الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتأمَّلْ ما في ضمنِ هذه الأحكام الأربعة من حكمته تعالى وعدله وفضله، والردِّ على أهل الغرور والأطماع الكاذبة، وعلى أهل الجهل بالله وأسمائه وصفاته.
وقالت طائفة أخرى: المراد بالإنسان هاهنا: الحيُّ دون الميِّت
(1)
. وهذا أيضًا من النَّمط الأول في الفساد. وهذا كلُّه من سوء التصرُّف في اللفظ العامّ. وصاحبُ هذا التصرُّف لا ينفد
(2)
تصرّفُه في دلالاتِ الألفاظ وحَمْلِها على خلاف موضوعها [81 ب] وما يتبادر إلى الذهن منها. وهو تصرُّف فاسد قطعًا يُبطِله السياقُ، والاعتبارُ، وقواعدُ الشرع وأدلَّتُه وعرفُه. وسببُ هذا التصرف السيئ أن صاحبه يعتقد قولاً، ثم يردُّ كلَّ ما دلَّ على خلافه، بأي طريق اتَّفقت له. فالأدلّةُ المخالفة لما اعتقده عنده من باب الصائِل
(3)
، لا يبالي بأيِّ شيء دفَعَه! وأدلَّةُ الحقِّ لا تتعارض ولا تتناقض، بل يصدِّق بعضُها بعضًا
(4)
.
وقالت طائفة أخرى، وهو
جوابُ أبي الوفاء بن عَقيل
(5)
، قال: الجوابُ الجيِّد عندي أن يقال: الإنسانُ
(6)
بسعيه وحسن عِشرته اكتسب الأصدقاء، وأولَدَ الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير، وتودَّد إلى الناس، فترحَّموا
(1)
لم أقف على هذا القول.
(2)
ما عدا (ق): «ينفذ» بالذال المعجمة، تصحيف.
(3)
(ب، ط، ج): «دفع الصائل» . وبعده: «بل لا يبالي» . ولعلّ زيادة «دفع» جرّت إلى زيادة «بل» .
(4)
في (ب، ط، ن، ج) زيادة: «ويؤيد بعضها بعضًا» .
(5)
ذكر نحوه ابن الجوزي في زاد المسير (7/ 231) بما حكاه شيخه ابن الزاغوني.
(6)
(أ، ق، غ): «للإنسان» .
عليه، وأهدَوا له العبادتِ؛ فكان
(1)
ذلك أثرَ سعيه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنَّ أطيبَ ما أكل الرجلُ مِن كَسْبه، وإنَّ ولَدَه مِنْ كَسْبِه»
(2)
. ويدلُّ عليه قولُه في
(1)
(ن): «وكان» .
(2)
أخرجه أبو داود (3528)، والنسائي (4449)، والإمام أحمد (24032)، وابن حبان (4259)، والحاكم (2/ 46) من طريق منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن عُمارة بن عمير، عن عمّته، أنها سألت عائشة رضي الله عنها: في حجري يتيم أفآكل من ماله؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فذكره). وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
كذا قال! مع أن في إسناده جهالة؛ لأن عمّة عمارة بن عمير لا تعرف كما قاله ابن القطان الفاسي في بيان الوهم والإيهام (4/ 546).
ثم في سنده اختلاف كثير أيضًا، فرواه الأعمش، واختلف عليه:
فروي عنه، عن إبراهيم النخعي، به، بمثل رواية منصور. أخرجه النسائي (4450)، والإمام أحمد (24135)، والحميدي (246) عن سفيان بن عيينة، عن الأعمش، به.
وروي عنه، عن عمارة بن عمير، به. ولم يذكر إبراهيم النخعي. أخرجه الترمذي (1358) وقال: حديث حسن.
وروي عنه، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة، بنحوه. أخرجه النسائي (4452)، وابن ماجه (2137)، والإمام أحمد (24148)، وابن حبان (4261)، والبيهقي (7/ 480) من طريق الأعمش، به. وقال البيهقي: وهو بهذا الإسناد غير محفوظ.
وهناك أوجه أخرى من الاختلاف أوردها الإمام الدارقطني في العلل (14/ 250 ــ 252) ثم قال: «والصحيح حديث منصور عن إبراهيم عن عمارة عن عمّته عن عائشة» .
وفي إسناده جهالة، كما سبق. لكن له شواهد يتقوّى بها منها حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أخرجه الإمام أحمد (6678) وغيره بإسناد حسن، وفي الباب أحاديث أخرى يراجع تخريجها في إرواء الغليل (3/ 329 ــ 330). (قالمي)
الحديث الآخر: «إذا مات العبدُ انقطع عملُه إلا من ثلاث: علمٍ ينتفع به من بعده
(1)
، وصدقةٍ جارية عليه
(2)
، أو ولدٍ صالح يدعو له»
(3)
. ومن هنا قال الشافعي
(4)
: إذا بذل له ولدُه طاعةَ الحج كان ذلك سببًا لوجوب الحجِّ
(5)
عليه، حتى كأنه في ماله زادٌ وراحلة
(6)
، بخلاف بذل الأجنبيِّ.
وهذا جوابٌ متوسِّط يحتاج إلى تمام. فإنَّ العبدَ بإيمانه وطاعته لله ورسوله قد سعى في انتفاعه
(7)
بعمل إخوانه المؤمنين مع عمله، كما ينتفع بعملهم في الحياة الدنيا
(8)
مع عمله. فإن المؤمنين ينتفعُ بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها، كالصلاة في جماعة
(9)
، فإن كلَّ واحد منهم تُضاعَف صلاتُه إلى سبع وعشرين
(10)
ضِعفًا، لمشاركة
(11)
(1)
«من بعده» لم يرد في (ق).
(2)
لم ترد «عليه» في (ن، غ). وهي مضروب عليها في الأصل.
(3)
تقدَّم تخريجه في أول المسألة.
(4)
(ق): «الإمام الشافعي رحمة الله عليه» .
(5)
(ق): «سبب وجوب الحج» .
(6)
(ق، ن): «زادًا وراحلةً!»
(7)
(غ): «في عمله بانتفاعه» . وكان في الأصل على الصواب، فغيّره بعضهم كما أثبته ناسخ (غ). وفي (ن) تحرّف «سعى» إلى «ينتفع» .
(8)
لم يرد لفظ «الدنيا» فيما عدا (أ، غ).
(9)
(أ، غ): «الجماعة» .
(10)
يعني: درجة أو صلاة. وفي (ق): «سبعة وعشرين» . وجاء ذلك في حديث ابن عمر الذي أخرجه مسلم (650).
(11)
(ب، ط، ج، ن): «بمشاركة» .
غيره له في الصلاة. فعملُ غيره كان سببًا لزيادة أجره، كما أنَّ عملَه سببٌ لزيادة أجر الآخر. بل قد قيل: إنَّ الصلاةَ يُضاعَف ثوابُها بعدد المصلِّين. وكذلك اشتراكهم في الجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البرِّ والتقوى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمنُ للمؤمن كالبُنيان يشُدُّ بعضُه بعضًا» ، وشبَّكَ بين أصابعه
(1)
. ومعلوم [82 أ] أنَّ هذا بأمورِ الدين أولى منه بأمور الدنيا.
فدخولُ المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كلٍّ من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته، ودعوة المسلمين تُحيط من ورائهم. وقد أخبر الله سبحانه عن حَمَلة العرش ومَن حولَه أنهم يستغفرون للمؤمنين ويَدْعون لهم، وأخبر عن دعاء رُسُله واستغفارهم للمؤمنين، كنوحٍ وإبراهيمَ ومحمدٍ صلى الله عليه وسلم. فالعبدُ بإيمانه قد تسبَّب إلى وصول هذا الدعاء إليه، فكأنه من سَعْيه
(2)
.
يُوضِّحه أنَّ الله سبحانه جعل الإيمان
(3)
سببًا لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسَعْيهم، فإذا أتى به فقد سعى في السَّببِ الذي يُوصل إليه ذلك. وقد دلَّ على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص:«إن أباك لو كان أقرَّ بالتوحيد نفعَه ذلك»
(4)
. يعني العِتقَ الذي فعل عنه بعد موته. فلو
(1)
أخرجه البخاري (481) ومسلم (2585) من حديث أبي موسى الأشعري.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (24/ 307).
(3)
(أ، ق، غ): «الإعادة» ، وهو تحريف. وفي طرَّة الأصل تصحيح بخط بعضهم.
(4)
سبق في فصل وصول ثواب الصدقة.
أتى بالسبب لكان قد سعى في عملٍ يُوصِل إليه ثوابَ العتق. وهذه
(1)
طريقة لطيفة حسنة جدًّا.
وقالت طائفةٌ أخرى: القرآن لم يَنْفِ انتفاعَ الرجل بسعي غيره، وإنما نفى مُلكَه لغير سعيه
(2)
، وبين الأمرين من الفرق ما لا يَخفى. فأخبر تعالى أنَّه لا يملِك إلا سعيَه، وأما سعيُ غيره فهو مِلْكٌ لساعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره، وإن شاء أن يُبقِيَه لنفسه. وهو سبحانه لم يقُل: لا يَنتِفع إلا بما سعى. وكان شيخنا يختار هذه الطريقة ويرجِّحها
(3)
.
فصل
وكذا قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقوله:{وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54]، على أنَّ هذه الآيةَ أصرحُ في الدلالة على أنَّ سِياقَها إنما ينفي عقوبةَ العبد بعمل غيره وأخذَه بجَرِيرته. فإنَّه
(4)
سبحانه قال: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54] فنفى أن يُظلَم بأن يُزادَ عليه في سيئاته، أو يُنقَص من حسناته
(5)
، أو يُعاقَب بعمل غيره. ولم يَنْفِ أن ينتفعَ بعمل غيره، لا على وجه الجزاء، فإنَّ انتفاعَه بما يُهدَى إليه ليس جزاءً على عمله، وإنما هو صدقةٌ تصدَّق الله بها
(1)
ما عدا (ق): «فهذه» .
(2)
(ن): «لسعي غيره» .
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (24/ 312).
(4)
(ب، ط، ج): «فإن الله» .
(5)
(ب، ط): «سيئاته» .
عليه، وتفضَّل بها عليه [82 ب] من غير سَعْي منه؛ بل وهَبه ذلك على يدِ بعض عباده، لا على وجه الجزاء.
فصل
وأمَّا استدلالكم بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات العبدُ انقطعَ عملُه
…
»
(1)
، فاستدلالٌ ساقط، فإنَّه صلى الله عليه وسلم لم يقل: انقطع انتفاعُه، وإنَّما أخبر عن انقطاع عمله. وأمَّا عملُ غيره فهو لِعامله، فإن وهَبه له
(2)
فقد وصل إليه ثوابُ عمل العامل، لا ثوابُ عمله هو. فالمنقطعُ شيءٌ، والواصلُ إليه شيء آخرُ.
وكذلك الحديثُ الآخر، وهو قوله: «إنَّ ممَّا يلحَقُ الميِّتَ من حسناته وعمله
…
»
(3)
. فلا ينفي أن يلحقَه غيرُ ذلك من عمل غيرِه وحسناتِه.
فصل
وأما قولُكم: الإهداءُ حوالةٌ، والحوالةُ إنما تكون بحقٍّ
(4)
لازم؛ فهذه حوالة المخلوق على المخلوق
(5)
. وأمَّا حوالةُ المخلوق على الخالق، فأمرٌ آخر لا يصحُّ قياسُها على حوالة العبيد بعضِهم على بعض. وهل هذا
(6)
إلا مِن أبطَلِ القياسِ وأفسَدِه!
(1)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(2)
«له» ساقط من (أ، غ).
(3)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(4)
(ب، ط): «لحقّ» .
(5)
«على المخلوق» ساقط من (ب، ط، ج).
(6)
(ق): «هذا الأمر» .
والذي يُبطِله: إجماعُ الأمة على انتفاعه بأداء دَينه وما عليه من الحقوق، وإبراء المستحقِّ لذمّته، والصدقة والحجِّ عنه، بالنصِّ الذي لا سبيل إلى ردِّه ودَفعِه؛ وكذلك الصوم.
فهذه
(1)
الأقيسةُ الفاسدةُ
(2)
لا تُعارِض نصوصَ الشرع وقواعدَه.
فصل
وأمَّا قولكم: الإيثارُ بسبب الثواب مكروهٌ ــ وهو مسألة الإيثار بالقُرَب ــ فكيف الإيثار بنفس الثواب الذي هو الغاية! فقد أجيب
(3)
عنه بأجوبة.
أحدُها: أنَّ حالَ الحياة حالٌ لا يُوثق فيها بسلامة العاقبة، لجواز أن يرتدَّ الحيُّ، فيكون قد آثرَ بالقُربة غيرَ أهلها؛ وهذا قد أمِنَ بالموت.
فإن قيل: والمُهدَى إليه أيضًا قد لا يكون ماتَ على الإسلام باطنًا، فلا يَنتفع بما يُهدَى إليه. فهذا سؤالٌ في غاية البطلان، فإنَّ الإهداءَ له من جنس الصلاة عليه، والاستغفار له، والدعاء له. فإن
(4)
كان أهلاً، وإلا انتفع به الداعي وحدَه.
الجواب الثاني: أنَّ الإيثارَ بالقُرَب يدلُّ على قِلَّة الرغبة فيها، والتأخير عن فعلها
(5)
. فلو ساغ الإيثار بها لأفضى إلى التقاعد عنها [83 أ] والتكاسل
(1)
(ق): «وهذه» .
(2)
«الفاسدة» ساقطة من (ن).
(3)
(ب، ط، ن): «أجبتُ» ، تصحيف.
(4)
(ب، ط): «فإذا» .
(5)
ما عدا (أ، ق، غ): «عنها» .
والتأخُّر، بخلافِ إهداء ثوابها، فإنَّ العاملَ يحرِص عليها
(1)
لأجل ثوابها، لينتفعَ به، أو ينفعَ به أخاه المسلم. فبينهما
(2)
فرقٌ ظاهرٌ.
الجواب الثالث: أنَّ الله سبحانه يحبُّ المبادرة والمسارعة إلى خدمته، والتنافس فيها، فإنَّ ذلك أبلغُ في العبودية، فإنَّ الملوك تحبُّ المسارعة والمنافسة في طاعتها وخدمتها؛ فالإيثار بذلك مُنافٍ لمقصود العبودية. فإنَّ الله سبحانه أمر عبدَه بهذه القربة إما إيجابًا وإما استحبابًا، فإذا آثرَ بها تركَ ما أُمِرَ به
(3)
، وولَّاه غيرَه، بخلاف ما إذا فعل ما أُمِرَ به طاعةً وقُربةً، ثم أرسل ثوابَه إلى أخيه المسلم. وقد قال تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}
(4)
[الحديد: 21]. وقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]. ومعلومٌ أن الإيثارَ بها يُنافي الاستباقَ إليها والمسارعةَ.
وقد كان الصحابة يُسابق بعضهم بعضًا بالقُرَب، ولا يُؤثِر الرجلَ منهم غيره بها. قال عمرُ: والله ما سابقني أبو بكر إلى خير إلا سبقني إليه
(5)
، حتى قال: واللَّهِ لا أُسابقك إلى خيرٍ أبدًا
(6)
.
(1)
«والتأخر
…
عليها» ساقط من (ن).
(2)
ما عدا (أ، ق، غ): «وبينهما» .
(3)
(غ): «أمره» . وكذا في الأصل، لكن يظهر أن الهاء مزيدة فيما بعد.
(4)
في (أ، ق، ج، غ): «
…
عرضها السموات والأرض» وهو سهو، فإنها آية أخرى أولها:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ.} في سورة آل عمران (133).
(5)
«إليه» ساقط من (ب، ط).
(6)
انظر ما أخرجه الإمام أحمد في المسند عن ابن مسعود (3662)، وأبو داود (1678) والترمذي (3675) عن عمر رضي الله عنه.
وقد قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]. يقال: نافستُ في الشيء منافسةً، ونِفاسًا، إذا رغبتَ فيه على وجه المباراة. ومن هذا قولهم: شيء نفيسٌ، أي: هو أهلٌ أن يُتنافَس فيه ويُرغَب فيه. وهذا أنفسُ مالي أي: أحَبُّه إليَّ. وأنفَسَني فلانٌ في كذا أي: أَرغَبني فيه
(1)
. وهذا كلُّه ضدُّ الإيثار به والرغبة عنه.
فصل
وأما قولكم: لو ساغ الإهداء إلى الميِّت لساغ إلى الحيِّ؛ فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنّه قد ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم. قال القاضي: وكلامُ أحمد
(2)
لا يقتضي التخصيصَ بالميِّت، فإنه قال
(3)
: «يفعل الخير ويجعل نِصفَه لأبيه وأمِّه» ، ولم يفرِّق
(4)
.
واعترض عليه أبو الوفاء بن عَقيل وقال: هذا فيه بُعْد. وهو تلاعبٌ بالشرع، وتصرُّفٌ في أمانة
(5)
الله، وإسجالٌ على الله سبحانه بثوابٍ على عمل ينقله
(6)
إلى غيره. وبعد الموت قد جعل لنا طريقًا
(7)
إلى إيصال
(1)
انظر: الصحاح للجوهري (نفس 985) وكأن المصنف صادر عنه.
(2)
(ق): «الإمام أحمد» .
(3)
«قال» ساقط من (ن). وفي (ط) مكانها: «قد» .
(4)
انظر: الفروع (3/ 430).
(5)
كذا في (ق، ن). وفي (أ، غ): «آيات» . وفي (ب، ط): «إثابة» . وأشير في حاشية (ط) إلى أن في نسخة: «أمانة» .
(6)
(أ، ق، غ): «يفعله» .
(7)
(ب، ط، ن، ج): «طريق» .
[83 ب] النفع كالاستغفار والصلاة على الميِّت.
ثم أورد على نفسه سؤالاً وهو: فإنْ قيل: أليس قضاءُ الديون وتحمُّلُ الكَلِّ حالَ الحياة كقضائه بعد الموت؟ فقد
(1)
استوى ضمان الحياة وضمان الموت
(2)
في أنَّهما يُزيلان المطالبة عنه. فإذا وصل قضاء الديون بعد الموت وحال الحياة، فاجعلوا ثوابَ الإهداء واصلاً حالَ الحياة وبعد الموت.
وأجاب عنه
(3)
بأنه لو صحَّ هذا وجب أن تكون الذنوبُ تُكفَّر عن الحيِّ بتوبة غيره عنه، ويندفع عنه مآثمُ
(4)
الآخرة بعمل غيره واستغفاره.
قلتُ: وهذا لا يلزم، بل طردُ ذلك انتفاعُ الحيِّ بدعاءِ غيره له، واستغفارِه له، وتصدُّقِه عنه، وقضاءِ ديونه. وهذا حقٌّ. وقد أَذِنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في
(5)
أداء فريضة الحجِّ عن الحيِّ المعضوبِ
(6)
والعاجز، وهما حيَّان.
وقد أجابَ غيره من الأصحاب بأنَّ حالَ الحياة لا نَثِقُ بسلامة العاقبة، خوفًا أن يرتدَّ المُهدى له، فلا ينتفع بما يُهدَى إليه.
قال ابن عَقيل: وهذا عذر
(7)
باطل بإهداء هذا
(8)
الحيِّ فإنه لا يُؤمَن أن
(1)
(ب، ط): «فإن» .
(2)
ما عدا (أ، ق، غ): «ضمان الموت وضمان الحياة» .
(3)
«عنه» ساقط من (ب، ط).
(4)
كذا بالمدّ في (أ، ن). وفي (ط): «مأثَم» .
(5)
«في» ساقطة من (أ، غ).
(6)
المعضوب: الذي لازمه المرض المزمن، فمنعه الحركة.
(7)
ما عدا (أ، ق، غ): «عندي» .
(8)
«هذا» ساقط من (ب، ط، ن). وفيما عدا (أ، ق، غ) بعد «الحي» : «للميت» .
يرتدَّ ويموت، فيحبَطَ عملُه كلُّه، ومن جُملته ثوابُ ما أهدى إلى الميِّت.
قلت: هذا لا يلزمهم، ومواردُ النص والإجماع تُبطِله وترُدُّه، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَذِن في الحجِّ والصوم عن الميِّت. وأجمع الناس على براءة ذمَّته من الدَّين، إذا قضاه عنه الحيُّ، مع وجود
(1)
ما ذكر من الاحتمال.
والجوابُ أن يقال: ما أهداه من أعمال البرِّ إلى الميت فقد صار ملكًا له، فلا يبطلُ برِدَّة فاعله بعد خروجه عن ملكه، كتصرُّفاته التي تصرَّفها قبل الرِّدَّة، من عِتْق وكفَّارة
(2)
، بل لو حجَّ عن معضوبٍ، ثم ارتدَّ بعد ذلك لم يلزم المعضوبَ أن يُقيم غيره يحج عنه، فإنه لا يُؤمن في الثاني والثالث ذلك.
على أنَّ الفرقَ بين الحي والميّت [84 أ] أنّ الحيَّ ليس بمحتاج
(3)
كحاجة الميت، إذ يمكنه أن يباشر ذلك العمل أو نظيره، فعليه
(4)
اكتسابُ الثواب بنفسه وسَعْيه، بخلاف الميت.
وأيضًا فإنه يفضي إلى اتِّكال بعض الأحياء على بعض، وهذه مفسدة كبيرة، فإنَّ أربابَ الأموال إذا فهموا ذلك واستشعروه استأجروا من يفعل ذلك عنهم، فتصير الطاعاتُ معاوضاتٍ، وذلك يفضي إلى إسقاط العباداتِ والنوافل، ويصير ما يُتقرَّب به إلى الله يُتقرَّب
(5)
به إلى الآدميين، فيخرج عن
(1)
«وجود» ساقط من (ن).
(2)
(ق): «إجارة» .
(3)
(ب، ط، ج): «يحتاج» .
(4)
(ب، ط، ج): «فيمكنه» .
(5)
(ب، ط، ج): «متقرَّبًا» .
الإخلاص، فلا يحصل الثوابُ لواحد منهما. ونحن نمنع من أخذ الأجرة عن كل قربة، ونحبطها بأخذ الأجرة عليها، كالقضاء والفُتيا وتعليم العلم والصلاة وقراءة القرآن وغيرها، فلا يُثيب الله عليها إلا لمخلصٍ
(1)
أخلصَ العملَ لوجهه
(2)
فإذا فعله للأجرة لم يُثَب عليه الفاعلُ ولا المستأجِرُ. فلا يليق بمحاسن الشرع أن يجعلَ العباداتِ الخالصةَ له معاملاتٍ يُقصَد بها المعاوضات والأكساب الدنيوية. وفارَقَ قضاءَ الدُّيون وضمانَها، فإنَّها حقوقُ الآدميين ينوب بعضهم فيها عن بعض، فلذلك جازت في الحياة وبعد الموت
(3)
.
فصل
وأما قولكم: لو ساغ ذلك لساغ إهداءُ نصف الثواب ورُبعه إلى الميت، فالجواب من وجهين:
أحدهما: منع الملازمة، فإنكم لم تذكروا عليها دليلاً إلا مجرَّد الدعوى.
الثاني: التزام ذلك والقول به، نصَّ عليه الإمام أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحَّال
(4)
. ووجهُ هذا أنَّ الثوابَ ملكٌ له، فله أن يهديَه
(1)
كذا باللام في جميع النسخ، وضبط بتنوين الصاد بالكسر في (ق، ط، غ). وفي (ب): «المخلص» ، والظاهر أنه إصلاح من الناسخ.
(2)
(ب، ط، ج): «لوجه الله تعالى» .
(3)
قارن بما نقل ابن مفلح من كلام ابن عقيل في كتاب الفروع (3/ 433 ــ 434).
(4)
سبق في (ص 353).
جميعَه، وله أن يهديَ بعضَه. يوضِّحه: أنه لو أهداه إلى أربعةٍ مثلاً يحصل لكلٍّ منهم ربعُه، فإذا أهدى الربعَ وأبقى لنفسه الباقي جاز، كما لو أهداه إلى غيره.
فصل
وأما قولكم: لو ساغ ذلك لساغ إهداؤه بعد أن يعملَه لنفسه. وقد قلتم: إنَّه لابد أن يُنوى حالَ الفعل إهداؤه
(1)
إلى الميِّت، وإلا لم يصل.
فالجواب: أنّ هذه المسألة غير منصوصة عن أحمد
(2)
، ولا هذا [84 ب] الشرط في كلام المتقدِّمين من أصحابه، وإنَّما ذكره المتأخِّرون، كالقاضي وأتباعه.
قال ابنُ عَقيل: إذا فعل طاعةً من صلاة وصيام وقراءة قرآن وأَهداها بأنْ جعل ثوابَها للميت المسلم، فإنه يصلُ إليه ذلك
(3)
وينفعه، بشرط أن تتقدَّم نيةُ الهدية على الطاعة أو تقارنها
(4)
.
وقال أبو عبد الله بن حمدان في «رعايته» : ومن تطوَّع بقُربة من صدقةٍ وصلاة وصيام وحجٍّ وعُمرة وقراءة وعِتق وغير ذلك من عبادةٍ بدنية تدخُلها النِّيابة أو عبادة مالية، وجعل ثوابها أو بعضَه لميِّت مسلم حتى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا له، أو استغفرَ له، أو قضى ما عليه من حقٍّ شرعي أو واجب تَدخلُه
(1)
(ب، ط): «إهداؤه» .
(2)
(ق): «الإمام أحمد رضي الله عنه» .
(3)
«ذلك» ساقط من (ن).
(4)
نقله في الفروع (3/ 425) من مفردات ابن عقيل.
النيابة= نفَعَه ذلك، ووصل إليه أجرُه. وقيل: إنْ نواه حالَ فِعله أو قبلَه وصل إليه، وإلا فلا.
وسِرُّ المسألة أنَّ شرط
(1)
حصول الثواب أن يقع لمن أُهدي له أولاً، أو يجوز
(2)
أن يقعَ للعامل، ثم ينتقلُ عنه إلى غيره؟ فمن شرَطَ أن ينويَ قبل الفعل أو الفراغ منه وصولَه قال: لو لم ينوِه وقع الثوابُ للعامل، ولا يقبل
(3)
انتقاله عنه إلى غيره، فإن الثوابَ يترتَّب على العمل ترتُّبَ الأثر على مُؤثِّره.
ولهذا لو أعتقَ عبدًا عن نفسه كان ولاؤه له، فلو نقل ولاءَه إلى غيره بعد العتق لم ينتقل؛ بخلاف ما لو أعتقه عن الغير، فإن ولاءه يكون لِلمُعتَق عنه. وكذلك لو أدَّى دَيْنًا عن نفسه، ثم أراد بعد الأداء أن يجعلَه عن غيره لم يكن له ذلك. وكذلك لو حجَّ أو صام أو صلَّى لنفسه
(4)
، ثم بعد ذلك أراد
(5)
أن يجعلَ ذلك عن غيره لم يملِكْ ذلك.
ويُؤيِّد هذا أنَّ الذين سألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك لم يسألوه عن إهداء ثواب العمل بعده، وإنما سألوه عما يفعلونه عن الميِّت، كما
(6)
قال سعد: أينفعها إن تصدَّقتُ عنها؟ ولم يقل: أن أُهديَ لها ثواب ما تصدَّقتُ به عن نفسي. وكذلك قول المرأة الأخرى
(7)
: أفأحجُّ عنها؟ وقول الرجل الآخر: أفأحجُّ
(1)
كذا في (ب، ج). وفي غيرهما والنسخ المطبوعة: «أنّ أوان شرط» .
(2)
(ب): «ويجوز» . (ط): «يجوز» . وكلاهما خطأ.
(3)
(ق، ن، غ): «فلا يقبل» .
(4)
(ب، ط، ج): «عن نفسه» .
(5)
(ن): «أراد بعد ذلك» .
(6)
سبقت الأحاديث الآتية في (ص 359، 364).
(7)
«الأخرى» ساقط من (ن)، ولعل ناسخها حذفه.
عن أبي؟ فأجابهم بالإذن في الفعل عن الميت، [85 أ] لا بإهداء ثواب ما عملوه لأنفسهم إلى موتاهم. فهذا لا يُعرف أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عنه قطُّ، ولا يُعرف عن أحد من الصحابة أنه فعله، وقال
(1)
: اللهم اجعل لفلان ثوابَ عملي المتقدِّم، أو ثوابَ ما عملتُه لنفسي.
فهذا سِرُّ الاشتراط، وهو أفقهُ. ومن لم يشترط ذلك يقول: الثواب للعامل، فإذا تبرَّع به وأهداه إلى غيره كان بمنزلة ما يُهديه إليه
(2)
من ماله.
فصل
وأما قولكم: لو ساغ الإهداءُ لساغ إهداءُ ثواب الواجبات التي تجب على الحيِّ.
فالجواب: أنَّ هذا الإلزامَ محالٌ على أصل من شَرَط في الوصول نيةَ الفعل عن الميت، فإن الواجبَ لا يصح أن يفعله عن الغير، فإن هذا واجبٌ على الفاعل يجب عليه أن ينويَ به القُربة إلى الله.
وأما من لم يشترط نية الفعل عن الغير، فهل يسوغ عنده أن يجعل للميت ثواب فرضٍ من فروضه؟
فيه وجهان. قال أبو عبد الله بن حمدان: وقيل: إن جعل له ثوابَ فرض من صلاة أو صوم أو غيرهما جاز وأجزأ فاعلَه.
قلت: وقد نُقِل عن جماعة أنهم جعلوا ثوابَ أعمالهم من فرض ونفل
(1)
ما عدا (أ، ق، غ): «أو قال» .
(2)
ساقط من (ن).
للمسلمين، وقالوا: نلقى الله بالفقر والإفلاس المجرَّد
(1)
! والشريعة لا تمنع من ذلك، فالأجرُ ملكُ العامل
(2)
فإن شاء أن يجعلَه لغيره، فلا حجرَ عليه في ذلك. والله أعلم.
فصل
وأما قولكم: إنَّ التكاليفَ امتحان وابتلاء، لا تقبل
(3)
البدلَ؛ إذ المقصود منها عينُ المكلَّف العامل إلى آخره.
فالجوابُ عنه: أنَّ ذلك لا يمنع إذنَ الشارع للمسلم أن ينفع أخاه بشيء من عمله. بل هذا من تمام إحسان الربِّ ورحمته لعباده، ومن كمال هذه الشريعة التي شرعها لهم، التي مبناها على العدل، والإحسان، والتعاون
(4)
. والربُّ تعالى أقام ملائكتَه وحَمَلة عرشه يدعون لعباده المؤمنين، ويستغفرون لهم، ويسألونه لهم
(5)
أن يَقيهم السيئاتِ. وأمر خاتمَ رسله
(6)
(1)
ذكر المصنف رحمه الله في مدارج السالكين أن من له بصيرة بنفسه وبصيرة بحقوق الله لم يُبقِ له نظرُه في سيئاته حسنةً البتة، فلا يلقى الله إلا بالإفلاس المحض والفقر الصرف؛ لأنه إذا فتش عن عيوب نفسه وعيوب عمله علم أنها لا تصلح لله (1/ 221). وهذا لا غبار عليه. أما ما نقله هنا عن جماعة ــ والظاهر أنهم من المتصوفة ــ من التخلِّي عن أعمالهم بإهدائها إلى المسلمين ليلقوا الله بالإفلاس، فأمر غريب، وتأييد المؤلف لهم أغرب.
(2)
(ن): «للعامل» . (ب، ط، ج): «الفاعل» .
(3)
(ب، ط، ج): «لا يقبل» . والمثبت من (ق، غ).
(4)
(ق): «التعارف» ، تصحيف.
(5)
ساقط من (ن).
(6)
(أ، غ): «خاتم الرسل» .
أن يستغفرَ للمؤمنين والمؤمنات، ويقيمُه يوم القيامة مقامًا محمودًا يشفعُ
(1)
في العُصاة من أتباعه وأهل سُنَّته
(2)
. وقد أمره تعالى أن يصلِّي على أصحابه [85 ب] في حياتهم وبعد مماتهم. وكان يقوم على قبورهم، فيدعو لهم.
وقد استقرَّت الشريعة على أنَّ المأثم
(3)
الذي على الجميع بترك فروض الكفايات يسقط إذا فعله مَن يحصل المقصودُ بفعله، ولو واحد. وأسقط سبحانه الارتهانَ وحرارةَ الجلود
(4)
في القبر بضمان الحيِّ دَيْنَ الميت وأدائه عنه، وإن كان ذلك الوجوبُ امتحانًا في حق المكلَّف
(5)
. وأَذِن النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحجِّ والصيام عن الميِّت، وإن كان الوجوبُ امتحانًا في حقِّه. وأسقط عن المأموم سجودَ السهو بصحة صلاة الإمام وخلوِّها من السهو، وقراءةَ الفاتحة بتحمُّل الإمام لها. فهو يتحمَّل عن المأموم سهوَه وقراءته وسترته، فقراءةُ الإمام وسترتُه قراءةٌ لمن خلفَه وسترةٌ له.
وهل
(6)
الإحسان إلى المكلَّف بإهداء الثواب إليه إلا تأسٍّ
(7)
بإحسان الربِّ تعالى؟ والله يحبُّ المحسنين. «والخلقُ عيالُ الله، فأحبُّهم إليه أنفعُهم لعياله»
(8)
. وإذا كان سبحانه يحبُّ من ينفع عيالَه بشَربْة ماء، ومَذْقة لبن،
(1)
في النسخ المطبوعة: «ليشفع» خلافًا لجميع النسخ التي بين يدي.
(2)
يشير إلى حديث الشفاعة. أخرجه البخاري (7440) ومسلم (326) عن أنس.
(3)
(ب، ط، ج): «الإثم» .
(4)
(ق، ب، ط): «الخلود» ، تصحيف. وبعده في (ن):«في القبور» .
(5)
انظر الحديث المذكور في فصل وصول ثواب الحج إلى الميت.
(6)
(ب، ط، ج): «فهل» .
(7)
ج: «يأتي» ، تصحيف. وقد سقطت «إلا» من (ب، ط).
(8)
أخرجه البزار (6947)، وأبو يعلى (3315، 3478) من طريق يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس، مرفوعًا. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 191):«وفيه يوسف بن عطية الصفار، وهو متروك» . وقال الحافظ في المطالب العالية (977): «تفرد به يوسف وهو ضعيف جدًّا» . وانظر: السلسلة الضعيفة (1900). (قالمي).
وكِسْرة خبز؛ فكيف من ينفعهم في حال ضعفهم، وفقرهم، وانقطاع أعمالهم، وحاجتهم إلى شيء يُهدى إليهم أحوجَ ما كانوا إليه! فأحبُّ الخلق إلى الله من ينفع عيالَه في هذه الحال.
ولهذا جاء أثرٌ عن بعض السلف: أنه من قال كلَّ يوم سبعين مرةً: ربِّ اغفر لي ولوالديَّ وللمسلمين والمسلمين والمؤمنين والمؤمنات، حصل له من الأجر بعدَد كلِّ مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة
(1)
. ولا تستبعد
(2)
هذا، فإنه إذا استغفر لإخوانه، فقد أحسن إليهم، والله لا يُضيع أجرَ المحسنين.
فصل
وأما قولكم: إنه لو نفعه عملُ غيره لنفعه توبتُه عنه وإسلامُه عنه، فهذه الشبهة تُورَد على صورتين
(3)
:
صورة تلازُم يُدَّعَى فيها اللُّزوم بين الأمرين، ثم يُبيَّن انتفاءُ اللازم،
(1)
لم أجد هذا الأثر، لكن المصنف ذكر في مفتاح دار السعادة أن بعض السلف كان يستحب لكل أحد أن يداوم على هذا الدعاء كل يوم سبعين مرة، فيجعل له منه وردًا لا يُخِلُّ به (1/ 298). وقد أخرج الطبراني بإسناد جيد عن عبادة بن الصامت مرفوعًا:«من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة» قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 352).
(2)
(ط، ج): «يُستبعد» .
(3)
(ط): «ضربين» ، تصحيف. وفي (ن):«عليك صورتين» .
فينتفي ملزومُه. وصورتها هكذا: لو نفعه عملُ الغير عنه لنفعه إسلامُه وتوبتُه عنه، لكن لا ينفعه ذلك، فلا ينفعه عملُ الغير.
والصورة الثانية: أن يقال: لا يَنتفع بإسلامِ الغير وتوبته عنه، فلا [86 أ] ينتفعُ بصلاته وصيامه وقراءته عنه.
ومعلومٌ أن هذا التلازمَ والاقتران باطلٌ قطعًا.
أمَّا أولاً، فلأنه قياسٌ مصادمٌ لما تظاهرت به النصوص وأجمعت
(1)
عليه الأمة.
وأمَّا ثانيًا، فلأنه جمع بين ما فرَّق الله بينه، فإنَّ الله سبحانه فرَّق بين إسلام المرء عن غيره، وبين صدقته وحجِّه وعِتقه عنه، فالقياسُ المسوِّي
(2)
بينهما من جنس قياس الذين قاسوا الميتة على المذكَّى والربا على البيع.
وأما ثالثًا، فإن الله سبحانه جعل الإسلام سببًا لنفع المسلمين بعضهم بعضًا في الحياة وبعد الموت، فإذا لم يأت بسبب انتفاعه بعمل المسلمين لم يحصل له ذلك النفع؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو:«إن أباك لو كان أقرَّ بالتوحيد، فصُمْتَ، أو تصدَّقتَ عنه= نفعه ذلك»
(3)
.
وهذا كما جعل سبحانه الإسلام سببًا لانتفاع العبد بما عمل من خير، فإذا فاته هذا السبب لم ينفعه خيرٌ عمله ولم يُقبَل منه، كما جعل الإخلاص والمتابعة سببًا لقبول الأعمال، فإذا فُقِدا لم تُقبَل الأعمال. وكما جعل
(1)
(ط): «اجتمعت» .
(2)
(ب، ط): «المستوي» .
(3)
سبق تخريجه في (ص 361).
الوضوء وسائر شروط الصلاة سببًا لصحتها، فإذا فُقِدت
(1)
فُقِدت الصحة. وهذا شأن سائر الأسباب مع مُسبَّباتها الشرعية والعقلية والحسيّة، فمن سوَّى بين حالين
(2)
: وجودِ السبب وعدمِه، فهو مُبطلٌ.
ونظيرُ هذا الهوَس
(3)
أن يقال: لو قُبلت الشفاعة في العُصاة لقُبلت في المشركين. ولو خرج
(4)
أهلُ الكبائر من الموحِّدين من النار لخرج الكفار
(5)
منها، وأمثالُ ذلك من الأقيسة التي هي
(6)
من نجاسات مِعَدِ أصحابها ورَجيع أفواههم!
وبالجملة فالأولى بأهل العلم الإعراضُ عن الاشتغال بدَفْع هذه الهَذَيانات، لولا أنهم قد سوَّدوا بها صُحفَ الأعمال والصُّحف التي بين الناس!
فصل
وأما قولكم: العباداتُ نوعان: نوعٌ تدخله النيابة، فيصل ثوابُ إهدائه إلى الميت، ونوعٌ لا تدخله فلا يصل ثوابه.
(1)
ساقطة من (ب). وفي بعض النسخ استدركت في الحاشية.
(2)
ما عدا (أ، ق، غ): «حالتي» .
(3)
«الهوس» ساقط من (ب). وفي (ج): «هذه الشبهة» .
(4)
(ب، ط): «أُخرج» .
(5)
«لخرج الكفار» ساقط من الأصل، فاستدرك بعضهم في طرّتها ظنًّا:«لعله: لخرج المشركون» . وكذا أثبته في المتن ناسخ (غ).
(6)
ساقط من (ب، ط، ج).
فهذا هو نفس المذهب والدعوى، فكيف تحتجُّون به؟ ومن أين لكم هذا الفرق؟ فأيُّ كتابٍ، أم أيُّ سُنَّة، أم أيُّ اعتبار دلَّ عليه حتى يجب المصير [86 ب] إليه.
وقد شرع النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصومَ عن الميت مع أنَّ الصومَ لا تدخله النيابة. وشرع للأمَّة أن ينوب بعضهم عن بعض في أداء فرض الكفاية، فإذا فعله واحدٌ ناب عن الباقين في فعله، وسقطَ عنهم المأثم. وشرع لقيِّم الطفل الذي لا يعقل أن ينوب عنه في الإحرام وأفعال المناسك، وحكم له بالأجر بفعل نائبه
(1)
. وقد قال أبو حنيفة: يُحرِم
(2)
الرُّفْقَة عن المغمَى عليه، فجعلوا إحرامَ رفقته بمنزلة إحرامه
(3)
. وجعل الشارعُ إسلامَ الأبوين بمنزلة إسلام أطفالهما، وكذلك إسلامُ السابي والمالك على القول المنصور
(4)
.
فقد
(5)
رأيت كيف عَدَّت هذه الشريعة الكاملة أفعالَ البِرِّ من فاعلها إلى غيرهم، فكيف يليقُ
(6)
بها أن تحجُرَ على العبد أن ينفعَ والديه ورَحِمَه وإخوانه من المسلمين، في أعظم أوقات حاجاتهم، بشيء من الخير والبرِّ
(1)
يشير إلى حديث ابن عباس الذي أخرجه مسلم (1336).
(2)
(ط، ن): «تحرم» .
(3)
انظر: الهداية (1/ 151).
(4)
انظر: إعلام الموقعين (2/ 67 - 69). وفي بعض النسخ المطبوعة: «المنصوص» موضع «المنصور» ، ولعله من تغيير الناشرين.
(5)
(ق): «وقد» .
(6)
«فكيف» ساقط من (ب). وفي (ج): «أيليق» .
يفعله ويجعل ثوابَه لهم؟ وكيف
(1)
يَتحجَّر العبدُ واسعًا، أو يحجُر على من لم يحجُرْ عليه الشارع في ثواب عمله أن يصرف منه ما شاء إلى من شاء من المسلمين؟ والذي أوصل ثوابَ الحج والصدقة والعِتق هو بعينه الذي يُوصِل ثوابَ الصيام والصلاة والقراءة والاعتكاف. وهو: إسلامُ
(2)
المُهدَى إليه، وتبرُّع المُهدي وإحسانُه، وعدمُ حَجْر الشارع عليه في الإحسان، بل نَدْبُه
(3)
إلى الإحسان بكل طريق.
وقد تواطأتْ رؤيا المؤمنين وتواترت أعظمَ تواتر على إخبار الأموات لهم بوصول ما يُهدُونه إليهم من قراءةٍ وصلاة وصدقة وحجٍّ وغيره. ولو ذكرنا ما حُكي لنا من أهل عصرنا وما بلَغَنا عمَّن قبلَنا من ذلك لطالَ
(4)
جدًّا. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأتْ على أنَّها في العَشْرِ الأواخر»
(5)
، فاعتبرَ
(6)
صلى الله عليه وسلم تواطؤَ رؤيا المؤمنين. وهذا كما يعتبر تواطؤ روايتهم عمَّا شاهدوه، فهم لا يَكذبون في روايتهم ولا في رؤياهم
(7)
إذا تواطأت.
(1)
(ق): «فكيف» . وهو ساقط من (ب، ج).
(2)
(ق): «الإسلام» ، وهو خطأ.
(3)
ضبط في (ب): «ندَبَه» . والضبط المثبت من (ن).
(4)
(ن): «لكثر» .
(5)
سبق تخريجه في المسألة الأولى (ص 20).
(6)
بعده في (ط) زيادة: «النبي» . وقد تحرّف «فاعتبر» في (أ، ق) إلى «كما عنه» فزاد ناسخ (غ) بعد «كما» : «روي» !
(7)
(ب، ط، ج): «رواياتهم ولا في رؤيتهم» .
فصل
وأما ردُّ حديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله:«من ماتَ وعليه صيامٌ [87 أ] صام عنه وليُّه» بتلك الوجوه التي ذكرتموها، فنحن ننتصر لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
، ونبيِّن موافقته للصحيح من تلك الوجوه. وأما الباطل منها فيكفينا
(2)
بطلانه من معارضته للحديث الصحيح الصريح الذي لا تُغمَز قناتُه، ولا سبيلَ إلى مقابلته إلا بالسمع والطاعة والإذعان
(3)
والقبول. وليس لنا بعده الخِيَرة
(4)
، بل الخِيَرةُ كلُّ الخِيَرة في التسليم له والقول به، ولو خالفه مَن بين المشرق والمغرب.
فأما
(5)
قولكم: نردُّه بقول مالك
(6)
في «موطَّئه» : لا يصومُ أحدٌ عن أحد، فمنازعوكم
(7)
يقولون: بل نردُّ قولَ مالك هذا بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(8)
. فأيُّ الفريقين أحقُّ بالصواب، وأحسنُ ردًّا؟
وأما قوله
(9)
: وهو أمرٌ مجمَعٌ عليه عندنا لا خلاف فيه، فمالكٌ رحمه
(1)
(ن): «للحديث» .
(2)
(ب، ج): «فتلقينا» ، تصحيف.
(3)
(ب، ط، ج): «والانقياد» .
(4)
ضبطت هذه في (ط) بفتح الحاء المهملة مع علامة الإهمال تحتها.
(5)
(ط): «وأما» .
(6)
بعده في (ق) زيادة: «الإمام» .
(7)
(ب، ط، ن): «فمنازعيكم» .
(8)
(ب، ط، ج): «بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
(9)
(ب، ط، ج): «قولكم» ، وهو خطأ.
الله لم يحكِ إجماعَ الأمة من
(1)
شرق الأرض وغربها، وإنما حكى قولَ أهل المدينة فيما بلغه، ولم يبلُغْه خلافٌ بينهم، وعدمُ اطِّلاعه رحمه الله على الخلاف في ذلك لا يكون مُسقِطًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل لو أجمع
(2)
عليه أهلُ المدينة كلُّهم لكان الأخذ بالحديث المعصوم أولى من الأخذ بقول أهل المدينة الذين لم تُضمَن
(3)
لنا العِصمةُ في قولهم دون الأمة، ولم يجعل الله ورسولُه أقوالَهم حجَّةً يجب الردُّ عند التنازع إليها. بل قال الله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
وإن
(4)
كان مالكٌ وأهل المدينة قد قالوا: لا يصوم أحدٌ عن أحدٍ، فقد روى الحكمُ بن عُتيبة
(5)
وسلَمةُ بن كُهَيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه أفتى في قضاء رمضانَ: يُطعَم عنه، وفي النذر: يُصام عنه
(6)
. وهذا مذهبُ الإمام أحمدَ وكثيرٍ من أهل الحديث، وهو قول أبي عبيد. وقال أبو
(1)
(ب، ط، ج): «في» .
(2)
(ب، ط، ج): «اجتمع» .
(3)
(ب، ط، ج): «يضمن» . وفي (ن) بالياء والتاء جميعًا.
(4)
(ب، ط، ج): «ولو» .
(5)
تصحف في (ب، ط، ج) إلى «عيينة» .
(6)
فتوى ابن عباس هذه أخرجها أبو داود (2401) من رواية أبي حصين عن سعيد بن جبير عنه. وقد عزاها المصنف من قبل إلى أبي داود في فصل وصول ثواب الصوم إلى الميت. وذكر صاحب المغني (3/ 84) أن الأثرم رواها في السنن، ولا أدري أبالإسناد الذي ذكره المؤلف هنا أم بغيره.
ثور: يُصام عنه
(1)
النذر وغيره
(2)
. وقال الحسنُ بن صالح في النذر: يصومُ عنه وَليُّه
(3)
.
فصل
وأمَّا قولكم: ابن عباس هو روَى حديث الصوم عن الميت، وقد قال: لا يصوم [87 ب] أحدٌ عن أحد؛ فغاية هذا أن يكون الصحابيُّ قد أفتى بخلاف ما رواه. وهذا لا يقدح في روايته، فإنَّ روايته معصومةٌ، وفتواه غير معصومة. ويجوز أن يكون نسي الحديثَ، أو تأوَّله، أو اعتقد له معارضًا راجحًا في ظنِّه أو لغير ذلك من الأسباب؛ على أنَّ فتوى ابن عباس غيرُ معارضةٍ للحديث، فإنه أفتى في رمضان أنه لا يصوم أحدٌ عن أحد، وأفتى في النذر أنه يُصام عنه. وليس هذا بمخالف لروايته، بل حَمَل الحديث على النذر.
ثم إنَّ
(4)
حديثَ: «من مات، وعليه صيامٌ، صام عنه وليُّه» هو ثابت من رواية عائشةَ، فهَبْ أنَّ ابن عباس خالفه، فكان ماذا؟ فخلافُ ابن عباس لا يقدحُ في رواية أمِّ المؤمنين، بل ردُّ قول ابن عباس بروايةِ عائشة أولى من ردِّ روايتها بقوله.
(1)
«وهذا مذهب
…
عنه» ساقط من (ب).
(2)
انظر: تهذيب السنن للمؤلف (7/ 27)، والتمهيد (9/ 27 ــ 28).
(3)
كلام ابن عبد البر في التمهيد يدل على أن الحسن بن صالح يرى الإطعام في قضاء رمضان والنذر جميعًا كأبي حنيفة والثوري والشافعي إلا أنه إذا لم يوجد ما يطعم عنه صام عنه وليُّه.
(4)
في (ب، ط) أقحم بعدها: «من» .
وأيضًا فإنَّ ابنَ عباس
(1)
قد اختُلِف عنه في ذلك، وعنه روايتان، فليس إسقاطُ الحديث للرواية المخالفة له عنه أولى من إسقاطها بالرواية الأخرى وبالحديث.
فصل
وأما قولكم: إنه حديثٌ اختلف
(2)
في إسناده
(3)
، فكلامُ مُجازفٍ لا يُقبَل قوله، فالحديث صحيحٌ ثابت متَّفَق على صحته
(4)
، رواه صاحبا الصحيح
(5)
ولم يُختلَف في إسناده.
قال ابن عبد البر: ثبت
(6)
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مات، وعليه صيامٌ، صام عنه وليُّه»
(7)
. وصحَّحه الإمام أحمد، وذهب إليه. وعلَّق الشافعي القولَ به على صحته، فقال: وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصوم عن الميت شيء، فإن كان ثابتًا صِيم عنه كما يُحَج عنه
(8)
. وقد ثبت بلا شك، فهو مذهب الشافعي. كذلك قال غير واحدٍ من أئمة أصحابه. قال البيهقي بعد
(1)
ما عدا الأصل و (غ): «وأيضًا فابن عباس» .
(2)
(ن): «مختلف» .
(3)
يعني حديث عائشة الآتي، وقد سبق في فصل وصول ثواب الصوم إلى الميت.
(4)
في (ب، ط، ج): «فالحديث متفق عليه ثابت» .
(5)
(ب، ط، ن): «صاحب الصحيح» .
(6)
«ثبت» ساقط من (ط).
(7)
الاستذكار (3/ 340).
(8)
قاله الشافعي في كتاب المناسك في القديم، كما في معرفة السنن والآثار (6/ 309) والسنن الكبرى للبيهقي (4/ 256).
حكايته هذا اللفظ عن الشافعي: قد ثبت جوازُ القضاء عن الميِّت برواية سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة عن ابن عباس. وفي رواية أكثرهم: أنَّ امرأةً سألت، فأشبه أن يكون غيرَ قصة أم سعد
(1)
. وفي رواية بعضهم [88 أ]: «صومي عن أمِّك»
(2)
.
وسيأتي تقرير ذلك عند الجواب عن كلامه رحمه الله.
قولُكم: إنَّه معارَض
(3)
بنصِّ القرآن، وهو قوله:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] إساءةُ أدب في اللفظِ، وخطأ عظيم في المعنى. وقد أعاذ الله رسولَه صلى الله عليه وسلم أن تُعارِض سنَّتُه لنصوص القرآن
(4)
. بل تُعاضِدها وتُؤيِّدها، ولله
(5)
ما يصنع التعصبُ ونُصرة التقليد! وقد تقدَّم من الكلام على الآية ما
(6)
فيه كفايةٌ، وبينَّا أنها
(7)
لا تعارض بينها وبين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهٍ، وإنما يُظنُّ التعارضُ من سوء الفهم. وهذه طريقةٌ وخيمة ذميمة، وهي ردُّ السنن الثابتة بما يُفهم من ظاهر القرآن. والعلمُ كلُّ العلمِ تنزيلُ السنن على القرآن، فإنها مُشتقَّة منه، ومأخوذة عمن جاء به. وهي بيانٌ له، لا أنها
(1)
(أ، غ): «أم سعيد» ، خطأ.
(2)
معرفة السنن والآثار (6/ 309).
(3)
(ب، ج): «يعارَض» . (ن): «يُعارِض نصَّ
…
».
(4)
كذا في جميع النسخ: «لنصوص
…
» باللام.
(5)
(ط): «فلله» .
(6)
في الأصل: «بما» . وكان السياق فيه: «تقدَّم الكلام بما
…
» ثم استدركت «من» ، ولم تحذف الباء.
(7)
ما عدا (أ، ق، غ): «أنه» .
مناقضةٌ له.
قولكم: إنه معارَض بما رواه النسائي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يُصلِّي أحدٌ عن أحد، ولا يصومُ أحدٌ عن أحد، ولكن يُطعم عنه كلَّ يوم مدٌّ من حنطة» فخطأ قبيحٌ
(1)
، فإن النسائي رواه هكذا: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، ثنا يزيدُ بن زُريع، ثنا حجَّاج الأحول، ثنا أيوبُ بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: لا يُصلِّي أحدٌ عن أحد، ولا يصوم أحدٌ عن أحد، ولكن يُطعم عنه
(2)
مكان كل يوم مُدٌّ من حنطة.
هكذا رواه: قول ابن عباس، لا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكيف يُعارَض قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول ابن عباس، ثم يُقدَّم عليه، مع ثبوت الخِلاف عن ابن عباس؟
ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا الكلام قطُّ
(3)
. وكيف يقوله، وقد ثبت عنه في «الصحيحين» أنه قال:«من مات، وعليه صيام، صام عنه وليُّه»
(4)
؟
وكيف يقوله، وقد قال في حديث بُريدةَ الذي رواه مسلم في «صحيحه» أنَّ امرأة قالت له: إنَّ أمِّي ماتتْ، وعليها صوم شهر؟ قال:«صُومي عن أمِّك»
(5)
.
(1)
في (ب، ط، ج): «مخطيا فيه» ، وهو تحريف. وقد صححه بعضهم في حاشية (ط).
(2)
«عنه» ساقط من (أ، غ).
(3)
«قط» ساقطة من (ق).
(4)
سبق قريبًا.
(5)
سبق في فصل وصول ثواب الصوم.
وأما قولكم: إنه معارَض بحديث ابن عمر: «من مات، وعليه صوم رمضان، يُطعَم عنه»
(1)
، فمن هذا النمط، فإنه حديثٌ باطل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البيهقي: حديثُ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«من مات وعليه صومُ رمضانَ يُطعم عنه» = لا يصحُّ
(2)
. ومحمد بن عبد الرحمن كثيرُ الوَهَم، وإنما رواه أصحابُ نافع عن نافع عن ابن عمر من قوله
(3)
.
وأما قولكم: إنه معارَضٌ بالقياس الجلي على الصلاة والإسلام والتوبة، فإنَّ أحدًا لا يفعلها عن أحد؛ فلَعَمرُ الله، إنّه لَقياسٌ
(4)
جَليُّ البطلان والفساد؛ لِردِّ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحةِ الصريحة له، وشهادتها ببطلانه.
وقد أوضحنا الفرق بين قبول الإسلام عن الكافر بعد موته، وبين انتفاعِ المسلم بما يُهديه إليه أخوه المسلمُ من ثواب صيامٍ أو صدقة أو صلاة. ولَعمرُ الله إنَّ الفرقَ بينهما أوضحُ من أن يخفى. وهل في القياس أفسَدُ من قياس انتفاع المرء المسلم بعد موته بما يُهديه إليه أخوه المسلمُ من ثواب عمله
(5)
، على قبول الإسلام عن الكافر بعد موته، أو قبولِ التوبة عن المجرم بعد موته؟
(1)
«وأما قولكم» ثم نصّ الحديث ساقط من (ب). وقد سبق تخريج الحديث في فصل وصول ثواب الصوم.
(2)
في (ب، ط، ج) زيادة «عنه» .
(3)
معرفة السنن والآثار (6/ 311).
(4)
(ب): «إن القياس» .
(5)
(ب، ط): «عمل» .
فصل
وأما
(1)
كلامُ الشافعي رحمه الله في تغليط راوي حديث ابن عباس أنَّ نذرَ أمِّ سعد كان صومًا؛ فقد أجاب عنه أنصَرُ الناس له، وهو البيهقيُّ، ونحن نذكر كلامه بلفظه.
قال في كتاب «المعرفة»
(2)
بعد أن حكى كلامه: قد ثبت جوازُ القضاء عن الميِّت برواية سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، عن ابن عباس. وفي رواية أكثرهم: أنَّ امرأةً سألت، فأشبهَ أن يكون غير قصّة أم سعد. وفي رواية بعضهم:«صُومي عن أمِّك» .
قال: ويشهد له بالصحة روايةُ عبد الله
(3)
بن عطاء المدني قال: حدَّثني عبد الله بن بُريدة
(4)
الأسلميُّ عن أبيه قال: كنتُ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأتَتْه امرأةٌ، فقالت: يا رسولَ الله، إنّي كنتُ تصدَّقتُ بوليدةٍ على أمِّي، فماتتْ، وبقيت الوليدة. قال: «قد وجب
(5)
أجرُكِ، ورجعَت إليك في الميراث». قالت: فإنها ماتتْ، وعليها صومُ شهر؟ قال:«صُومي عن أمِّك» . قالت: وإنها ماتَتْ، ولم تحُجَّ؟ قال:«فحُجِّي عن أمِّك» . رواه مسلم في «صحيحه» من أوجُهٍ عن عبد الله [89 أ] بن عطاء
(6)
. انتهى.
(1)
(ب، ج): «فأما» . وزاد بعد «كلام» في (ق): «الإمام» .
(2)
معرفة السنن والآثار (6/ 309 ــ 310).
(3)
(ب، ط): «عبد الملك» . وصحح في حاشية (ط).
(4)
(أ، غ): «عبد بن بريدة» .
(5)
(ب، ط، ج): «وقع» .
(6)
وانظر: السنن الكبرى للبيهقي (4/ 151). وقد سبق تخريج حديث بريدة في فصل وصول ثواب الصوم.
قلت: وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم البَطين عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنَّ أمّي ماتتْ، وعليها صيامُ شهر، أفأقضيه عنها؟ قال:«فدَيْنُ الله أحقُّ أن يُقضى»
(1)
.
ورواه ابن أبي خَيْثمة: حدثنا معاويةُ بن عمرو، ثنا زائدةُ، عن الأعمش. فذكره
(2)
. ورواه النسائي
(3)
عن قتيبة بن سعيد، ثنا عَبْثَر، عن الأعمش. فذكره
(4)
.
فهذا
(5)
غير حديث أمِّ سعد إسنادًا ومتنًا. فإنَّ قصةَ أمِّ سعدٍ رواها مالك، عن الزُّهري، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، عن ابن عباس: أنَّ سعد بن عُبادة استفتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنَّ أمِّي ماتَتْ وعليها نذر، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«اقضِهِ عنها» . وهكذا أخرجاه في «الصحيحين»
(6)
.
فهَبْ أنَّ هذا هو المحفوظ
(7)
في هذا الحديث أنه نذرٌ مطلق لم يسمَّ،
(1)
أخرجه الشيخان، وقد سبق في فصل وصول ثواب الصوم. ومن طريق أبي معاوية أخرجه البزار (5004).
(2)
من طريق معاوية بن عمرو أخرجه أحمد في المسند (2336) والبخاري (1953).
(3)
في الكبرى (2924).
(4)
«ورواه النسائي
…
فذكره» ساقط من (ن).
(5)
تكررت كلمة «فهذا» في الأصل سهوًا.
(6)
البخاري (2761)، ومسلم (1638).
(7)
في (ب، ط، ج) زيادة: «عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
فهل يكون هذا علَّةً
(1)
في حديث الأعمش عن مسلم البَطين عن سعيد بن جُبير عنه؟ على أنَّ
(2)
تركَ استفصالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لسعدٍ في النذر: هل كان صلاة أو صدقة أو صيامًا
(3)
؟ مع أنَّ الناذر قد ينذِرُ هذا وهذا وهذا
(4)
= يدلُّ على أنه لا فرقَ بين قضاء نذرِ الصيام والصلاة، وإلا لقال له: ما هو النذرُ؟ فإنَّ النذر إذا انقسمَ إلى قسمين: نذر يقبل القضاءَ عن الميت، ونذر لا يقبله، لم يكن بدٌّ من الاستفصال
(5)
.
فصل
ونحن نذكر أقوال أهل العلم في الصوم عن الميت، لئلا يُتوهمَّ أنَّ في المسألة إجماعًا بخلافه.
قال عبد الله بن عباس: يُصام عنه في النذر، ويُطعَم عنه في قضاء رمضان. وهذا مذهب الإمام أحمد.
وقال أبو ثور: يُصام عنه النذر والفرض. وكذلك قال داود بن علي وأصحابه: يُصام عنه نذرًا كان أو فرضًا.
وقال الأوزاعي: يجعل وليُّه مكان الصوم صدقةً، فإن لم يجد صام عنه. وهذا [89 ب] قول سفيان الثوري في إحدى الروايتين عنه.
(1)
«علَّة» ساقط من (أ، ق، غ). وسقط من (ن)«هذا» أيضًا.
(2)
«حديث الأعمش
…
أنّ» ساقط من (ق).
(3)
(ب، ط، ج): «صيامًا أو صدقة» .
(4)
وردت «هذا» في (ب، ج) مرتين فقط.
(5)
في (ن) هنا وفيما سبق: «الاستفسار» .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلَّام
(1)
: يُصام عنه النذر، ويُطعَم عنه في الفرض
(2)
.
وقال الحسن: إذا كان عليه صيامُ شهر، فصام عنه ثلاثون رجلاً يومًا واحدًا، جاز
(3)
.
فصل
وأما قولكم: إنه
(4)
يَصِل إليه في الحج ثوابُ النفقة دون أفعال المناسك، فدعوى مجرَّدة بلا برهان. والسُّنَّة تردُّها، فإنه
(5)
صلى الله عليه وسلم قال: «حُجَّ عن أبيك»
(6)
. وقال للمرأة: «حُجِّي عن أمك»
(7)
. فأخبر أنَّ الحجَّ نفسه عن الميت
(8)
، ولم يقُلْ: إنَّ الإنفاقَ هو الذي يقع عنه.
وكذلك قال للذي سَمِعه يُلبِّي عن شُبْرُمة: «حُجَّ عن نفسك، ثم حُجَّ عن شُبْرمة»
(9)
.
ولما سألته المرأة عن الطفل الذي معها، فقالت: ألهذا حجٌّ؟
(1)
زاد بعده في (ن): «أيضًا» .
(2)
انظر الأقوال المذكورة في التمهيد (9/ 27 ــ 28) والمحلى (7/ 2) والمغني (3/ 84) وجامع المسائل (4/ 246). وقد تقدَّم بعضها في الفصول السابقة.
(3)
قول الحسن ذكره البخاري في كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم. وقال ابن حجر في الفتح (4/ 193) إن الأثر وصله الدارقطني في كتاب الذبح.
(4)
«إنه» ساقط من (ب، ج).
(5)
السياق في (ب، ج): «برهان فإن النبي» .
(6)
كما في حديث ابن عباس، وقد تقدَّم (ص 364).
(7)
كما تقدم عن بريدة وابن عباس (ص 362، 363).
(8)
«عن الميت» ساقط من (ب، ج).
(9)
أخرجه أبو داود (1811)، وابن ماجه (2903)، وابن الجارود (499)، وابن خزيمة (3039)، وابن حبان (3988)، والبيهقي (4/ 336) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
قال البيهقي: «هذا إسناد صحيح، ليس في الباب أصح منه» . وكذا صحّح إسناده ابن الملقن في البدر المنير (6/ 46)، وابن حجر في الفتح (12/ 327). وللمزيد انظر: التلخيص الحبير (2/ 224)، وإرواء الغليل (994). (قالمي).
قال: «نعم، ولكِ أجر»
(1)
. ولم يقل: إنما له ثوابُ الإنفاق، بل أخبر
(2)
أنَّ له حجًّا، مع أنه لم يفعل شيئًا، بل وليُّه ينوب عنه في أفعال المناسك.
ثم إنَّ النائبَ عن الميت قد لا يُنفق شيئًا في حجَّته غيرَ نفقةِ مقامه، فما الذي يجعل ثوابَ نفقةِ مقامه للمحجوج عنه، وهو لم ينفقها على الحجِّ؟ بل تلك نفقته، أقام أم سافر. فهذا القولُ تردُّه السُّنَّة والقياس. والله أعلم.
فصل
فإن قيل: فهل
(3)
تشترطون في وصولِ الثواب أن يُهدِيَه بلفظه، أم يكفي في وصوله مجرّدُ نية العامل أن يُهديه إلى الغير؟
قيل: السُّنَّة لم تشترط التلفُّظَ بالإهداء في حديث واحد، بل أطلق صلى الله عليه وسلم الفعلَ
(4)
عن الغير، كالصوم والحجِّ والصدقة، ولم يَقُلْ لفاعِل ذلك: قل: اللهم هذا عن فلان بن فلان. والله سبحانه يعلمُ نيةَ العبد وقصدَه بعمله، فإن ذكره جاز، وإن ترك ذِكْرَه واكتفى بالنية والقصد وصل إليه، ولا يحتاج أن
(1)
أخرجه مسلم من حديث ابن عباس (1336). ولم يرد «ولك أجر» في (ب، ط، ج).
(2)
في (ب، ط، ج): «فأخبر» في موضع «بل أخبر» .
(3)
(ق): «وهل» .
(4)
(ب، ط، ج): «بالفعل» .
يقول: اللهم إني صائمٌ غدًا عن فلان بن فلان. ولهذا ــ والله أعلم ــ اشترطَ مَن اشترط نيةَ الفعل عن الغير قبله، ليكونَ واقعًا بالقصدِ عن الميت. فأمَّا إذا فعله لنفسه، ثم نوى أن [90 أ] يجعلَ ثوابَه للغير، لم يَصِرْ للغير
(1)
بمجرد النية، كما لو نوى أن يَهَب أو يُعتِقَ أو يتصدَّقَ لم يحصل ذلك بمجرد النية
(2)
.
ومما يوضِّح ذلك أنه لو بنى مكانًا بنية
(3)
أن يجعلَه مسجدًا أو مدرسةً أو سِقايةً
(4)
ونحو ذلك صار وَقْفًا بفعله مع النية، ولم يحتَجْ إلى تلفظ
(5)
، وكذلك لو أعطى الفقير مالاً بنية الزكاة سقطَتْ عنه الزكاة، وإن لم يتلفَّظ
(6)
بها.
وكذلك لو أدَّى عن غيره دَيْنًا، حيًّا كان أو ميتًا، سقط من ذمَّته، وإن لم يقُلْ: هذا
(7)
عن فلان.
فإن قيل: فهل يتعينَّ عليه تعليقُ الإهداء بأن يقول: اللهم إن كنتَ قبلتَ هذا العملَ، وأثبتَني عليه، فاجعَلْ ثوابَه لفلان؛ أم لا
(8)
؟
(1)
«للغير» ساقط من (ب).
(2)
«يجعل ثوابه
…
النية» ساقط من (ب، ن).
(3)
(ط): «نيتُه» .
(4)
(ب، ط، ج): «سقاية أو مدرسة» .
(5)
(ب، ط، ج): «يحتج أن يلفظ» .
(6)
(ب، ط، ج): «يلفظ» .
(7)
في (ب، ج) قبل «هذا» : «اللهم» ، وفي (ط):«اللهم إنّ» .
(8)
«أم لا» ساقط من (ب، ج).