلزام بالعتق، وإن كانوا سووا بينه وبين غيره، فهو إذا فَرَّقَ بينه وبين غيره لم يكن فيما علمه مخالفًا لإجماعهم، وإنما يكون مخالفًا لهذا الأثر أثر عثمان، فالنفي في الموضعين واحد.
الجواب الثاني: قوله: (إن البخاري لم ينقله بهذا اللفظ، بل لفظه: وقال
(1)
كتب الناسخ بخط صغير فوقها (كذا).
ابن عباس: الطلاق عن وطر والعتق ما ابتغي به وجه الله. فَنَقَلَهُ هو بالمعنى وزاد عليه، فإنَّ لفظ البخاري ليس فيه حصر، ولا هو صريحًا [في العموم]
(1)
، بخلاف اللفظ الذي نقله هو عنه، وشَرْطُ النقلِ بالمعنى المساواةُ في الجلاء والخفاء).
فيقال: أمَّا نقله بالمعنى: فالمذاهب إنما تُنقل بالمعنى، وحديث الرسول يجوز نقله بالمعنى عند الجماهير، وأما مذاهب العلماء فما زال العلماء ينقلونها بالمعنى، وما علمت طائفة معتبرة نازعت في هذا، كما نازعت في نقل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وإن لم يكن نقل المذاهب بالمعنى جائزًا فعامة ما في كتب الناس من نقل مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم غير جائز؛ بل نقلها بالمعنى الذي عُرِفَ أَنَّ المتكلمَ أراده أولى من نقلها بلفظ يحتمل ذلك المعنى وغيره؛ فإنَّ المتكلم قد يكون تكلم بلفظٍ معناه معروفٌ عنده، ثم يُغَيَّر العرف والاصطلاح في ذلك اللفظ؛ فمن نقل لفظه ولم ينقل عُرْفَه وعادَته فيه = أفهمَ الناس خلافَ مراده وجعلهم يكذبون عليه، ومَنْ نقله بالمعنى الذي عُرِفَ أنه أراده = جَعَلَ الناس يصدقون عليه
(2)
.
وأما قوله: (إن الناقل زاد على المعنى) فغلطٌ.
وقوله: (لفظ البخاري ليس فيه حصر ولا عموم) غلطٌ منه، فإنَّ قول ابن
(1)
في الأصل: (بالعموم)؛ والمثبت موافق لما تقدم في (ص 385).
(2)
تهذيب الأجوبة (1/ 402 - 409)، المدخل المفصل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل (2/ 1075). وانظر ما سيأتي قريبًا.
عباس: الطلاق عن وطر والعتق ما ابتغي به وجه الله = يفيد الحصر والعموم؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الماء من الماء»
(1)
، وقوله أو قول بعض السلف:«الشفعة فيما لم يقسم»
(2)
.
وقوله: «الأعمال بالنيات» فإنه هكذا في الصحيح
(3)
، [104/ ب] وروي ــ أيضًا ــ:«إنما الأعمال بالنية»
(4)
، وقد روي ــ أيضًا ــ:«إنما الأعمال بالنيات»
(5)
، وهذه الألفاظ الثلاثة في الصحيح، ويروى في غير الصحيح:«الأعمال بالنيات»
(6)
، والناس إنما رووه تارة بحرف «إنما» ، وتارة بدون هذا الحرف، لأنَّ المعنى عندهم في الموضعين سواء.
وكذلك ما عُرِّفَ بالإضافة كقوله صلى الله عليه وسلم: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم»
(7)
،
فإنَّ هذا يفيد الحصر والعموم؛
(1)
أخرجه مسلم (343) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو في البخاري (180) بلفظ آخر دون هذه الزيادة.
(2)
أخرجه البخاري (2214) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(3)
كذا في الأصل، ولعله خطأ من الناسخ، فالنسخ المطبوعة من الصحيحين لا يوجد فيهما هذا اللفظ «الأعمال بالنيات» ، والذي في البخاري (54):«الأعمال بالنية» ؛ ويؤكد هذا أنَّ المجيب رحمه الله قال بعد ذلك: ويُروى في غير الصحيح: «الأعمال بالنيات» .
(4)
أخرجه البخاري (6689)، ومسلم (1907).
(5)
أخرجه البخاري (1).
(6)
أخرجه ابن حبان في صحيحه (2/ 113) وغيره.
(7)
أخرجه أبو داود (61)، والترمذي (3)، وابن ماجه (275) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقال الترمذي: هذا الحديث أصحُّ شيءٍ في هذا الباب وأحسن. وقال البغوي في شرح السنة (3/ 17): هذا حديث حسن. وصححه الضياء في المختارة (2/ 341 - 342).
انظر: العلل للدارقطني (11/ 323)، الضعفاء للعقيلي (2/ 502)، نصب الراية (1/ 307)، البدر المنير (3/ 447)، أصل صفة الصلاة للألباني (1/ 184)، إرواء الغليل (2/ 9)، صحيح أبي داود (الأم)(1/ 102).
أي: لا مفتاح لها إلا الطهور، ولا تحريم لها إلا التكبير، ولا تحليل لها إلا التسليم.
ومن المُعرَّف باللام قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمنُ مَنْ أَمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم، والمسلم مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد مَنْ جاهد نفسه في ذات الله»
(1)
،
فهذا نظير قوله
(1)
ورد بألفاظ متقاربة؛ منها:
حديث فضالة بن عبيد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: «ألا أخبركم بالمؤمن؟ المؤمن من أَمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب» .
أخرجه البزار (9/ 206)، والبغوي في شرح السنة (1/ 29). وقال الهيثمي في المجمع (3/ 268): رواه البزار والطبراني في الكبير باختصار، ورجال البزار ثقات.
وانظر: السلسلة الصحيحة (2/ 89/ ح 549).
وحديث عبد الله بن عمرو أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله! مَنِ المسلم؟ قال: «مَنْ سلم المسلمون من لسانه ويده» قال: فمن المؤمن؟ قال: «مَنْ أَمِنَهُ الناس على أموالهم وأنفسهم» قال: فمن المهاجر؟ قال: «مَنْ هَجَرَ السيئات» قال: فمن المجاهد؟ قال: «مَنْ جاهد نفسه لله ــ عز وجل ــ» . أخرجه عبد بن حميد (برقم 336).
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن مَنْ أمنه الناس، والمسلم مَنْ سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء؛ والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه» . أخرجه الإمام أحمد في مسنده (20/ 29)، وأبو يعلى (7/ 199) وغيرهما. وصححه ابن حبان (2/ 264)، والحاكم (1/ 55)، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 54): رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، ورجاله رجال الصحيح إلا علي بن زيد، وقد شاركه فيه حميد ويونس بن عبيد. وصوَّب الدارقطني في العلل (12/ 235) إرساله.
انظر: تخريج الكشاف (4/ 100).
تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [الحجرات: 15]، وقوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62]، ومثله قولهم: العالِمُ مَنْ يخشى الله، فإنه مثل قولهم: إنما العالم من يخشى الله، وما يؤثر عن الله ــ عز وجل ــ أنه قال:«عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاقٍ قِرْنَه»
(1)
، فإنه كقوله: إنما عبدي كل عبدي، ومثل هذا كثير
(2)
.
(1)
لم أجده بدون «إن» في أوله.
وبهذا اللفظ أخرجه الترمذي (3580) وابن أبي عاصم في الاحاد والمثاني (5/ 151) وغيرهما عن عمارة بن زعكرة. وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي، ولا نعرف لعمارة بن زعكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث الواحد.
(2)
مجموع الفتاوى (5/ 517)(14/ 293)(15/ 322 - 323)(16/ 77، 178، 295)(18/ 264 - 266)(21/ 382)(25/ 77، 153 - 155، 160، 163)(29/ 142)، الفتاوى الكبرى (4/ 85)، القواعد الكلية (ص 388)، بيان تلبيس الجهمية (7/ 569، 598)، منهاج السنة (4/ 483)، اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 502)، الجواب الصحيح (4/ 41)، شرح حديث النزول (ص 387)، الصارم المسلول (3/ 862 - 863).
والقول بأن مثل هذا يفيد الحصر والعموم قول جماهير أهل العلم، وهو معروف من قول أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما
(1)
، لكن تنازعوا: هل يفيده بطريق المنطوق أو بطريق المفهوم؟ على قولين، ومن قال: إنه بطريق المفهوم= جَعَلَهُ أعلى مراتب المفهوم، أعلى من مفهوم الغاية وغيره، وجعل الخلاف في ذلك شاذًا ليس كالخلاف في مفهوم الصفة والعدد.
والصحيح: أنه يفيده بطريق المنطوق لا بطريق المفهوم الذي هو دليل الخطاب، فإنَّ ذلك إنما يكون فيما سكت عنه المتكلم، فيدل المنطوق على المسكوت إما لتخصيصه بالذكر مع تمام المقتضي للتعميم، وقصد التخصيص بالحكم يتضمن نفي حكم المنطوق عن المسكوت، سواء انتفى عن جميع أفراده أو كان في نفيه عن بعضها [105/ أ] تفصيل وتقييد، فقصد تخصيص المذكور بالحكم= يبين أنه ليس حكم المسكوت كحكم المنطوق، ويكفي في ذلك الخلاف من بعض الوجوه.
فقوله: «مطل الغني ظلم»
(2)
و «لَيُّ الواجدِ يُحِلُّ عرضه وعقوبته»
(3)
(1)
انظر: اختيارات شيخ الإسلام وتقريراته في النحو والصرف (ص 151)، ودلالات الألفاظ عند شيخ الإسلام (1/ 271)(2/ 508).
(2)
أخرجه البخاري (2287)، ومسلم (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أبو داود (3628)، والنسائي (4689)، وابن ماجه (2427) من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه.
وصححه ابن حبان (11/ 486)، والحاكم (4/ 114).
انظر: البدر المنير (6/ 656)، وإرواء الغليل (5/ 259).
يدل على أنَّ مطل الفقير ليس كذلك، وأَنَّ لَيَّ الفاقد ليس كذلك.
وقوله: «في السائمة الزكاة»
(1)
يدل على أَنَّ المعلوفة ليست كذلك، فلا يجب فيها ما يجب في السائمة، ثم إذا قيل: إنه يجب فيها زكاة التجارة، لم يكن في هذا مخالفة لدلالة المفهوم، فإن المفهوم لا عموم له؛ فهو لا يقتضي انتفاء حكم المنطوق عن جميع صور المسكوت في جميع الأحوال، إذ كانت دلالته إنما هي من جهة أن المنطوق قُصِدَ تخصيصه بذلك الحكم، فإذا كان ذلك الحكم لا يثبت في المسكوت كثبوته في المنطوق = حصل الاختصاص، وهذا يحصل بألا تكون الزكاة في غير السائمة كالزكاة في السائمة.
فكذلك قوله: «لَأَنْ يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يَرِيَهُ خيرٌ له مَنْ أَنْ يمتلئ شعرًا»
(2)
يقتضي أَنَّ ما دون الامتلاء ليس كذلك
(3)
.
وقد تكون دلالة المفهوم من جهة العلة؛ فإن الحكم إذا عُلِّقَ باسم مشتق مناسب كان موضع الاشتقاق علة للحكم
(4)
، وكذلك مع عدم ظهور المناسبة عند الأكثرين، وهو أشهر القولين لأصحاب أحمد وغيرهم، وإذا
(1)
لم أجده بهذا اللفظ مع شهرته في كتب الأصوليين، وقد ذكره المجيب ــ أيضًا ــ في مجموع الفتاوى (31/ 137). وأخرجه البخاري (1454) من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ: «في صدقة الغنم في سائمتها
…
».
(2)
أخرجه البخاري (6155)، ومسلم (2257) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وجاء عن غيره في الصحيحين.
(3)
دلالات الألفاظ عند شيخ الإسلام (2/ 673).
(4)
الفتاوى الكبرى (6/ 237 - 238)، الصارم المسلول (3/ 659)، منهاج السنة (2/ 42).
كان الوصف عِلَّة للحكم= انتفى ذلك الحكم لانتفاء علته؛ فهذان الوجهان: قصد التخصيص، والتعليل= هما وجه دلالةِ مفهومِ الخطاب الذي يسمى مفهوم المخالفة، ويسمى دليل الخطاب
(1)
.
وأما مفهوم الموافقة فَأَنْ يظهر أن الحكم في المسكوت أولى منه في المنطوق
(2)
؛ كقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31]، فإذا حرم قتلهم مع خوف الفقر فتحريمه مع الغنى أولى.
وقد يكون التخصيص بالذكر لسبب اقتضاه، فلا يدل على المسكوت لا موافقة ولا مخالفة؛ فهذه الأقسام الثلاثة موجودة، بل تُعلم الموافقةُ والمخالفةُ بدليلٍ منفصلٍ؛ فالموافقة هو: قياس الجمع
(3)
، والمخالفة: قياس الفرق.
وأما قوله: «إنما الماء من الماء»
(4)
(5)
فصيغة «إنما» تفيد الحصر [105/ ب] كقوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] كما يفيد الاستثناء من النفي، كقوله:{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 73]،
(1)
مجموع الفتاوى (6/ 179)(15/ 446)(21/ 327)(31/ 345)، جامع المسائل (2/ 312 - 313)، الجواب الصحيح (1/ 380)(3/ 152)، شرح عمدة الفقه (3/ 141).
(2)
مجموع الفتاوى (6/ 179)، جامع المسائل (2/ 313)، شرح عمدة الفقه (3/ 141)، شرح الأصبهانية (ص 238).
(3)
في الأصل: (الجميع)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(4)
تقدم تخريجه قريبًا.
(5)
تقدم تخريجه قريبًا.
وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144]، ومثل هذا يفيد نفي كونه زائدًا على حَدِّ الرسالة، فليس بملك من الملائكة، وليس بمخلد؛ بل هو رسول يجوز عليه ما يجوز على الرسول كقوله:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] أي: لا يَتَعَدَّى حَدَّ الرسالة، فلا يكون إلهًا، وأمه صديقة ليست رسولًا ولا نبيًّا، فضلًا عن أن تكون إلهًا.
فدلالة «إنما» على النفي والإثبات بطريق اللفظ، وكذلك الدلالة بأدلة التعريف مع حذف «إنما» إذا قيل:«الماء من الماء»
(1)
و «تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم»
(2)
فإنَّ اسم الجنس المعرَّف بلام الجنس يقتضي الاستغراق عند جماهير السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولا يعرف في ذلك نزاع بين القرون الثلاثة، وإنما أنكر العموم في مثل هذا طائفة من المتأخرين من أهل البدع
(3)
، كما ذكر غير واحد من العلماء قالوا: إنكار صيغ العموم بدعةٌ حدثت بعد القرون الثلاثة
(4)
.
والنزاع في الاسم المفرد الذي له جمع كالإنسان نزاعٌ شاذٌ، وأما اسم
(1)
تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
تقدم تخريجه قريبًا.
(3)
مجموع الفتاوى (6/ 440 - 441)(12/ 481 - 484)، تنبيه الرجل العاقل (1/ 272 - 273)، ونصَّ على أنَّ الذين أنكروا العموم هم الواقفة من المرجئة، وبعض الأشعرية والشيعة.
(4)
نقل ابن القيم في الصواعق المرسلة (2/ 690) هذه العبارة عن شمس الأئمة السرخسي.
الجنس الذي يتناول الواحد والكثير؛ كالماء والطلاق والعتاق فليس فيه نزاع، اللهم إلا أَنْ يكونَ عند من لا يرى صيغ الجمع ــ كالمسلمين والمشركين ــ للعموم، وهذا ــ أيضًا ــ شاذٌ؛ وليس هذا موضع بسط ذلك
(1)
.
لكن بَيَّنَّا
(2)
أَنَّ قول ابن عباس رضي الله عنهما: (الطلاق عن وطر، والعتق ما ابتغي به وجه الله) من هذا الباب، وإذا كان هذا مفيدًا للحصر والعموم بطريق اللفظ عند السلف وجماهير الخلف، كما يفيده إذا قال:«إنما الماء من الماء»
(3)
، وإنما الطلاق عن وطر، وإنما العتق ما ابتغي به وجه الله. وإنْ كان الحصر والعموم قد يظهر لبعض الناس في هذا أكثر من هذا؛ فلا ريب أَنَّ مراد ابن عباس وأمثاله باللفظين واحد.
وأيضًا؛ فيمتنع ألا يكون مراد ابن عباس الحصر والعموم، بل مراده أَنَّ بعض الطلاق يكون عن وطر وبعضه يُبتغى به [106/ أ] وجه الله، فإنَّ هذا معلومٌ لكل أحد، وهو كلام لا فائدة فيه، وإنما يفيد إذا قصد الحصر والعموم لينفي أن يكون ما سوى ذلك طلاقًا وعتاقًا.
الجواب الثالث: قوله: (شرط النقل بالمعنى المساواة في الجلاء والخفاء).
(1)
مجموع الفتاوى (21/ 544)، الفتاوى الكبرى (1/ 375)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 543).
وانظر ما سيأتي: (ص 666).
(2)
في الأصل زيادة: (أن يعلم)، وبحذفها يستقيم الكلام.
(3)
تقدم تخريجه قريبًا.
فيقال: هذا في نقل مذاهب العلماء غلط باتفاق العلماء، بل وفي نقل كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل الصحابي إذا عَلِمَ مُرادَ النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه الذي تعوَّد
(1)
الخطاب به = كان له أن يبين للتابعين مراد النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ آخر يفهمون به مراده، وإذا كان هذا اللفظ أوضح في الدلالة كانت الرواية به أولى، وإنما يتحرى اللفظ إذا لم يعلم مراده، فيؤدي اللفظ بعينه.
والله ــ تعالى ــ قد حكى أقوال الأمم قبلنا باللفظ العربي الذي هو أتم في البيان والدلالة من الألفاظ التي كانوا يتخاطبون بها، لا سيما لنا، فإنَّ البيان لنا أَجَلُّ بلا ريبٍ، والجلاء والخفاء أمر نسبي، ومعلوم أن ما ذكره الله ــ تعالى ــ من قول موسى ــ عليه السلام ــ وفرعون، ويعقوب ــ عليه السلام ــ وبنيه وغيرهم ممن كانت لغته غير عربية، بل إما عبرية وإما قبطية وإما سريانية وإما غير ذلك = ذكرها الله ــ تعالى ــ باللغة العربية، وهكذا كل مُتَرْجَمٍ يترجم كلام غيره بعبارة أجلى من تلك العبارة للمستمعين.
ثم العربية متفوقة
(2)
، فليس بين عبارة القرآن وغيره نسبة في البلاغة؛ ومع هذا فالله ــ سبحانه وتعالى ــ حكى أقوالهم بهذه الألفاظ البليغة.
والصحابة والتابعون بعدهم مازالوا يحكون كلام بعضهم بلفظٍ آخر يَبِين به المعنى المراد للمستمعين، إن
(3)
كان ذلك أجلى لهم.
وهذا المعترض قد حكى أقوال الصحابة والتابعين أقوالًا لم يقولوها،
(1)
في الأصل بالياء (يعود)، ولعل الصواب ما أثبت. قال في القاموس (ص 387): جَعَلَهُ من عادته.
(2)
في الأصل: (متقاربة)، ولعل الصواب ما أثبت أو كلمة نحوها.
(3)
في الأصل: (وإن).
وَقَوَّلَها لهم، ونقلها بحسب فهمه وقياسه مع خطئه؛ فكيف يُنْكِرُ على غيرِهِ نَقْلَ قولِ قائلٍ منهم مع القطع بأنه أراد المعنى الذي نقله؟! ومع أَنَّ حذف «إنما» وإثباتها في هذا الموضع مما لا فرق بينهما في المعنى، بل التسوية بينهما قول أهل العلم قديمًا وحديثًا، وإن كان في ذلك نزاعٌ فهو شاذ فاسد.
الجواب الرابع: قوله: (إنما ذكر البخاري ذلك في باب الطلاق في [106/ ب] الإغلاق والمكره والسكران والمجنون وأمره والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره، ومقصوده ــ والله أعلم ــ: ما إذا قام مانع من الأشياء المذكورة في الترجمة يمنع من قصد الطلاق، ولم يَسُقِ الكلامَ في معرض حَلِفٍ ولا نذر).
فيقال: لا ريب أن هذا مقصود البخاري، وهو أنه ما مَنَعَ من قصد الطلاق مَنَعَ من وقوعه، كالإكراه والسُكر والإغلاق؛ والإغلاق يُفَسَّرُ بالغضب وبالإكراه وبالجنون
(1)
.
وذكر قول ابن عباس: الطلاق عن وطر، والعتق ما ابتغي به وجه الله؛
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (20/ 244). وقال ابن تيمية - كما نقله عنه ابن القيم في زاد المعاد (5/ 215) -: وحقيقة الإغلاق: أَنْ يَنغلق على الرجل قلبه، فلا يقصد الكلام أو لا يَعلم به، كأنه انغلق عليه قصده وإرادته
…
ويدخل في ذلك: طلاق المكره والمجنون ومَنْ زال عقله بسكرٍ أو غضبٍ وكلُّ مَنْ لا قصد له ولا معرفةَ له بما قال.
انظر: الصواعق المرسلة (5/ 563)، مدارج السالكين (1/ 226) وقد نقل فيهما كلامًا لابن تيمية، وإعلام الموقعين (5/ 456)، وكتاب ابن القيم المسمى (إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان) نفيسٌ في بابه، ويحيل عليه في هذه المسألة في مواضع من كتبه.
والوَطَرُ: واحد أوطار النفس، قال تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، وهو: ما يقصده الإنسان ويريده، وهو غَرَضُهُ ومقصوده.
وهو إما أَنْ يريد نفس المصدر، وإما أن يريد به المفعول به؛ فإما أَنْ يقال: لا طلاق إلا عن إرادةٍ وغرضٍ في الطلاق، وإما أَنْ يقال: لا طلاق إلا عن أمرٍ مراد، مراد ذلك المراد وهو وطر الإنسان، وذلك المراد يوجب له إرادة الطلاق؛ وعلى التقديرين فلا بُدَّ أن يكون مريدًا للطلاق.
بَيَّن البخاري ــ رحمة الله عليه ــ أَنَّ ابن عباس رضي الله عنه حَصَرَ الطلاق فيما كان عن أَمْرٍ مرادٍ للإنسان أوجب أَنْ يُطَلِّق، فإنَّ إرادة الطلاق لا تكون إلا بسببٍ أوجبَ تلك الإرادة، وإلا فالمرأة كانت زوجته ولم يكن يريد طلاقها، فلا يكون مريدًا للطلاق إلا بسبب اقتضى إرادته وهو الوطر، مثل إرادته أن يتزوج غيرها ولا يحصل ذلك إلا بطلاقها؛ كما قال تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20]، أو عن إرادة سكنى بلد آخر لا يمكن نقلها إليه، أو طلب مال أو ولاية أو غير ذلك مما لا يحصل إلا بطلاقها، فيطلقها لذلك الوطر، أو عن بُغْضٍ منه لها إما لخَلقها أو لخُلقها أو دينها، ويكون بُغْضُهُ لذلك داعيًا له إلى طلاقها، وإما لطلب أبيه لطلاقها فيطلِّقها طاعةً لأبيه؛ كما طَلَّقَ ابن عمر رضي الله عنهما امرأته لَمَّا أَمَرَهُ أبوه عمر رضي الله عنه بطلاقها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:«أطع أباك»
(1)
، فإرادته [107/ أ] لطاعة أبيه وبِرِّهِ اقتضت أَنْ
(1)
أخرجه بهذا اللفظ: ابن أبي شيبة (19397)، وأحمد (8/ 332) وغيرهما.
وصححه ابن حبان (2/ 169)، والحاكم (2/ 215)، والضياء في المختارة (13/ 170).
وأخرجه بلفظ مقارب لما ذكره المجيب: أبو داود (5138)، والترمذي (1189)، وابن ماجه (426). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
يُطَلِّقَ امرأته
(1)
.
فهذا ونحوه هو الطلاق عن وطر، والحالف كاره لطلاقها، ليس هناك سبب يدعوه إلى طلاقها، فلا يريد الطلاق، ولا يريد شيئًا يقتضي إرادة الطلاق، بل هو كاره للطلاق كراهةً أقوى وأثبت من كراهته للشرط الذي عَلَّقَ به الطلاق، ولكون كراهته للطلاق أقوى وأثبت عَلَّقَهُ بذلك الأمر الذي كراهته له دون كراهته للطلاق، وَجَعَلَ الطلاقَ لازمًا له ليكون امتناعه من الطلاق مانعًا له من ذلك الشرط، فلا يكون لا الطلاق ولا ذلك الشرط.
فالحالف كاره للجزاء المعلق ــ كالطلاق ــ كراهة ثابتة، سواء وجد الشرط أو لم يوجد، وكاره للشرط الذي علق به الطلاق كراهة دون ذلك؛ ولهذا جعل الطلاق له ليكون امتناعه من اللازم موجبًا لامتناعه من الملزوم، ثم تزول كراهته للشرط فيريد فعله ويريد أن لا يوجد الطلاق اللازم؛ فإما أن يحنث وإما أن يندم على اليمين، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اليمين حنث أو مندمة
(2)
، ويروى هذا مرفوعًا
(3)
.
(1)
مجموع الفتاوى (33/ 112).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (12757)، وابن بطة في إبطال الحيل (ص 130)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 67/ ح 19869).
(3)
أخرجه ابن ماجه (2103)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 67/ ح 19868) وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وصححه ابن حبان (10/ 198). وقال البخاري في التاريخ الكبير (2/ 129): وحديث عمر أولى بإرساله. وقال الذهبي في المهذب (8/ 4000) عن أحد رواة حديث ابن عمر المرفوع: بشار ضعَّفه أبو زرعة.
وانظر: السلسلة الضعيفة (8/ 232/ ح 3758)(14/ 821/ ح 6859).
وأما قوله: (فكيف يجعل هذا معارضًا لما رواه ابن عباس صريحًا أنه إذا حلف بعتق مملوكه فحنث يعتق).
فالجواب: أنه لم يذكر هذا وحده معارضًا، بل المعارض ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما صريحًا في التعليق الذي يقصد به اليمين أنه يمين
(1)
، وفي بعض الروايات عنه في الحلف بالعتق
(2)
، وأما الحلف بالنذر فثابت عنه من غير وجه
(3)
، والذي رواه أحمد ــ وهو: حديث عثمان بن حاضر ــ لم يروه في العتق وحده، ولا في الفرق بين العتق والنذر، بل فيه أنه جعل على الحالف بالعتق وبالنذر لزوم الجميع، ثم إنه جعل في المال الزكاة وفي ذبح النفس بدنة؛ فهذا الأثر قد ثبت عن ابن عباس آثار صالحة صريحة أَصَحُّ منه باتفاق أهل العلم أنه جعل في ذلك الكفارة دون اللزوم.
ولم يفرق ابن عباس ولا غيره من الصحابة بين الحلف بالعتق وغيره، ولا روى ذلك عنه لا أحمد ولا غيره؛ فذاك النقل [107/ ب] الصحيح الصريح هو المعارض لحديث عثمان بن حاضر الذي رواه أحمد، وهذا الذي ذكره البخاري موافق لتلك الآثار، وفيه ذكر الطلاق والعتق جميعًا؛
(1)
تقدم تخريجه (ص 263 - 264).
(2)
تقدم تخريجه (ص 207 - 208).
(3)
تقدم تخريجه (ص).
ففيه أن ابن عباس لا يوقع لا الطلاق ولا العتاق بالحالف به، لأنه لا وَطَرَ له في الطلاق، ولا هو مريد له، بل هو كاره له، ممتنع من إرادته = فكان قولُ ابن عباس رضي الله عنهما نصًّا في أنه لا يقع.
وأما الأثر الذي نقله البخاري ــ رحمة الله عليه ــ عن ابن عمر رضي الله عنهما فليس مقصود البخاري به أنَّ الطلاق المحلوف به يقع، ولكن مقصوده أَنَّ الطلاق المعلَّق بشرطٍ لا يقع بدون وقوع الشرط، سواء قَدَّمَ الشرط أو أَخَّرَه خلافًا لشريح إذا أخر الشرط
(1)
.
وفيه: أن الطلاق المعلق قد يقع به الطلاق، أو يقع إذا قصد إيقاعه عند الصفة، وليس فيه أنَّ السائل لابن عمر رضي الله عنهما كان حالفًا يكره وقوع الطلاق وإن وجد الشرط، بل ترجمة البخاري تبين أنه لم يفهم من حديث ابن عمر أنه يقع إلا إذا قصد إيقاع الطلاق؛ فالمعلِّق له بشرطٍ يَقصدُ إيقاعَه عنده قَصْدَ إيقاعه عند الصفة فيقع تبعًا لقصده، وإن كان الشرط يتأخر فإنه لم يقصد إيقاعه إلا عند الشرط، والحالف لم يقصد إيقاعه سواءٌ وُجِدَ الشرط أو لم يوجد.
وأما أثر عثمان بن حاضر فهو في الحلف بالنذر والعتق، وهو يقتضي أَنَّ المعلِّق إذا قصد اليمين يلزمه ما علقه من نذر وعتق، ولكن في نذر المال زكاته، وفي نذر ذبح النفس البدنة، وهذا الأثر لم يقل به أحد من علماء المسلمين لا أحمد ولا غيره من الأئمة الأربعة، ولا غيرهم من أئمة المسلمين، والفرق بين العتق وغيره لم يُنقل عن أحدٍ من الصحابة.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 379)، وابن أبي شيبة في مصنفه (برقم 18318، 18322).
ولكن إن كان أثر عثمان بن حاضر ثابتًا عن هؤلاء الصحابة، فيمكن أن يكون قولهم في الطلاق المعلق بقصد اليمين أنه يلزم كما يلزم العتق والنذر، ونحن لم نَدَّعِ إجماعًا في عدم لزوم الطلاق والعتاق والنذر لا عن الصحابة رضي الله عنهم ولا عن التابعين به، كما يدَّعي [108/ أ] غيرنا إجماعات باطلة، فغاية ما في هذا إثبات نزاع عن الصحابة في ذلك، وهذا لا يضرنا بل ينفعنا.
مع أنَّ من ادعى أنَّ الصحابة قد تفرق بين العتق والطلاق مع خطئهم في الفرق. يقال له: لا يلزم إذا جعلوا العتق واقعًا أن يجعلوا الطلاق واقعًا، فإن العتق قربة وطاعة، وهو لو عَلَّقَ وجوبه على وجه النذر= لزمه بالنص والإجماع.
فلو قال: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ أَنْ أُعتق عبدًا، أو عبدي فلان؛ لزمه.
ولو قال: فعليَّ أَنْ أُطَلِّق امرأتي أو نسائي؛ لم يلزمه الطلاق الذي ليس بطاعة لله بالنص والإجماع، ولكن إن كان الطلاق قربة لسبب أوجب كونه قربة لزم من هذه الجهة، وإذا لم يلزمه الطلاق لزمته كفارة يمين ــ نصَّ عليه أحمد وهو قول أبي حنيفة والخراسانيين من أصحاب الشافعي ــ إذا قصد بذلك اليمين.
وأحمد يوجب الكفارة وإن لم يقصد اليمين، بل قصد التقرب إلى الله ــ تعالى ــ بالطلاق معتقدًا أنه قربة، مثل أَنْ يعتقد أَنَّ الترهُّبَ دين مشروع كمن ينذر لله أنه لا يأكل ولا يشرب الماء ولا يتزوج النساء ولا يأكل اللحم، أو أَنْ يطلق نساءه، أو أَلا يلبس القطن والكتان، أو لا ينام على جَنْبٍ، أو ألا يتكلم = فإذا نذر هذه الأمور التي ليست عبادة وهو يعتقدها عبادة، لم يلزمه
الوفاء بها بالاتفاق، ولكن عليه كفارة يمين في مذهب أحمد وغيره، وعند الشافعي لا كفارة فيها إلا إذا قصد اليمين على نزاع في مذهبه؛ فوجوب العتق يلزم بالنذر، ووجوب الطلاق لا يلزم بالنذر.
فإذا قيل: إن نذر اليمين المسمى نذر اللجاج والغضب كنذر التبرر ــ كالأثر المروي في حديث عثمان بن حاضر ــ كان يوجب هذا أنه إذا نذر وجوب العتق لزمه، وإذا نذر وجوب الطلاق لم يلزمه.
فلو قال: إن فعلت كذا كان عليَّ أَنْ أُعتق عبدي لزمه، ولو قال: كان عليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي لم يلزمه، فإذا عَلَّقَ الوقوع على وجه اليمين، فقال: إِنْ فعلت كذا فعبدي حر وقع به العتق.
كما يلزمه النذر على هذا القول المأثور في حديث عثمان بن حاضر، ولا يلزم [108/ ب] ــ حينئذٍ ــ أَنْ يقع به الطلاق، لأن الطلاق لم يلزم وجوبه في نذر التبرر ولا في نذر اليمين، كما يلزم وجوب العتق، فلا يلزم ــ حينئذٍ ــ إذا كان العتق يقع حيث يجب
(1)
أن يقع الطلاق حيث لا يجب.
بل لو قال قائل: إنه إذا لزم وجوب العتق لزم وقوعه، وإذا لم يلزم أحدهما لم يلزم الآخر، والطلاق لا يلزم وجوبه بالاتفاق فلا يلزم وقوعه = كان هذا أوجه وأشبه مِنْ أَنْ يقال عن الصحابة إنهم قالوا: لا يلزم العتق المحلوف به ويلزم الطلاق، فإن هذا القول في غاية الفساد والمناقضة لأصل الشرع ومقاصده ونصوص الشارع.
والعتق يصح تعليقه بالشرط كما ذكر غير واحد الإجماع على ذلك ولا
(1)
في الأصل زيادة: (ولا يقع).
يعرف فيه نزاع
(1)
، والطلاق قد عرف فيه النزاع، فلو علق وقوع العتاق
(2)
بشرط محض وقع، لأنَّ قصده إيقاعه عند ذلك الشرط، وكذلك إذا علق وجوبه كما لو قال: إذا جاء رأس الحول لله عليَّ أَنْ أُعتق عبدي، فإنَّ هذا نذرٌ لازم، إذ النذر المجرد عن الشرط يلزم، والمعلق على حدوث نعمة واندفاع نقمة يلزم، فإذا عُلِّقَ بشرطٍ محض لزم ــ أيضًا ــ، بخلاف ما عُلِّقَ تعليقًا يقصد به اليمين؛ فهذا مورد النزاع.
فإذا قيل: إنَّ بعض الصحابة أوقع العتق المحلوف به كما يوجب النذر المحلوف به، ولم يوقع الطلاق المحلوف به = كان هذا أبعد عن ثلبِ الصحابة ــ رضوان الله عليهم أجمعين ــ ونسبتهم إلى عدم الفقه من أن يقال عنهم: إنهم ألزموا الطلاق المحلوف به دون العتق المحلوف به.
وأيضًا؛ فالعتق والنذر طاعة لله وقربة إليه، فإذا ألزمَ الصحابةُ الحالفَ بذلك جعلًا لتعليق اليمين كتعليق التبرر = كان هذا قولًا قد ذهب إليه كثير من العلماء، وأما الطلاق فليس بقربة ولا طاعة لله.
فلا يلزم إذا قال أحدهم: إنَّ العتق والنذر المحلوف به يلزم أَنْ نلتزم أنْ نحكي نحن عن هذا القائل أنه قال: إنَّ الطلاق المحلوف به يلزم، إلا أَنْ يُعلم من أصوله أو نصوصه ما يقتضي [109/ أ] التسوية بينهما.
وأما حكاية ذلك عنهم لمجرد قياس لم يَعلم صحته على أصل المعنى،
(1)
انظر: موسوعة الإجماع لسعدي أبو جيب (ص 757)، وموسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي (3/ 844).
(2)
في الأصل: (الطلاق)، وكتب الناسخ في الهامش:(أظنه: العتاق). قلت: وهو الصواب كما يدلُّ عليه السياق.
مع أنه لا يَحكي عنهم بالقياس ما دَلَّ كلامهم وتعليلهم عليه ــ كما يفعل هذا المعترض وأمثاله ــ؛ فهذا قلبٌ للحقائق، فإنه إن لم يجز نقل المذاهب بالقياس والتعليل والألفاظ العامة، لم يجز أن ينقل عنهم في الحلف بالطلاق شيء، لا سيما عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ وإنْ جاز ذلك كان النقل عنهم أن الطلاق المحلوف به لا يلزم أولى من النقل عنهم أنه يلزم، فإنَّ تعليق الحكم بكونه قصد اليمين يتناول الحلف بالطلاق وغيره.
وقول ابن عباس رضي الله عنهما: (الطلاق عن وطر)؛ يقتضي تعليله وعمومه أن الطلاق المحلوف به لا يقع، وليس عن ابن عباس حرف واحد يدلُّ على وقوع الطلاق المحلوف به، وما نقل عنه في العتق إن كان ضعيفًا فلا حجة فيه، وإنْ كان صحيحًا فقد ثبت عنه ما يناقضه، وبتقدير أن يكون هذا رواية عنه؛ فإلحاق الطلاق بالعتاق في اللزوم أضعف من إلحاق الطلاق بالعتاق في عدم اللزوم.
فإذا قال قائل: إذا كان العتق المحلوف به لا يلزم، فالطلاق كذلك وأولى. وقال آخر: إذا كان العتق المحلوف به يلزم، فالطلاق المحلوف به كذلك وأولى، ولا ريب أَنَّ كلام الأول أصح وأشبه بالأصول التي دَلَّ عليها الكتاب والسنة والإجماع.
فإنَّ وقوع العتق ونفوذه أقوى من وقوع الطلاق ونفوذه، وهذا يحبه الله ويأمر به ويوجبه على مَنْ نذره، وهذا لا يحبه ولا يأمر به ولا يوجبه على من نذره، وهذا محرم في مواضع بالنص والإجماع كما يحرم طلاق الحائض وطلاق الموطوءة بالنص والإجماع، والعتق لا يحرم مع تمام الملك، والعتق يجب تكميله ويسري إلى ملك الغير، والطلاق لا يتصور ذلك فيه،
والعتق جعله الله من الكفارات كما جعل الصيام والصدقة والهدي؛ فأنواع الكفارات [109/ ب] أربعةٌ: أحدها العتق، والطلاق لم يجعله الله تكفيرًا لشيء من السيئات، والطلاق رفعٌ للنكاح الذي يحبه الله ويأمر به، والعتق إزالة للرق عن ابن آدم الذي خلقه الله حرًّا، فهو إعادة له إلى أصله؛ ولهذا كان سبب الرق الكفر فالحر المسلم لا يسترق بحال
(1)
، وأما المرأة فإنما خُلِقَتْ لأن تكون منكوحة لا أن تكون مطلَّقة، والحرة المسلمة بقاؤها مع زوجها خيرٌ لها في أكثر الأحوال من أن تكون مطلَّقة متضررة
(2)
، فالعتق نفعٌ للعبد بالتحرير ونفعٌ للسيد بالثواب، والطلاق المحلوف به في الغالب ضررٌ على المرأة وضررٌ على الزوج بلا ثواب.
فإذا قال قائل من الصحابة أو غيرهم: إنَّ الطلاق المحلوف به لا يلزم بخلاف العتق كان هذا أوجه من أَنْ يقول: إنه يلزم الطلاق دون العتق
(3)
؛ ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أَنَّ الطلاق المعلق لا يقع طلاقًا، وأما العتق المعلق إذا قصد إيقاعه فإنه يقع بلا نزاع، وهذا القول أقوى من قول أبي ثور بوقوع الطلاق المحلوف به دون العتاق المحلوف به، وقد قاله أبو عبد الرحمن الشافعي وهو في عصر أبي ثور، وكلاهما من أصحاب الشافعي البغداديين، ووافقه عليه ابن حزم وطائفة.
فإنْ قيلَ: هذا مخالفٌ للإجماع؛ فقول أبي ثور أولى أن يكون مخالفًا للإجماع، وإنْ جعلَ ذلك خلافًا سائغًا حتى يحمل عليه قول بعض
(1)
انظر ما سيأتي (ص 684 - 688).
(2)
تحتمل: (مضررة).
(3)
في الأصل: (العتق دون الطلاق)، والصواب ما أثبتُّ.
الصحابة، فهذا أولى أن يكون خلافًا سائغًا يحكى عن بعض الصحابة.
وبالجملة؛ فأبو ثور ــ مع علمه وفقهه ــ حكى إجماعًا معناه عنده عدم العلم بالمنازع، وقد عُلِمَ المنازع في عصره وقبل عصره، فإنَّ النزاع في الطلاق المعلَّق بالصفة أعم من الطلاق المحلوف به، فكلُّ مَنْ نازع في الأول نازع في الثاني ولا ينعكس.
فإنَّ التعليق قد يكون تعليق يمين، وقد يكون تعليق إيقاع؛ فمن نازع في المعلق مطلقًا فإنه ينازع في التعليق الذي يقصد به اليمين بطريق الأولى، وإذا حلف بصيغة القسم فهو أولى بالنزاع من المعلق بالصفة، وأبو ثور لم يعلم نزاعًا في تكفير الطلاق [110/ أ] المحلوف به، وركَّبَ على ذلك أنه يقع، والنزاع واقع في وقوعه وفي لزوم الكفارة إذا لم يقع.
وأما القول بوقوع الطلاق دون العتاق فهو الذي يُقطع بأنَّ مخالفته للإجماع أظهر من مخالفة من لم يوقع الطلاق ولا العتاق المحلوف به، وحجة من لم يوقعهما أظهر من حجة مَنْ فَرَّقَ بينهما.
وحينئذٍ؛ فإنْ كان القول عن بعضهم بلزوم العتق صحيحًا وجاز أَنْ يُحكى عنهم الفرق بين العتق والطلاق = جاز أَنْ يُحكى عنهم القول بلزوم العتق دون الطلاق، وإذا كان القول بلزوم العتق ليس صحيحًا بطل قول المعترض، وقد عُلِمَ أَنَّ القول بتكفيره أصح عنهم، فقد ثبت النزاع عنهم في العتق على هذا التقدير.
وحينئذٍ؛ فإنْ كان قولهم التسوية بينهما فقد لزم أن يكون من قولهم أنه لا يقع عتق ولا طلاق محلوف به، وإنْ كان من قولهم الفرق بينهما فالفرق بأنهم إذا ألزموا بالعتق لم يلزموا بالطلاق أظهر من الفرق بأنهم إذا ألزموا
بالعتق يلزمون بالطلاق.
ومعلومٌ أنه لم ينقل عن ابن عباس ولا عائشة ولا حفصة رضي الله عنهم ولا غيرهم ممن أفتى بتكفير العتق والنذر حرفٌ واحد بوقوع الطلاق المحلوف به، بل المنقول عنهم يقتضي عمومُهُ وتعليلُهُ أنه لا يقع طلاق محلوف به كما ذكرناه عن ابن عباس، وكما نقل عن عائشة رضي الله عنها مِنْ جعلها التعليق الذي يقصد به اليمين يمينًا، وما نقل عنها من أنها قالت: كُلُّ يمينٍ ــ وإِنْ عَظُمَتْ ــ فكفارتها كفارة يمين بالله تعالى
(1)
.
وأما ابن عمر رضي الله عنهما فقد ثبت عنه ما يناقض ما نقله عنه عثمان بن حاضر ــ أيضًا ــ، وأنه جعل التعليق الذي يقصد به اليمين يمينًا مُكفَّرة، وهذا في العتق أثبت عنه من ابن عباس؛ فإنَّ جميع الرواة الذين نقلوا حديث ليلى بنت العجماء ذكروا فيه أن ابن عمر كان من المفتين لها بعدم اللزوم، وأما ابن عباس فإنما ذكر من طريق أشعث بن عبد الملك الحمراني.
وابن عمر
(2)
قد روي عنه ــ من غير طريق عثمان بن حاضر ــ من طريق
(1)
لم أجده مسندًا، وقد ذكره المجيب رحمه الله في مجموع الفتاوى (33/ 61، 207)، الفتاوى الكبرى (3/ 236).
وقال الباجي في المنتقى (3/ 252): (وهذه الرواية لا تصح عن عائشة فيما عَلِمْت، ولو صَحَّتْ لجازَ أَنْ يَلحقها التخصيص، أو يكون رأيًا رأته لم توافق عليه).
(2)
في الأصل: (ابن عباس)، وكتب الناسخ في الهامش:(أظنه: ابن عمر). ولعل ما ظنه الناسخ هو الأقرب، لأن الكلام في سياق ما ورد عن ابن عمر، كما أنَّ سالمًا هو المعروف بالرواية عن ابن عمر لا عن ابن عباس، والمجيب في عدة مواضع يشير إلى أنَّ ابن عمر ورد عنه ثلاث روايات، وسيأتي قريبًا قوله: (ثم إنَّ أبا حامد ذكر رواية عثمان بن حاضر
…
) إلخ.
سالم أَنَّ الحلف بالنذر [110/ ب] يلزم؛ فقد ثبت عنه في الحلف بالنذر روايتان
(1)
، ولكن الذي يظهر أنَّ
(2)
المتأخرة هي رواية التكفير، وأما الطلاق فالجواب المنقول عنه يحتمل أنه فيمن قصد إيقاع الطلاق فلا يكون قوله مناقضًا للرواية الأخرى عنه.
وأما رواية عثمان بن حاضر فهي مخالفة لما رُوِيَ عنه
(3)
من الوجهين الثابتين
(4)
؛ فإنْ كانت صحيحة فهي رواية ثالثة، ومضمونها أنه يلزمه ما علقه، لكن جَعَلَ في المال الزكاة، وحينئذٍ؛ فيكون هذا موافقًا لرواية عثمان بن حاضر ــ أيضًا ــ وهي إحدى الروايتين عنه؛ هذا إنْ جُعِلَ مُسَوِّيًا بين الطلاق والعتاق، وإِنْ جعل مفرِّقًا بينهما فقوله بإيقاع العتق دون الطلاق إذا أوقع العتق أولى من التفريق بوقوع الطلاق دون العتق إذا لم يوقع العتق كما تقدم.
وكثيرٌ من أئمة أصحاب الشافعي وأحمد يجعلون الصحابة مجمعين على أن التعليق الذي يقصد به اليمين تجزئ فيه الكفارة.
ثم منهم مَنْ يطعن في رواية عثمان بن حاضر؛ كما فعل القاضي أبو الطيب الطبري
(5)
والماوردي والقاضي أبو يعلى وأبو الخطاب.
(1)
في الأصل: (روايتين)، والوجه فيه الرفع كما أثبت.
(2)
في الأصل: (أنها).
(3)
في الأصل: (عنها)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(4)
في الأصل: (الثابتة)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(5)
هو: طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر، القاضي والفقيه الشافعي، ولد سنة (348)، وتوفي سنة (450).
انظر في ترجمته: تاريخ بغداد (10/ 491)، تاريخ الإسلام (9/ 745)، طبقات الشافعية الكبرى (5/ 12).
ومنهم من يقول: إما أن نسقط من اختلف قوله أو نُقدِّم الرواية الموافقة لغيره من الصحابة؛ وهذه طريقة الشيخ أبي حامد الإسفراييني قال في مسألة نذر اللجاج والغضب: قال الشافعي: ولو قال: مالي في سبيل الله أو صدقة على معاني الأيمان؛ فمذهب عائشة وعدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعطاء والقياس أن عليه كفارة يمين.
قال أبو حامد
(1)
: (قد اختلف الناس في موجب هذا النذر على ستة مذاهب، فذهب الشافعي إلى أنه يشبَّه بالأيمان، وأنه إذا نذر نذر لجاج وغضب لم يلزمه أن يفي بما نذره إذا وجد الشرط، وهو إذا كَلَّمَ زيدًا وقد منع نفسه منه لأنَّ الكلام يقع منه، وهو إذا نَذَرَ نَذْرَ لجاج ألا يكلمه ثم كلمه إذا علقه بشرط وقد وجد؛ فعندنا: أنه مخيَّر بين أن يفي بما نذره أو يكفر كفارة يمين).
قال: (وبه قال عمر وابن عمر وابن عباس وعائشة وحفصة وزينب بنت أم سلمة ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم [111/ أ]، ومن التابعين عطاء وطاووس والحسن، ومن الفقهاء أبو عبيد القاسم بن سلام وأحمد وإسحاق وأبو ثور، ثم ذكر قول النخعي والحكم وحماد إنه لا يتعلق بهذا النذر حكم، وقول ربيعة إنه يلزمه زكاة ماله).
قال: (وروي نحو ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وقال مالك: يلزمه الصدقة بثلثه، وقال أبو حنيفة: يلزمه أن يتصدق بالمال الزكوي، وقال البَتِّي:
(1)
انظر: الحاوي الكبير (15/ 457).
يلزمه أن يتصدق بجميع ماله).
قال: (وقد روي هذا عن ابن عمر رضي الله عنهما).
ثم قال في حجة الشافعي ومن وافقه: (ولأنه إجماع روي عن ستة من الصحابة رضي الله عنهم ذكرناهم؛ فأما أربعة فقد صرحوا وقالوا: كفارة النذر كفارة يمين، وهم: عمر وعائشة وحفصة وزينب، واثنان اختلفت الرواية عنهما وهما: ابن عمر وابن عباس، لأن ابن عباس رويت عنه روايتان فيه إحداهما مثل قولنا، والأخرى مثل قول ربيعة.
وابن عمر عنه ثلاث روايات؛ فإما أن نقول قد تعارضت تلك الروايات وسقطت جملة، حتى كأنه لم يوجد منها شيء، وتجرد لنا قول أربعة من الصحابة لا مخالف لهم، أو نقول: إنَّ الرواية التي توافق قول غيرهما من الصحابة مقدمة على الرواية التي تخالفها، لأنَّ وفاق غيرهما يعضد ما روي عنهما في مثل ذلك)
(1)
.
ومعلوم أن هذا النقل الذي فيه عن حفصة وزينب وعن ابن عمر من التكفير هو في حديث ليلى بنت العجماء، فإنه لم يُنقل عنهم ذلك في غير هذا، بخلاف عائشة وابن عباس فإنَّ التكفير معروفٌ عنهما من غير هذا الوجه.
وهؤلاء هم الذين أشار إليهم الشافعي
(2)
بقوله: فمذهب عائشة وعدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعطاء والقياس أن عليه كفارة يمين.
(1)
وضع الناسخ هنا ثلاث نقط إشارةً إلى انتهاء النقل.
(2)
الأم (3/ 656).
ثم إن أبا حامد ذكر رواية عثمان بن حاضر عن ابن عمر وابن عباس أن في المال زكاته، وذكر عن ابن عمر رواية ثالثة أنه يخرج جميعه وهي رواية سالم، ثم أجاب إما بالتساقط وإما بالترجيح.
وهذا بعينه موجود في الحلف بالعتق، فإنه إنما نقل في حديث عثمان [111/ ب] ابن حاضر، وفي حديث ليلى بنت العجماء عن عدد من الصحابة القول بالتكفير منهم ابن عمر وابن عباس؛ فإما أن تتساقط الروايتان
(1)
عن ابن عمر وابن عباس ويَسلم قول حفصة وزينب ومن معهما بلا نزاع، وإما أن يرجح قول ابن عمر وابن عباس الموافق لقول غيرهما.
وإذا ثبت قولهم في العتق فالطلاق بطريق الأولى، وليس عن أحد منهم في الطلاق ما يخالف ذلك ولا حرف واحد إلا اللفظ المحتمل عن ابن عمر، وحينئذٍ؛ فإذا قُدِّرَ أن ابن عمر ثبت عنه ذلك في الطلاق فهو على إحدى الروايتين عنه في العتق، فإنه قد اختلف عنه فيه على روايتين، وإنْ قُدِّرَ أن ابن عمر يفرق بين الطلاق والعتاق فقد يكون ذلك لظنه أن الطلاق المعلق حضًّا ومنعًا يُقصَد إيقاعه.
فإنَّ كثيرًا من الطلاق الذي يقصد به الحض والمنع يقصد به الإيقاع، بخلاف العتق والنذر المعلق تعليقًا يقصد به الحض والمنع، فإنَّ هذا إنما يراد به اليمين في العادة الغالبة، فيظهر قصد اليمين في هذا كما ظهر في قصة ليلى بنت العجماء، بخلاف قوله لامرأته: إِنْ خرجت من منزلي فأنت طالق؛ فإنه كثيرًا ما يقصد بهذا الإيقاع عند الصفة.
فإن كان ابن عمر رضي الله عنهما إنما أفتى لمن قصد الإيقاع اِطَّرَدَ قوله: إنَّ
(1)
في الأصل: (الروايتين)، والوجه الرفع كما أثبت.
كل من قصد اليمين لا يقع لا طلاق ولا عتق، وإن كان أفتى مطلقًا فلأن هذا التعليق يكثر قصد الإيقاع به، فقد يكون ابن عمر رضي الله عنهما اعتقد أنه لا يراد به إلا الإيقاع، إذ كان الحلف بذلك في عهدهم غير معروف، وقد يكون ابن عمر لما رأى مثل هذا التعليق يقصد به الإيقاع في العادة جعلها تعليقًا.
وإِنْ قيلَ: إِنَّ ابن عمر غَلِطَ؛ فغلطه في مثل هذا الأمر الخفي، وأنه لم يتفطن لكونه قد يقصد به اليمين أولى مِن أَن يُظَنَّ بأنه مع علمه بأنه يقصد اليمين يجعله غير حالف، ويجعل المعلق للعتق إذا قصد اليمين حالفًا مع علمه بأنَّ كليهما
(1)
قصد اليمين، فإنَّ هذا مما يظهر أنه خطأ لعموم الناس.
* * * *
(1)
في الأصل: (كلاهما)، والجادة ما أثبتُّ.
فصلٌ
قال المعترض:
(ومن العجب [112/ أ] أَنَّ المصنِّف عَارَضَ بأثر ابن عباس الذي رواه البخاري هذا، واعتمد على ما فهمه منه، وقال بعد ذلك بورقة: وقد ذكر البخاري عن ابن عمر أثرًا في الطلاق يحتمل أَنْ يكون من هذا الباب، ويحتمل ألا يكون منه؛ يشير إلى أثر ابن عمر الذي قَدَّمْنَاهُ، وكلاهما مذكور في البخاري في هذا الباب الذي أشرنا إليه.
ولفظ ابن عمر وما [سئل عنه]
(1)
مبينٌ لا يحتمل أمرًا آخر، إلا أَنْ يقول مُتَعَسِّفٌ في غاية التعنت إنه لم يقصد الحلف بل التعليق المجرد، وذلك في غاية البُعْد لإطلاق ابن عمر الجواب، ويعضده رواية أحمد الصريحة في الحلف، ورواية مالك في الموطأ
(2)
عن عمر وابن عمر وغيرهما ــ كما تقدم ــ كانوا يقولون: إذا حلف الرجل بطلاق امرأة قبل أن ينكحها، ثم أَثِم؛ إنَّ ذلك لازم له [إذا نكحها]
(3)
. رواه بلاغًا.
فإذا كان هذا قول ابن عمر قبل النكاح، فما ظنك فيما بعده؟ فهذه الآثار الثلاثة تبين لنا مذهب ابن عمر، وأنه من القائلين بوقوع الطلاق والعتق عند
(1)
في الأصل: (شمل)، والصواب ما أثبتُّ؛ كما سيأتي بعد قليل في مناقشة ابن تيمية لكلامه هذا، وكما في «التحقيق» .
(2)
الموطأ (2/ 98). وهذا البلاغ نقله مالك عن عمر وابنه وابن مسعود وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وابن شهاب وسليمان بن يسار.
(3)
ما بين المعقوفتين زيادة من الموطأ.
الحنث)
(1)
.
والجواب: أما قوله: (المصنِّف) فلم يكن ذلك الجواب مصنَّفًا، وإنما كان جواب سؤال في فتيا، ولهذا لم يستوعب المجيب القول فيه، كما استوعبه بعد ذلك.
وقوله: (إِنَّ المصنف عارض بأثر ابن عباس الذي رواه البخاري هذا ــ يعني: حديث عثمان بن حاضر ــ) فقد تقدم أنه لم يقصد معارضته بهذا، بل إنما عارضه بما يدل على بطلانه، ويجب تقديمه عليه باتفاق أهل العلم، وإنما ذكر هذا لأنه مما يعرف به مذهب ابن عباس في الطلاق والعتاق المحلوف بهما.
وقوله: (واعتمد على ما فهمه منه). فيقال: هذا هو المفهوم لعامة أهل العلم، وهو الذي يدل عليه اللفظ، وهو الذي قصده البخاري، بل هذا الذي لا يحتمل اللفظ سواه، فإنه إما أن يريد به الحصر، وإما أن يراد به أن بعض الطلاق والعتاق يكون كذلك، وهذا مما لا فائدة في ذكره.
وأما قوله: (وقال بعد ذلك بورقة، وقد ذكر البخاري عن ابن عمر أثرًا في الطلاق يحتمل أَنْ يكون من هذا الباب، ويحتمل ألا يكون منه؛ يشير إلى
(2)
أثر ابن عمر الذي قدمناه، وكلاهما مذكور في البخاري [112/ ب] في هذا الباب الذي أشرنا إليه، ولفظ ابن عمر وما سئل عنه مبين لا يحتمل أمرًا آخر).
(1)
«التحقيق» (41/ أ).
(2)
في الأصل زيادة (أن)، وبحذفها يستقيم الكلام، كما ورد في أول الفصل و «التحقيق» .
فيقال: هذا غلطٌ بَيِّنٌ؛ فإنه إذا قيل: طَلَّقَ رجلٌ امرأته البتة إِنْ خَرَجَتْ؛ فهذا اللفظ يراد أنه أراد وقوع طلاقها إذا خرجت، ويراد به اليمين، وهذا مستعمل في كلام الناس في هذا وهذا، يقولون: طَلَّقَ إن فعل كذا؛ لمن قصد إيقاع الطلاق ولمن قصد اليمين.
فالذي يقصد إيقاع الطلاق يقصد أن يطلقها إما عقوبة لها على مخالفته، وإما كراهة لمقامه مع امرأةٍ تخالفه أو مع امرأة تخرج، لأنَّ خروجها فيه من الضرر عليه ما لا يحتمل المقام معه.
والذي يقصد اليمين لا يريد طلاقها إذا خرجت، بل يريد منعها وزجرها، وهو لا يريد طلاقها خرجت أو لم تخرج، بل هو ممتنع من ذلك؛ كما لو قال: الطلاق يلزمني ما تخرجين، وكما لو حلف عليها بيمين أخرى أنها لا تخرج، وكما لو قال: إن خرجت فعبيدي أحرار ومالي صدقة وأنت وسائر نسائي طوالق ونحو ذلك مما يقصد به في العادة اليمين، لا يراد به وقوع هذه اللوازم.
وقد ذكرنا أَنَّ قصد الإيقاع بمثل هذا اللفظ كان أظهر في زمن ابن عمر والصحابة من قصد اليمين بذلك، فإنهم لم يكونوا قد اعتادوا الحلف بالطلاق، وابن عمر رضي الله عنهما أجابه بأنها تطلق إذا خرجت؛ إما لأنَّ اللفظ الذي ذكره بَيَّنَ فيه ذلك، أو لأنه ظهر له ذلك من دلالة، أو لأنَّ هذا اللفظ لما كان المعتاد عندهم قصد إيقاع الطلاق به لا قصد الحلف = فهم ابن عمر منه ذلك وإن كان الحالف قصد اليمين، ولم يعرف ابن عمر أنه قصد اليمين، أو لأنه لما كان قصد اليمين خلاف الظاهر لم يستفصله: هل أردت
(1)
خلاف
(1)
في الأصل: (أرادت)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
الظاهر؟ لكونه لا يقبل منه دعوى إرادة خلاف الظاهر.
ومثل هذا إذا كان مذهبًا لابن عمر فهو أحد قولي العلماء، وإذا كان قول ابن عمر يحتمل هذا وغيره احتمالًا بينًا، كان الجزمُ بأنه عَلِمَ أنه قصد اليمين، وأنه جعل التعليق الذي يقصد به اليمين كالتعليق الذي يقصد به الإيقاع، وجعل هذا قولًا واحدًا لابن عمر [113/ أ] مع علمنا بأنه قد ثبت عنه ــ أيضًا ــ التفريق بين هذا التعليق وهذا التعليق= جزمًا بما لا يجوز الجزم به.
ولو قُدِّرَ أَنَّ ابن عمر لم يختلف كلامه في أن التعليق الذي يقصد به اليمين كالتعليق الذي لا يقصد به اليمين، فكلام أكثر الصحابة يخالف قوله في ذلك.
وقول المعترض: (إلا أن يقول متعسف في غاية التعنت أنه لم يقصد الحلف بل التعليق المجرد، وذلك في غاية البعد لإطلاق ابن عمر الجواب).
فيقال له: الذي هو في غاية البعد أن يكون قصده أَنْ يعلق الطلاق على الخروج من غير منع منه لها عن الخروج ولا كراهة له، بل يُعَلِّقُ الطلاقَ بالخروجِ كما يُعلقه بطلوع الهلال ودخول الحول وبالطهر وبغير ذلك مما يجعله وقتًا للطلاق لا يكون هو السبب الموجب للطلاق.
وهذا المعترض يريد بالتعليق المجرد هذا، فإنه يجعل كل من قصد المنع حالفًا، وإن كان مقصوده وقوع الجزاء عند الشرط، حتى يجعل قوله: إِنْ تزوجتُ فلانة فهي طالق حالفًا، ويجعل ذلك من صور النزاع التي نازع فيها المجيب ويقول فيها بالتكفير، ويجعل أقوال الصحابة والتابعين الذين
لم يفتوا في مثل ذلك بالتكفير حجة على المجيب، كما تقدم في ذلك غير مرة، حتى جعل تعليق الوعيد كقوله:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38]{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] مما يدخل في صور النزاع، وأنه يجب أن يكون يمينًا عند الحنث، وأن يجب في مثله التكفير.
وقد تقدم أن هذا سوء فهم منه، لم يخطر ببال المجيب أن أحدًا يفهم من كلامه هذا، فإنه لم يقل ما يدل على ذلك، ولو خَطَرَ لَهُ أَنَّ أَحدًا يَفْهَمُ هذا لَبَسَطَ الكلامَ في ذلك الجواب المختصر الذي اعترض عليه المعترض، وإنْ كان المجيب قد بسط الكلام في ذلك في مواضع أُخَر
(1)
، وبَيَّنَ الفرق فيما يقصد به الحض والمنع وبين أن يقصد الإيقاع كما تقدم، وبَيَّنَ أَنَّ من قصد الإيقاع فليس بحالف، ولا قال أحد من أهل العلم إن هذا يمين مكفرة، لا المجيب ولا غيره، ولا سَمَّى أحدٌ من الصحابة هذا حالفًا، بل ولا من التابعين في الأقوال المعروفة عنهم [113/ ب] بأسانيدها، مثل الأقوال التي جمعها المعترض، وطالع عدة كتب حتى جمعها، واجتهد في جمع ما أمكنه من كلام الصحابة والتابعين في هذا الباب ليجعله حجة على المجيب، ومع هذا فلم يذكر عن أحد منهم لفظًا أنه جعل من قصد الإيقاع عند الشرط حالفًا.
وإنما سَمَّى مثل هذا حالفًا من الفقهاء مَنْ لا فرق عنده بين أن يقصد الإيقاع وبين ألا يقصده، فلما استويا عنده في الحكم نقل اسم أحدهما إلى
(1)
انظر المواضع التي تكلم فيها ابن تيمية عن هذه المسألة في المقدمة (ص 36 - 43).
الآخر؛ فمنهم من يسمي كل من قصد الحض والمنع حالفًا وإن قصد الإيقاع، ومنهم من يُسمي كُلَّ مَنْ عَلَّقَ الطلاق حالفًا وإن كان تعليقًا محضًا ليس فيه حض ولا منع، ومنهم من يستثني المعلَّق بالطهر والحيض والسفر لأن له أسماء تخصه، والأقوال الثلاثة لمتأخري أصحاب أحمد، والأول لأصحاب الشافعي، والثالث لأبي حنيفة.
وسواء على ذلك ما إذا قال: إِنْ حلفتُ بطلاقكِ فعبدي حر، أوقال: إنْ حلفتُ بطلاقك فأنت طالق، أو فضرتك طالق، أو والله لا أحلف بطلاقك.
فاختلفوا فيما يدخل في قوله: إِنْ حلفتُ؛ على هذه الأقوال الثلاثة، وأما أحمد وقدماء أصحابه ومالك وغيرهما فإنهم يرجعون في مثل هذا بعد نِيَّةِ الحالف وسبب اليمين إلى عُرْفِهِ نفسه وما يفهمه هو من هذا اللفظ؛ فمن العامة مَنْ يُسمِّي كُلَّ مُطَلِّقٍ حالفًا، فهذا إذا قال: والله لا أحلف بطلاقك فطلقها حنث، وعلى تلك الأقوال جميعها لم يحنث، فإنه نجَّز الطلاق ولم يعلقه.
ومِنَ الناس مَنْ يجعل الحلف هو التعليق، والحلف بصيغة القسم، ومنهم من يجعل التعليق الذي يقصد به الحض والمنع، ومنهم من يقصد به المعنى اللغوي العقلي الذي كان يقصده الصحابة، وهو أن تعليقه مع كراهته لوقوعه عند الصفة كما يحلف به بصيغة الجزاء.
ولما كان هذا المعترض قد ظنَّ أنَّ المجيب يَجعل كل تعليق قصد به المنع فهو حلف، لا يفرق بين قصد الإيقاع وقصد اليمين وأن التعليق المجرد عنده لا يكون إلا في شرط لا يقصد وجوده ولا عدمه تولد له من هذا الغلط غَلَطٌ [114/ أ] كبير في فهم كلام الصحابة والتابعين والعلماء،
وغلطه هذا يلزم كُلَّ مَنْ فرق بين تعليق اليمين وتعليق الوعيد وأمثاله، فسموا الأول يمينًا ولم يسموا الثاني يمينًا.
فإنه من المعلوم أن أحدًا لم يسم مثل قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] يمينًا، وسموا مثل قوله: إِنْ فعلتُ فكل مملوك لي حر وكل امرأة لي طالق يمينًا، وإن كان كلاهما فيه منع من الفعل، لكن الحالف يقصد منع نفسه أو منع غيره ممن
(1)
يرى أنه يَبَرُّ قَسَمَه فيعلق بالفعل ما يكره أن يلزمه، ويكون المحلوف عليه لا يرى أن يوقعه فيما يكره، فلا يحلف على من يعلم أنه يفعل الشرط فيقع الجزاء.
ولا يقول الأسير لمن أسره وهو لا يبالي أَطَلَّقَ امرأته أم لم يطلقها، ولا لعدوِّه ولا لقاهرٍ يظلمه ولا يبالي بطلاق امرأته، ولا لمن هو خارج عن طاعته ولا يعرفه ولا يبالي أَطُلِّقَت نساؤه وعتق عبيده وذهب ماله أم لم يكن كذلك = لا يقول: لا تفعل كذا وإن فعلته فنسائي طوالق وعبيدي أحرار ومالي صدقة؛ لا سيما إذا كان ذلك الشخص يريد ذلك الفعل.
ولا يقول للمحارب الذي يريد أخذ ماله: إِنْ أخذت مالي فمماليكي أحرار ونسائي طوالق، بل يقول إن أخذت شيئًا عاقبتك وانتقمت منك وقاتلتك أو شكوتك إلى ولي الأمر.
ولا يقول المسلمون لعدوهم المحاربين لهم أو أمير المسلمين: الطلاق يلزمني ما تفعلون كذا أو إن فعلتم كذا فنسائي طوالق وعبيدي أحرار، بل يقول: إنْ فعلتم كذا فسوف تعلمون ما أفعل بكم، إن قتلتم أحدًا
(1)
في الأصل: (من)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
من أَسْرَانا قتلنا وفعلنا كذا وكذا، يتوعدهم بأمر يشق على أولئك.
وفي كلا الموضعين المقصود بالتعليق: المنع من فعل، لكن إذا عَلَّق به ما يكرهه المعلِّق وإنْ وجد الشرط كان يمينًا، وحَلِفُهُ به على نفسه وعلى مَنْ يرى أنه لا يُحَنِّثُهُ ويُلْزِمُهُ ما يكره لزومه له، فإنه قد عُلِمَ أنه إذا حلف كره وقوع ما لزمه ولو أنه الكفارة، فيحلف على من يظن أنه لا يلزمه بهذا الذي يكرهه، وأما من يرى أنه يقصد إيذاءه وإلزامه بما يكره ويقصد إيذاءه لا يبالي أحلف أم لم يحلف، بل إذا حلف كان ذلك مما يغريه بتحنيثه
(1)
، فإنَّ مثل [114/ ب] هذا لا يحلف عليه في العادة، ولكن إذا منع مثل هذا منعه بالوعيد الذي يكرهه الممنوع، فيقول: إِنْ فعلتَ كذا فعلتُ بك كذا وكذا، لا يمنعه بمجرد اليمين التي يكون الحالف هو الذي ألزم بالحنث فيها ما يكرهه هو.
ولَمَّا كان الطلاق تارة يكرهه الرجل، وتارة تكرهه المرأة، وتارة يكرهانه جميعًا، وتارة لا يكرهه واحدٌ منهما = اختلفت الأحوال في تعليقه؛ فتارة يقول لها: إن فعلتِ كذا فأنت طالق يقصد اليمين فقط، لأنه يكره الطلاق عند الصفة، وهي ــ أيضًا ــ تكره أَنْ يلزم الطلاق؛ إما لكونها تكره تحنيثه لرغبتها إليه ورهبتها منه وإن كانت لا تكره نفس الطلاق، وإما لكونها تكره أَنْ يطلقها وإن كانت لا تكره تحنيثه بغير هذه اليمين، وتارة لكونها تكره هذا وهذا؛ تكره تحنيثه إكرامًا له وتكره أن يطلقها لما عليها في الطلاق من الضرر.
وقد يظن الرجل بالمرأة أنها تكره الطلاق وتكره تحنيثه، ولا يكون
(1)
في الأصل: (فيحنثه)، ولعل الأقرب ما أثبتُّ.
كذلك، فيحلف عليها بالطلاق فتحنثه وتفعل، ولو عَلِمَ أنها لا تَبَرُّ قَسَمَهُ لم يحلف، كما يحلف على غير امرأته ظانًّا أنه يبرُّ قسمه.
وقد يكون قصده إيقاع الطلاق إذا خالفته؛ فيكون طلاقها يشبه الوعيد من بعض الوجوه لا من جنس الأيمان، وقد لا يقصد به عقوبتها، بل يقصد دفع مضرة عنه بالطلاق إذا وجد الشرط الذي منع منه، كما يقول: إِنْ خنتني، إِنْ سرقتِ مالي، إِنْ فعلتِ فاحشة فأنت طالق؛ وقد يقول هذا مَنْ يظن أنها تكره هذا الطلاق، ويجعله زاجرًا لها مع قصده للطلاق إذا فعلته، ويكون هو لا يكره الطلاق، بل قد يختاره ويريده؛ إما مطلقًا، وإما إذا وجد الشرط وهو لا يعلم، مثل أن تكون مائلة إلى غيره، فيقول لها: إنْ فعلتِ كذا فأنت طالق، يقصد طلاقها إذا فعلته، فتفعله ليقع الطلاق لتنال غرضها إذا طلقت، ومثل هذا: قَصْدُ الإيقاعِ عند شرطٍ اعتقدَ أنه لا يكون؛ وفي وقوع الطلاق بهذا نزاع.
والمعترض لما ظن أن المجيب يقول: إِنَّ كل تعليق [115/ أ] منع منه أو حض عليه هو يمين، وأن التعليق المجرد ما ليس فيه حض على الشرط ولا منع منه بحال = كان مراده بقوله: إلا أن يقول متعسف في غاية التعنت في قول نافع: طَلَّقَ رجلٌ امرأته البتة إِنْ خَرَجَت؛ أنه لم يقصد الحلف بل التعليق المجرد، أي: لم يقصد المنع من الخروج البتة، بل قصد الطلاق مجردًا بلا قَصْدِ مَنْعٍ، كما يقصده في قوله: إذا جاء رأس الشهر، أو إذا طَهُرْتِ فأنتِ طالق، أو إذا قَدِمَ الحجاج فأنت طالق.
ومَنْ حَمَلَ كلام ابن عمر على هذا فقد تعسف؛ فإن عادة الناس لم تجر في تعليق الطلاق بأفعال النساء إلا أنهم يقصدون منع النساء من ذلك، فإذا
قال: إِنْ خرجتِ فأنتِ طالقٌ، إِنْ دخلتِ دار فلان فأنتِ طالق، إِنْ أَخذتِ من مالي شيئًا بغير إذني فأنت طالق، إِنْ ضربتِ ابني فأنت طالق، إِنْ أنكرت ما أعطيتك فأنت طالق، إِنْ كتمتِ ما أعطيتك فأنت طالق، إِنْ لم تَرُدِّي المال الذي أخذتيه فأنت طالق، ونحو ذلك = كان مراده منعها من ذلك الفعل ونهيها عنه، أو حضها عليه وأمرها به، لكن مع ذلك قد يقصد الطلاق إذا خالفته فلا يكون حالفًا، وقد لا يقصد إلا مجرد الحض والمنع وتوكيد ذلك باليمين مع كراهته للطلاق مطلقًا وإن خالفته= فهذا هو الحالف.
ومعلوم أن الذي ذكر عنه نافع أنه طَلَّقَ امرأته إِنْ خَرَجَت وإن كان مانعًا لها عن الخروج، فلا يعلم أنه كان كارهًا لطلاقها إذا خرجت، كما في قول القائل: إِنْ فعلتِ كذا فكل نسائي طوالق وكل عبيدي أحرار ومالي صدقة وعليَّ ثلاثون حجة ونحو ذلك أنه كاره للزوم هذه الأمور، وإذا كان لا يعلم أنه كاره احتمل أن يكون غير حالف، واحتمل أن يكون حالفًا.
ولهذا قال المجيب: وقد ذكر البخاري عن ابن عمر أثرًا يحتمل أن يكون من هذا الباب، ويحتمل ألا يكون منه؛ وإذا عُرِفَ مراد المجيب لم ينازع في الاحتمال إلا معاند.
وقول المعترض ــ حينئذٍ ــ أنه مبيَّن لا يحتمل أمرًا آخر؛ كلامٌ باطلٌ، نعم لا يحتمل إلا المنع من الفعل لا يحتمل أنه جعله تعليقًا لا منع فيه، بل مع المنع من الفعل يحتمل
(1)
أنه أراد طلاقها إذا خرجت، ويحتمل أنه لم يرد إلا الحلف عليها مع كراهته [115/ ب] للطلاق وإِنْ خَرَجَتْ، كما لو قال: إِنْ
(1)
في الأصل: (لا يحتمل)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
خَرَجْتِ فكل مملوك لي حر ومالي صدقة وعليَّ ثلاثون حجة، فإن هذا فيه المنع، ومع هذا فهو لا يريد أَنْ يَعتق عليه عبيده ويخرج عن
(1)
ماله ويبقى في ذمته ثلاثون حجة، بل هذا لا يقصده عاقل، وإنما عَلَّقَه لأنه في غاية الامتناع والكراهة له، لا أنه يريده عند الشرط.
وقوله: (لإطلاق ابن عمر الجواب).
فيقال له: يا سبحان الله! هَلَّا ذكرت من إطلاق ابن عمر وحفصة وزينب وغيرهم الجواب في حديث ليلى بنت العجماء مع تصريح المرأة بأنها حلفت بقولها: وكل مملوك لي حر؟! وهلَّا جعلت الجواب هناك يتناول هذه اليمين كما اتفق على ذلك أئمة أهل العلم في نقل هذا عن ابن عمر وغيره لما ثبت عندهم ذكر العتق؟ وإطلاق الجواب هناك أَدَلُّ على إرادة ابن عمر للحلف بالعتق من كون إطلاقه هنا يتناول الحلف بالطلاق.
ثم يقال ثانيًا: نحن نُسَلِّمُ أنه لم يُجِبْ إلا مِنْ منع امرأته من الخروج لا أنه لم يمنعها من الخروج، لكن إطلاق الجواب مع هذا يحتمل أن يكون السائل سأله بلفظ أظهرَ به أنه يقصد الإيقاع لا اليمين، ونافع لم يذكر لفظه، ويحتمل أنه ظهر مع اللفظ من حاله ما دلَّ على أنَّ قصده الإيقاع، ويحتمل أنه لما كان الغالب عليهم إذا علقوا الطلاق إنما يقصدون الإيقاع لا اليمين، لأنهم لم يكونوا قد اعتادوا الحلف به وإنما اعتادوا أن يطلقوا عند وجود أمور يكرهون بقاء النكاح على تلك الحال، ويختارون الطلاق إذا وقعت فيوقعون الطلاق لتلك الأحوال، وليس في هذا أن ابن عمر لو علم أنه لو
(1)
تحتمل في الأصل: (من).
كان مع المنع يمتنع من إيقاع الطلاق [الذي]
(1)
يكرهه وإن خالفته= كان يوقعه به، ويحتمل أَنَّ ابن عمر لم يكن يظن أَنَّ
(2)
مراده بهذه الصيغة اليمين وقد أراد بها اليمين، ويحتمل أنه مع علمه بإرادة اليمين يوقع الطلاق على قوله بأن التعليق الذي يقصد به اليمين كالتعليق الذي لا يقصد به اليمين، لا على الرواية الأخرى التي هي أشهر الروايتين عنه بل وآخرهما: أن التعليق الذي يقصد به اليمين [يمين مكفرة]
(3)
.
ومع هذه الاحتمالات الظاهرة لا يجعل ابنَ عمر يوقع الطلاق المحلوف به على كُلٍّ من الروايتين عنه إلا جاهلٌ أو [116/ أ] معاندٌ.
وأما قوله: (ويعضده رواية أحمد الصريحة في الحلف)؛ فتلك إنما هي في الحلف بالعتق مع غيره، وقد أجاب في الجميع باللزوم، وهذا خلاف الرواية المشهورة الثابتة عنه، وخلاف رواية سالم عنه؛ وعلى هذه الرواية فيجوز أن يكون ابن عمر رضي الله عنهما يُفتي بوقوع الطلاق المحلوف به كما قال، ويحتمل أن يفرق بينهما فيفتي بوقوع العتق دون الطلاق كما تقدم.
وأما على الرواية المشهورة عنه في الإفتاء في أن التعليق الذي يقصد به اليمين يمين مكفرة دون اللزوم، فالطلاق أولى ألا يلزم، وهذه الرواية المشهورة عنه في أنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين يمين مكفرة، لا سيما مع دخول الحلف بالعتق في ذلك يعضد الاحتمال الآخر، وهو أن هذا المعلِّق كان قصده الإيقاع دون اليمين، فالرواية الثابتة المشهورة تعضد عدم وقوع
(1)
إضافة يقتضيها السياق.
(2)
في الأصل: (أنه).
(3)
زيادة يقتضيها السياق، كما سيأتي قريبًا.
الطلاق المحلوف به، والرواية الضعيفة المرجوحة التي لم توافق تعضد القول بوقوع الطلاق.
وقد قدمنا أن هذه الرواية لم يقل بجميع ما فيها أحد من علماء المسلمين؛ فهذا العاضد هو مخالف لإجماع المسلمين، والعلم بعدم النزاع في ذلك أظهر من العلم بعدم النزاع في الطلاق.
وأما قوله: (ويعضده رواية مالك في الموطأ عن عمر وابن عمر وغيرهما ــ كما تقدم
(1)
ــ كانوا يقولون: إذا حلف الرجل بطلاق امرأته قبل أن ينكحها، ثم أَثِمَ أن ذلك لازم له. رواه بلاغًا. وإذا كان هذا قول ابن عمر قبل النكاح، فما ظنك بما بعده؟).
فقد تقدم جواب ذلك؛ وأنه من المعلوم الفرقُ بينَ أَنْ يُعَلِّقَ الطلاق على النكاح وبين أن يحلف بذلك، فالأول أَنْ يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق، أو يقال له: تَزَوَّج. فيقول: كل امرأة أتزوجها فهي طالق. وأما الثاني: فمثل التحليف في أيمان البيعة وغيرها مثل أَنْ يقول: إن فعلت كذا فكل امرأة أتزوجها فهي طالق، أو فكل امرأة أتزوجها إلى ثلاثين سنة فهي طالق.
والآثار المروية عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك إنما هي فيمن عَلَّقَ الطلاق على النكاح؛ فأما الحلف بذلك فلم يَنقل أحد عن الصحابة في ذلك شيئًا، فإنهم لم يكونوا قد اعتادوا الحلف بالطلاق الذي يقع بالاتفاق؛ فكيف بالحلف بالطلاق على الملك؟ والحلف بالطلاق كان نادرًا؛ فكيف بالحلف بنادر النادر؟!
(1)
(ص 424).
وأصحُّ شيءٍ روي في وقوع الطلاق المعلَّق بالملك قول ابن مسعود رضي الله عنه
(1)
، وإنما كان فيمن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق. وكذلك الرواية عن عمر رضي الله عنه مع ضعفها
(2)
، وأما رواية ابن عمر رضي الله عنهما فلم يعرف إسنادها
(3)
، ومن تتبع الآثار المنقولة عن الصحابة رضي الله عنهم في هذا تبين له أنه لم يُنقل عنهم الجواب إلا فيمن علق الطلاق على الملك لا فيمن حلف بالطلاق المعلق بالملك
(4)
.
ولكن لما كان الأمران سواء عند مالك ومن تلقى عنه من شيوخه حيث كان الحلف بالطلاق وإيقاع [116/ ب] الطلاق عندهم سواء، ومالك ــ رحمة الله عليه ــ لم يذكر إسنادًا ولا لفظ الصحابة رضي الله عنهم، وإنما ذكر ما بَلَّغُوه
(5)
أولئك الذين كان الأمران عندهم سواء، فكانوا قد سمعوا عن
(1)
ولفظ ما ورد عنه: سئل ابن مسعود رضي الله عنه عمن قال: إنْ تزوجتُ فلانة فهي طالق. فقال: قد بانت منك امرأتك؛ فاخطبها إلى نفسها.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 420)، وابن أبي شيبة (18143)، والطحاوي في مشكل الآثار (2/ 138)، والعقيلي في الضعفاء (4/ 1281).
(2)
ولفظ ما ورد عنه: أنَّ رجلًا أتى عمر بن الخطاب فقال: كل امرأة أتزوجها فهي طالقٌ ثلاثًا. فقال له عمر: فهو كما قلت.
أخرجها عبد الرزاق في المصنف (6/ 421/ ح 11474). وقد أشار المجيب إلى ضعفها، وذلك من جهة أنَّ أبا سلمة بن عبد الرحمن راوي القصة عن عمر لم يسمع منه.
(3)
تقدم تخريجها في (ص 424)، وهي في الموطأ بلاغًا، ولم يتكلم عليها ابن عبد البر في الاستذكار (18/ 114 وما بعدها).
(4)
انظر ما ورد عنهم في: مصنف عبد الرزاق (6/ 415 وما بعدها)، ومصنف ابن أبي شيبة (9/ 524 وما بعدها).
(5)
كذا في الأصل، وهي لغة (أكلوني البراغيث).
هؤلاء الصحابة أَنَّ مَنْ عَلَّقَ الطلاق بالملك يقع به في الخصوص، فكان هذا كمن عَلَّقَ الطلاق بعدُ بالملك، وهم في الجميع يقولون: من حلف بالطلاق وحنث لزمه الطلاق؛ كما ذكره أبو مصعب
(1)
من أقوالهم في مصنفه الذي صنفه في مذهبهم
(2)
، وهو إجماع المتأخرين من أهل المدينة.
قال أبو مصعب في مختصره: قد أجمع أهل المدينة ودار الهجرة وبلد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقوال في الحلال والحرام لم يختلفوا في ذلك، واختلفوا في أمر فتناظروا فيه وبحثوا عن أصله حتى انتهى بهم الحق إلى ما كتبت في كل باب مما يحتاج إلى علمه؛ فكان من ذلك ما أجمعوا عليه وذكروه من السنة، وذَكره على أبواب الفقه، وذَكَرَ فيه مسائل من الحلف بالطلاق؛ منها: ومَنْ حَلَفَ بالطلاق لا تخرج زوجته إلى أهلها فخرجت إليهم فقد طلقت مكانها ولا ينتظر بذلك بلوغها إياهم، وكذلك لو رَدَّهَا بعد ذهابها لطلقت عليه، وكذلك لو حَلَفَ لا تحج فخرجت وأحرمت من الميقات فهي طالق، وإِنْ رَدَّهَا بعد إحرامها فهي طالق.
فأبو مصعب يذكر مثل هذه المسائل عن أهل المدينة، ومعلوم أَنَّ مراده بذلك أهل المدينة المتأخرون ــ ربيعة وابن هرمز وأمثالهما ــ لا الصحابة ولا أكابر التابعين، فإنَّ مثل هذه المسائل لا يمكن نقلها عن أحد من الصحابة
(1)
هو: أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث القرشي الزهري، الفقيه، قاضي المدينة، ولد سنة (150)، وتوفي سنة (242).
انظر في ترجمته: الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء (ص 62)، ترتيب المدارك (3/ 347)، سير أعلام النبلاء (11/ 436)، الديباج المذهب (ص 30).
(2)
لعله يريد كتابه: (مختصر في قول مالك)، ولم أقف عليه مطبوعًا.
وأكابر التابعين، بل أكثر العلماء يخالفون ما ذكره أبو مصعب في ذلك، وَيَرُدُّونَ ذلك بعد اعتبار النيةِ، وبعدَ اعتبارِ سببِ اليمينِ وناقلها
(1)
ــ عند من يقول بذلك كمالك وأحمد بن حنبل ــ إلى عُرْفِ المتكلم في الخروج إلى أهلها وفي الحج.
ولو حلف لا يصلي ولا يصوم ولا يحج هل يحنث بالشروع؟ فيه نزاع مشهور.
والمقصود: أنه لَمَّا كان مشهورًا عند متأخريهم أَنَّ الحالف كالمُوقِع حتى في الحلف بالنذر كما ذكره مالك في موطئه ولم يذكر في ذلك أثرًا عن أحد من الصحابة، مع أنه من عادته إذا كان في الباب أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أوعن الصحابة ذكره، [117/ أ] بل ويذكر ما روي عن التابعين.
ولَمَّا ذكر قولهم في الحلف بالمشي وصدقة المال والحلف بالطلاق والعتاق ونحو ذلك وأنه يلزمه ما حلف به =لم يذكر في ذلك أثرًا عن أحد من الصحابة كعادته، فدلَّ على أَنَّ ذلك من رأي متأخريهم؛ كربيعة وابن هرمز وأمثالهما
(2)
.
وهذا مما يعلم قطعًا؛ لا سيما في مثل مَنْ حَلَفَ على شيءٍ لا يجزم
(3)
به فإنهم يلزمونه الطلاق وإن ظهر صدقه، كمسألة [في اللوزة حبتين]
(4)
(1)
وضع الناسخ فوق الحرف الأول (ظ)؛ ولعل الصواب: (وباعثها).
(2)
قاعدة العقود (2/ 312).
(3)
في الأصل: (يحرم)، والصواب ما أثبتُّ.
(4)
في الأصل: (الملوذين)، وكتب الناسخ في الهامش (ظ)، ولعل الصواب ما أثبت، حيث ذكر هذه المسألة ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 224، 304). وانظر: النوادر والزيادات (4/ 286)، والتلقين (1/ 127)، والكافي في فقه أهل المدينة (2/ 578).
ونحو ذلك، ومثل هذه المسائل لم ينقلها أَحَدٌ من العلماء لا هم ولا غيرهم عن أحد من الصحابة، بل ولا عن أكابر التابعين = فعلم أنها من الرأي المتأخر الذي ليس إجماعًا يجب اتباعه عند عامة علماء الإسلام من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، حتى أئمة أصحاب مالك فإنهم مُصَرِّحُونَ بأنَّ الإجماع المدني المتأخر ليس بحجة يجب اتباعها على علماء المسلمين
(1)
وكلام مالك يدل على ذلك
(2)
، ولكن كان هذا مشهورًا عندهم، فنقل مالك أقوالهم بحسب ما بَلَّغَهُ هؤلاء ذلك، وهم لا يُفَرِّقون بين الأمرين، فصار هذا كلفظ الحلف والتطليق عند مَنْ يرى أَنَّ كل تعليق حلفًا أو كل تعليق فيه حض ومنع حلفًا وهو تطليق عنده، فلا فَرْقَ عنده بين أَن يُقال بعد وجود الصفة: طَلَّقَهَا أو حَلَفَ بطلاقها وحنث.
وفي عُرْفِ كثيرٍ من العامة يجعلون لفظ الطلاق مطلقًا ولفظ الحلف بالطلاق سواء حتى في الطلاق المنجز، فيقولون لكل مَنْ طَلَّقَ امرأته: حَلَفَ بطلاقها وحنث، ويقولون: حنث فيها بطلقة ونحو ذلك.
ومعلوم أن الصحابة والتابعين لم يكونوا يتكلمون بهذه العبارات والاصطلاحات الحادثة، ولا يجوز نقل مذاهبهم بمثل هذه العادات
(3)
،
(1)
وضع الناسخ في الهامش: (حاشية: ومالك نفسه لم يرى الإجماع المتأخر حجة؛ كذلك قال عبد الوهاب والباجي وغيرهما).
(2)
مجموع الفتاوى (20/ 303 فما بعدها)(28/ 493)، جامع المسائل (5/ 272)، منهاج السنة (5/ 166).
(3)
كذا في الأصل، وربما كان صوابها:(العبارات).
والمنقول المسند عنهم إنما هو فيمن عَلَّقَ الطلاقَ بالملك لا مَنْ حَلَفَ بهذا التعليق ــ كما تقدم ــ.
والنقل المسند عن عمر من وجهين؛ من رواية ابن المسيب عنه، ومن رواية مجاهد؛ وكلاهما إمام ثقة مِنْ أَخْبَرِ الناس بقول عمر أَنَّه كان يُفَرِّقَ بين التعليق الذي يقصد به اليمين، والتعليق الذي يقصد به لزوم الجزاء، وقد رَوَى ذلك أبو داود
(1)
.
وعامة العلماء يحتجون بما ينقله ابن [117/ ب] المسيب عن عمر، ما علمتُ أحدًا من المتقدمين طعن في هذا، وروي أن ابن عمر كان يسأل ابن المسيب عن قضايا عمر
(2)
.
وَمَنْ عَلَّلَ ذلك بأنه مرسل، لكون سعيد لم يسمع من عمر إلا على المنبر = لم يكن له أن يحتج بالإجماعات المرسلة التي ينقلها مثل: أبي ثور ومحمد بن نصر وابن جرير وابن عبد البر وأمثالهم، فإن ذلك نقل عن عمر وحده شيئًا مع قرب العهد، فهؤلاء لو نقلوا قول واحد من الصحابة لم ينبغي أَنْ يُقبل مجرد نقلهم إذا رُدَّ نقل سعيد بن المسيب؛ فكيف إذا نقلوا ما لا يمكن حصره من إجماع العلماء؟
ولم يَنْقُل أحدٌ عن عمر خلاف ذلك كما ثبت مثل ذلك عن حفصة ابنته
(1)
رواية أبي داود من طريق ابن المسيب، وقد تقدم تخريجها (ص 225)، أما ما جاء من طريق مجاهد؛ فقد أخرجه البيهقي في السنن الكبير (20/ 177/ ح 20071) قال: قال عمر بن الخطاب وعائشة في الرجل يحلف بالمشي، أو ماله في المساكين، أو في رتاج الكعبة: إنها يمين يُكفِّرها إطعام عشرة مساكين.
(2)
منهاج السنة (7/ 525).
وزينب وعائشة ولم يَنْقُل أحد عنهن خلاف ذلك إلا ما ذَكَرَ ابن عبد البر عن عائشة بلا إسناد من الفَرْقِ بين الطلاق والعتاق وغيرهما
(1)
، والمأثور عنها بالإسناد خلاف ذلك فلو كان بائنًا لكان قصدًا مثل النقل عن ابن عمر وابن عباس، وأما ابن عمر فنقل عنه هذا وهذا.
وأما قوله: (فهذه الآثار تُبَيِّنُ لنا مذهب ابن عمر، وأنه من القائلين بوقوع الطلاق والعتاق عند الحنث).
فيقال له: إِنْ أردت أَنَّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يُفرق بين الحلف بالطلاق والعتق وبين غيرهما، فهذا لم ينقله أحدٌ عنه لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، ولا نقله نقلًا مرسلًا ولا بلاغًا، وكذلك إِنْ أردتَ أنه كان يوقع الطلاق دون العتق.
وإن أردت أن ابن عمر كان يقول بوقوع الطلاق والعتق كما يقول بلزوم النذر المحلوف به فَيُسَوِّي بين الجميع في اللزوم؛ فلا ريب أَنَّ حديث عثمان بن حاضر إِنْ كان صحيحًا ففيه أنه كان يفتي بلزوم العتق ولزوم النذر جميعًا إذا عَلَّقَه بقصد اليمين، لكن فيه أنه كان يجعل في نذر المال زكاته، وفي نذر ذبح النفس بدنة، وهذا خلاف النقول الثابتة عنه؛ فعنه في المال روايتان أصح من هذا إحداهما: أنه كان يلزم به، والرواية الأخرى أنه كان لا يلزم به ولا بالعتق ولا غيره مما يحلف به، بل يجعل في ذلك كفارة يمين.
فإنْ كان أثر عثمان [118/ أ] صحيحًا، أمكن أن يكون قوله في الطلاق كقوله في العتق والنذر، وتكون فتياه فيمن طَلَّقَ إِنْ خرجت، محتملًا أن
(1)
الاستذكار (15/ 406).
يكون في الحالف، ويحتمل مع هذا أنه كان يفرق بين الحلف بالطلاق والعتق، لكن التسوية أظهر.
فإنْ نَقَلَ مذهبَ ابن عمر على تقدير رواية عثمان بن حاضر وجعلَ ذلك روايةً عنده، فهذا متوجِّهٌ يُسَلَّم ظهوره، ولكن رواية مَنْ روى أنه لا يلزم لا بهذا ولا بهذا بل يجعل فيه كفارة يمين = أثبتُ وأصحُّ باتفاق أهل العلم، وهي المتأخرة كما تقدم.
وحينئذٍ؛ فإذا حُكِيَ قولُهُ على تلك الرواية في الطلاق بالقياس فَيُحْكَى قوله على هذه الرواية بقياس أصح من ذلك، ويكون قوله على أصح الروايتين أنه لا يلزم الطلاق المحلوف به ولا العتق المحلوف به ولا النذر، بل يُجزئ في جميع ذلك كفارة يمين.
وعلى هذا؛ فيكون قولُهُ فيمن طلق امرأته إن خرجت هو فيمن قصد طلاقها عند الصفة لا فيمن قصد الحلف وهو يكره طلاقها؛ فتبين أن النقل عنه بالتكفير للحالف بالنذر والعتاق والطلاق أقوى من لزوم ذلك عنه، وهو الرواية المتأخرة.
وبالجملة؛ فلا تنازع في أنه روي عنه روايتان، لكن الباطل عنه قطعًا التفريق بين الحلف بالطلاق والعتاق وبين الحلف بالنذر، كما ينصره المعترض وأمثاله، ويذكرون عن ابن عمر أو ابن عباس أو غيرهما ما يوهم أنهم قالوا ذلك، وهذا التفريق لم ينقله أَحَدٌ لا نقلًا مرسلًا ولا نقلًا مسندًا، لا عن ابن عمر ولا عن ابن عباس، بل هذا القول مخالفٌ لكل ما نقل بالإسناد عن الصحابة.
ولم أجد أحدًا قط نقل هذا نقلًا مسندًا عن أحد من الصحابة، لكن ابن عبد البر نَقَلَه مرسلًا عن عائشة، والمسندُ عن عائشة في حديث ليلى بنت العجماء أنها جعلت تعليق العتق الذي قصد به اليمين كتعليق النذر، وأفتت في الجميع بكفارة وتعليلها في سائر أجوبتها في التعليق الذي يقصد به اليمين يوافق ذلك، فإنه قد ثبت عنها من غير وجه أنها كانت تجعل التعليق الذي [118/ ب] يقصد به اليمين يمينًا مكفَّرة، وروي عنها ألفاظ عامة توافق ذلك، فَنَقْلُ مذهبها في مثل هذا أولى ــ بلا ريب ــ من نقل مذهبها في قول لم يسنده أحد، ولو قُدِّرَ ثبوته لكان عنها روايتان.
وطائفة من الفقهاء ذكروا قول عائشة مسندًا
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم واحتجوا به، منهم: الشيخ أبو حامد والماوردي والقاضي أبو الطيب والقاضي أبو يعلى وأبو الخطاب.
قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: وروي عن عائشة أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن حلف أَنْ يجعل ماله في رتاج الكعبة أو في سبيل الله أو في المساكين: «إنما هي كفارة يمين»
(2)
. قال أبو حامد: وهذا نص.
(1)
أي: مرفوعًا، لا أنه بإسناد متصل، فليس من عادة من ذكرهم من الفقهاء ذكر أسانيد ما يذكرونه من الأحاديث والآثار.
انظر: معرفة أنواع علم الحديث (ص 114)، وفتح المغيث (1/ 132)، تدريب الراوي (1/ 199).
(2)
لم أجده مسندًا، وقد ذكره ابن قدامة في المغني (13/ 462) ولم يعزه؛ وقد تقدَّم هذا عنها موقوفًا. وسيأتي كلام المجيب حول عدم ثبوته مرفوعًا.
وكذلك قال الماوردي
(1)
: روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ حلف بالمشي أو الهدي أو جعل ماله في سبيل الله أو في المساكين أو في رتاج الكعبة؛ فكفارته كفارة يمين» .
وقال القاضي أبو الطيب والقاضي أبو يعلى وأبو الخطاب: روى إسماعيل بن أبي زياد
(2)
في تفسير القرآن عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك.
ومعلومٌ أن هذا النقل أجود من النقل عنها أنها كانت تُفَرِّقُ بين الطلاق والعتاق وغيرهما، فإنَّ ذاك لم يُذكر له إسناد، ولا عُزِيَ إلى كتاب، وهذا فيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سمى هذا التعليق حلفًا، وأوجب فيه كفارة يمين؛ ومع هذا فنحن لم نعتمد على هذا، لأنه ليس بثابت عند أهل العلم بالحديث، والمعروف عندهم أَنَّ هذا من كلام عائشة لم ترفعه.
وأضعف منه ما رواه ابن حبيب: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تحلفوا بالطلاق ولا بالعتاق، فإنهما مِنْ أيمان الفُسَّاق»
(3)
فهذا في غاية السقوط.
(1)
الحاوي (15/ 458) ثم قال: وهذه الأخبار كلها نصٌّ، ولأنه بانتشاره عن سبعة من الصحابة لم يظهر خلافهم إجماع لا يجوز خلافه.
(2)
هو إسماعيل بن أبي زياد الشامي، قاضي الموصل، له كتاب في التفسير، وقد تُكُلِّم فيه بكلامٍ كثيرٍ، حتى وصف بالدجل والكذب!
الإرشاد في معرفة علماء الحديث (1/ 390)، تاريخ الإسلام (4/ 581)، إكمال تهذيب الكمال (2/ 173)، لسان الميزان (2/ 126).
(3)
لم أجده.
قال السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 273): ولم أقف عليه، وأظنُّه مدرجًا، فأوَّله وارد دونه.
وقال البرزالي في فتاويه (2/ 122): فعن ابن حبيب في واضحته أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كتبَ كتابًا بُثَّ فيه في الأمصار: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي رسول الله إلى ورثة الأنبياء وإلى الناس وأشباه الناس. أما بعد: لا تحلفوا بالطلاق ولا بالعتاق؛ فإنهما من أيمان الفسَّاق» . فقيل: يا رسول الله! مَنْ ورثة الأنبياء؟. قال: «أهل الحواضر» . قيل: مَنْ أشباه الناس؟ قال: «أهل البوادي» .
وقال ابن العربي في الرسالة الحاكمة (ص 69): هذا حديث باطل موضوع، ليس له إلى الصدق رجوع، ولا له عليه وقوع، وإن كان قد ذكره من يقتدى به، ولكن ممن ليس له بالحديث بصر، ولكل علم رجاله، وعند الله مقدار الكل وحاله.
وقال الدسوقي في حاشيته (4/ 181): وهذا الخبر ذكره ابن حبيب في الواضحة، ولا يُعرف في كتب الحديث المشهورة.
وعزاه إلى ابن حبيب: ابن رشد في البيان والتحصيل (9/ 325)، وابن عليش في منح الجليل (8/ 434) وغيرهما.
وانظر: كشف الخفاء (2/ 52)، الجد الحثيث (ص 133).
وابن حبيب مع براعته في العلم والفقه، وكثرة ما يرويه من الآثار، فإنه قليل المعرفة بالحديث، فكثيرًا ما يحتج بآثار ضعيفة بل موضوعة، وبعض الناس يطعن فيه نفسه، والرجل جليل القدر، لكنه كان يتناول الكتب من شيوخه كأسد بن موسى وغيره ويقول: فيها حدثنا وأخبرنا، وقد يغلط؛ [119/ أ] وأما تعمد الكذب ــ كما ترميه به طائفة مثل ابن حزم وغيره ــ= فهذا بعيدٌ جدًا من مثله
(1)
.
(1)
انظر: الإلماع للقاضي عياض (ص 108 - 109)، ترتيب المدارك (4/ 123، 127)، 129 وما بعدها مهم)، بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس (ص 377)، سير أعلام النبلاء (12/ 102)، فتح المغيث (2/ 187)، التنكيل (2/ 551).
وانظر ما تقدم (ص 260).
وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها بالإسناد المرضي أنها سُئِلَت عَمَّن جعل ماله في المساكين أو في رتاج الكعبة إِنْ فعل كذا فقالت: يكفر يمينه. وفي لفظٍ: هي يمين يكفرها ما يكفر اليمين.
وهذا معروفٌ من حديث منصور بن عبد الرحمن الحُجُبِي، عن أمه صفية بنت شيبة عنها. رواه مالك
(1)
والثوري
(2)
ويحيى بن سعيد
(3)
، وثبت ذلك عنها ــ رضوان الله عليها ــ من حديث عطاء ــ أيضًا ــ، كما رواه شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن عطاء، عن عائشة رضي الله عنها في رجل جَعَلَ ماله في المساكين صدقة قالت: كفارة يمين. رواه البيهقي وغيره
(4)
.
وروى الأثرم عن أبي نعيم: حدثنا حسن ــ يعني: ابن صالح ــ، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة قالت: مَنْ قال: مالي في ميزاب الكعبة وكل مالي فهو هدي وكل مالي في المساكين؛ فليكفر يمينه
(5)
.
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسْأَل عن رجل قال: ماله في رتاج الكعبة. فقال: كفارة يمين، واحتج بحديث عائشة
(6)
.
(1)
في الموطأ (1/ 617).
(2)
أخرج روايته عبد الرزاق في مصنفه (8/ 483).
(3)
أخرج روايته البيهقي في السنن الصغير (4/ 109).
(4)
أخرجها البيهقي في السنن الكبير (20/ 171/ ح 20061).
(5)
أخرجه الطبري ــ كما تقدم (ص 215) ــ، وقد ساق المجيب إسناد الأثرم في مجموع الفتاوى (35/ 255)، والفتاوى الكبرى (4/ 118)، والقواعد الكلية (ص 463).
(6)
ذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى (35/ 254)، والفتاوى الكبرى (4/ 118)، والقواعد الكلية (ص 462).
وكذلك الشافعي ذَكَرَ أنه مذهب عائشة وعددٍ من الصحابة وعطاء، وأنه القياس؛ أَنَّ هذا من باب الأيمان المكفَّرَة لا من باب النذور اللازمة
(1)
.
وروى البيهقي
(2)
بإسناده إلى قتيبة: حدثنا حبيب، عن العوام، عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب وعائشة في الرجل يحلف بالمشي أو ماله في المساكين أو في رتاج الكعبة: إنها يمين يكفرها إطعام عشرة مساكين.
وروى مالك
(3)
: عن هشام بن عروة، عن أبيه.
ورواه البيهقي وغيره
(4)
من طريقه أَنَّ عائشة كانت تقول: أيمان اللغو ما كان في المِرَاء والهزل وَمُزَاحَةِ الحديث الذي لا يعتمد
(5)
عليه القلب، وإنما الكفارة في كل يمين حلفتَها على جِدٍّ من الأمر، في غضب أو غيره؛ لتفعلنَّ أو لتتركنَّ، فذلك عَقْدُ الأيمان التي فرض الله فيها الكفارة.
فقولها: وإنما الكفارة في كل يمين حلفتَها، مع تصريحها بأن التعليق الذي يقصد به اليمين هو يمين مكفرة = يدل على دخول ذلك في كلامها.
وقد روي عنها دخول العتق بعينه ــ أيضًا ــ [119/ ب] في الأيمان المكفرة من وجهين:
(1)
الأم (3/ 656)، ونقله عنه: البيهقي في السنن الكبير (20/ 171)، وفي معرفة السنن والآثار (14/ 190).
(2)
في السنن الكبير (20/ 177/ ح 20073).
(3)
لم أجده في روايات الموطأ التي بين يدي، وقد رواه البيهقي من طريق روح بن عبادة، عن مالك به.
(4)
أخرجه البيهقي في السنن الكبير (20/ 120/ ح 19961).
(5)
كذا في الأصل، وفي السنن الكبير:(يعقد).
أحدهما: حديث ليلى بنت العجماء من رواية أشعث.
والثاني: ما رواه ابن أبي حاتم في كتاب التفسير له
(1)
: حدثنا أبي، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن عطاء قال: جاء رجلٌ إلى عائشة، فقال: يا أم المؤمنين! إني نذرت إِنْ كلمتُ فلانًا، فإنَّ كل مملوك لي عتيق لوجه الله ــ تعالى ــ وكل مالي
(2)
سِتْرٌ للبيت. فقالت: لا تجعل مملوكيك عتقًا لوجه الله، ولا تجعل مالك سترًا للبيت، فإنَّ الله يقول:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} الآية [البقرة: 224]. قالت: تُكَفِّر عن يمينك.
وهذا الإسناد كلهم ثقات مشاهير إلا يحيى بن سلمة فإنَّ فيه ضعفًا، وهو ممن يكتب حديثه ويعتضد به لا ممن يحتج به إذا انفرد. قال أبو أحمد بن عدي
(3)
: وهو مع ضعفه يكتب حديثه.
ومعلومٌ أَنَّ هذين الإسنادين عن عائشة في العتق المحلوف به مع عموم كلامها وتعليلها أولى أَنْ يُحكى عنها من روايةٍ لا يُعرف لها إسناد لا صحيح ولا ضعيف.
وقد تبين بهذا: أنه ليس عن ابن عمر ولا عن ابن عباس نقلٌ أصلًا
(4)
بالفرق بين الطلاق والعتاق وغيرهما، ولا نقل ذلك عن أحد من الصحابة إلا
(1)
(2/ 406/ ح 2144).
(2)
في التفسير: (مالٍ لي).
(3)
في الكامل (7/ 197).
(4)
في الأصل: (أصل)، والصواب ما أثبتُّ.
رواية مرسلة عن عائشة روي عنها مسندًا ما هو أثبت منها، وعموم كلامها المعروف عنها يناقضها.
وتبين بهذا أَنَّ قول المعترض: فهذه الآثار الثلاثة تبين لنا مذهب ابن عمر، وأنه من القائلين بوقوع الطلاق والعتاق المحلوف به = تلبيسٌ وغلطٌ.
أما التلبيس: فإنَّ هذا يوهم أن ابن عمر كان يُفَرِّق بين الحلف بالطلاق والعتاق وبين النذر، وهذا لم ينقله أحد عن ابن عمر لا مرسلًا ولا مسندًا، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، بل المنقول عنه التسوية بين الحلف بالعتق والنذر إما في تكفير الجميع وإما في لزوم الجميع، فالمفرقون مخالفون لابن عمر على كل قولٍ، كما هم مخالفون لغيره من الصحابة.
وأما الغلط: فإنَّ هذا غايته أَنْ تكون رواية عن ابن عمر، والرواية الثانية عنه: أنه كان يأمر بالتكفير في الحلف بالعتق، وهو قد جعل مذهبه أنه يقع العتاق والطلاق المحلوف به قولًا واحدًا، فهو غالط؛ بل كاذب عليه.
* * * *
[120/ أ] فصلٌ
وأما قوله: (وترجمة البخاري لا تشير إلى تأويل لأثر ابن عمر بخلاف أثر ابن عباس، فكيف يجعل أثر ابن عباس القابل للتأويل القريب من هذا الباب وأثر ابن عمر الصريح أو كالصريح [فيه ليس منه]؟ ولكن الميل إلى مذهبٍ يَصُدُّ عن النظر فيما سواه)
(1)
.
فيقال له: هذا كما يقال في المثل: (رمتني بدائها وانسلت)
(2)
،
فإنَّ المجيب لم يكن هذا القول مما تربى عليه، ولا له فيه غرض يميل لأجله إليه، بل كان يعتقد خلافه ويفتي دائمًا بخلافه، لكن لما نظر ورأى الحق لم يجز له أن يقول خلاف ما تبين له، والله ــ سبحانه وتعالى ــ يعلم وعباده المؤمنون الذين هم شهداء الله في الأرض أنه لم يمل
(3)
إلى قول إلا قصدًا لاتباع الحق الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة قيام الحجة به، وإيجاب الله ورسوله عليه ألا يقول على الله إلا الحق، وأن يرد ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول؛ بخلاف مَنْ تربى على قول تَقَلَّدَه أولًا بلا حجة، ثم لما نوزع فيه أخذ يلفق حججًا لم يذكرها أصحابه الذين هم أحق بمعرفة تلك الحجج لو كانت صحيحة، بل يحتج له بمنقولات لا دلالة في شيء منها، وبأقيسةٍ
(1)
«التحقيق» (41/ أ)، وما بين المعقوفتين منه.
(2)
جمهرة الأمثال (1/ 387)، مجمع الأمثال (1/ 286).
وكثيرًا ما يذكر المجيب هذا المثل فيمن يصنع كصنيع المعترض؛ انظر: مجموع الفتاوى (5/ 340)، درء تعارض العقل والنقل (10/ 242)، شرح حديث النزول (ص 96)، منهاج السنة (1/ 68)(7/ 276)، الإخنائية (ص 398).
(3)
في الأصل: (يميل)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
ومعانٍ
(1)
هي أضعف في الحجة من تلك المنقولات التي لا حجة فيها، فليس معه دلالة لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع الأمة المعلوم ولا من قياس صحيح، بل معه ظن كاذب للإجماع، وظنٌّ مخطئ في معرفة مسمى الطلاق والعتاق والنذر والظهار، والفَرْقِ بينَ هذه الأمور وبين مسمى اليمين؛ حيث أخرجَ ما هو يمين عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم وجمهور السلف عن كونه يمينًا وجعله عتقًا ونذرًا وطلاقًا.
وأما قوله: (ترجمة البخاري لا تشير إلى تأويل أثر ابن عمر بخلاف أثر ابن عباس).
فيقال: هو لا يشير إلى تأويل لا لهذا ولا لهذا، بل البخاري ذكر كلًّا منهما مقرًّا له على ظاهره.
وأما قوله: (كيف يجعل أثر ابن عباس القابل للتأويل القريب من هذا الباب وأثر ابن عمر الصريح أو كالصريح ليس منه؟).
فيقال له: بل أثر ابن عباس رضي الله عنهما هو الصريح في مدلوله، وأما أثر ابن عمر رضي الله عنهما [120/ ب] فهو المحتمل، بل كونه غير يمين أظهر من كونه يمينًا.
فإنَّ قول ابن عباس بَيِّنٌ في الحصر، وأنه عنده لا طلاق إلا عن وطر ولا عتق إلا ما ابتغي به وجه الله، ولو حمل على أنه لم يرد الحصر بل أراد أنَّ الطلاق يكون عن وطر وغير وطر، والعتق يكون مما ابتغي به وجه الله ويكون بخلاف ذلك= لم يكن في هذا الكلام فائدة، ولم يكن لحكاية
(1)
في الأصل: (معاني)، والصواب ما أثبتُّ.
البخاري له في الترجمة معنى.
فإنَّ البخاري ذكر في هذا الباب ما يدل على أَنَّ القصد معتبر في الطلاق، فلا يقع طلاق السكران والمكره والناسي وطلاق الإغلاق، وهذا إنما يناسب ذكر قول ابن عباس إذا كان مراده الحصر.
وأما أثر ابن عمر؛ فالاحتمال فيه ظاهر، لا ينازع فيه عاقل يفهم الفرق بين من يقصد بالتعليقِ الإيقاعَ تارةً واليمينَ أخرى.
وهذا المعترض لَمَّا لم يفهم هذا الفرق، وجعل الجميع يمينًا عند المجيب، وظنه أنه لا يخرج عن اليمين إلا التعليق الذي ليس فيه حض ولا منع كالتعليق بطلوع الشمس = صار أثر ابن عمر عنده صريحًا أو كالصريح، ونحن نُسَلِّم له أنه صريح أو كالصريح في التعليق الذي يقصد به المنع من الخروج.
فإنَّ قولَ نافعٍ: (طَلَّقَ رجلٌ امرأته البتة إِنْ خَرَجَتْ)؛ يقتضي أنه عَلَّقَ طلاقها بالخروج، وهذا لا يكون في العادة إلا إذا كان مانعًا لها من الخروج، لكن مع هذا: قد يريد طلاقها إذا خرجت فيكون مطلقًا، وقد يكون يكره الطلاق وإن خرجت فيكون حالفًا.
ومعلومٌ أَنَّ الناس تارة يقصدون هذا وتارة يقصدون هذا، والغالب على أهل زماننا قصد اليمين، وأما في زمن الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ فكان الغالب عليهم قصد الإيقاع عند الصفة، كما نُقِلَ مِثْلُ ذلك عن غير واحد من الصحابة في تعاليق متعددة يراد بها الإيقاع عند الصفة وإن كان فيها حض أو منع.
ومما غَلَّطَ المعترضَ: ظَنُّهُ أَنَّ الحالف يريد الطلاق والعتاق والنذر عند الصفة، ولهذا قال: (وقوله: إِنَّ الحالف ليس له وطر في الطلاق ولا في العتق؛ ممنوعٌ، بل هو قاصد للطلاق على تقدير وقوع شرطه، فإنَّ ذلك [121/ أ] مقتضى الربط الذي رَبَطَ بين
(1)
الشرط وجزائه؛ نعم
(2)
مقصوده ألا يقع الشرط، وذلك لا يمنع من قصد وقوع المشروط على تقدير وجود الشرط)
(3)
.
فيقال له: الغلطُ في هذا الموضع هو من أعظم ما أوقع المعترض ونحوه في التسوية بين تعليق اليمين وتعليق الإيقاع، وما ذكره مما يَعْلَمُ فسادَهُ جميعُ الناس إذا رجعوا إلى ما يجدونه في أنفسهم عند قصد اليمين وما يعلمونه من غيرهم.
فإنَّ الناس يعلمون أَنَّ المعلِّق إذا قال: إِنْ سافرتُ معكم، إِنْ كلمتُ فلانًا، إِنْ زَوَّجْتُهُ ابنتي؛ فكل نسائي طوالق وعبيدي أحرار ومالي صدقة وعليَّ ثلاثون حجة وصيام عشرة أعوام وأنا يهودي ونصراني وبريءٌ من الإسلام وقطع الله يدي ورجلي ولا أماتني على الإسلام ولا خَتَم لي بخير وذبح أولادي على صدري، وقد يقول: إِنْ غلبتني ركبتني، وإِنْ غلبتني أكون مخنثًا، أو أكون ولد زنا إِنْ لم أفعل كذا، أو لست ابن فلان إن لم أفعل كذا ونحو ذلك وأمثال ذلك مما يُعلِّقه على الفعل الذي منع منه نفسه وعَلَّقَ به هذا الجزاء يقصد به اليمين، فإنه يعلم من نفسه والناس يعلمون منه أنه لا
(1)
في الأصل: (من)، والمثبت من «التحقيق» .
(2)
في الأصل: (يَعُمُّ)، والمثبت من «التحقيق» وما سيأتي في (ص 461).
(3)
«التحقيق» (41/ أ).
يريد قط أن يهلكه الله ولا أَنْ يميته على غير الإسلام ولا أن يختم له بالشر ولا أن يقطع يديه ورجليه ويذبح أولاده على صدره ولا أن يخرج عن ماله ولا يبقى له مملوك ولا امرأة ولا أَنْ يبقى في ذمته ثلاثون حجة وصيام ثلاثة أعوام وأمثال ذلك مما يُعلِّقه بالفعل.
فالناس كلهم يعلمون علمًا يقينًا من أبلغ العلوم الضرورية أَنَّ المعلق هذا التعليق لا يريد أَنْ يحصل له هذا الشر العظيم والضرر الزائد على الحد الذي لا يقصده قط أَحدٌ لنفسه سواء وجد الشرط أو لم يوجد.
فمن قال: إنَّ هذا قاصد لهذه اللوازم ــ الطلاق وما معه ــ على تقدير وجود الشرط؛ فهو ضالٌّ ضلالًا مبينًا يعرفه جميع الناس، وهو يخبر عما في قلوب بني آدم ونفوسهم بنقيض ما يعلمونه ويجدونه في قلوبهم ونفوسهم، وما يعلمونه من غيرهم أيضًا.
وإذا انتهى البحث إلى هذا؛ كان صاحبه مسفسطًا [121/ ب] إما جهلًا وإما عمدًا، وليس من شرط السفسطة أَنْ يتعمد الكذب، بل من أنكر الحقائق المعلومة للناس علمًا ضروريًا فهو سوفسطائي
(1)
.
فمن قال: إِنَّ الجائع والعطشان لا يجد أَلَمًا، والآكل والشارب لا يجد
(1)
ذكر ابن تيمية في الرد على المنطقيين (ص 374) أنَّ السفسطة لفظةٌ معربةٌ من اليونانية أصلها (سوفسطيا) أي: حكمةٌ مموهةٌ، فلمَّا عُرِّبَت قيل (سفسطة).
وتكلَّم ابن تيمية في مواضع من كتبه عن أصل السفسطة وأنواعها وما يتعلق بها؛ فانظر ذلك في: مجموع الفتاوى (13/ 151)(19/ 144)، الفتاوى الكبرى (6/ 365)، بيان تلبيس الجهمية (3/ 450 - 451)، الصفدية (1/ 98)(2/ 323)، منهاج السنة (1/ 231، 242)(2/ 525)(7/ 464 - 465)، درء تعارض العقل والنقل (5/ 130).
لَذَّةً فهو مسفسط، ومن قال: إن الإنسان لا يكون قط مريدًا للنكاح والطلاق فهو مسفسط، ومن قال: إن كل مَنْ عَلَّقَ الطلاق بصفة لا يريد إيقاع الطلاق عند الصفة فهو مسفسط، ومن قال: إن كل من قصد بتعليقه اليمين فهو مريد للطلاق والعتاق والنذر والدعاء على نفسه بالشرور العظيمة وسائر ما علقه بالشرط، كما يريد ذلك إذا لم يكن قصده اليمين= فهو مسفسط.
فإنه من المعلوم بالضرورة أَنَّ المعلق الذي يقصد الحض والمنع تارة يريد وقوع الجزاء عند الشرط وتارة يكره ذلك مطلقًا، وهذا الثاني هو الحالف دون الأول؛ فالحالف لا يريد الشرط ولا يريد الجزاء وإن وجد الشرط، بل هو كارهٌ للجزاء ممتنع من قصد إيقاعه وجد الشرط أو لم يوجد، وإنما عَلَّقَهُ مع امتناعه من وقوعه لئلا يقع إذا وقع الشرط، والفرق ظاهر بين أن يقصد وقوعه إذا وقع الشرط وإِنْ كره الشرط وبينَ ألا يقصد وقوعه بحال، بل لا يقصد إلا عدم الشرط، فلا يقصد لا الشرط ولا الجزاء.
والحالف لا يكون حالفًا إلا إذا لم يرد لا هذا ولا هذا، وأما إذا لم يرد الشرط وهو يريد الجزاء بتقدير وجود الشرط؛ فهذا مُوْقِعٌ ليس بحالف.
وحينئذٍ؛ فيعلم بالاضطرار أن الحالف ليس له وطر في الطلاق والعتاق، كما أنه ليس له وطر أن يدعو الله ألا يختم له بخير وأن يقطع يديه ورجليه ويذبح أولاده على صدره، وليس له وطر في أَنْ يخرج من جميع أهله وماله فيبقى لا زوجة له ولا مملوك ولا مال ينتفع به، بل يكون قد وتر أهله وماله، ومع ذلك ففي ذمته عبادات لا يطيقها مثل: ثلاثين حجة وصوم عشرة أعوام وأمثال ذلك.
فمعلومٌ أنه ليس له وطر في أَنْ تزول عنه نعمة الله في دينه ودنياه، ويحل به بأس الله في دينه ودنياه، فإذا لم يبق له زوجة [122/ أ] ولا مملوك ولا مال زالت عنه نعم الله في دينه ودنياه، وإذا مات على الكفر فقد زالت عنه نعمة الله في دينه ودنياه، وإذا كان مع ذلك قد قطع الله يديه ورجليه وأهلكه وذبح أولاده على صدره وزنا بأمه في كعبة المسلمين ونحو ذلك من الأمور المفسدة لدينه ودنياه = فنحن نعلم أنه ليس له وطر في هذا قطعًا، فَعُلِمَ قطعًا أَنَّ الحالفَ بالطلاق ليس له وطر في الطلاق، وأَنَّ قولَ ابن عباس: الطلاق عن وطر؛ يُبيِّن أن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق عند ابن عباس رضي الله عنهما.
وقول القائل: (بل هو قاصد للطلاق على تقدير وقوع شرطه فإنه مقتضى الربط).
فنقول: نحن لا نسلم أَنَّ مقتضى الربط وقوع الطلاق، وأن الحالف قصد الربط والتعليق، لكن فَرْقٌ بين قصد الربط والتعليق وبين قصد وقوع الجزاء المعلق، فإنه قَصَدَ الربط والتعليق للكفر ودعاءه على نفسه بالعظائم وخروجه من أهله وماله وأمثال هذه اللوازم، ولم يقصد وقوع هذه المعلقات المربوطة بالفعل مع قصد الربط = هو ممتنع غاية الامتناع من قصد هذه التعليقات، كارهٌ غاية الكراهة لوقوعها وإنْ وجد الشرط، وقَصْدُهُ بربطها وتعليقها أن تكون لازمة للفعل الذي قَصَدَ منع نفسه منه ليمنعه هذا الربط من ذلك الفعل، لامتناعه هو وكراهته من الجزاء المعلق اللازم، وإذا كان كارهًا ممتنعًا من اللازم= صَار كارهًا ممتنعًا من الملزوم، فهذا هو مقصوده بالربط والتعليق؛ لم يقصد قط أن يوجد اللازم المعلق سواء وجد الملزوم أو لم يوجد، بل إنما جعله لازمًا حين كان كارهًا ممتنعًا من الملزوم الذي هو الشرط.
وإذا جعله لازمًا مع كراهته للملزوم ومع كراهته للازم وإن وجد الملزوم = لم يجب أن يكون قد أراده إذا وجد الملزوم، فإنه في حال كونه كارهًا للازم كراهة تامة مانعة من قصد الفعل لا يكون مريدًا له، وهو كاره له كراهة تامة وإن وجد الملزوم أو لم يوجد، فلا يكون مريدًا له إذا وجد الملزوم.
وإذا قيل للحالف الذي قال: إِنْ سافرتُ معكم فعل الله بي [122/ ب] كذا وكذا؛ أتريد إذا سافرت معهم أن يسلبك الله نعمته عليك في الدين والدنيا ويعذبك بهذه اللوازم؟
لقال: لا والله؛ ما أريد ذلك قط، سافرتُ أو لم أسافر، لكن جعلت هذه الأمور التي لا أريدها قط لازمةً للسفر لئلا أسافر، فليس قصدي إلا منع نفسي من السفر، ووكدت ذلك بالتزام هذه المكروهات العظيمة الكراهة التي يمتنع أن أريدها على تقدير الفعل، لِأَنْ أَمتنع بذلك من ذلك التقدير، ولاعتقادي أَنَّ ذلك التقدير لا يقع، ولو اعتقدت أن ذلك التقدير يقع لم ألتزم هذا، ولم أجعل هذا لازمًا له.
والقائل قد يلتزم على التقدير الممتنع ما لا يقصده البتة، بل ما يمتنع كونه في خبره وفي إنشائه؛ ففي الخبر كقوله:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فهو جعل الفساد لازمًا للآلهة ليخبر بوجود الفساد بتقدير وجود الآلهة؛ فإن هذا التقدير ممتنع، فلا يكاد يتصور أَنْ يكون ليكون عنده الفساد، بل المقصود: نفي هذا وهذا؛ أي: فلا فساد فيهما، فليس فيهما إله غير الله.
وقد قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]، وقال:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] مع علمه تعالى أن أنبياءه معصومون من الشرك، فالمعلِّق للجزاء بالشرط إذا كان مخبرًا وقصده نفيهما، أو كان منشئًا وقصده عدمهما = لا يكون قصده أَنْ يقع الجزاء البتة إذا كان منشئًا، ولا قصده أَنْ يخبر بوقوعه البتة إذا كان مخبرًا، بل المخبر
(1)
يعلم أنه منتف في نفس الأمر لا يقع بحال، فلا يقع الفساد ولا يقع شرك الأنبياء ولا يقع عَوْدُ الكفار إلى ما نُهوا عنه، لأنَّ الشرط لا يقع فلا يقع الجزاء المعلق به، وإن كان مضمون التعليق أنه لو وقع الشرط لوقع الجزاء، لكن مع هذا التعليق فهو مخبر بعدم الشرط، ومع إخباره بعدمه لا يكون مخبرًا بثبوت الجزاء البتة.
كذلك المعلِّق بقصد اليمين هو ينشئ التعليق لقصد ألا يكون الشرط، وَجَعَلَ الجزاء اللازم الذي لا يقصد وقوعه البتة لازمًا لوجود الشرط لئلا يكون الشرط، لم يقصد [123/ أ] وجود الشرط بحال، ولا قصد إذا وجد أن يكون الجزاء، بل الجزاء مكروه له على كل حال، بخلاف من يكره الشرط ولا يكره الجزاء إذا وجد، كما لو قال: إِنْ خرجتِ من داري بغير إذني أو سرقتِ مالي أو زنيتِ أو ضربتِ أمي أو ابني فأنتِ طالق، وهو يقصد إذا فَعَلَت هذه الذنوب أَنْ يطلقها، فإنَّ هذا ليس بحالف، بل هو ناهٍ لها عن هذه الأفعال، وتوعدها بوقوع الطلاق إذا فعلتها.
وقد يتوعدها بإيقاع الطلاق كما لو قال: إِنْ فعلتِ كذا فلأطلقنَّك أو لله
(1)
في الأصل: (المخير)، وما أثبتُّ هو الصواب.
عليَّ أَنْ أطلقك، لكن هذا التزام لأن يطلقها، والطلاق لا يلزم بالنذر والالتزام، فإنْ شاءَ طَلَّقَ وإن شاء لم يطلق، لكن قد يكون عليه كفارة يمين إذا نذر أن يفعله ولم يفعله، وإِنْ حلف ليفعلنه ولم يفعله.
وقد يتوعدها بوقوع الطلاق فيقول: إِنْ فعلتِ كذا فأنت طالق، فالوعيد هنا وقوعه لا قصد إيقاعه، كما في قوله:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] فالوعيد هنا: حبوط العمل؛ فمتى أشرك ومات مشركًا حبط عمله لا محالة، ليس هذا من الوعيد الذي يمكن إيقاعه وعدم إيقاعه، كذلك الطلاق المعلق إذا جعله عقوبة لها إذا خالفت فقال: إِنْ خالفتني فأنت طالق، فهنا إذا وجد الشرط وقع الطلاق الذي قصده عند الشرط، وإن كان كارهًا له عند عدم الشرط، وإن كان كارهًا للشرط.
فهذه الصور وما أشبهها يسلمها المجيب أنه يقع بها الطلاق خلافَ ما ظَنَّ المعترض عليه أنه يجعل هذه أيمانًا مكفرة، فإنَّ أحدًا من المسلمين لم يجعل هذه أيمانًا مكفرة، ومَنْ حكى إجماع العلماء على عدم الكفارة في الطلاق فكلامه صحيح في هذا وأمثاله، فإنَّ الطلاق المنجز لم يقل أحد أن فيه كفارة، وكذلك المعلَّق إذا قصد إيقاعه عند الشرط لم يقل أحد إنَّ فيه كفارة.
وإنما النزاع فيما إذا كان قصده اليمين، وهذا لا بُدَّ أن يكون كارهًا للجزاء وإن وجد الشرط، وهو ــ أيضًا ــ كاره للشرط، فيجتمع في الحال كراهةُ كلٍّ من الشرط ومن الجزاء، [123/ ب] بخلاف الموقِع فإنه لا يكره وقوع الجزاء عند الشرط بل يريده، وإن كانت نفسه تبغض الطلاق لكنه يريده عند الشرط، كما يريد تنجيز الطلاق وإن كانت نفسه تبغضه لأمرٍ
أوجب له أن يريد الطلاق ويرجح إرادته على عدم إرادته، لكون المكروه الذي يحصل به مع الطلاق أهون عليه من المكروه الذي يحصل إذا لم يُطَلِّق، مثل أَنْ يكون طلاقه إياها أهون عليه من مقامه مع بَغِيٍّ ومفسدةٍ لمالِهِ ودينِهِ وعرضِهِ ونحو ذلك، وإن كانت نفسه تحبها.
وهذا الطلاق المعلَّق إذا قصد وقوعه عند الصفة؛ قد قال بعض الناس: إنه لا يقع، لكن لم يقل أحد إن فيه كفارة إذا لم يقع، بخلاف ما [لا]
(1)
يقصد وقوعه وإنما عُلِّقَ لقصد اليمين؛ فهذا فيه الأقوال الثلاثة: هل يقع، أو لا يقع ولا كفارة فيه، أو لا يقع وفيه الكفارة؟
ولَمَّا كانت الكفارة إنما تلزم في بعض صور الحض والمنع لا في سائر صور الحض والمنع ولا في غير ذلك من صور التعليق = خَفِيَ حكمها على كثير من العلماء، فإن أكثر تعليقات الطلاق لا كفارة فيها باتفاق العلماء، وإنما يقع في التعليق الذي يقصد به اليمين، وهو أن يكون الشرط مكروهًا والجزاء مكروهًا.
وبهذا يظهر أَنَّ قول المعترض: (نعم
(2)
مقصوده ألا يقع الشرط، وذلك لا يمنع من قصد وقوع المشروط على تقدير وجود الشرط)
(3)
كلامُ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ لم يقصد الشرط فهو حالف، وأنه يقال فيه بالكفارة، وليس الأمر كذلك، بل الحالف هو الذي لا يقصد الشرط ولا يقصد الجزاء وإن وجد
(1)
إضافة يقتضيها السياق.
(2)
انظر ما تقدم في (ص 454).
(3)
«التحقيق» (41/ أ).
الشرط، فإنْ قَصَدَ وجود المشروط ــ الذي هو الجزاء ــ على تقدير وجود الشرط = فليس بحالف، لم يقل المجيبُ أَنَّ مجردَ قَصْدِ عدم الشرط مانعٌ من قصد المشروط، بل قد ذَكَرَ في غير موضعٍ من كتبه أن الذي لا يقصد الشرط تارة يقصد المشروط فيكون موقعًا لا حالفًا، وتارة لا يقصده فهذا هو الحالف، فمع عدم قصد [124/ أ] الشرط يكون حالفًا تارة وموقعًا أخرى
(1)
.
لم نقل إِنَّ عدم قَصْدِ الشرطِ مستلزمٌ لعدم قصد الجزاء، كما يظنه هذا الغالط الذي بنى كلامه على هذا الأصل الفاسد، وجعل ما نُقِلَ عن الصحابة والتابعين في وقوع الطلاق عند كل شرط يقصد عدمه = يقتضي أَنَّ اليمين لا كفارة فيها، بل جعل ما يُعَلَّقُ من الوعيد وغيره لكون المعلِّق قَصَدَ ألا يكون الشرط = موجبًا أن يكون الوعيد من الأيمان المكفَّرة عند من يقول: إِنَّ تعليق النذر والطلاق والعتاق تارة يكون يمينًا وتارة يكون إيقاعًا، وإذا كان يمينًا فهو يمين مكفَّرة في أظهر القولين، وهو الثابت عن الصحابة وجمهور التابعين وأكثر العلماء، وقيل: بل لغو، فلما ظَنَّ هذا الغالط أَنَّ المناط الذي جعله هؤلاء يمينًا هو مجرد عدم قصد الشرط = صار يُدْخِلُ في ذلك كُلَّ من لم يقصد الشرط وإن كان مُتَوَعِّدًا وإنْ كان مُطَلِّقًا.
ولو تدبر كلام الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ والتابعين وسائر العلماء الذين فَرَّقُوا بين التعليق الذي يقصد به اليمين والذي لا يقصد به اليمين= لتبين له أَنَّ الحالف عندهم الذي أمروه بالكفارة إنما كان حالفًا لأنه كاره للشرط وكاره للجزاء وإن وجد الشرط، وأن الناذر نذر اللجاج والغضب إذا
(1)
في الأصل: (يكون حالفًا وتارة موقعًا أخرى)، والصواب ما أثبتُّ.
قال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ الحج ماشيًا أو عليَّ ثلاثون حجة أو مالي صدقة ومالي في سبيل الله ونحو ذلك؛ لم يقصد قط أن ينذر هذه العبادات ولا أن تلزمه وإن وجد الفعل، بل هو ممتنع من نذرها ومن إلزام نفسه بها غايةَ الامتناع، كارهٌ للزومها له غايةَ الكراهة، ولكن جعل هذا الأمر المكروه عنده الذي هو ممتنع من وقوعه غاية الامتناع = جعله لازمًا لذلك الأمر الذي أراد المنع منه.
* * * *
فصلٌ
قال: (وقوله: إنه لم يقصد عتقًا يبتغي به وجه الله، فالشرط قصد العتق، وهو حاصل على تقديرٍ ــ كما قلناه ــ لا قَصْدُ القربةِ؛ بدليلِ أَنَّ مَنْ نجز عتق عبده [124/ ب] غيرَ قاصدٍ التقرب إلى الله يصح
(1)
عتقه، وكذلك صح عتق الكافر المشرك الذي لا يصح منه قَصْدُ التقرب؛ فقد أعتق حكيم بن حزام في الجاهلية مائة رقبة، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك:«أسلمت على ما أسلفت لك من خير»
(2)
، ولم يحكم بأن ذلك العتق لم يقع)
(3)
.
والجواب: أَنَّ المجيب فَسَّرَ كلام ابن عباس، لم ينظر لكون العتق لا يصح إلا بشرط ابتغاء الله، فاحتجاجه بصحة العتق وإن لم يقصد به وجه الله ــ إِنْ صح ــ فإنما هو حجة على ابن عباس لا على المجيب.
ثم هذا المعترض قد قال قَبْلَ هذا ما يُناقض هذا! أو هذا الحديث حجةٌ عليه؛ حيث ذكر في الفرق بين نذر اللجاج والغضب والطلاق، فقال: (الثالث عشر: أَنَّ المشي ــ مثلًا ــ إنما يلزم
(4)
في نذر اللجاج لأنه غير قاصد للتقرب، وأما الطلاق فالطلاق قصده فقط، وأما
(5)
قصد التقرب فلا يشترط)
(6)
.
(1)
في «التحقيق» : (صَحَّ).
(2)
تقدم تخريجه في (ص 371 - 372).
(3)
«التحقيق» (41/ أ - ب).
(4)
كذا في الأصل و «التحقيق» ، ولعلها:(لم يلزم).
(5)
بعدها خمس كلمات مكررة ضرب عليها الناسخ، وهي:(قاصد للتقرب أما الطلاق فالطلاق).
(6)
«التحقيق» (34/ ب) مختصرًا، وهو الوجه التاسع عشر.
ثم قال: (فإنْ قلتَ: فيلزم أن العتق المنجز لا يقع إذا لم ينو التقرب به، وأن النذر المنجز أو المعلق إذا لم يقصد التقرب به لا يقع)
(1)
.
وقال: (قلتُ: أما الأول: فإما أَنْ يلتزم
(2)
ذلك على مذهب أبي ثور وَيُفَرِّق بين الطلاق والعتق، وإما أَنْ يقول: قصد التقرب لا يشترط إلا للثواب
(3)
)
(4)
، ولم يُجِبْ عن قصد النذر؛ وقد تقدم الكلام على ما في هذا الكلام من الفساد
(5)
، والمقصود هنا الإشارة.
ثم نقول جوابًا عن ابن عباس رضي الله عنه: أن ابن عباس تَكَلَّمَ بصيغةِ حصر، وصيغةُ الحصر يُنفى بها ما كان من جنس المثبت، لا يُنفى بها كل ما سوى المثبت؛ كقوله:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22]، فهو لم ينف جميع الصفات سوى الإنذار، فإنه مبشر مع كونه منذر، وهو شاهد وداعٍ إلى الله ــ تعالى ــ كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [الأحزاب: 45 - 46] فوصفه [125/ أ] بأربع صفات، وكونه نذيرًا واحد منها فليس مراده بقوله:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} لست ببشيرٍ ولا شاهدٍ ولا داعٍ إلى الله، وإنما مقصوده: نَفْيُ كونه يهدي من يشاء ويضل من يشاء،
(1)
«التحقيق» (34/ ب).
(2)
في الأصل: (يلزم)، والمثبت من «التحقيق» .
(3)
وعبارته في «التحقيق» : (العتق لا يشترط فيه التقرب إلا للثواب عليه
…
).
(4)
«التحقيق» (34/ ب).
(5)
انظر: (ص 5 وما بعدها، ص 16 وما بعدها، ص 370 وما بعدها).
ولهذا قال: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، [فأخبر عن]
(1)
ما طلبه المشركون حيث قال: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الرعد: 7]، فقال تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] لست الذي ينزل الآيات، بل هذا إلى الله.
وكذلك قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22] فقوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} لم ينفِ كونه مع التذكير مبشرًا وهاديًا وداعيًا.
ولَمَّا كان من عادة المسلمين إذا أَعتقوا أَنْ يَبتغوا بذلك وجه الله = صار هذا لازمًا لعتق المسلمين، فنفى اللازم لقصد نفي الملزوم، ومراده: لا عتق إلا لمن قَصْدُهُ العتق، وقاصد العتق من عادة المسلمين يبتغي به وجه الله، ليس مراده: إِنْ أَعتَقَ
(2)
ولم يقصد وجه الله لا يصح عتقه، وهذا كما قال عطاء والشافعي في نذر التبرر.
قال الشافعي
(3)
: ومن حلف بالمشي إلى بيت الله ففيها قولان؛ أحدهما: معقولُ معنى قولِ عطاء: أَنَّ كل مَن حلف بشيءٍ مِن النسك صومٍ أو حجٍّ أو عمرةٍ فكفارته كفارة يمين إذا حنث، ولا يكون عليه حجة ولا عمرة ولا صوم؛ ومذهبه: أَنَّ أعمالَ البِرِّ لله لا تكون إلا لفرض يؤديه من فروض الله عليه، أو تبررًا يريد به الله، فأما على غلق الأيمان فلا يكون تبررًا، وإنما يعمل
(1)
بياض في الأصل بمقدار كلمة أو كلمتين، ولعل الصواب ما أثبتُّ أو كلمةً نحوها.
(2)
في الأصل: (لم أُعتق)، والصواب ما أثبتُّ.
(3)
في الأم (3/ 658).
التبرر لغير الغَلْقِ.
فقد بين الشافعي قول عطاء الذي يوافقه عليه الشافعي، وهو: أَنَّ الناذر نذر اللجاج والغضب ــ وهو غلق الأيمان ــ لا يكون تبررًا يريد اللهَ بِهِ، وإنما يعمل التبرر لغير الغلق، وجعل كونه لا يراد الله به هو الموجب لكونه يمينًا مكفرة = فهكذا ابن عباس رضي الله عنهما؛ مع أن عطاء والشافعي لا يشترطون في نقل الملك قصد التقرب، بل مقصودهم أَنَّ الناذر هو الذي يقصد التزام ما يتقرب به إلى الله، وهذا لم يقصد التقرب إلى الله فليس بناذر، والمسلم من شأنه أن يفعل القربة تقربًا إلى الله بها، فيعتق ويهدي ويضحي ويتصدق تقربًا إلى الله ــ تعالى ــ.
فإذا حلف بلزوم العتق والصدقة والهدي والأضحية لم يكن قصده التقرب إلى الله بذلك، لأنه لم يقصد أن يلزمه ذلك فيمتنع أن يقصد التقرب بشيء لم يقصد لزومه، فلو قَصَدَ لزومه لَقَصَدَ التقرب به في عادة المسلمين، ولكن انتفى قصد لزومه فانتفى قصد التقرب به؛ فلهذا قال ابن عباس وعطاء والشافعي وغيرهم: إنه إذا لم يقصد التبرر لم يلزمه، بل هو حالف لا لأنه عندهم قصد لزومه ولم يقصد التقرب به، بل لم يقصد لزومه بحال، ثم إذا جعله لازمًا وفعله يفعله لكونه لزمه بالحنث لا لقصد التقرب به.
ومن الناس كابن جرير من يجعل المنذور نذر التبرر لا يقصد [125/ ب] به التقرب إلى الله، لكنه قصد المكافأة، وهو مع هذا لازم عندهم وهم ذكروا الإجماع على ذلك، وهذا أرادوا به الفرق بين من يفعله لأنه نذره فيلزمه وبين من يفعله ابتداءً، وأما الحالف به فلم يقصد لزومه لا لله ولا لغير
الله، فإذا قيل: يلزمه؛ أُلْزِمَ بفعلِ ما لم يقصد لزومه بحال، ولا كان له نية في فعله لله حين عقد اليمين بخلاف نذر التبرر، فإنه كان له قصد أن يلتزمه لله لكن إذا حصل غَرَضُهُ.
* * * *
فصلٌ
قال: (وقوله: (وإنما حلف به قصدًا ألا يقع العتق به)؛ كلامٌ بعيدٌ عن الإنصاف، فإنَّ الدعاوى ثلاث:
أحدها: ما نَدَّعِيه نحن أَنَّ الحالف قاصد للعتق على ذلك التقدير وغير قاصد لذلك التقدير الآن.
الثانية: ما أشار هو إليه ــ أولًا ــ أنه غير قاصد للشرط ولا للمشروط؛ وقد منعناه.
وأما هذه الثالثة وهو: أَنَّ قَصْدَهُ بالحلف ألا يقع العتق على ما دَلَّ هذا اللفظ، فإنه دَالٌّ على أَنَّ العلة في حلفه قصد عدم العتق ضرورة أنه جعله مفعولًا لأجله= فهذا في غاية المكابرة؛ والله أعلم)
(1)
.
والجواب:
أنَّ معنى الكلام: أنه حلف قاصدًا ألا يقع العتق به، لِيُبَيِّنَ أَنَّ الحالف لم يقصد وقوع العتق المعلق، لم يرد أَنَّ قصده بيمينه كان منع نفسه عن العتق كما توهمه المعترض، فإن هذا مما تكرر كلام المجيب فيه
(2)
، وبَيَّنَ أَنَّ الحالف لم يقصد وجود الجزاء، بل هو مكروه له سواء وجد الشرط أو لم يوجد، وإنما قصده بيمينه مَنْعَ نفسهِ عن الشرط، فهو يقصد عدم الشرط
(1)
«التحقيق» (41/ ب).
(2)
أعاد الناسخ كتابة هذه الجملة: (لِيُبَيِّنَ أن الحالف لم يقصد وقوع العتق المعلق
…
) إلى هنا.
وعدم الجزاء، بل قصده عدم الجزاء كان موجودًا قبل عقد اليمين، وهو موجود عند عقد اليمين، وهو موجود عند الحنث.
فَظَنَّ المعترض أَنَّ الحالف إنما عقد اليمين لقصد منع الجزاء، وهذا لا يقوله عاقل، ولا يَظُنُّ بالمجيب أنه أراد هذا مَنْ فيه نوعٌ من الإنصاف، فإنَّ المجيب قد بَيَّنَ حقائق ما في نفوس الناس من الإرادات والكراهات بيانًا شافيًا، وبَيَّنَ أَنَّ الحالف لم يزل كارهًا للجزاء، وإنما عَلَّقَهُ بالشرط لئلا يقع الشرط؛ فكيف يُظَنُّ به [أنه إنما أراد]
(1)
عقد اليمين لئلا يقع الجزاء = إلا مَنْ هو عديم الإنصاف.
ولو كان الحالف قد جَدَّدَ قصد منع الجزاء باليمين لكان ذلك مما يفيد كونه حالفًا، بل قصده عدم الجزاء أمر لازمٌ له، ثابتٌ قبل اليمين وبعدها، ولكن قال: إن الحالف لم يقصد عتقًا يبتغي به وجه الله، وإنما حلف به قصدًا ألا يقع العتق، أي: حلف به قاصدًا ألا يقع العتق لا قاصدًا لوقوع العتق، ومن لم يقصد العتق لم يبتغ به وجه الله.
وإذا قيل: الحالف بالنذر والطلاق والعتاق والكفر والظهار
(2)
لم يقصد هذه الأمور، وإنما حلف بها قصدًا ألا تقع.
فالمراد: أنه حلف به قاصدًا أن [126/ أ] لا يقع
(3)
، وهو ــ أيضًا ــ باليمين قصده أنها لا تقع، فكان قبل اليمين غير مريد لوقوعها، وقد يعزب عن قلبه حضور إرادتها بقلبه نفيًا وإثباتًا، وأما عند اليمين فهو يكره وقوعها،
(1)
في الأصل: (أراد أنه إنما)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2)
في الأصل زيادة: (حلف)، وبحذفها تكون العبارة مستقيمة.
(3)
كرر الناسخ هذه الجملة: (فالمراد أنه حلف قاصدًا أن لا يقع).
ويقصد ألا تقع، ليس المراد أن العلة في حَلِفِهِ قصد عدم العتق ضرورة أنه جعله مفعولًا لأجله؛ فإنَّ المجيب قد دل كلامه كله على أنه لم يقصد هذا، وهذا اللفظ لو كان ظاهره أنه أراد ذلك = لكان الواجب أن يحمل المتشابه من كلامه على المحكم المعروف، بل لو أراد المجيب هذا المعنى فَسَدَ كلامه وفسد دليله، فإنه لو كانت العلة في حلفه قصد عدم العتق لكان الحامل له على اليمين هذا القصد، والعلة وإن كانت متقدمة في العلم والقصد فهي متأخرة في الوجود والحصول؛ فأول البغية آخر الدرك، وأول الفكرة آخر العمل
(1)
.
وحينئذٍ؛ فكان عدم العتق لا يحصل إلا باليمين فيكون متأخرًا عن اليمين، ولو كان ذلك= لامتنع أن يحلف به، فإنه يكون محلوفًا لأجله لا محلوفًا به، كما لو قال: والله لا أعتق العبد وإن أعتقته فنسائي طوالق؛ فهنا قصد بيمينه مَنْعَ نفسه من العتق، وهذا المنع وكَّده بيمينه.
وأما إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فعبدي حر؛ فهنا العتق محلوفٌ به، وهو كارهٌ له ممتنعٌ منه، غيرُ قاصدٍ له عند اليمين، وإنما حلف به ليمنع به نفسه من شيءٍ آخر، وهو الفعل الذي عَلَّقَ به العتق، وهذا أَمْرٌ واضحٌ يفهمه العام والخاص، لا يُظَنُّ بأقلِّ الناسِ أنه يفهم خلافه.
(1)
مجموع الفتاوى (8/ 83)(10/ 284، 587)، الفتاوى الكبرى (5/ 252)(6/ 111)، مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 116)، منهاج السنة (7/ 219)، تنبيه الرجل العاقل (1/ 114)، درء تعارض العقل والنقل (5/ 91) (10/ 51) وقال في الموضع الأخير: أي: أول ما تبغيه فتريدُهُ وتطلبُهُ، هو آخر ما تدركه وتنالُهُ.
وانظر: أدب الكاتب (ص 8)، وشرحه لأبي منصور الجواليقي (ص 37).
فَظَنَّ هذا المعترض أَنَّ المجيب قصدَ نقيضَ هذا، ونسبه إلى قلة الإنصاف وغاية المكابرة = هو من قلة إنصافه ومكابرته، حيث جعل المجيب يقصد هذا، ومن نظر في كلام المجيب مثل نظره، أو كان له به خبرة متوسطة يعلم علمًا ضروريًّا أَنَّ المجيب لا يقصد هذا، وأَنَّ مَنْ جعله قاصدًا لهذا فهو المكابر القليل الإنصاف، هذا لو كان لفظه يدل على ذلك دلالة ظاهرة، فكيف وليس اللفظ ظاهرًا في ذلك؟!
فإنَّ قوله: (حلف به قصدًا ألا يقع)؛ يجوز أن يكون نصبًا على الحال أي: قاصدًا ألا يقع العتق، والمصدر يكون حالا كثيرًا، فإنَّ التعبير بالمصدر عن الفاعل كثير جدًا؛ كقولهم: رجل عدل
(1)
، ويجوز أن يكون المعنى فعله لقصده ألا يقع؛ أي: لقصده اللازم الدائم ألا يقع، كما يقول: قعدت عن الحرب جبنًا، أي: الجبن دعاني إلى ذلك، وكذلك قَصْدُهُ ألا يقع دَعَاهُ إلى الفعل، ومنه قوله تعالى:{يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 265]، وقوله:{إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 20]، فإنَّ ابتغاء وجه الرب هو الذي دعاهم إلى الفعل، وهذا الابتغاء موجود قبل الفعل، ويجوز أن يكون المعنى: أنه عند اليمين يؤكد قصده ألا يقع، ويجدد حصوله في قلبه مع قصده ألا يحصل الجزاء، فإنه قبل اليمين قد يكون ذاهلًا عن هذا القصد، وعند اليمين يحصل في قلبه؛ وحينئذٍ فهو باليمين قصد منع نفسه من الشرط، وهو ــ أيضًا ــ قاصد [126/ ب] الامتناع من الجزاء، وَقَصْدُ هذا الامتناع يحصل عند اليمين، وإن
(2)
كان ذاهلًا عنه قبل اليمين، ويكون قصده باليمين
(1)
انظر: اختيارات شيخ الإسلام وتقريراته في النحو والصرف (ص 229).
(2)
في الأصل: (وإذا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
ألا يقع العتق ولا يقع الفعل، وكلاهما مقصود باليمين، لكن الباعث الداعي إلى اليمين هو قصد المنع من الشرط، وهو مع ذلك لا بُدَّ أَنْ يقصد عدم الجزاء ــ أيضًا ــ ليكون هذا القصد مانعًا من الشرط الملزوم، فإنه لولا قصد عدم الجزاء لم يصر الشرط مقصود العدم.
وبالجملة؛ فلا يجوز أَنْ يراد أن الحالف لم يحلف إلا لقصد المنع من الجزاء لا لقصد المنع من الشرط، فإنَّ هذا لا يقوله عاقل، ولا يَظُنُّ عاقلٌ أَنَّ المجيبَ قَصَدَهُ، وغايتُهُ أنه استدراكٌ لفظيٌّ لا فائدةَ في الإطالة فيه، والمجيب يُعْرِضُ عن مثل هذه الاستدراكات في كلام المعترض وأمثاله، إذ لو فُتِحَ هذا الباب طال الخطاب بما لا فائدة فيه عند أولي الألباب.
فإن ظَنَّ المعترض أَنَّ المجيب قصد أن اليمين لم تُعقد
(1)
إلا لقصد منع الجزاء = فهذا من الظن الذي هو أكذب الحديث، وهو من الظنون السيئة التي يزع عنها العقل والدين، وإن ظن أنه أراد أنه باليمين قصد ألا يقع الجزاء مع قصده باليمين ألا يقع الشرط، فإن الحالف قصده ألا يقع العتق المحلوف به ولا الفعل المحلوف عليه.
* * * *
(1)
في الأصل: (تقصد)، والصواب ما أثبتُّ.
فصلٌ
قال المعترض:
(قال ــ يعني المجيب ــ: (وقد تبيَّن أَنَّ هذا القول مُخَرَّجٌ على أصول أحمد من عدة أوجهٍ؛ منها: أنه قد جعل التكفير والاستثناء متلازمين، وهذه اليمين ينفع فيها الاستثناء في أحد القولين عنه، بل في الصحيح من قوليه؛ فكذلك الكفارة).
قلتُ
(1)
: شَرَعَ في تعديد الأوجه التي يُخَرَّجُ القول الثالث على أصول أحمد منها، فذكر هذا الوجه الأول وقد تقدم الجواب عنه، وأنه يجب تقديم النص الخاص على العام، ولا يجوز القياس مع وجود النَّصِّ الصريح، لا سيما المذكور على وجه الاستثناء، فإنَّ أحمد قد صَرَّحَ باستثناء الطلاق والعتاق من الأيمان المكفَّرة ــ كما تقدم ــ)
(2)
.
والجواب:
أنه قد تقدم الجواب عن [127/ أ] جوابه، وأن
(3)
تقديم الخاص على العام إنما يكون في العمومات اللفظية إذا كان المتكلم ليس له قولان؛ كالنبي المعصوم، وأما حيث كان العموم مرادًا
(4)
إما لكونه علة معنوية يمنع تخصيصها بدون فوات شرط ولا وجود مانع، أو
(5)
لكون المتكلم قصد
(1)
القائل هو: السبكي.
(2)
«التحقيق» (41/ ب).
(3)
في الأصل: (وأنه).
(4)
في الأصل: (مراد).
(5)
وضع الناسخ هنا علامة اللحق، وكتب في الهامش (مع) وفوق العين ضمة. ومعنى الكلام مستقيم بدون هذا اللحق.
العموم= فلا يحمل العام على الخاص.
ولهذا تنازع العلماء في العام المتأخر هل يُبْنَى عليه الخاص المتقدم في خطاب الشارع على قولين
(1)
، هما روايتان عن أحمد؛ إحداهما: يُبْنَى عليه؛ وهو قول الشافعي رضي الله عنه بناءً على أَنَّ العام لو أريد به الخاص لكان ناسخًا للخاص، وإذا لم يرد به لم يلزم النسخ.
والثانية: لا يُبْنَى عليه؛ بناءً على أَنَّ العام يدل [على]
(2)
إرادةِ أفراده به إذا لم يقترن به المخصص، وحينئذٍ؛ فيكون ناسخًا للخاص فيما خالفه فيه.
وقد تقدم أَنَّ أحمد رضي الله عنه له روايتان في الاستثناء في الحلف بالطلاق والعتاق، وأنه نَصَّ في غير موضع أن الاستثناء والتكفير متلازمان، وأنه جعل ذلك حجة له في أنه لا يكفر في الطلاق والعتاق، واختلف قوله في الاستثناء في الحلف بهما، ونَصُّهُ على استثناء الطلاق والعتاق إذا أريد به استثناء الحلف بهما فإنما يتوجه على إحدى الروايتين عنه، وأما على الرواية الأخرى فلا يجوز أَنْ يُستثنى من التكفير إلا إيقاعهما لا الحلفُ بهما، وإلا فلو استثنى الحلف بهما من التكفير مع قوله بالاستثناء في الحلف بهما، وقوله إن التكفير والاستثناء متلازمان، واحتجاجه بذلك على أن ما لا كفارة فيه لا استثناء فيه = كان هذا تناقضًا يفسد حجته وأصله ومذهبه.
(1)
مجموع الفتاوى (21/ 263)، الفتاوى الكبرى (1/ 297)، اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 204).
وانظر ما سبق (ص 282).
(2)
إضافة يقتضيها السياق.
وأحمد وغيره من الأئمة ليسوا أنبياء، بل هم متبعون للرسول صلى الله عليه وسلم، ومقصودهم اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس لأحدهم أَنْ يعم ما أراد ويستثني منه ما أراد، وإنما يعممون ما عمَّمه الرسول الله صلى الله عليه وسلم ويخصون ما خصه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحمد يخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بما قاله، فيمتنع أن يخبر [127/ ب] عنه بكلام متناقض، لامتناع التناقض في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولهذا إذا احتج أحد العلماء بحجة ونقضها؛ قيل: هذه فاسدة وعلة فاسدة، لم يجز أن يقال في كلامه عام وخاص، كما يقال ذلك في كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم.
فلو قال أحدهم: إنما حرم الله ــ تعالى ــ الخمر لأنها مسكرة، ثم أباح بعض المسكرات؛ لكان هذا تناقضًا يفسد علته وحجته، لا يجوز أن يقال: هذا من باب الخاص والعام.
فإذا قال أحمد وغيره من العلماء: لا يجوز الاستثناء في الطلاق والعتاق لأنه لا كفارة فيهما، والاستثناء إنما يكون فيما يكفر لا فيما لا يكفر، وقال مع هذا: إنَّ الحلف بالطلاق يجوز فيه الاستثناء دون التكفير = لكان هذا تناقضًا يقتضي فساد قوله، ليس هذا من باب العام والخاص.
فَعُلِمَ أَنَّ ما قاله أحمد ــ رحمة الله عليه ــ إنما يتوجه على إحدى الروايتين، وهو قوله: إنه لا استثناء لا في إيقاعه ولا في الحلف، وأما على الرواية التي يقول فيها إنه يجوز الاستثناء في الحلف به دون إيقاعه؛ فلا بُدَّ على هذه الرواية من أن يقول بجواز التكفير فيما جاز فيه الاستثناء، أو يَبْطُلَ قولُهُ: لا استثناء إلا فيما فيه كفارة، لكن هذا الأصل أصل مذهبه الذي بَنَى
عليه مذهبه، وعليه دل الكتاب والسنة، فإنْ كان هذا صحيحًا لزمه جواز التكفير [في]
(1)
الحلف بالطلاق إذا قيل بجواز الاستثناء فيه، وهذا أَمْرٌ واضحٌ كما تقدم
(2)
.
* * * *
(1)
إضافة يقتضيها السياق.
(2)
انظر ما كتبه المجيب (ص 276 - 284).
فصلٌ
قال المعترض:
(قال ــ يعني المجيب ــ: الوجه الثاني: أنه أخذ بحديث أبي رافع، وقد ثبت فيه ذكر العتق.
قلنا: هذا الوجه الثاني من التخريج، وقد تقدم الجواب عنه في سنده ومتنه؛ فإنه يشير إلى حديث جسر بن الحسن)
(1)
.
فيقال له:
قد ثبت ذكر العتق في حديث جسر بن الحسن، وفي حديث أشعث بن عبد الملك ــ أيضًا ــ، وإن كان الجواب الأول المختصر لم يذكر فيه طريق أشعث بن عبد الملك، وهذا الطريق [128/ أ] هو الذي بلغ عامة العلماء؛ كأبي ثور ومحمد بن نصر ومحمد بن جرير وابن المنذر وابن عبد البر وابن حزم وغيرهم، وصحح هؤلاء وغيرهم من العلماء ذكر العتق فيه، ولم يُعْلَم أحدٌ من العلماء بلغه هذا الطريق فطعن في ذكر العتق.
وأحمد لم يبلغه هذه الطريق، ولا طريق جسر بن الحسن، وإنما بلغه طريق التيمي خاصة، ونحن نعلم منه أنه لو بَلَغَهُ طريق أشعث بن عبد الملك وطريق جسر = لم يقل إنَّ التيمي انفرد به، بل كان يعلم أن للتيمي متابِعًا، وهو مُتَّبع لحديث ليلى بنت العجماء، وإنما لم يأخذ بذكر العتق لتعليله بانفراد التيمي، فإذا زالت هذه العلة وجب على أصله العمل به.
(1)
«التحقيق» (41/ ب).
وأما قول المعترض: (ثبت فيه حكم العتق باللفظ المتنازع فيه أو بغيره)
(1)
فعنه أجوبة:
أحدها: أَنَّ أحمد بل وسائر أهل العلم لا يلتفتون إلى مثل هذه السفسطة، بل لا علة له عند أحمد إلا أنه لم يذكر فيه العتق، فإذا ثبت فيه ذكر العتق زالت العلة، ولم يقل أحمد ولا غيره: إن ذكر العتق في هذه الرواية يراد به نذر العتق، وفي الأخرى يراد به الحلف به، فإنَّ مثل هذا ليس من أصول أهل العلم كأحمد وأمثاله، بل هو من جنس السفسطة التي هي تشكيك في المعلومات.
الثاني: أنه قد ثبت ذكر العتق باللفظ المتنازع فيه في حديث أشعث بن عبد الملك الحمراني، وقد ذكره المعترض، ورواه أبو ثور ومحمد بن نصر المروزي والدارقطني والبيهقي بالأسانيد الثابتة، ولفظه:(فقالت: هي يومًا يهودية ويومًا نصرانية وكل مملوك لها حر وكل مال لها في سبيل الله)؛ فصرحت باللفظ المتنازع فيه، وهو قولها:(حر)
(2)
.
الثالث: أَنَّ ذكر ذلك اللفظ، وهو قوله:(حلفت بالهدي والعتاقة)؛ يحصل المقصود من عدة أوجه، كما تقدم بيانه.
* * * *
(1)
«التحقيق» (41/ ب)، ونصُّ كلامه في «التحقيق»:(وقولُهُ: ثبتَ فيه العتق. قلنا: باللفظ المُتَنَازع في حكمه أو بغيره؟ الأول ممنوع، والثاني مُسلَّم، ولا يحصل به مقصوده).
(2)
تقدم تخريجه (ص 201 - 209).
فصلٌ
قال المعترض:
(قال ــ يعني المجيب ــ:
الثالث: أنه قد اختلفت الرواية عنه فيما إذا حلف بعتق عبد غيره، مثل أَنْ يقول: عبد فلانٍ حرٌ لا أفعل كذا، [أو] إِنْ فعلتُ كذا فعبد فلانٍ [128/ ب] حر؛ هل يلزمه بذلك كفارة أم لا؟ على روايتين.
إحداهما: أنه لا يلزمه شيء، كما لو قال: عبد فلان حر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا عتق لابن آدم فيما لا يملكه»
(1)
.
والثانية: عليه كفارة يمين، كما لو قال: عليَّ أن أعتقه إِنْ فعلت كذا، أو إن فعلت كذا فعليَّ أَنْ أعتقه، لأنه حَلَفَ بعتقٍ لم يقع، وهذه الرواية تقتضي أن الحلف بالعتق يكون فيه كفارة إذا لم يقع العتق، وحينئذٍ؛ فإذا حَلَفَ بعتق عبده لم يجز أن يقول: يقع العتق، لأنه لا كفارة فيه؛ فإنَّ هذا دور.
فإنا إنما قلنا: تثبت الكفارة إذا لم يقع العتق، فلو عَلَّلنا وقوع العتق بعدم الكفارة = لزم أن يكون كلٌّ منهما علةً للآخر؛ وهذا دور ممتنع.
قلت: الدور أَنْ يتوقف كلٌّ منهما على الآخر، فإنما يصح الدور ههنا ــ كما زعم ــ لو كان ثبوت الكفارة معللًا بعدم وقوع العتق، وعدم وقوع
(1)
أخرجه أحمد في مسنده (11/ 392)، وأبو داود (2190)، والترمذي (1181) وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهو أحسن شيءٍ رُوِيَ في هذا الباب.
وانظر: السلسلة الصحيحة (5/ 216).
العتق معللًا بثبوت الكفارة، وحينئذٍ؛ يلزم الدور، أما على ما ذكر هو في المقدمة الثانية أن وقوع العتق معللٌ بعدم الكفارة، فكلُّ واحدٍ منهما معلل بعدم الآخر، وهذا ليس بدور، فإنَّ كلًا من الضدين مشروطٌ بعدم الآخر)
(1)
.
والجوابُ أَنْ يقال:
وجه الدور: أنه على هذه الرواية قد أفتى في الحلف بالعتق الذي لا يقع، وهو حلفه بعتق عبد غيره بكفارة يمين، وحينئذٍ؛ فيقال: إذا حلف بعتق عبده لم يجز أن يقال يقع العتق، لأنَّ الحلف بالعتق لا كفارة فيه، لأنه قد أجاب بأنَّ في الحلف بالعتق كفارة يمين.
فإذا قيل: هناك لَزِمَتِ الكفارة، لأن العتق لم يقع.
فيقال: فبطلَ قولُ القائلِ: الحلفُ بالعتق لا كفارة فيه مطلقًا، وإنما الواجب أَنْ يقال: الحلف بالعتق إذا وقع العتق فلا كفارة فيه، وإذا لم يقع
(2)
ففيه الكفارة.
وحينئذٍ؛ فيقال: لم لا يجوز أن يكون في الحلف بالعتق في محل النزاع كفارة يمين؟
فإذا قيل: لأنَّ الحلف بالعتق لا كفارة فيه = بطلت هذه العلة، فإنَّ العلة إنما هي [129/ أ] إذا حلف بالعتق ولم يقع العتق، ففيه كفارة يمين؛ فيحتاج أن يقيم الدليل على أن العتق هنا لم يقع.
فإذا قلنا: يقع العتق لأن الحلف بالعتق لا كفارة فيه = كانت هذه العلة
(1)
«التحقيق» (41/ ب).
(2)
في الأصل: (وإذا وقع)، والصواب ما أثبتُّ.
باطلة على هذا القول، لأنه ــ أعني الحلف بالعتق ــ لا كفارة فيه مطلقًا، بل إذا كان الحلف بالعتق لا يقع ففيه الكفارة.
وحينئذٍ؛ فلا يجوز أن يقال: يقع العتق هنا لأنه لا كفارة في الحلف.
يقال: هناك وجبت الكفارة في الحلف به لأنه لم يقع، فنكون قد عللنا وقوع العتق بانتفاء الكفارة في الحلف به، وعللنا وجوب الكفارة في الحلف به بانتفاء الوقوع، فيكون عدم التكفير هو الموجب لوقوع العتق.
وإذا قيل هناك: لم يقع العتق لكونه غير مالك.
قيل: المنجِّزُ لعتقِ عبد غيرِهِ غيرُ مالكٍ ولا كفارةَ عليه، وإنما وجبَت هنا لكونه حالفًا مع أنَّ العتقَ لم يقع، لا لكونه أعتقَ عبد غيرِهِ، وفي صورة النزاع هو حالف ــ أيضًا ــ.
فإذا قيل: فالعتق هنا واقع.
قيل: إنما قلتم يقع مع كونه حالفًا؛ كقولكم الحلف بالعتق لا كفارة فيه، وقد انتقض هذا الأصل، وأوجبتم في الحلف به الكفارة في بعض الصور؛ فإذا قلتم هناك لم يمكن إيقاع العتق = فلم يكن بُدٌّ من الكفارة لأنه حالف.
قيل: فهذا يدل على أن الحلف به مقتضٍ لوجوب الكفارة، وفي صورة النزاع الحلف قائم فيلزم وجوب الكفارة.
فإذا قلتم: لكن العتق هنا قد وقع، فلا تجب الكفارة مع وقوعه.
قلنا: هذا محل النزاع؛ فلا يجوز الاحتجاج به، فما دليلكم على أن العتق يقع وأنتم تقولون فيمن عَلَّقَ تعليقًا يقصد به اليمين أنه يكفر إلا في العتق والطلاق؟ فلم قلتم لأن العتق والطلاق لا كفارة فيهما؟ فإنما عللتم
وقوعهما بعدم الكفارة فيهما، ومع قولكم بالكفارة في بعض الصور لا يصح ذلك، بل يقال: قد ثبتت
(1)
الكفارة في الحلف بذلك في بعض الصور = فلا يصح قولكم: يقع؛ لأنه لا كفارة فيه، مع قولكم هنا: إنه يكفر في الحلف به.
فإنه إذا قيل بأن العتق المحلوف به تدخله الكفارة في الجملة = لم يصح أَنْ يقال: يقع هنا، لأنه [129/ ب] لا كفارة فيه إلا إذا قيل مع ذلك: إنه واقع، ومع وقوعه لا تجب الكفارة، وأنتم لم تذكروا حجةً في وقوعه، وهذا وحده كافٍ.
وحينئذٍ؛ فليس لكم أن تقولوا هنا: يكفر، لأن العتق لم يقع، وتقولوا هناك: يقع العتق، لأنه لا كفارة فيه، فإنَّ هذا تعليلٌ لوقوع العتق المحلوف به بانتفاء الكفارة فيه، وأنتم تقولون في العتق المحلوف به الكفارة في بعض الصور، فإذا قلتم هناك لم يقع لانتفاء شرطه وهو الملك. قيل: وهنا ــ أيضًا ــ لا يقع لانتفاء شرطه، وهو قصد الإيقاع، فإنه لا بُدَّ في وقوعه من أن يكون إيقاعًا في مَحَلٍّ قابلٍ، فكما أنه ينتفي لانتفاء محله، فإنه ينتفي لانتفاء إيقاعه كما أنَّ طلاقَ المرأة ينتفي تارة لكونها ليست زوجة، وتارةً لانتفاء الإيقاع مثل: طلاق المجنون والسكران والمكره فإنَّ الإيقاع انتفى لانتفاء قصده، وكذلك في اليمين، وأنتم على هذا القول [قد أوجبتم]
(2)
الكفارة فيما إذا حلف بعتق عبد الغير مع أنه غيرُ واقعٍ، ولم يلتزم شيئًا في ذمته = فعلم أنَّ الحلف بالعتق مقتضٍ لوجوب الكفارة إذا لم تتم شروط الإيقاع؛ وفي محل النزاع لم تتم شروط الإيقاع= فتجب الكفارة.
(1)
في الأصل: (ثبت)، والصواب ما أثبتُّ.
(2)
هكذا قرأتها، وفي هذا الموضع سواد شديد.
فإنْ قلتم في محل النزاع: يقع ولا كفارة، لأنه لا كفارة في الحلف به = كانت هذه علةً منتقضةً باطلةً، فلا بُدَّ أنْ تقولوا: بل الحلف به يوجب الكفارة إذا لم يقع، وهنا قد وقع، لأن الحلف بعتق عبد الغير
(1)
لم يقع؛ فلهذا وجبت الكفارة في الحلف به، أو تقولوا: هنا أمكنه أن يوقع العتق بخلاف عبد الغير فإنه لا يمكنه إعتاقه.
فيقال: ولو حلف: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ عتقُ عبدي؛ هنا يمكنه إعتاقُ عبده ولم يوجبوه؛ فَعُلِمَ أَنَّ إمكان الإعتاق وصف عديم التأثير، وإنما المؤثر عندكم في وجوب الكفارة كونه قصد اليمين، وهذا المعنى مشترك في الجميع.
نعم؛ هناك كونه ملكًا للغير مانع من أن يعتقه، فتتعين الكفارة، وفيما إذا قال: إِنْ فعلته فعبدي حر يمكنه إعتاقه [130/ أ] فلا تتعين الكفارة، بل يخير بين أَنْ يُعتِقَهُ وبينَ أَنْ يُكفِّر.
ومما يوضح هذا: أنهم ذكروا الروايتين في لفظ القَسَم، وهو أَنْ يقول: غلام فلانٍ حر لأفعلنَّ كذا؛ هذا لفظها في الكتب الكبار والصغار، حتى في هداية أبي الخطاب ومقنع أبي محمد ومحرر أبي البركات
(2)
؛ وهذه صيغة قسم.
ووجه الدور: أَنَّا إذا قلنا: يقع العتق المعلَّق المحلوفُ به، لأنَّ هذا لا كفارة فيه بخلاف تعليق النذر المحلوف به = كان هذا تعليلًا لوقوع العتق بعدم الكفارة.
(1)
في الأصل زيادة: (فإنه)، وبحذفها يستقيم الكلام.
(2)
الهداية لأبي الخطاب (ص 427)، المقنع (ص 463)، المحرر (2/ 198).
فإذا قيل: وَلِمَ لَمْ تجب فيه الكفارة مع أنه قصد اليمين؟
فقال القائل: لأنَّ هذا التعليق يقع فيه العتق فلا كفارة فيه؛ كان هذا دورًا ممتنعًا، فإنه جَعَلَ علةَ وقوعِ العتق امتناعَ الكفارة فيه، وجعلَ علةَ امتناع الكفارة فيه أنه يقع فيه العتق فلا تقع الكفارةُ؛ فعلل كليهما
(1)
بالآخر، وهذا دور ممتنع.
ثم هنا طريقان من الكلام:
أحدهما: أَنْ يُقالَ: إذا قلتم على إحدى الروايتين: إنَّ الحالف بعتقِ عبد الغير يلزمه الكفارة = بطل قولكم العام: إنَّ الحلف بالعتق ليس فيه كفارة، وثبت أنه قد يكون فيه كفارة.
والثاني: أنكم إذا قلتم: الحلفُ بالعتق لا يكفَّر، لأنَّ العتق لا كفارة فيه، وقلتم العتق لا كفارة فيه، لأنه قد وقع فلم يكفر = كان هذا دورًا ممتنعًا، ولكن هذا الثاني يدل على بطلان القول، فلم يُخَرِّج منه قولًا في مذهب أحمد بخلافه، وإنما يخرَّج مذهب الرجل من كلامه لا مما يبطل كلامه، بخلاف الوجه الأول فإنه إذا قال على إحدى الروايتين: إنَّ الحلف بعتق عَبْدِ الغير يكفر يمينه دَلَّ على أنه يرى في الحلف بالعتق التكفير، وحينئذٍ فلا يمكن في صورة النزاع أَنْ يُقالَ: العتقُ وقعَ، لأنه لا كفارة في الحلف بالعتق لنصِّهِ على نقيض ذلك في هذه الرواية، والتخريج إنما هو عليها.
وحينئذٍ؛ فنحن إذا أثبتنا الكفارة إذا لم يقع العتق المحلوف به وإلا فلو ثبت لم تجب كفارة، فلو قلنا: العتق المحلوف به يقع لأنه لا كفارة فيه = كُنَّا
(1)
في الأصل: (كلاهما)، والصواب ما أثبتُّ.
قد جعلنا [130/ ب] عدم الكفارة سببًا لوقوعه، والمقتضي للكفارة قائمٌ وهو الحلف، ولهذا أثبتناها هناك لوجود الحلف فلا بُدَّ أَنْ يفرق بينهما: بأنه هنا وقع العتق فانتفت الكفارة، وهناك لم يقع فوجبت.
وحينئذٍ؛ فيقال: وقوعه إنما يكون إذا لم يمكن التكفير، وإلا فمع إمكان التكفير لا يقع، فلو نفينا الكفارة لوقوعه وأثبتنا وقوعه لانتفاء التكفير = لزم الدور.
وكذلك ــ أيضًا ــ إذا علَّلنا ثبوتَ الكفارةِ بعدمِ العتقِ، وعَلَّلنا وقوع العتق بعدم الكفارة ــ كما في الجواب ــ لزم الدور، فإنَّ ثبوتَ التكفير وثبوت العتق ضدان لا يجتمعان، بل ولا يرتفعان في هذه الصورة، بل إِنْ ثبتَ العتقُ انتفت الكفارة وإن انتفت الكفارة ثبت العتق، والضدان وإِنْ كان كل منهما مشروطًا
(1)
بعدم الآخر، لكن لا يجوز أن يكونَ كلٌ منهما هو العلة في عدم الآخر، ولا عَدَمُ كلٍ منهما هو العلة في وجود الآخر.
فلا يجوز أَنْ يقالَ: وُجِدَ هذا لعدم هذا وعُدِمَ هذا لوجود هذا، بل إِنْ كان وجود ذاك هو العلة لعدم هذا = امتنع أن يكون عَدَمُ هذا عِلَّةَ وجود ذاك، وإِنْ كان شرطًا له، فليس كلُّ ما كان شرطًا كان علة، فلا يجوز أَنْ نجعل ثبوت الكفارة بعدم وقوع العتق، ونقول: وقع العتق لعدم وجوب الكفارة، فإنه يلزم تعليل وجود هذا بعدم ذاك، وتعليل وجود ذاك بعدم هذا، وهذا النوع من الدور ليس هو دور في الأنواع، والأول دور في الأعيان.
فدور الأعيان: أَنْ يتوقف كلٌّ من الشيئين المعيَّنين على الآخر، وأما
(1)
في الأصل: (مشروط).
الدور في الأنواع فمثل أَنْ يقال: الموجِبُ للسواد هو عدم البياض، والموجب للبياض هو عدم السواد؛ فهذا نظير قولنا: يقع العتق لعدم الكفارة، وتَلزم الكفارة لعدم العتق، يجعل وجود كُلٍّ من الضدين لأجل عدم الآخر؛ وهذا باطل.
بل الواجب أَنْ يقال: السواد موجبٌ لعدم البياض، والبياضُ موجب لعدم السواد؛ فيقال: وقع العتق فلا كفارة، أو لزمت الكفارة فلا عتق؛ فيكون وجود أحدهما هو المانع من الآخر، لا أَنَّ عدمَ أحدِهما هو الموجب لوجود الآخر، فإن العدم لا يقتضي وجودًا، بل الوجود [131/ أ] يقتضي العدم، وكان هذا دورًا في التعليل والاستدلال، لأنه إذا كان عَدَمُ كلٍّ منهما هو المقتضي لوجود الآخر، وأحدهما لا يُعْدَم إلا مع وجود ضده، فلا يثبت وجود هذا الضد حتى يُعدم الآخر، ولا يُعدم ذاك حتى يوجد هذا، ولا يوجد هذا حتى يعدم ذاك = وهذا هو الدور.
كما إذا قيل: لا تجب الكفارة إلا إذا عدم العتق، ووجود الضدِّ وإن كان ثابتًا مع عدم الآخر، لكن لا يجوز أن يكون عدم كل منهما هو علة وجود الآخر، لأنَّ العلة لا بُدَّ أن تتقدم المعلول، وعَدَمُ أحدِهما هنا لا يكون إلا مع وجود الآخر، لا يجوز أن يتقدم عليه بوجهٍ من الوجوه لا تقدمًا عقليًا ولا وجوديًا = فامتنع أن يكون علةً له، فإذا جُعِلَ علةً له لزم الدور.
وبهذا ظهر الجواب عن قول المعترض: (الدورُ أَنْ يتوقف كلٌّ منهما على الآخر؛ فإنما يصح الدور هنا ــ كما زعم ــ لو كان ثبوت الكفارة معللًا بعدم وقوع العتق، وعدم وقوع العتق معللًا بثبوت الكفارة؛ وحينئذٍ يلزم الدور، إما على ما ذَكَرَ هو من المقدمة الثانية أَنَّ وقوع العتق يعلل بعدم
الكفارة، فكلٌ منهما معللٌ بعدم الآخر، وهذا ليس بدور، فكلٌ من الضدين مشروطٌ بعدم الآخر).
فيقال له: الدور الممتنع أعمُّ من هذا، فإذا كان توقف ثبوت الشيء على نفسه كان دورًا ممتنعًا، وإنما جعل توقفُ كلٍّ منهما على الآخر دورًا لهذا المعنى، فإنه إذا كان كلٌ منهما علةً للآخر = لزمَ ألا يوجد الشيء إلا بعد وجود علته، فلا يوجد ذاك إلا بعد هذا، ولا هذا إلا بعد ذاك، فيلزم ألا يوجد واحد منهما حتى يوجد، فلزم توقف كلٍّ منهما على نفسه وهذا المعنى موجودٌ هنا، فالدور حاصل، لكن التوقف قد يكون بواسطة وقد يكون بغير واسطة؛ فإذا كان وجود أحدهما معللًا بعدم الآخر، والمعلول بعد علته، وعدمُ أحدِهما لا يكون إلا مع وجود الآخر ــ إذ التقدير هذا ــ فإنَّ هذين الضدين لا يجتمعان ولا يرتفعان، بل لا بُدَّ في الحلف بالعتق؛ إما من العتق وإما من الكفارة، فلا يجتمعان ولا يرتفعان، بل هذا الذي يقال فيه: مانعة
(1)
الجمع والخلو
(2)
.
فالحالف بالعتق إما أَنْ يُعتق وإما أَنْ يُكفِّر؛ كما يقال: العددُ إما شفعٌ وإما وتر، فإنْ وَجَبَ العتقُ لم تجب الكفارة، وإن وجبت
(3)
[الكفارة لم يجب
(1)
في الأصل: (ممانعة). والمثبت من كتب المنطق وكتب ابن تيمية الأخرى.
(2)
مجموع الفتاوى (3/ 39 - 40)(5/ 340، 151 - 152)(9/ 151، 193)، الفتاوى الكبرى (6/ 515، 554)، التدمرية (ص 63 - 64)، الرد على المنطقيين (203 - 204، 249)، درء تعارض العقل والنقل (1/ 289)(2/ 378)(5/ 137)، شرح الأصبهانية (ص 529)، بيان تلبيس الجهمية (4/ 351).
(3)
وضع الناسخ هنا علامة اللحق، وكتب في الهامش:(الوريقة المعترضة)، وهي ورقة معترضة في وسط الوجه الثاني، وقد وضعت هذا اللحق بين معقوفتين.
العتق، وإن لم يجب العتق وجبت الكفارة، وإن لم تجب الكفارة وجب العتق، فاستثناء عينِ كلٍّ منهما يستلزم نقيض الآخر، واستثناء نقيضِ كلٍّ منهما يستلزم عين الآخر، كما إذا قيل: إن كان شفعًا لم يكن وترًا وإن كان وترًا لم يكن شفعًا، وإن لم يكن شفعًا كان وترًا وإن لم يكن وترًا كان شفعًا.
وإذا كان كذلك: امتنع في مثل هذا أَنْ يُجعل عدمُ كلٍّ منهما علةً لوجود الآخر، أو وجود كل منهما علة للآخر، لأنَّ العلة تتقدم المعلول، فلا يوجد أحدهما إلا في حال عدم الآخر، فلا يكون متقدمًا عليه، ولا يعدم أحدهما إلا في حال وجود الآخر، فلا يكون متقدمًا عليه
(1)
.
فإذا قلنا: عدم هذا علةُ وجود ذاك، وعدم ذاك علة وجود هذا = كان وجود ذاك بعدَ عَدَمِ هذا وعَدَمُ هذا قبل وجود ذاك، وكان وجودُ هذا بعد عدم ذاك وعدم ذاك قبل وجود هذا.
ومعلومٌ أَنَّ وجود كلٍّ منهما وعدم الآخر متلازمان، لا يسبق أحدهما الآخر، وحينئذٍ؛ فإذا جُعِلَ وجودُ ذاك بعد عدم هذا وعدم هذا مع وجود ذاك، فقد جعل وجود الشيء بعد وجوده، وقيل: إنه لا يوجد حتى يوجد.
وقوله: (إذا كان كل منهما معللًا] بعدم الآخر فليس هذا بدور، فإنَّ كلًا من الضدين مشروط بعدم الآخر) كلام من لم يفهم الدور [131/ ب] الممتنع والجائز، والفرق بين العلة والشرط؛ فإن العلة غير الشرط، فإن الشرط يقارن المشروط، بخلاف العلة فإنها تتقدم المعلول
(2)
.
(1)
جامع المسائل (6/ 88)، درء تعارض العقل والنقل (3/ 61 وما بعدها).
(2)
مجموع الفتاوى (9/ 139)(16/ 15)، جامع المسائل (6/ 195)، الرد على المنطقيين (ص 190 - 191، 422، 426)، درء تعارض العقل والنقل (3/ 294، 298)، منهاج السنة (1/ 223، 256)(2/ 281)(3/ 127).
والدور في الشروط جائز وهو الدور الاقتراني، والدور في العلل غير جائز وهو الدور السبقي
(1)
، فإذا قيل: لا يوجد هذا إلا بعد ذاك ولا يوجد ذاك إلا بعد هذا = كان هذا ممتنعًا، بخلاف ما إذا قيل: لا يوجد ذاك إلا مع هذا ولا هذا إلا مع ذاك، فإنَّ هذا جائزٌ، كما إذا قيل: لا توجد الأبوَّة إلا مع البنوة ولا البنوة إلا مع الأبوة، فإنَّ هذا جائزٌ، بخلافِ ما إذا قيل: لا توجد الأبوة إلا بعد البنوة ولا البنوة إلا بعد الأبوة، فإنَّ هذا ممتنع، وهنا لو قيل: لا يكون وجوب الكفارة إلا مع عدم العتق ولا العتق إلا مع [عدم]
(2)
وجوب الكفارة= كانَ صحيحًا.
وأما إذا قيل في تعليق الحلف بالعتق: الكفارة واجبة، لأنَّ العتقَ لم يقع، وقيل: العتق واقع لأن الكفارة لم تجب؛ فهذا باطل، فإنَّ الحلف بالعتق، إما أَنْ تكون الكفارة فيه مشروعة وإما أن [131/ ب/ ب]
(3)
لا تكون، فإنْ لم تكن مشروعة = كان الواجب أَنْ يقال: يقع العتق لامتناع الكفارة، وقيل: تجب الكفارة لامتناع العتق؛ مع أنَّ وقوع العتق وامتناع الكفارة متلازمان لا يسبق أحدهما الآخر = كان هذا دورًا باطلًا، لأنَّ امتناع الكفارة
(1)
مجموع الفتاوى (8/ 152 - 153)(9/ 214)، مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 168)، الرد على المنطقيين (ص 301)، الرد على الشاذلي (ص 188)، الصفدية (1/ 12، 49، 94)(2/ 218)، درء تعارض العقل والنقل (1/ 281)(3/ 143، 161، 364)، شرح الأصبهانية (ص 57، 68، 96، 97، 135 وما بعدها، 143، 145).
(2)
إضافة يقتضيها السياق.
(3)
تقدم الإشارة إلى مثيلاتها.
لا يكون إلا مع وقوع العتق، فكأنه قيل: يقع العتق لوقوع العتق، فَجَعَلَ وجودَ الشيء متقدمًا لوجود نفسه، بل علةً لوجود نفسه؛ وهذا من أظهر الدور الممتنع.
* * * *
فصلٌ
قال المعترض:
(ولا نُسَلِّمُ أَنَّ مرادَ أحمد تعليلَ وقوع العتق بعدم الكفارة، وكيف تَخَيَّلَ ذلك؟ بل علةُ وقوعِ العتق: التعليقُ، وإنما أشار أحمد إلى أَنَّ الوقوع والكفارة مما لا يجتمعان؛ فحيث كانت اليمين مما تَقْبَلُ وقوعَ المعلَّق ــ كالطلاق والعتق المعلقين في المملوك ــ فلا كفارة فيهما، فحينئذٍ يَحكمُ بوقوعِ العتقِ، وحيث كانت اليمين مما لا يقبل الوقوع كالحلف بعتقِ عبد غيره [132/ أ] فيحكم بالكفارة لعدم المانع منها؛ وهو وقوع العتق)
(1)
.
والجواب أَنْ يقالَ له:
مراد أحمد رضي الله عنه في ذلك ظاهر؛ فإنه قد تقدم في كلامه غير مرة أنه علل وقوع الطلاق والعتاق بأنهما لا يكفران، ولا يجوز أَنْ يعلل بكونه تعليقًا ــ كما ذكره ــ، فإنَّ نذرَ اللجاج والغضب تعليق ــ أيضًا ــ وفيه الكفارة عند أحمد وجمهور السلف والخلف؛ فأحمد لم يعلل وجوب الكفارة بكونه تعليقًا، والتعليل بذلك لا يصح، بل يظهر فساده فإنه أجاب في أكثر صور التعليق الذي يقصد به اليمين بالكفارة، وفَرَّقَ بينَ تعليقِ النذر وتعليق العتق، فلا بُدَّ أَنْ يُفَرِّقَ بوصف يخص العتق والطلاق، فكيف يقوِّلُهُ ما لم يقله ــ وهو قول باطلٌ ظاهر البطلان ــ وَيَدَعُ قولَهُ المنصوص عنه؟!
وأما قوله: (وإنما أشار إلى أنَّ الوقوع والكفارة مما لا يجتمعان؛ فحيث كانت اليمين مما
(2)
تقبل وقوع المعلَّق ــ كالطلاق والعتق المعلَّقين في
(1)
«التحقيق» (41/ ب - 42/ أ).
(2)
هنا في الأصل زيادة (لا)، والصواب حذفها لما تقدَّم في أول الفصل، وكما في «التحقيق» ، ولا يستقيم الكلام إلا بذلك حيث إنه سيأتي الكلام على ما لا يقبل الوقوع.
المملوك ــ فلا كفارة فيهما، فحينئذٍ نحكم بوقوع العتق، وحيث كانت اليمين مما لا يقبل الوقوع كالحلف بعتق عبد غيره نحكم بالكفارة لعدم المانع منهما وهو وقوع العتق).
فيقال له: كون الوقوع والكفارة مما لا يجتمعان ظاهرٌ معروف لا يحتاج إلى تبيينه
(1)
أحمد، وأما الذي يحتاج إلى البيان انتفاء الكفارة تارة وثبوتها أخرى، وقد علل ذلك بأنَّ العتق واقع، وإذا وقع امتنعت الكفارة بخلاف الحلف بعتق عبد الغير فإنه لا يقع؛ فلهذا كفر.
فيقال ــ حينئذٍ ــ: إذا كان الحلف بالعتق يقبل التكفير، فلماذا لم يكفر الحالف بعتق عبده؟ ولم قلتم: إنه وقع فلا يقبل التكفير؟ ولا يجوز تعليل وقوعه بعدم التكفير، لأنه قد علل وجوب الكفارة في الحلف بالعتق بعدم وقوع العتق فيما إذا حلف بعتق عبد الغير = فصار عدم وقوع العتق في الحلف علة لوجوب الكفارة.
وأعني بالعلة: ما هو [132/ ب] أعم من العلة القاصرة
(2)
، أو جزء العلة وهو: السبب الذي يضاف إليه الحكم.
فإنَّ الكفارة إنما وجبت لكونه عقد يمينًا بعتقٍ وإنه لم يجعل العتق يوجب الكفارة لمجموع الأمرين، ودَلَّ ذلك على أَنَّ الحلف بالعتق مما يسوغ فيه الكفارة، فلا يقال: الحلف بالعتق لا كفارة فيه بحال، لكن إنما
(1)
في الأصل: (تنبيه).
(2)
في الأصل: (القاصر)، والصواب ما أثبتُّ.
وجبت الكفارة مع عدم حصول العتق فإنهما لا يجتمعان.
وحينئذٍ؛ فلا يجوز أن يقال في صورة النزاع: يقع العتق المحلوف به، لأنَّ العتق لا كفارة فيه.
وأما الفَرْقُ بكون العتق هنا ممكنًا لكونه صادفَ ملك العتق، بخلاف تلك الصورة فإنه واقع في ملك الغير.
فيقال: هذه علة صحيحة تقتضي وقوع العتق في ملكه دون ملك الغير، لا تقتضي ثبوت الكفارة
(1)
في الحلف بعتق عبد الغير، ولا تقتضي وقوع العتق في الحلف بعتق عبده إنْ لم يثبت أَنَّ الحلفَ بالعتق إعتاق، وهذا محل النزاع.
وإنْ قيل: بل الحلف بالعتق يقتضي العتق إِنْ أمكن وإلا فالتكفير.
قيل: اقتضاؤه للتكفير يوجب أَنْ يكون يمينًا، وحينئذٍ؛ فمقتضى اليمين التكفير، والحكم الواحد يكون له علتان
(2)
؛ فعتق عبد الغير المحلوفِ به أوجب الكفارة لكونه محلوفًا به، فلو كان الحلف بالعتق ليس سببًا للكفارة لامتنع
(3)
وجوب الكفارة.
فَعُلِمَ أنه على هذا القول لا بُدَّ إما من الإعتاق وإما من الكفارة، وحينئذٍ؛ فلا يقال في صورة النزاع: العتق لا كفارة فيه.
(1)
كرر الناسخ كلمة (الكفارة).
(2)
مجموع الفتاوى (15/ 123)(20/ 170 - 172)(21/ 263)، الفتاوى الكبرى (1/ 297)، جامع المسائل (6/ 92)، المسوَّدة (2/ 780).
(3)
في الأصل رسمت الكلمة هكذا (لا منع)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
وإن قيل هنا: العبد مملوك له.
قيل: هب أنه مملوك له؛ لكن أين السبب التام المقتضي لإعتاقه إنما وجد يمين؟
فإنْ قلت: اليمين إعتاق؛ لزم إذا كانت بعبد الغير ألا تقع ولا كفارة فيها، لأن إعتاق عبد الغير لا كفارة فيه.
وإِنْ قلتَ: هي يمين، واليمين لا كفارة فيها = انتقضت بهذه الصورة.
وإِنْ قلتَ: هي يمين بعتق، فقيل: العتقُ وملك غيره
(1)
عقد لا يقبل العتق، قيل: وكونه قابلًا للعتق يقتضي [133/ أ] أنَّ الحالف يمكنه أَنْ يعتقه وأَنْ يكفر، لا يقتضي وقوع العتق، وهذا فرقٌ صحيح؛ فإنه هنا يخير بين الإعتاق والتكفير، وهناك يتعين التكفير على هذه الرواية، فأما أَنْ يقال: كونه قابلًا للعتق وصفٌ موجب لوقوع العتق= فليس كذلك.
ونكتة المسألة: أَنَّ الحلف إن كان إعتاقًا فلا كفارة فيه إذا لم يقع، وإن كان يمينًا ففيه الكفارة مطلقًا، لكن إِنْ أمكنَ إيقاعُهُ خُيِّرَ بين التكفير والإيقاع، وإِنْ تَعَذَّرَ تعيَّن
(2)
التكفير؛ فهذا مقتضى الأصول لمن تَدَبَّرَ ذلك؛ والله أعلم.
(1)
كتب الناسخ (الغير) وتحتها ما أثبت وبعدها كلمة (صح).
(2)
في الأصل: (يعني)، والمثبت هو الصواب إن شاء الله، والمعنى: إن تعذَّر الإيقاع بأن كان مملوكًا للغير تعيَّن فيه التكفير.
فصلٌ
قال: (ثم إِنَّ غاية هذا الوجه ــ لو صح ــ إثبات التناقض بين كلامَي إمامه، ولزوم الدور له في تعليله، وهذا ليس دأب المخرِّجين، بل التخريج استنباطٌ مما يدل عليه كلام الإمام؛ والله أعلم)
(1)
.
والجواب عنه من وجوه:
أحدها: أَنْ يقال: هذا التناقض كما أنه لازمٌ لأحمدَ رضي الله عنه فهو لازمٌ لسائر الأئمة رضي الله عنهم ألزم وألزم، فإنه ليس من الفقهاء أحدٌ إلا وهو يجعل هذا التعليق يمينًا في بعض الأحكام؛ فمنهم من يجعله يمينًا في الإيلاء، والإيلاء هو اليمين، قال الله تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} الآية [البقرة: 226]، وجمهورهم يقولون: الحالف بهذه مولٍ، ثم منهم مَنْ يدرجها في لفظ الإيلاء، ومنهم مَنْ يقولُ الحكمُ فيها يثبت قياسًا؛ وعلى التقديرين يلزمهم مثل ذلك في الكفارة، فإنْ كانَ لفظ الإيلاء يعم هذا، فكذلك لفظ اليمين.
وإن قالوا: أثبتنا به حكم الإيلاء بمعنى المشترك، فالمعنى المشترك هو الموجب للكفارة؛ فإنهم إذًا نظروا إلى المعنى الموجب للكفارة.
فإنهم إذا قالوا: حكمُ الإيلاء ثبت لرفع الضرر عن المرأة إذا امتنع من جماعها باليمين، وامتناعه بما يلزمه من الطلاق أشد.
قيل لهم:
أولًا: إذا جعلتموه موليًا لزمكم أَنْ تحكموا فيه بخلاف حكم الله ــ
(1)
«التحقيق» (42/ أ).
تعالى ــ في المولي، فإنَّ الله ــ عز وجل ــ خَيَّرَ المولي بين إمساكٍ بمعروف وتسريحٍ بإحسان؛ [133/ ب] فهو مخيرٌ بين أَنْ يفيءَ ويكفِّر وبين أَنْ يطلِّق، وإذا آلى
(1)
بالطلاق الثلاث لزمه الطلاق عندكم سواء فاء أو لم يف، فإنه إِنْ فاءَ بوطءٍ طلقت عندكم، وإِنْ انقضت المدة لزمه عندكم أَنْ يطلق أو يفيء فيطلق امرأته، فلزمه الطلاق على كل حال، وهذا خلاف حكم القرآن.
وأيضًا؛ فعلى هذا التقدير: لا يَبقى في تربص أربعة أشهر فائدة لا للرجل ولا للمرأة، فإنَّ الرجلَ يلزمه الطلاق بكل حال، والمرأة ليس لها فائدة في مقامها معه مع لزوم الطلاق، ولا يحصل لها إلا وطأة واحدة على أحد قوليهم، فإنه إذا آلى بالطلاق المحرم؛ فهل يجوز له وطؤها؟ على قولين مشهورين، وهما روايتان عن أحمد، أحدهما: يجوز كقول الشافعي رضي الله عنه، والثاني: لا يجوز كقول مالك رضي الله عنه؛ ومأخذهما: أنَّ النزع هل هو محرم أو ترك للمحرم؟
وأيضًا؛ فإنْ آلى بالعتق وقيل يلزمه ذلك أو آلى بغيره؛ فمعلومٌ أنه إنما لزمه حكم الإيلاء لأجل رفع الضرر عن المرأة، وهذا هو المعنى الموجود في الإيلاء باسم الله ــ تعالى ــ.
ومعلومٌ أن الله ــ عز وجل ــ إنما شرع للمسلمين تحلة أيمانهم لما عليهم من الحرج من الإلزام بمقتضى اليمين من غير تحلة، فإنَّ الناسَ يحلفون على ترك حاجاتٍ
(2)
يتضررون بتركها، وعلى ترك بِرٍّ يفوتُ مصلحة دينهم ودنياهم
(1)
كتبها الناسخ (آلا) في جميع المواضع.
(2)
تحتمل: (مباحات).
بتركه، ولهذا نهاهم أن يجعلوا اليمين مانعةً من فعل الخير بقوله: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا [وَتَتَّقُوا]
(1)
وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224]، وقال تعالى:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، وهذه نزلت في أبي بكر رضي الله عنه وكان قد حَلَفَ ألا ينفق على مِسْطَح بن أثاثة لما خاض في أمر الإفك
(2)
.
والنهي عن الإيلاء نهيٌ عن الإصرار على اليمين إذا كان قد عقدها، وأَمْرٌ له بالتكفير؛ ومعلومٌ أَنَّ هذا كله [134/ أ] لئلا تمنعهم الأيمان من فعل الطاعات والمباحات، فشرعت الكفارة لذلك، وهذا المعنى موجود في جميع الأيمان، فلو كان من الأيمان ما لا يخرج منها ولا كفارة فيها = لامتنعوا بها من فعل الطاعات والمباحات، وحصل بذلك من المفسدة في الحلف باسم الله.
فإنَّ الناس يكرهون طلاق نسائهم وعتق عبيدهم ونحو ذلك أعظم مما يكرهون غيره، فيكون امتناعهم بهذه الأيمان ــ إِنْ لم تكن مكفرة ــ عن
(3)
البر والتقوى والإصلاح بين الناس أعظم، ويكون امتناعهم إذا ابتلوا بها أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله أعظم، والفساد الحاصل إذا لم تكن هذه الأيمان مكفرة في امتناع الناس بها مما يحبه الله أعظم
(1)
ما بين المعقوفتين ليست في الأصل.
(2)
أخرجه البخاري (2661)، ومسلم (2770) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
في الأصل: (من).
وأعظم، والشارع قصده زوال ذلك الفساد.
وكما أَنَّ المولي امتنع بيمينه من وطء امرأته، فالحالفون يمتنعون بأيمانهم من حقوقٍ لله ولعباده أعظم من وطء المرأة، يحلف أحدهم ألا يقضي حقوقًا واجبة عليه لله ــ تعالى ــ ولأبويه ولغيرهما؛ فإذا كان دفع الضرر عن امرأةٍ أَثبتَ حكم الإيلاء في جميع الأيمان، فقصد دفع الضرر عن جميع الخلق أولى أَنْ يُثبِتَ حكمَ التكفير في جميع الأيمان؛ وبسط هذا له موضع آخر
(1)
.
والمقصود هنا: أَنَّ جميع العلماء أعطوا هذه التعليقات حكم الأيمان في بعض المواضع، ومن ذلك: أَنَّ جمهورهم يجوِّزُون فيها الاستثناء، ومن ذلك أَنَّ التعليق الذي يحلف فيه بالكفر جعله جميعهم يمينًا لا تعليقًا موجبًا للكفر، ثم منهم مَنْ قال: هو يمين مكفَّرة لأنه التزم
(2)
هتك حرمة أيمانه، ومنهم من قال: ليس يمينًا
(3)
مكفرة.
ومنها: أَنَّ جمهور العلماء يقولون: إِنَّ تعليق النذر الذي يقصد به اليمين يمين تجري فيها الكفارة، وهذا المعنى موجود في الحلف بالعتق والطلاق.
ومنها: أَنَّ أكثرهم ــ أيضًا ــ كأبي حنيفة رضي الله عنه وأصحاب الشافعي الخراسانيين ــ رضي الله [134/ ب] عنهم ــ فَرَّقُوا بين تنجيز الشيء وبين تعليقه على وجه اليمين، كما في نذر المعصية والمباح، فإذا نذر ذلك لا على
(1)
المستدرك على مجموع الفتاوى (4/ 218).
(2)
في الأصل: (التزمه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(3)
في الأصل: (يمين).
وجه اليمين لم يلزموه بشيءٍ، وإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فلله عليَّ أَنْ أُطلِّقَ امرأتي؛ ألزموه بكفارة يمين، ففرَّقُوا بين أَنْ يقول: عليَّ أَنْ أُطلِّقَ، وبين أنْ يقول: إِنْ فعلتُ فعليَّ أَنْ أُطلِّق.
كما فرَّق أحمد في إحدى الروايتين بين أَنْ يقول: غلامُ فلان حر، وبين أَنْ يقول: غلام فلان حر لأفعلن كذا؛ فجعلوا التعليق الذي يقصد به اليمين يمينًا مكفرة وإنْ كان المعلَّق لا يَلزم بِهِ شيء إذا كان منجزًا غير معلق بحيث لم يقصد به اليمين؛ فَعُلِمَ أَنَّ قصد اليمين مؤثر عندهم في لزوم الكفارة.
وأيضًا؛ فالشافعي وغيره يلزمه من التناقض أكثر مما
(1)
يلزم أحمد، فإنه جعل هذا التعليق الذي يقصد به اليمين من باب الأيمان، وأَنَّ القياس يقتضي أن فيه كفارة يمين كما هو قول عائشة رضي الله عنها وعدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قالوه في قصة ليلى بنت العجماء وفيها العتق، ومعنى اليمين موجود في ذلك.
والشافعي ــ أيضًا ــ يقول: إنَّ الطلاق والعتاق لا يكفران، لا إيقاعًا ولا حلفًا، كما قال أحمد مع وجود معنى اليمين في الحلف بهما؛ فالتناقض في هذا لازمٌ لكلِّ مَنْ خالف القول الثابت عن الصحابة الذي دل عليه الكتاب والسنة والاعتبار.
والجواب الثاني أَنْ يقالَ: التخريجُ هو: استنباطٌ مما دَلَّ عليه كلام الإمام، لكن إن لم يكن له في صورةِ التخريج نصٌّ جُعِلَ ذلك قياس قوله ومقتضاه، وإنْ كان خلاف نَصِّهِ جُعِلَ ذلك قولًا مخرجًا له خلاف
(1)
في الأصل: (ما)، والصواب ما أثبتُّ.
المنصوص؛ كما يفعل ذلك كبراء أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما إذا وجدوا للإمام نصًّا في مسألة، ووجدوا له نصًّا في أخرى مثلها بخلاف ذلك= خَرَّجُوا له فيهما قولين، والقولان متناقضان، ولا يمنع تناقض قول الإمام أَنْ يكون في ذلك قولان مخرجان، كما لو نَصَّ على قولين متناقضين
(1)
.
فالأئمة كلهم ــ الأربعة وغيرهم ــ يكون لأحدهم في المسألة الواحدة قولان [135/ أ] صريحان متناقضان، ولا يمنع تناقضهما أَنْ يكونا قولين له، لأنَّ العلماء ليسوا بأنبياء معصومين، وإنما هم مجتهدون، وإذا لم يكن في المسألة إلا قولان = كان القول الموافق لحكم الله ورسوله أحدهما دون الآخر، وصاحب القول الآخر مأجورٌ على اجتهاده وخطؤه مغفورٌ له؛ فمن يجعل تناقض أقوال العلماء مانعًا من حكاية الأقوال المتناقضة عنهم = كان هذا مخالفًا لما عليه عامةُ العلماء في حكايتهم عن العالم الواحد عدة أقوال متناقضة.
ومعلومٌ أنه لا يعتقد القولين المتناقضين في وقت واحد، بل يعتقد هذا في وقت وهذا في وقت، وقد يقول في الوقت الواحد قولان، ويكون معنى ذلك التوقف؛ هل يقول بهذا أو بهذا؟ وأَنَّ المسألة تحتمل هذا وهذا، ليس مراده الجزم بأنَّ هذا قوله وهذا قوله؛ فإنَّ هذا لا يقوله عاقل، وهذا معنى قول الشافعي في المسألة قولان، وهذا يقوله أحمد ــ أيضًا ــ، وقد يذكر الأقوال ولا يرجح واحدًا منها، وإذا توقف جَعَلَ أصحابُهُ المسألةَ على
(1)
المسوَّدة (2/ 940 وما بعدها).
وانظر ما تقدَّم (ص 274 وما بعدها).
وجهين
(1)
.
والتوقف إذا كان مع المعرفة بالقولين ودليلهما ومَنْ قالهما كانَ هذا من علم العلماء المجتهدين، وأما إنْ كان مع عدم العلم بشيء من ذلك فهذا توقف الجاهل، وإن كان مع المعرفة بالنقل فيهما دون المعرفة بأدلتهما كان هذا مِنْ علم الحافظين لأقوال العلماء ومذاهبهم، وهو ــ أيضًا ــ علمٌ يستفاد وإن كان دون المعرفة بدليل كلٍّ من القولين
(2)
.
الجواب الثالث أَنْ نقول:
قوله: (غاية هذا إثبات التناقض بين كلامَي إمامه) إما أَنْ يكون مقصوده الطعن في التخريج
(3)
.
(1)
جامع المسائل (6/ 322). وانظر: المسائل الفقهية التي توقف فيها الإمام أحمد (ص 112 - 126).
(2)
قال ابن القاص في نصرة القولين للإمام الشافعي (ص 149): والناس في العلم على ثلاث منازل: فمن عرف وجه الحق؛ فهو عالم. ومَنْ عرف الاختلاف ووجوه الاحتمال؛ فهو فقيه. ومَنْ وَضَحَ له ذلك حتى نزَّل وجوه الاحتمال منازلها ورَتَّبَ المشكلات مراتبها؛ فهو حكيم.
ولو لم يسمع المتعلِّم إلا بقولٍ واحدٍ، ولم يَسلك إلا طريقًا واحدًا، ولم يَتَّسِع في تَعَرُّفِ وجوه الاحتمال من سُبُلِ الاجتهاد = لَجَبُنَ كثيرٌ من المتعلمين إذا سمع بقول المخالفين واحتجاجهم، ولم يَنبعث في النظر يوم التناظر، وأسرع إلى الانقطاع لدى المحافل حتى يتعلَّق بالتقليد تَعلُّقَ الغريق، أو يَتعذَّر بالإحسان، وذلك غايةُ الخذلان، والله المستعان.
(3)
كذا في الأصل، ويبدو أنَّ هناك سقطًا في الأصل بدليل ما بعده من الكلام، ولعل صواب العبارة هكذا:(إما أن يكون مقصوده الطعن في الأئمة، وإما أن يكون مقصوده الطعن في التخريج).
وانظر ما تقدم في (ص 496).
وكلاهما باطل؛ أما الأول فلأنَّ الأقوال الصريحة المتناقضة المنقولة عن الأئمة لا توجب الطعن فيهم بالاتفاق، بل تدل على تغيُّرِ اجتهادهم، وكثرة نظرهم، واتباعهم الحق إذا ظهر لهم، وإذا كان التناقض الصريح على هذا الوجه ليس طعنًا؛ فالتناقض المستنبط أولى.
وأما التخريج؛ فهذا حالُ كُلِّ مَنْ خَرَّجَ لإمامٍ من الأئمة قولًا مخالفًا لقوله [135/ ب] المنصوص، فإنه إنما يخرجه من نَصٍّ آخر يناقض النص الأول؛ فقول المعترض:(ليس دأب المخرجين) إما جهلٌ بالتخريج وإما تجاهل.
وقوله: (إنَّ التخريج استنباطٌ مما يدل عليه كلام الإمام) كلامٌ صحيح، لكنه استنباط مما يدل عليه كلامه، مع أَنَّ له كلامًا آخر يخالف ذلك الكلام، فهو تخريج من ذلك الكلام المخالف لهذا الكلام.
وأحمد ــ رحمه الله تعالى ــ قد اختلف كلامه في الحلف بالطلاق والعتاق؛ هل هما من الأيمان أم لا؟ فتارةً يجعلهما من الأيمان فيجوِّز فيهما الاستثناء، وتارةً لا يجوِّز فيهما الاستثناء، وتارة يقول: إنه ينعقد بها الإيلاء، وتارة يقول: لا ينعقد بهما الإيلاء، ولما ذكر أن الحالف بعتقِ عبد غيره يكفر كفارة يمين = دَلَّت هذه الرواية على أنه جعل الحلف بالعتق من الأيمان؛ وهو المطلوب، ولهذا صار مثل هذا يجعل قولًا مخرجًا مخالفًا للقول المنصوص.
وقد اختلف أصحاب أحمد وغيرهم من العلماء؛ هل يُحكى المذهب عن العالم بالقياس والتعليل؟ فمن أصحاب أحمد مَنْ يُثبت له أقوالًا بالقياس على قوله؛ كالأثرم والحربي وابن حامد والقاضي وأكثرهم، ومنهم مَنْ لا يُثبت ذلك؛ كما ذكره ابن حامد عن الخلال وصاحبه، وذكر القاضي أَنَّ هذا مبنيٌ على مسألة تخصيص العلة
(1)
.
* * * *
(1)
انظر ما تقدم (ص 275 وما بعدها).