المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق - الروح - ابن القيم - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

الفصل: ‌الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق

بالمرض، وقوةُ النفس الأمارة والشيطان وتتابعُ أمدادهما، وأنه نقدٌ حاضر ولذَّة عاجلة، والداعي إليه يدعو من كلِّ ناحيةٍ، والهوى ينفذ

(1)

، والشبهة تُهوِّن، والتأسِّي

(2)

بالأكثر، والتشبُّه بهم، والرضا بأن يصيبه ما أصابهم. فكيف يستجيب مع هذه القواطع وأضعافها لداعي الإيمان ومُنادي الجنة إلا من أمدَّه الله بأمداد التوفيق، وأيَّده برحمته، وتولَّى حفظه وحمايته، [153 أ] وفتح بصيرةَ قلبه، فرأى سرعةَ انقطاع الدنيا وزوالها وتقلُّبها بأهلها، وفعلها بهم، وأنها في الحياة الدائمة الأبدية كغَمْسِ إصبعٍ في البحر بالنسبة إليه.

فصل

و‌

‌الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النِّفاق

أنَّ خشوع الإيمان هو خشوعُ القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلبُ لله كَسْرةً ملتئمةً من الوجل والخجل والحبِّ والحياء، وشهود نِعَم الله، وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة، فيتبعه خشوعُ الجوارح.

وأما خشوعُ النِّفاق، فيبدو على الجوارح تصنُّعًا وتكلُّفًا، والقلب غير خاشع. وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النِّفاق. قيل له: وما خشوع النِّفاق؟ قال: أن يُرى الجسد خاشعًا، والقلب غير خاشع

(3)

.

(1)

(ط): «يتقد» .

(2)

ما عدا (ب، ج): «والناس» .

(3)

أخرجه الإمام أحمد في الزهد (757) وابن أبي شيبة في المصنف (36861) عن أبي الدرداء. وفي الزهد لابن المبارك (143) عن أبي يحيى أنه بلغه أن أبا الدرداء أو أبا هريرة قال.

ص: 655

فالخاشعُ لله عبد قد خمدَتْ نيرانُ شهوته، وسكَنَ دخانُها عن صدره، فانجلى الصدر، وأشرق فيه نورُ العظمة. فماتتْ شهواتُ النفس، للخوف والوقار الذي حُشي به، وخمدت الجوارحُ، وتوقَّر القلب، واطمأنَّ إلى الله وذكره، بالسكينة التي تنزَّلتْ

(1)

عليه من ربِّه، فصار مخبتًا له. والمخبِتُ: المطمئنُّ، فإنَّ الخَبْت من الأرض: ما تطامَن فاستنقع فيه الماء. فكذلك القلبُ المخبِتُ قد خشع وتطامَنَ، كالبقعة المطمئنة من الأرض التي يجري إليها الماءُ، فيستقرُّ فيها. وعلامته أن يسجدَ بين يدي ربه إجلالًا له وذلًّا وانكسارًا بين يديه سجدةً لا يرفع رأسَه منها حتى يلقاه. وأمَّا القلبُ المتكبِّرُ، فإنه قد اهتزَّ بتكبُّره ورَبا، فهو كبقعةٍ رابية من الأرض لا يستقرُّ عليها الماء.

فهذا خشوع الإيمان.

وأما التماوت وخشوع النِّفاق، فهو حال عبد تكلَّف إسكانَ الجوارح تصنُّعًا ومراياةً

(2)

، ونفسُه في الباطن شابّةٌ طريَّةٌ ذاتُ شهوات وإرادات. فهو يتخشّع في الظاهر، وحَيَّةُ الوادي وأسدُ الغابة رابضٌ بين جنبيه ينتظر الفريسة.

فصل

وأما شرفُ النفس، فهو [153 ب] صيانتها عن الدَّنايا والرذائل والمطامع التي تقطِّعُ أعناق الرجال، فربأ

(3)

بنفسه عن أن يُلقيها في ذلك، بخلاف التِّيه،

(1)

(ب، ج): «نزلت» .

(2)

كذا في جميع النسخ بالياء على القلب.

(3)

(ج): «فيربأ» . وكذا في النسخ المطبوعة.

ص: 656

فإنه خلُق متولِّد بين أمرين: إعجابهِ بنفسه وإزرائه بغيره، فيتولَّد من بين هذين التِّيهُ.

والأول يتولَّد من بين خلقين كريمين: إعزازِ النفس وإكرامِها وتعظيم مالكها وسيِّدها أن يكون عبدُه دنيًّا وضيعًا خسيسًا، فيتولَّدُ من بين هذين الخلقين شرفُ النفس وصِيانتُها.

وأصلُ هذا كله استعدادُ النفس وتهيؤُها، وإمدادُ وليِّها ومولاها لها. فإذا فُقِد الاستعدادُ والإمدادُ فُقِد الخير كلُّه.

فصل

وكذلك الفرقُ بين الحميَّة والجفاء، فإنَّ الحميَّةَ فِطامُ النفس عن رضاع اللؤم من ثديٍ هو مَصَبُّ الخبائث والرذائل والدَّنايا، ولو غزُرَ لبنه وتهالك الناسُ عليه، فإنَّ لهم فِطامًا تتقطَّع

(1)

معه الأكبادُ حسراتٍ! ولا بدَّ

(2)

من الفِطام، فإن شئت عجَّلتَ

(3)

وأنت محمودٌ مشكور، وإن شئتَ أخَّرْتَ وأنت غير مأجور. بخلاف الجفاء فإنه غِلظةٌ في النفس، وقَساوة في القلب، وكثافة في الطبع، يتولَّد عنها خلُقٌ يُسمَّى الجفاء.

فصل

والفرقُ بين التواضعِ والمَهانة أن التواضعَ يتولَّد من بين العلمِ بالله سبحانه، ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله، وتعظيمه ومحبَّته وإجلاله؛

(1)

الأصل غير منقوط. وفي غيره: «تنقطع» .

(2)

ما عدا (ط): «فلا بدَّ» .

(3)

في الأصل: «عجل

أخرت». وكذا في (غ، ق). وفي غيرهما: «عجل .. أخر» .

ص: 657

ومن معرفته بنفسهِ ونقائصها وعيوبِ عمله وآفاتها

(1)

. فيتولَّد من بين ذلك كلِّه خُلقٌ هو التواضع، وهو انكسارُ القلب لله، وخفضُ جناح الذلِّ والرحمة لعباده. فلا يرى له على أحد فضلًا، ولا يرى له عند أحد حقًّا، بل يرى الفضلَ للناس عليه والحقوقَ لهم قِبله. وهذا خُلقٌ إنما يُعطيه الله عز وجل مَن يُحبه ويُكرمه ويُقرِّبه.

وأما المهانة، فهي الدَّناءة والخِسَّة، وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها، كتواضعِ السُفَّل في نيل شهواتهم، وتواضعِ المفعول به للفاعل، وتواضعِ طالب كلِّ حظٍّ لمن يرجو نيلَ حظِّه منه. فهذا كلُّه ضَعةٌ، لا تواضع، [154 أ] والله سبحانه يحبُّ التواضع، ويبغضُ الضَّعة والمهانة.

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «وأوحي إليَّ أن تَواضَعوا حتى لا يفخرَ أحدٌ على أحد، ولا يَبغيَ أحدٌ على أحد»

(2)

.

والتواضع المحمود على نوعين:

أحدهما: تواضعُ العبد عند أمر الله امتثالًا، وعند نَهْيه اجتنابًا، فإن النفسَ لطلب

(3)

الراحة تتلكأ في أمره، فيبدو منها نوعُ إباء وشِراد هربًا من العبودية، وتثِبُ

(4)

عند نَهْيه طلبًا للظَّفر بما منع منه، فإذا وضَع العبدُ نفسَه لأمر الله

(1)

كذا في جميع النسخ، ولعل الصواب:«وآفاته» يعني آفات العمل.

(2)

أخرجه مسلم (2865) من حديث عياض بن حمار المجاشعي.

(3)

(ب): «في طلب» . (ج): «تطلب» .

(4)

الأصل غير منقوط. والمثبت قراءة (غ). وكتب ناسخها فوقها «ظ» . وفي (ز) والنسخ المطبوعة: «تثبت» . وفي غيرها: «ثبت» أو «يثبت» .

ص: 658

ونهيه، فقد تواضع للعبودية.

والنوع الثاني: تواضعُه لعظمة الربِّ وجلاله، وخضوعُه لعزته وكبريائه. فكلما شمختْ نفسه ذكَر عظمةَ الربِّ تعالى وتفردَه بذلك، وغضبه الشديد على من نازعه ذلك، فتواضعتْ إليه نفسه، وانكسر لعظمة الله قلبُه، وتطامَن لهيبته، وأخبتَ لسلطانه. فهذا غايةُ التواضع، وهو يستلزم الأول من غير عكس. والمتواضعُ حقيقةً مَن رُزِق الأمرين، والله المستعان.

فصل

وكذلك القوة

(1)

في أمر الله هي من تعظيمه وتعظيم أوامره وحقوقه حتى يقيمها لله. والعلوُّ في الأرض هو من تعظيمِ نفسه وطلبِ تفرُّدها بالرِّياسة ونَفاذِ الكلمة سواءً عزَّ أمر الله أو هان. بل إذا عارضه أمرُ الله وحقوقُه ومرضاتُه في طلب عُلوه لم يلتفت إلى ذلك، وأهدره، وأماتَه في تحصيل علوِّه.

وكذلك الحميَّة لله، والحميَّة للنفس. فالأولى يثيرها تعظيمُ الأمر والآمرِ، والثانية يُثيرها تعظيمُ النفس، والغضبُ لفوات حظوظها. فالحميَّة لله أن يحمَى قلبه له من تعظيم حقوقه، وهي حالُ عبد قد أشرق على قلبه نورُ سلطان الله، فامتلأ قلبه

(2)

بذلك النور. فإذا غضب فإنما يغضب من أجل نورِ ذلك السلطان الذي أُلقي على قلبه.

وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا غضبَ احمرَّتْ وجنتاه، وبدا بين عينيه عِرْقٌ

(1)

(ق): «الفرق» ، سهو.

(2)

«حال عبد

قلبه» ساقط من (ق).

ص: 659

يُدِرُّه الغضبُ

(1)

، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتقمَ لله

(2)

.

وروى [154 ب] زيد بن أسلم عن أبيه أن موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم كان إذا غضِب اشتعلَتْ قَلَنْسوتُه نارًا

(3)

.

وهذا بخلاف الحميَّة للنفس، فإنها حرارة تهيج من نفسه لفَواتِ حظها أو طلبه، فإن الفتنةَ في النفس، والفتنة هي: الحريق، والنفس متلظِّية بنار

(1)

أخرجه الترمذي في الشمائل (7)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 422)، وابن حبان في الثقات (2/ 146)، والطبراني في الكبير (414) ج 22، والحاكم (3/ 640) ــ ولم يسق لفظه ــ والبيهقي في شعب الإيمان (1362)، وفي دلائل النبوة (1/ 214، 286) كلهم من طريق جميع بن عمير، عن رجل من بني تميم من ولد أبي هالة يكنى أبا عبد الله، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سألت خالي هند بن أبي هالة ــ وكان وصَّافًا ــ عن حلية النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أشتهي أن يصف لي شيئًا منها أتعلق به، فقال (فذكر حديثًا طويلًا) وفيه:«أزجّ الحواجب، سوابغَ في غير قَرن، بينهما عِرْق يدرُّه الغضب» . وإسناده ضعيف مسلسل بالعلل: جُميع بن عمير ــ ويقال: ابن عمر ــ ابن عبد الرحمن العجلي، ضعيف رافضي كما في التقريب، وشيخه مجهول، كما في التقريب أيضًا، وابن لأبي هالة مبهم لا يعرف. (قالمي).

وقد فسَّر أبو عبيد الحديث، فقال:«إذا غضب درَّ العِرق الذي بين الحاجبين. دُرورُه: غِلَظه ونتوؤه وامتلاؤه» . المعجم الكبير للطبراني (17868). وانظر: النهاية (2/ 112). (الإصلاحي).

(2)

ذكره بالمعنى وهو في الصحيحين، البخاري (3560)، ومسلم (2327) من حديث عائشة رضي الله عنها، ولفظه:«وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تُنتهك حُرمة الله، فينتقم لله بها» . (قالمي).

(3)

في الدر المنثور (6/ 594) أن أبا الشيخ أخرجه عن زيد بن أسلم. وذكره البيهقي في الأسماء والصفات (974) والبغوي في شرح السنة (1491).

ص: 660