المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل[الجواب عن أدلة المنازعين] - الروح - ابن القيم - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

الفصل: ‌فصل[الجواب عن أدلة المنازعين]

‌فصل

[الجواب عن أدلَّة المنازعين]

فأما قولهم: إنَّ العقلاءَ متفقون على قولهم: الروح والجسم، والنفس والجسم؛ وهذا يدلُّ على تغايرهما.

فالجواب: أن يقال: إن مسمَّى الجسم في اصطلاح المتفلسفةِ والمتكلِّمين أعمُّ من مسمَّاه في لغة العرب وعُرْف أهل العرف. فإن الفلاسفة يطلقون الجسمَ على قابلِ الأبعاد الثلاثة، خفيفًا كان أو ثقيلًا، مرئيًا كان أو غير مرئي؛ فيسمُّون الهواءَ جسمًا، والنار جسمًا، والماء جسمًا

(1)

. وكذلك الدخان، والبخار، والكواكب. ولا يُعرف في لغة العرب تسميةُ شيء من ذلك جسمًا البتَّة. فهذه لغتهم وأشعارهم، وهذه النقول عنهم في كتب اللغة.

قال الجوهري

(2)

: «قال أبو زيد: الجسم: الجسد. وكذلك الجُسْمان، والجُثْمان. قال الأصمعي: الجسم والجُسمان: الجسد. والجُثْمان: الشخص. وقد جَسُم الشيءُ أي: عظُمَ، فهو عظيم جَسيم

(3)

، وجُسام بالضم».

ونحن إذا سمَّينا النفس جسمًا، فإنما هو باصطلاحهم وعُرْفِ خطابهم،

(1)

«والماء جسمًا» ساقط من (ب، ج).

(2)

في الصحاح (5/ 1887).

(3)

كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة ما عدا (غ، ز)، وكلمة «عظيم» لا وجود لها في الصحاح، والظاهر أنها مقحمة. وفي (ز):«فهو جسيم أي عظيم» . ولعل ذلك إصلاح لما ورد في غيرها. أما (غ) فقد سقطت منها «جسيم» .

ص: 575

وإلا فليست جسمًا

(1)

باعتبار وَضْع اللغة. ومقصودُنا بكونها جسمًا: إثباتُ الصفات والأفعال والأحكام التي دلَّ عليها الشرع والعقل والحسُّ، من الحركة والانتقال، والصعود والنزول؛ ومباشرةِ النعيم والعذاب، واللذة والألم؛ وكونِها تُحبَس وتُرسَل

(2)

وتُقبَض، وتَدخُل وتَخرُج. فلذلك أطلقنا عليها اسم الجسم تحقيقًا لهذه المعاني، وإن لم يطلق عليها أهلُ اللغة اسمَ الجسم؛ فالكلام مع هذه الفرقة المبطِلة في المعنى لا في اللفظ. فقولُ أهل التخاطب: الروح والجسم، هو بهذا المعنى.

فصل

وأما الشبهة الثانية، فهي أقوى شُبَهِهم التي بها يصولون، وعليها يُعوِّلون. وهي مبنيَّة على أربع مقدمات [132 أ]:

إحداها

(3)

: أنَّ في الوجود ما لا يقبل القسمةَ بوجه من الوجوه.

الثانية: أنَّه يمكن العلم به.

الثالثة: أنَّ العلمَ به غيرُ منقسم.

الرابعة: أنَّه يجب أن يكون محلُّ العلمِ به كذلك، إذ لو كان جسمًا لكان منقسمًا.

وقد نازعهم في ذلك جمهورُ العقلاء، وقالوا: لم تُقيموا دليلاً على أنَّ

(1)

«جسمًا» ساقط من (ب، ج).

(2)

ما عدا الأصل و (ط): «أو ترسل» . وقد سقط بعده: «وتقبض» من (ن).

(3)

هذا في (ب، ج). وفي غيرهما: «أحدها» . ولا يبعد أن يكون كذا وقع في أصل المؤلف. انظر: طريق الهجرتين (1/ 79)، التعليق (6).

ص: 576

في الوجود ما لا يقبلُ القسمة الحسية ولا الوهمية وإنما بأيديكم دعاوٍ لا حقيقةَ لها. وإنما أثبتُّموه من واجب الوجود، وهو

(1)

بناء على أصلكم الباطل عند جميع العقلاء من أهل الملل وغيرهم من إنكار ماهيةِ الربِّ تعالى وصفاتِه

(2)

، وأنه وجودٌ مجرَّد لا صفةَ له ولا ماهية. وهذا قولٌ باينتم به العقولَ، وجميعَ الكتب المنزلة من السماء، وإجماعَ الرسل؛ ونفيتم به علمَ الله، وقدرته، ومشيئته، وسمعه وبصره، وعلوَّه على خلقه، ونفيتم به خلقَ السماوات والأرض في ستة أيام. وسمَّيتموه توحيدًا، وهو أصل كلِّ تعطيل.

قالوا: والنقطة التي استدللتم بها هي من أظهرِ ما يُبطِل دليلَكم، فإنها غيرُ منقسمةٍ، وهي حالَّةٌ في الجسم المنقسم، فقد حلَّ في المنقسم ما ليس بمنقسم.

ثم إن مثبتي الجوهر الفَرْد ــ وهم جمهور المتكلمين ــ ينازعونكم في هذا الأصل ويقولون: الجوهر

(3)

حالٌّ في الجسم، بل هو مركَّب منه، فقد حلَّ في المنقسم ما ليس بمنقسم.

ولا يمكن تتميمُ

(4)

دليلِكم إلا بنفي الجوهر الفرد. فإن قلتم: النقطةُ عبارة عن نهاية الخط وفنائه وعدمه، فهي أمر عدمي؛ بطَلَ استدلالُكم بها. وإن كانت أمرًا وجوديًّا، فقد حلَّت في المنقسم. فبطل الدليل على التقديرين.

(1)

(ب، ط، ج): «وما أثبتموه

فهو». (ن): «وإن ما» .

(2)

(ط): «صفات ذاته» .

(3)

«الفرد

الجوهر» ساقط من (ط).

(4)

(ب، ط): «تعليل» ، ولعله تحريف «تكميل» .

ص: 577

قالوا: وأيضًا فلم لا يكون العلم حالًّا في محلِّه، لا على وجه الشيوع

(1)

والسرَيان؛ فإن حلولَ كلِّ شيء في محلِّه بحسبه. فحلولُ الحيوان في الدار نوع، وحلولُ الخطِّ في الكتاب نوع، وحلولُ الدُّهن في السِّمسِم نوع، وحلولُ العَرَض في الجسم نوع، وحلولُ الروح في البدن نوع، وحلولُ العلوم والمعارف [132 ب] في النفس نوع.

قالوا: وأيضًا فالوحدةُ حاصلة. فإن كانت جوهرًا، فقد ثبتَ الجوهر الفرد، وبطلَ دليلكم، فإنه لا يتم إلا بنفيه. وإن كانت

(2)

عرضًا وجب أن يكون لها محلٌّ، فمحلُّها إن كان منقسمًا فقد جاز قيامُ غير المنقسم بالمنقسم. وإن كان غيرَ منقسم

(3)

فهو الجوهر، وبطل الدليل.

فإن قلتم: الوحدة أمر عَدَميُّ لا وجود له في الخارج، فكذلك ما أثبتُّم به وجود ما لا ينقسم، كلُّها أمور عدمية لا وجودَ لها في الخارج

(4)

، فإنَّ واجبَ الوجود الذي أثبتُّموه أمرٌ عدميٌّ، بل مستحيل الوجود.

قالوا: وأيضًا فالإضافات عارضة للأجسام

(5)

، مثل الفوقية والتحتية،

(1)

هذا في (ج). وهو مطموس في (ز) وساقط من (ن). وفي غيرها: «النوع» ، وكذا في النسخ المطبوعة، وهو تحريف.

(2)

(أ، ق، غ): «كان» .

(3)

زاد بعده في (ن): «وجد» .

(4)

«فكذلك

الخارج» ساقط من (ز). وبعد ذلك: «كان واجب

أمرًا عدميًّا». أراد إصلاح الخلل الناتج من السقط.

(5)

في (أ، غ، ق): «الأقسام» . وفي (ز، ن): «للأقسام» ، ولعل الصواب ما أثبت من (ب، ط، ج).

ص: 578

والمالكية والمملوكية، فلو انقسم الحالُّ بانقسام محلِّه لزم انقسام هذه الإضافات وكان

(1)

يكون لحقيقة الفوقية والتحتية ربعٌ وثُمْنٌ، وهذا لا يقبله العقل.

قالوا: وإنَّ القوة الوهمية والمفكرة

(2)

جسمانية عند زعيمكم ابن سينا

(3)

، فيلزم أن يحصل لها أجزاءٌ وأبعاضٌ. وذلك محالٌ؛ لأنها لو انقسمت لكان كل واحد من أبعاضها إن كان مثلَها كان الجزء مساويًا للكل، وإن لم يكن مثلَها لم تكن تلك الأجزاء كذلك.

وأيضًا فإن الوهم لا معنَى له إلا كونُ هذا صديقًا وهذا عدوًّا، وذلك لا يقبل القسمة.

قالوا: وإن

(4)

الوجود أمر زائد على الماهيات عندكم، فلو لزم انقسام الحالِّ لانقسام محلِّه لزم انقسامُ ذلك الوجود بانقسام محله. وهذا الوجه لا يلزم من جعل وجود الشيء عين ماهيته

(5)

.

قالوا: وأيضًا فطبائع الأعداد ماهياتٌ مختلفة، فالمفهوم من كون العشرة عشرةً مفهوم واحد وماهية واحدة. فتلك الماهية إما أن تكون عارضةً لكل واحد من تلك الآحاد، وهو محال. وإما أن تنقسم بانقسام تلك الآحاد، وهو مُحال أيضًا؛ لأن المفهوم من كون العشرة عشرةً لا يقبل القسمة. نعم

(1)

(ز، غ): «فكان» . ورسم الكلمة في الأصل يحتمل القراءتين.

(2)

في (أ، غ، ن): «والفكرة» . وفي (ب، ط، ج): «الوهمية المفكرة» .

(3)

في (ج) زيادة: «عليه لعائن الله تترى» !

(4)

(ب، ط، ج): «ولأن» .

(5)

(ق، غ): «غير ماهيته» . وكذا في النسخ المطبوعة.

ص: 579

العشرةُ تقبل القسمةَ، لا عَشَرِيَّتُها. قالوا: فقد قام ما لا ينقسم بالمنقسم.

قالوا: وأيضًا فالكيفياتُ المختصَّاتُ بالكمِّيات

(1)

كالاستدارة [133 أ] والتقوُّس

(2)

ونحوهما عند الفلاسفة أعراضٌ موجودة في شبه الاستدارة

(3)

. إن كانت عرضًا، فإما أن يكون بتمامه قائمًا بكل واحد من الأجزاء، وهو محال. وإما أن ينقسم ذلك العرضُ بانقسام الأجزاء، ويقومَ بكل جزء من أجزاء الخطِّ جزءٌ من أجزاء ذلك العَرض، وهو محال؛ لأن جُزأه إن كان استدارة لزم أن يكون جزء الدائرة دائرة. وإن لم يكن استدارة، فعند اجتماع الأجزاء إن لم يحدث أمر زائد وجب أن لا تحصل الاستدارة

(4)

. وإن حدث أمر زائد

(5)

، فإن كان منقسمًا عاد التقسيم، وإن لم ينقسم كان الحالُّ غيرَ منقسم ومحلُّه منقسمًا.

قلت: وهذا لا يلزمهم، فإنَّ لهم أن يقولوا: ينقسم بانقسام محله تبعًا له كسائر الأعراض القائمة بمحالِّها من البياض والسواد. وأما ما لا ينقسمُ كالطول، فشرطُ حصوله

(6)

اجتماعُ الأجزاء، والمعلَّق على الشرط منتفٍ بانتفائه.

(1)

(ز): «بالممكنات» .

(2)

(ن): «النقوش» . وكذا في معظم النسخ المطبوعة. وفي بعضها: «النفوس» ، كما في (ب، ط، ج، غ)، والصواب ما أثبتنا من (ق، ز).

(3)

(ن): «في نسبة الاستدارة» ، وهو تصحيف. وفي (ب، ج): «فهيئة الاستدارة» . ولعل في النص سقطًا.

(4)

في (ز): «استدارة» . وفي (ب، ط، غ): «للاستدارة» ، تحريف.

(5)

«وجب

زائد» ساقط من الأصل.

(6)

(ب، ط، ج): «بشرط حصوله» ، تصحيف.

ص: 580

قالوا: وإنَّ هذه الأجسامَ

(1)

ممكنةٌ بذواتها، وذلك صفة عَرَضية لها خارجة عن ماهيتها، فإن لم تنقسم بانقسام محلِّها بطل الدليل. وإن انقسمت عاد المحذور المذكور من مساواة الجزء للكل أو التسلسل

(2)

.

قلت: وهذا أيضًا لا يلزم

(3)

، لأن الإمكان ليس أمرًا يدلُّ

(4)

على قبول الممكن للوجود والعدم. وذلك القبولُ من لوازم ذاته، ليس صفةً عارضة له؛ ولكن الذهنَ يجرِّد هذا القبولَ عن القابل، فيكون عُروضُه للماهية بتجريد الذهن. وأما قضية مساواة

(5)

الجزء للكل، فلا امتناعَ في ذلك، كسائر الماهيات البسيطة، فإنَّ جزأها مساوٍ لكلِّها في الحدِّ والحقيقة، كالماء والتراب والهواء. وإنما الممتنعُ أن يتساوى الجزءُ والكلُّ في الكمِّ، لا في نفس الحقيقة.

والمعوَّل في إبطال هذه الشبهة على أن العلم ليس بصورة حالَّة في النفس، وإنما هو نسبة [133 ب] وإضافة بين العالم والمعلوم، كما نقول في الإبصار: إنه ليس بانطباعِ صورةٍ مساويةٍ

(6)

للمبصَر في القوة الباصرة، وإنما هو نسبةٌ وإضافة بين القوة الباصرة والمبصَر.

وعامَّة شبههم التي أوردوها في هذا الفصل مبنية على انطباع صورة

(1)

(ب، ط، ج): ولأن هذه الأقسام.

(2)

(ق، ب، ط، غ): «والتسلسل» .

(3)

ما عدا الأصل و (غ): «لا يلزمهم» .

(4)

(ب، ج): «زائدًا» .

(5)

في الأصل: «مشاركة» . وكذا في (ق، غ). وهو تحريف.

(6)

ما عدا (ب، ن، ج): متساوية.

ص: 581

المعلوم في القوة العالمة، ثم بنوا على ذلك أن انقسام ما لا ينقسم في المنقسم محال.

وقولهم: محل العلوم الكلِّية لو كان جسمًا أو جسمانيًا لانقسمت

(1)

تلك العلوم؛ لأن الحالَّ في المنقسم منقسم. ولم يذكروا على صحة هذه المقدمة دليلاً ولا شبهة وإنما بأيديهم مجرَّدُ الدَّعوى، وليست بديهيةً حتى تستغني

(2)

عن الدليل. وهي مبنية على أنَّ العلم بالشيء عبارة عن حصول صورةٍ مساوية لماهية المعلوم في نفس العالِم، وهذا من أبطل الباطل للوجوه التي تُذكر هناك.

وأيضًا فلو سلَّمنا لكم ذلك كان من أظهر الأدلَّة على بطلان قولكم، فإنَّ هذه الصورة إذا كانت حالَّةً في جوهر النفس الناطقة

(3)

فهي صورة جزئية حالّة في نفس جزئيةٍ يقارنُها

(4)

سائرُ الأعراض الحالَّة في تلك النفس الجزئية، فإذا اعتبرنا تلك الصورة مع جملة هذه اللواحق لم تكن صورة مجرَّدة، بل مقرونة بلواحق وعوارض، وذلك يمنع كلِّيتها.

فإن قلتم: المراد بكونها كليةً أنَّا إذا حذفنا عنها تلك اللواحقَ واعتبرناها من حيث هي هي كانت كليةً. قلنا لكم: فإذا جاز هذا، فلِمَ لا يجوز أن يقال: هذه الصورة حالّةٌ في مادة جسمانية

(5)

مخصوصة، بمقدار معيَّن، وبكُلٍّ

(1)

في الأصل: «لانقسم» ، سهوًا.

(2)

(ن): «يُستغنى» .

(3)

(ق، ز، غ): «الباطنة» . ورسمها في الأصل محتمل.

(4)

(ب، ق، ن): «يقاربها» ، تصحيف.

(5)

(ب، ط، ج): «جثمانية» .

ص: 582

معيَّن؛ إلا أنَّا إذا حذفنا عنها ذلك، واعتبرناها من حيث هي هي، كانت بمنزلة تلك الصورة التي فعلنا بها ذلك؟ فالمعيَّن في مقابلة المعيَّن، والمطلَقُ المأخوذ من حيث هو هو [134 أ] في مقابلة محلِّه المطلَق. وهذا هو المعقول الذي شهدت به العقول الصحيحة والميزان الصحيح.

فظهر أنَّ هذه الشبهةَ مِن أفسَدِ الشُّبَه وأبطَلِها، وإنما أُتِيَ القوم من الكلِّيات، فإنها هي التي خَرَّبتْ دُورَهم، وأفسدت نظرهم

(1)

ومناظرتهم

(2)

، فإنهم جرَّدوا أمورًا كليةً لا وجود لها في الخارج، ثم حكموا عليها بأحكامِ الموجودات، وجعلوها ميزانًا وأصلاً للموجودات. فإذا جرَّدوا صورَ المعلومات وجعلوها كليةً، جرَّدنا نحن محلَّها، وجعلناه كليًّا، وإن أخذت جزئيَّة معينة، فمحلُّها كذلك. فالكلِّيُّ في مقابلة الكلِّي، والجزئي في مقابلة الجزئي.

على أنَّا نقول: ليس في الذهن

(3)

كليٌّ، وإنما في الذهن صورة معينة مشخَّصَة منطبقة على سائر أفرادها، فإن سُمِّيت كليةً بهذا الاعتبار، فلا مُشاحَّة في الألفاظ، وهي كلية وجزئية باعتبارين.

فصل

قولكم في الوجه الثالث: إنَّ الصور العقلية مجرَّدة، وتجرُّدُها إنما هو بسبب الآخذِ لها، وهو القوة العقلية.

(1)

(غ): «فطرهم» . وكذا في بعض النسخ المطبوعة.

(2)

ما عدا (ب، ط، ج): «مناظرهم» . وكذا في معظم النسخ المطبوعة.

(3)

(ن، ز): «خارج الذهن» . وفي (ب، ط، ج): «في الخارج ولا في الذهن» .

ص: 583

جوابه: أن يقال: ما الذي تريدون بهذه الصورة العقلية الكلية؟ أتريدون به أن المعلومَ حصل في ذات العالِم، أو أنَّ العلمَ به حصل

(1)

في ذات العالم؟ فالأول ظاهر الإحالة، والثاني حقٌّ إلا أنه لا يفيدكم شيئًا؛ لأن الأمر الكلي المشترَك بين الأشخاص الإنسانية هو الإنسانية، لا العلمُ بها. والإنسانية لا وجودَ لها في الخارج كليةً. والموجود

(2)

في الخارج المعيَّنات فقط، والعلمُ تابع للمعلوم، فكما أنَّ المعلوم معيَّن، فالعلم به معيَّن، لكنه صورة منطبقة على أفراد كثيرة، فليس في الذهن ولا في الخارج

(3)

صورة غير منقسمة البتة. وكم قد غلط في هذا الموضع طوائفُ من العقلاء لا يحصيهم إلا الله تعالى.

فالصورة الكلِّية التي يثبتونها ويزعمون أنها حالَّة في النفس، فهي صورة شخصية موصوفة بعوارض شخصية. فهَبْ أنَّ هذه الصورة العقلية حالَّة في جوهر ليس بجسم ولا جسماني، فإنها غير مجرَّدة عن العوارض.

فإن قلتم: مرادنا بكونها مجردة: النظر إليها من حيث هي هي، مع قطع النظر [134 أ] عن تلك العوارض.

قيل لكم: فلمَ لا يجوز أن تكون الصورة الحالَّة في المحلِّ الجسماني منقسمةً؟ وإنما تكون مجرَّدةً إذا نظرنا إليها من حيث هي هي، بقطع النظر عن عوارضها.

(1)

في الأصل: «العلم حصل به» ، وكذا في (غ). وهو سهو.

(2)

ما عدا (ب، ط، ج): «الوجود» ، ولكن اتفقت النسخ فيما بعد على «المعينات». وفي النسخ المطبوعة: «والوجود

للمعينات».

(3)

«كلية

الخارج» ساقط من الأصل لانتقال النظر.

ص: 584

فصل

قولكم في الرابع: إنَّ القوة العقلية تقوى على أفعال غير متناهية، ولا شيء من القوى الجسمانية كذلك.

فجوابه: أنَّا لا نسلِّم أنها تقوى على أفعال غير متناهية.

قولكم

(1)

: إنها تقوى على إدراكات لا تتناهى، والإدراكاتُ أفعال= مقدمتان كاذبتان. فإن إدراكاتها ولو بلغت ما بلغت فهي متناهية، فلو

(2)

كان لها بكل نفس ألفُ ألفِ إدراك لتناهت إدراكاتها. فهي قطعًا تنتهي في الإدراكات والمعارف إلى حدًّ لا يمكنها أن تزيد عليه شيئًا، كما قال تعالى:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]. إلى أن ينتهي العلم إلى من هو بكل شيء عليم، فهو الله الذي لا إلاه إلا هو وحده. وذلك من خصائصه التي لا يشرَكه فيها سواه

(3)

.

فإن قلتم: لو انتهى إدراكها إلى حدٍّ

(4)

لا يمكنها المزيدُ عليه لزمَ انقلابُ الشيء من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي

(5)

.

قلنا: فهذا بعينه لو صحَّ دلَّ على أنَّ القوة الجسمانية تقوى على أفعالٍ غيرِ متناهية، وذلك يوجب سقوط الشبهة وبطلانها.

(1)

كذا في جميع النسخ الخطية. وفي النسخ المطبوعة «وقولكم» .

(2)

(ب، ط، ج): «ولو» .

(3)

(ط، ج، ن، ز): «أحد سواه» .

(4)

«من خصائصه

حدّ» ساقط من (ب).

(5)

«إلى الامتناع الذاتي» من (ب، ط، ج).

ص: 585

وأيضًا: فإنَّ قوةَ التخيُّل والتفكُّر والتذكُّر تقوى على استحضار المتخيَّلات والمتذكَّرات إلى غير نهايةٍ مع أنها عندكم قوة جسمانية. فإن قلتم: لا نسلِّم أنها تقوى على ما لا يتناهى. قيل لكم: وهذا

(1)

يقول خصومُكم في القوة العاقلة سواء.

وأما كذبُ المقدمة الثانية: فإن الإدراك ليس بفعلٍ، فلا يلزم من تناهي فعلِها تناهي إدراكها. وقد صرَّحتم بأن الجوهر العقلي قابلٌ لصورة المعلوم، لا أنه فاعل لها، والشيء الواحدُ لا يكون فاعلًا وقابلًا عندكم. وقد صرَّحتم بأن الأجسام يمتنع عليها أفعالٌ لا نهاية لها، ولا يمتنع عليها قبولات

(2)

وانفعالاتٌ لا تتناهى.

وقد أورد ابن سينا على هذه الشبهة سؤالًا، فقال: أليس النفسُ الفلكيةُ المباشِرةُ لتحريك الفلك قوة جسمانية، مع أن الحركات الفلكية غيرُ متناهية؟ وأجاب عنه بأنها وإن كانت قوةً جسمانيةً إلا أنها تستمدُّ الكمال من العقل المفارق

(3)

. فلهذا السبب قدرَتْ على أفعال غير متناهية.

فنقول

(4)

: فإذا كان الأمر عندك كذلك، فلمَ لا يجوز أن يقال: النفس

(5)

الناطقة تستمدُّ الكمال والقوة من فاطرها ومنشئها الذي له القوة جميعًا؟ فلا جَرَمَ تقوى مع كونها جسمانيةً على ما لا يتناهى. فإذا قلت بذلك وافقت

(1)

في النسخ المطبوعة: «هكذا» .

(2)

هذا في (ب، ج). وفي غيرهما: «جهولات» . وفي النسخ المطبوعة: «مجهولات» .

(3)

«المفارق» ساقط من (ز، ن).

(4)

ما عدا الأصل، (ق، غ): «فنقول له» .

(5)

(ط، ج): «إن النفس» .

ص: 586

الرسلَ والعقلَ، ودخلتَ في زمرة المسلمين

(1)

، وفارقتَ العُصْبة المبطِلين.

فصل

قولكم في الخامس: لو كانت القوة العاقلة حالّةً في آلة جسمانية لوجب أن تكون دائمةَ الإدراك لتلك الآلة، أو ممتنعةَ الإدراك لها

(2)

فهو مبنيٌّ على أصلكم الفاسد أنَّ الإدراكَ عبارة عن حصول صورةٍ مساويةٍ للمدرَك في القوة المدرِكة.

ثم لو سلَّمنا لكم ذلك الأصل لم يُفِدكم شيئًا فإنَّ حصول تلك الصورة

(3)

يكون شرطًا لحصول الإدراك. فأما أن يقال: إن الإدراك عين

(4)

حصول تلك الصورة، فهذا لا يقوله عاقل. فلِمَ لا يجوز أن يقال: القوةُ العقليةُ حالَّةٌ في جسم مخصوص؟

ثم إن القوة الناطقة قد تحصل لها حالة إضافية تسمَّى بالشعور والإدراك، فحينئذ تصير القوة العاقلة مدرِكةً لتلك الآلة، وقد لا توجد تلك الحالة الإضافية فتصير غافلةً عنها. وإذا كان هذا ممكنًا سقطت تلك الشبهة رأسًا.

(1)

(ج): «المحقِّين» ، كأن ناسخها أو ناسخ أصلها أراد مقابلة «المبطلين» ، وقد يكون أنكر أيضًا إخراج المصنف ابن سينا من زمرة المسلمين. وفي (ب):«المنكرين» ، وهو تحريف غريب.

(2)

في الأصل: «كلها» ، وكذا في (ق، ط، غ، ز). ولعل سبب التحريف أن كاف «الإدراك» اشتبكت في خط المؤلف بما بعدها. وسيأتي تحريف آخر مثله.

(3)

(أ، ق، غ): «الصور» .

(4)

(ب، ط، ن، ز): «غير» ، تصحيف.

ص: 587

ثم نقول: أتدَّعون

(1)

أنَّا إذا عقلنا شيئًا فإنَّ الصورة الحاضرة في العقل مساويةٌ لذلك المعقول من جميع الوجوه والاعتبارات، أو لا يجب حصولُ هذه المساواة من جميع الوجوه؟ فالأول لا يقوله عاقل، وهو أظهرُ من أن يحتجَّ لفساده. وإذا عُلِم

(2)

أنه لا تجب المساواة من جميع الوجوه لم يلزم من حدوث صورة أخرى في القلب والدماغ اجتماعُ [135 ب] المثلين.

وأيضًا فالقوةُ العاقلُة حالّةٌ في جوهر القلب أو الدماغ، والصورةُ الحادثةُ حالّةٌ في القوة العاقلة. فإحدى الصورتين محلٌّ للقوة العاقلة، والثانية حالّةٌ فيها؛ فلمَ لا يكفي هذا القدر

(3)

من المغايرة؟

وأيضًا: فنحن إذا رأينا المسافة الطويلة والبُعدَ الممتدَّ، فهل يتوقف هذا الإبصار على ارتسام صورة المرئيِّ في عين الرائي، أو لا يتوقف؟

فإن توقَّف لزم اجتماعُ المثلين؛ لأن القوة الباصرة عندكم جسمانية، فهي في محلٍّ له حجم ومقدار، فإذا حصل فيه حجمُ المرئي ومقدارُه لزم اجتماعُ المثلين، وإذا جاز هناك فلمَ لا يجوز مثلُه في مسألتنا؟

(1)

اضطربت النسخ في هذا الموضع اضطرابًا شديدًا، ولعل السبب أن لام «نقول» كانت مشبوكة في أصل المؤلف بهمزة الاستفهام، فقرؤوها:«لا تدعون» ، كما في الأصل و (ق، ز، ن). وبعض النساخ اجتهد في إصلاح العبارة فلم يفلح. ففي (ب، ط): «لا يدعون إلا إذا» . وفي (ج): «ألا تدعون» ، وكذا في الطبعة الهندية. وفي (غ):«لا تدعون إذًا إذا» . والصواب ما أثبتنا. وكذا في نشرتي العموش وبديوي، ولكن لم يُشر أحد منهما إلى ما وقع في النسخ التي اعتمدا عليها.

(2)

(ب، ط): «واعلم» ، وهو تحريف.

(3)

(ب، ط): «فلا تكفي هذه الصور» ، تحريف.

ص: 588

وإن كان إدراك الشيء لا يتوقف على حصول صورةِ المرئيِّ في الرائي بَطَل قولُكم: إنَّ إدراك القلب والدماغ يتوقَّف على حصول صورة القلب والدماغ في القوة العاقلة.

وأيضًا: فقولكم: لو كانت القوة العقلية حالَّةً في جسم لوجب أن تكون دائمةَ الإدراك لذلك الجسم. لكنَّ إدراكَنا لقلبنا ودماغنا غيرُ دائم، فهذا إنما يلزم من يقول: إنها حالَّة في القلب أو الدماغ

(1)

.

وأما من يقول: إنها حالَّة في جسم مخصوص، وهو النَّفس، وهي مشابكة للبدن؛ فهذا الإلزام غيرُ وارد عليه، فإنه يقول: النفس جسم مخصوص، والإنسان أبدًا

(2)

عالمٌ بأنه جسم مخصوص، ولا يزول ذلك من عقله إلا إذا عرضتْ له الغفلة. فسقطت الشبهة التي عوَّلتم عليها على كل تقدير.

فصل

قولكم في السادس: إن كلَّ أحد يدرك نفسه، والإدراك عبارةٌ عن حصول ماهيةِ المعلوم عند العالِم، وهذا إنما يصح إذا كانت النفس غنيَّةً عن المحلِّ، إلى آخره.

جوابه: أن ذلك مبني على الأصل المتقدِّم، وهو أنَّ العلم عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم في نفس العالِم. وهذا باطل من وجوه كثيرة مذكورة في مسألة العلم. حتى لو سَلِم ذلك، فالصورةُ المذكورةُ شرطٌ في

(1)

ما عدا الأصل، (ق):«والدماغ» .

(2)

«أبدا» ساقط من (ن، ز).

ص: 589

حصول العلم، لا أنها نفسُ العلم

(1)

.

وأيضًا فهذه الشبهة مع ركاكة ألفاظها وفسادِ مقدِّماتها منقوضة. فإنا إذا أخذنا حجرًا أو خشبة

(2)

قلنا: هذا جوهر قائم بنفسه. فذاتُه حاضرةٌ عند ذاته، فيجب في هذه الجمادات أن تكون عالمة بذواتها.

وأيضًا فجميع الحيوانات مدركةٌ لذواتها، فلو كان كونُ الشيء مدرِكًا لذاته يقتضي كونَ ذاتِه

(3)

جوهرًا مجردًا، لزمَ كونُ نفوس الحيوانات بأسرها جواهرَ مجرَّدةً. وأنتم لا تقولون بذلك.

فصل

قولكم في السابع: إنَّ الواحدَ منَّا يتخيَّل بحرًا من زئبق، وجبلًا من ياقوت، إلى آخره؛ وهو شبهة أبي البركات البغداديِّ، فشبهةٌ داحضةٌ جدًّا، فإنها مبنية على أن تلك المتخيَّلات أمور موجودة، وأنها منطبعة في النفس الناطقة انطباعَ النقش

(4)

في محلِّه. ومعلوم قطعًا أن هذه المتخيَّلات لا حقيقةَ لها في ذاتها، وإنما الذهنُ يفرضُها تقديرًا، وليست منطبعةً في النفس، فإنَّ العلوم الخارجية لا تنطبع صورُها في النفس، فكيف بالخيالات المعدومة؟ فهذه عدميَّة محضة

(5)

.

(1)

«وهذا باطل

العلم» ساقط من (ب).

(2)

(ب، ط): «خشبة أو حجرا» .

(3)

(ن): «كونه» .

(4)

كذا في الأصل، وهو الصواب. وفي غيره من النسخ الخطية والمطبوعة:«النفس» .

(5)

رسمها في الأصل: «منه محصه» وكذا في (ق). فقرأها ناسخ (غ): «شبهة محضة» ، وكتب فوق الكلمة الأولى حرف الظاء. وفي (ن، ز): «منه» وحذفت الكلمة الثانية. والمثبت من (ب، ط، ج)، وهو أقرب.

ص: 590

ولا نمنعُ

(1)

من وقوع التمييز بين الأعدام المضافة، فإن العقل يميِّز بين عدم السمعِ وعدم البصر وعدم الشم وغيرِ ذلك. ولا يلزم من هذا التمييز كونُ هذه الأعدام موجودةً، بل يميز بين أنواع المستحيلات

(2)

التي لا يمكن وجودها البتة.

ثم نقول: إذا عُقِلَ حلولُ الأشكال والمقادير فيما كان مجرَّدًا عن الحجمية والمقدارِ

(3)

من كلِّ الوجوه، فلَأنْ يُعقلَ حلولُ

(4)

العلمِ بالشكل العظيم والمقدار العظيم في الجسد

(5)

الصغير أولى

(6)

.

وأيضًا: فإذا كان عدمُ الانطباق من جميع الوجوه لا يمنع من حلول الصورة والشكل في الجوهر المجرد، فعدمُ انطباق العظيم على الصغير أولى أن لا يَمنعَ من حلول الصورة العظيمة في المحل الصغير.

(1)

الأصل غير منقوط. وقراءة (ق، غ، ن): «يمنع» . وفي (ب، ط، ج): «يمتنع وقوعُ» ، بحذف «من» .

(2)

(ج): «المتخيلات» ، تصحيف.

(3)

في الأصل: «العذاب» . وكذا في (ق)، وهو تحريف.

(4)

في الأصل: «حلولها» . وكذا في (ق، غ، ز). ولعله سهو. وفي (ب، ج): «حلول الشكل» .

(5)

(ب، ط، ج): «الجنس» . (ق، غ): «الحس» . ورسم الكلمة في الأصل يحتمل القراءتين. ولعل الصواب ما أثبتنا. وفي (ن): «الجسم» .

(6)

كلمة «أولى» انفردت بها (ج)، وتمت الجملة التي كانت بحاجة إلى خبر المبتدأ. وقد أصلحها بعض الناشرين بتغيير «فلأن» إلى «أفلا». وفي الطبعة الهندية:«فلا» ، وهو خطأ.

ص: 591

وأيضًا فإنَّ سلفكم من الأوائل أقاموا الدليل على أن انطباع الصورة الخيالية

(1)

في الجوهر المجرَّد مُحالٌ، وذكروا له وجوهًا.

[136 ب] فصل

قولكم في الثامن: لو كانت القوة العقلية جَسَدانيةً لضعفت في زمن الشيخوخة

(2)

، وليس كذلك. جوابه من وجوه:

أحدها: لمَ لا يجوز أن يقال: القَدرُ المحتاجُ إليه من صحة البدن في كمال القوة العقلية مقدارٌ معين؟ وأما كمالُ حال البدن في الصحة، فإنه غير معتبر في كمال حال القوة العقلية. وإذا احتمل ذلك لم يبعد أن يقال: ذلك القدرُ المحتاجُ إليه باقٍ إلى آخر الشيخوخة، فبقي العقل إلى آخرها.

الوجه الثاني: أن الشيخ لعله إنما يمكنه أن يستمرَّ في الإدراكات العقلية على الصحة، أنَّ

(3)

عقله يبقى ببعض الأعضاء التي يتأخر الفاسد والاستحالة إليها، فإذا انتهى إليها الفساد والاستحالة فَسَد عقلُه وإدراكه.

الوجه الثالث: أنه لا يمتنع أن يكون بعضُ الأمزجة أوفقَ لبعض القوى، فلعل مزاجَ الشيخ أوفقُ للقوة العقلية، فلهذا السبب تقوى فيه القوة العاقلة.

الوجه الرابع: أن المزاج

(4)

إذا كان في غاية القوة والشدة كانت سائر القوى قوية، فتكون القوة الشَّهوانية والغضبية قويةً جدًّا. وقوة هذه القوى

(1)

(أ، ق، غ): «الحالية» . وفي النسخ المطبوعة: «الحالَّة» .

(2)

زاد في (ب، ط، ج): «دائمًا» كما سبق في ذكر أدلتهم.

(3)

(ب، ط، ج): «لأن» .

(4)

«أوفق

المزاج» ساقط من (ن، ز).

ص: 592

تمنع العقل من الاستكمال، فإذا حصلت الشيخوخة وحصل الضعف، حصل بسبب الضعف ضعفٌ في هذه القوى المانعة للعقل من الاستكمال، وحصل في العقل أيضًا ضعفٌ، ولكن بقدر

(1)

ما حصَلَ في العقل من الضَّعف حصل ذلك في أضداده، فينجبر

(2)

النقصانُ من أحد الجانبين بالنقصان من الجانب الآخر، فيقع الاعتدال.

الوجه الخامس: أنَّ الشيخ حفِظ العلومَ والتجاربَ الكثيرة، ومارَس الأمور ودَرِبَها وكثرت تجاربه، وهذه الأحوال تعينه

(3)

على وجوه الفكرِ وقوةِ النظر، فيقاوم النقصان الحاصل بسبب ضعف البدن والقُوى.

الوجه السادس: أن كثرةَ الأفعال سبب

(4)

لحصول المَلَكات الراسخة [137 أ]، فصارت الزيادة الحاصلة بهذا الطريق جابرةً للنقصان الحاصل بسبب اختلال البدن.

الوجه السابع: أنه قد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يهرمُ ابن آدم وتشِبُّ فيه

(5)

خصلتان: الحرص، وطول الأمل»

(6)

. والواقع شاهد لهذا

(1)

ما عدا (ب، ط، ج): «بعد» .

(2)

(ب، ط، ج): «فيتميز» ، تصحيف.

(3)

ما عدا الأصل و (ق، غ): «معينة» .

(4)

«سبب» ساقط من الأصل و (غ).

(5)

(ب، ط): «معه» . ولعل ما ورد في النسخ مصحف عن «منه» .

(6)

أخرجه البخاري (6421) ومسلم (1047) من حديث أنس. ولفظ مسلم: «وتشبُّ منه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر» . ولفظ البخاري: «يكبر ابن آدم، ويكبر معه اثنتان: حبّ المال، وطول العمر» . والقريب من لفظ المؤلف ورد في السنن الكبرى للبيهقي (6298): «

ويبقى منه اثنتان».

ص: 593

الحديث. مع أنَّ الحرص والأمل من القوى الجسمانية والصفات الخيالية، ثم إن ضعف البدن لم يُوجِب ضعفَ هاتين الصفتين، فعُلِم أنه لا يلزم من اختلالِ البدن وضعفِه ضعفُ الصفات البدنية.

الوجه الثامن: أنا نرى كثيرًا من الشيوخ يصيرون إلى الخَرَف وضعف العقل، بل هذا هو الأغلب. ويدل عليه قوله تعالى:{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل: 70]. فالشيخ في أرذل عمره يصير كالطفل، أو أسوأ حالًا منه. وأما من لم يحصل له ذلك، فإنه لا يُرَدُّ إلى أرذل العمر.

الوجه التاسع: أنه لا تلازمَ

(1)

بين قوة البدن وقوةِ النفس، ولا بين ضعفه وضعفها. فقد يكون الرجل قويَّ البدنِ ضعيفَ النفسِ جبانًا خوَّارًا، وقد يكون ضعيفَ البدن قويَّ النفس، فيكون شجاعًا مِقدامًا على ضعف بدنه.

الوجه العاشر: أنه لو سَلِم لكم ما ذكرتم لم يدلَّ على كون النفس جوهرًا مجرَّدًا لا داخلَ العالم ولا خارجه، ولا هي في البدن

(2)

ولا خارجةٌ عنه؛ لأنها إذا كانت جسمًا مشرقًا صافيًا

(3)

سماويًّا مخالفًا للأجسام الأرضية لم تَقبل الانحلالَ والذبولَ والتبدُّلَ، كما تقبله الأجسام المتحلِّلة الأرضية

(4)

. فلا يلزم

(1)

في (ق، ب): «يلزم» . وفي الأصل دون نقط الياء، فلعله سهو، والمقصود ما أثبتنا من غيرها. وفي (غ):«لا يلزم من قوة البدن قوة النفس ولا من ضعفه ضعفها» . ولعله تصرف من ناسخها.

(2)

«ضعيف النفس

في البدن» ساقط من الأصل.

(3)

(ق): «صافيًا مشرقًا» .

(4)

«لم تقبل

الأرضية» ساقط من (ن، ز).

ص: 594

من حصول الانحلال والذبول في هذا البدن حصولُهما في جوهر النفس.

فصل

قولكم في التاسع: إنَّ القوة العقلية غنيَّة في أفعالها عن الجسم، وما كان غنيًّا عن الجسم في أفعاله كان غنيًّا عنه في ذاته، إلى آخره.

جوابه أن يقال: لا يلزم من ثبوت حكمٍ في قوةٍ جسمانيَّةٍ ثبوتُ مثلِ ذلك الحكم في جميع القوى الجسمانية. وليس معكم غيرُ الدعوى المجرَّدة، والقياس الفاسد.

وأيضًا: فالصور والأعراض محتاجةٌ إلى محلِّها، وليس احتياجُها إلى تلك المحالِّ إلا لمجرَّد ذواتها. ثم لا يلزم من استقلالها بهذا الحكم استغناؤها في ذواتها عن تلك المحالِّ. فلا يلزم [137 ب] من كونِ الشيء مستقلًّا باقتضاء حكمٍ من الأحكام أن يكون مستغنيًا في ذاته عن المحلِّ، والله أعلم.

قولكم في العاشر: إن القوة الجسمانية تكِلُّ بكثرة الأفعال، ولا تقوى على القوي بعد الضعيف، إلى آخره.

جوابه: أنَّ القوة الخيالية جسمانيةٌ، ثم إنها تقوى على تخيُّل الأشياءِ العظيمة مع تخيُّلها الأشياءَ

(1)

الحقيرة، فإنها يمكنها

(2)

أن تتخيل الشعلةَ الصغيرةَ حال ما تَخَيَّلُ الشمسَ والقمر.

(1)

(ب، ط، ج): «للأشياء» .

(2)

(ب، ط): «عليها» ، تصحيف.

ص: 595

وأيضًا: فإنَّ إبصارَ الأشياء القوية القاهرة يمنعُ إبصارَ الأشياء الضعيفة، فكذلك نقول: المعقولاتُ العظيمة العالية تمنع تعقُّل المعقولات الضعيفة، فإنَّ المستغرِقَ في معرفة جلال ربِّ الأرض والسماوات وأسمائه وصفاته يمتنع عليه في تلك الحال الفكرُ في ثبوت الجوهر الفرد وحقيقته.

فصل

قولكم في الحادي عشر: إنَّا إذا حكمنا بأنَّ السواد يضادُّ

(1)

البياض، وجب أن يحصل في الذهن ماهيةُ السواد والبياض معًا، والبديهة حاكمةٌ بأن اجتماعَهما في الجسم محال.

جوابه: أنَّ هذا مبني على أن من أدرك شيئًا فقد حصل في ذات المدرَك صورةٌ مساويةٌ للمدرِك، وهذا باطل. واستدلالكم على صحته بانطباع الصورة في المرآة باطل، فإنَّ المرآة لم ينطبع فيها شيءٌ البتة، كما يقوله جمهور العقلاء من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم. والقول بالانطباع باطلٌ من وجوه كثيرة.

ثم نقول: إذا كنتم قد قلتم: إنَّ المنطبع في النفس عند إدراك السواد والبياض رسومُهما ومثالُهما، لا حقيقتُهما؛ فلِمَ لا يجوز حصول رسوم هذه الأشياء في المادة الجسمانية؟

فصل

قولكم في الثاني عشر: إنه لو كان محلُّ الإدراكات جسمًا ــ وكلُّ

(1)

يشبه رسمها في الأصل: «مساو» . وكذا في (ق). وفي (غ): «مساوي للبياض» . وهو تحريف.

ص: 596

جسمٍ

(1)

منقسمٌ ــ لم يمنع أن يقوم ببعض أجزاء الجسم علمٌ بالشيء، وبالجزء الآخر منه جهلٌ به، فيكون الإنسان عالمًا بالشيء جاهلًا به في وقت واحد.

جوابه: أن هذه الشبهة منتقضة على أصولكم، فإن الشهوة والغضب والتخيُّل من الأحوال [138 أ] الجسمانية عندكم، ومحلُّها منقسم، فلزمكم

(2)

أن تجوِّزوا قيام الشهوة والغضب بأحد الجزأين وضدَّهما بالجزء الآخر، فيكون مشتهيًا للشيء نافرًا عنه، غضبان عليه

(3)

غير غضبان، في وقت واحد.

فصل

قولكم في الثالث عشر: إن المادة الجسمانية إذا حصلت فيها نفوس مخصوصة امتنع فيها حصول مثلها، والنفوس العقلية

(4)

بضد ذلك

(5)

إلى آخره.

جوابه: أن غاية هذا أن يكون قياسًا تمثيليًّا

(6)

بغير جامع، وذلك لا يفيد

(1)

في جميع النسخ: «فكل جسم» ، والصواب بالواو كما سبق.

(2)

(ب، ط): «فيلزمكم» .

(3)

«عليه» ساقط من (ب، ط).

(4)

في جميع النسخ الخطية والمطبوعة: «البشرية» . والصواب ما أثبتنا وفاقًا لما سبق عند سرد هذه الأدلَّة.

(5)

الأصل: «فضدّ ذلك» . والذي سبق: «فبضد ذلك» .

(6)

(ب، ط، ج): «تمثيلًا» . وفي غيرها من النسخ الخطية والمطبوعة: «ممتازًا» . وهو تحريف طريف.

ص: 597

الظنَّ فضلًا عن اليقين، فإن النفوس العقلية هي العلوم والإدراكات، والنفوسَ الجسمانية هي الأشكال والصور، ولا ريب أن العلوم مخالفةٌ بحقائقها للصور والأشكال. ولا يلزم من ثبوت حكمٍ في نوع من أنواع الماهيات ثبوته فيما

(1)

يخالف ذلك النوع.

فصل

وقولكم في الرابع عشر: لو كانت النفس جسمًا لكان بين تحريك المحرِّك رجلَه وبين إرادته للحركة زمان، إلى آخره.

جوابه: أن النفس مع الجسد لا تخلو من ثلاثة أحوال: إما أن تكون لابسةً لجميعه من خارج كالثوب، أو تكون في موضع واحد كالقلب والدماغ، أو تكون ساريةً في جميع أجزاء الجسد.

وعلى كل تقدير من هذه التقادير، فتحريكُها لِما تريد تحريكَه يكون مع إرادتها لذلك بلا زمان، كإدراك البصر لما يلاقيه، وإدراك السمع والشمّ والذوق

(2)

. وإذا قطعتَ العضو لم ينقطع ما كان من جسم الإنسان متخلِّلًا لذلك العضو، سواءٌ كانت لابسة له من داخل أو خارج، بل تفارقُ العضوَ الذي بطل حسُّه في الوقت، وتتقلص عنه بلا زمان. وتكون مفارقتها لذلك العضو كمفارقة الهواء للإناء إذا مُلِئ ماء.

وأما إن

(3)

كانت النفس ساكنةً في موضع واحد من البدن، لم يلزم أن

(1)

هذا في الأصل و (غ، ج). وفي (ن، ز): «لما» . وفي (ب، ط، ق): «كما» ، تصحيف.

(2)

في الأصل: «العروق» . وكذا في (ز، ق، غ). والصواب ما أثبتنا من (ب، ج). وفي (ط): «الذوق والعروق» ، جمع بين الصحيح والمحرّف. وفي (ن) حذف الكلمة.

(3)

(ب، ط، ج): «إذا» .

ص: 598

تبِينَ

(1)

مع العضو المقطوع

(2)

.

وأما إن كانت لابسةً للبدن من خارج، لم يلزم أن يكون بين إرادتها لتحريكه ونفسِ التحريك [138 ب] زمانٌ، بل يكون فعلها حينئذ في تحريك الأعضاء كفعل المغناطيس في الحديد وإن لم يلاصقه.

ثم نقول: هذا الهذَيان الذي شغلتم به الزمانَ وارد عليكم بعينه، فإنها عندكم غير متصلة بالبدن ولا منفصلة عنه، ولا داخلة فيه ولا خارجة عنه؛ فيلزمكم مثل ذلك سواء

(3)

.

فصل

قولكم في الخامس عشر: لو كانت جسمًا لكانت منقسمةً، ولصحَّ عليها أن تعلمَ بعضها وتجهلَ بعضها، فيكون الإنسان عالمًا ببعض نفسه جاهلًا بالبعض الآخر.

جوابه: أن هذه الشبهة مركبة من مقدِّمتين: تلازمية واستثنائية، والمنعُ واقعٌ في كلا المقدمتين

(4)

أو إحداهما. فلا نسلِّم أنها لو كانت جسمًا لصحَّ أن تعلم بعضها وتجهل بعضها، فإن النفس بسيطة، غير مركبة من هذه العناصر ولا من الأجزاء المختلفة، فمتى

(5)

شعرت بذاتها شعرت

(1)

رسمها في (ب، ط، ج) يشبه «تنبتر» . وفي (ن): «ينقطع منها موضع العضو» .

(2)

في (ب، ط، ج) زيادة: «به» .

(3)

«سواء» ساقط من (ق).

(4)

كذا في جميع النسخ بتذكير «كلا» ، وله نظائر في كتب المؤلف. انظر ما علّقت على «كلا الطائفتين» في طريق الهجرتين (505).

(5)

(أ، ق، غ): «فمن» ، تحريف.

ص: 599

بجملتها

(1)

. فهذا منعُ

(2)

المقدمة التلازمية. وأما الاستثنائية، فلا نسلِّم أنها لا يصحُّ أن تعلمَ بعضَها حال غفلتها

(3)

عن البعض الآخر، ولم تذكروا

(4)

على بطلانِ ذلك شبهةً فضلًا عن دليل.

ومن المعلوم أن الإنسان قد يشعر بنفسه من بعض الوجوه دون كلِّها. ويتفاوتُ الناس في ذلك، فمنهم من يكون شعوره بنفسه أتمَّ من غيره بدرجات كثيرة.

وقد قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]. فهؤلاء نسُوا نفوسهم لا من جميع الوجوه، بل من الوجه الذي به مصالحُها وكمالُها وسعادتُها، وإن لم ينسَوها من الوجه الذي منه شهوتُها وحظُّها

(5)

وإرادتُها. فأنساهم مصالحَ نفوسهم أن يفعلوها ويطلبوها، وعيوبَها ونقائصَها

(6)

أن يُزيلوها

(7)

ويجتنبوها، وكمالَها الذي خُلقت له أن يعرفوه ويطلبوه. فهم جاهلون بحقائق أنفسهم من هذه الوجوه، وإن كانوا عالمين بها من وجوه أُخَر.

(1)

هذا في (ب، ط، ج). وفي غيرها: «بجهلها» ، تحريف. والجملة «فمتى شعرت .. » إلى هنا ساقطة من (ن).

(2)

(ب، ط، ج): «يمنع» .

(3)

ما عدا (ج، ن، ز): «عقلها» ، تصحيف.

(4)

كذا في (غ). والأصل غير منقوط. وفي غيرهما: يذكروا.

(5)

رسمها في (أ، ق، ط) بالضاد، فتحرف في (ب، ج، ن، ز) إلى «غضبها» .

(6)

بعدها في الأصل زيادة: «أوشي» وكذا في (ق، ب، غ). ولم أدر ما هو.

(7)

(ط، ز): «يتركوها» .

ص: 600

فصل

[139 أ] قولكم في السادس عشر: لو كانت النفس جسمًا لوجب ثقلُ البدن بدخولها فيه؛ لأن من شأن الجسم إذا زدتَ عليه جسمًا آخر أن يثقل به.

فهذه شبهة في غاية الثقالة، والمحتجُّ بها أثقَل وأثقَل! وليس كلُّ جسمٍ زِيدَ عليه جسمٌ آخر ثقَّله، فهذه الخشبة تكون ثقيلة، فإذا زِيد عليها جسمُ النار خفَّت جدًّا. وهذا الظرف يكون ثقيلًا، فإذا دخله جسم الهواء خفَّ. وهذا إنما يكون في الأجسام الثِّقال التي تطلب المركزَ والوسطَ بطبعها، وهي تتحرك بالطبع إليه. وأما الأجسام التي تتحرك بطبعها إلى العلوِّ، فلا يعرضُ لها ذلك، بل الأمر فيها بالضدِّ من تلك الأجسام الثقال. بل إذا أضيفت إلى جسم ثقيل أكسبته الخفَّة.

وقد أخذ هذا المعنى بعضُهم، فقال

(1)

:

ثقُلتْ زجاجاتٌ أتَتْنا فُرَّغًا

حتى إذا مُلِئَتْ بصِرْف الرَّاح

خَفَّتْ فكادت أن تطير بما حوَتْ

وكذا الجُسومُ تخِفُّ بالأروَاح

(1)

البيتان لإدريس بن اليمان العبدري الأندلسي (ت 450) من قصيدة طويلة في علي بن مجاهد العامري كما في جذوة المقتبس (170) والمطرب لابن دحية (130) ونفح الطيب (4/ 75) وغيرها من المصادر الأندلسية. ونسبا في معجم الأدباء (1084) وعيون الأنباء (2/ 255) إلى ابن شبل البغدادي الطبيب الفيلسوف (ت 474)، وفي البديع لأسامة (227) إلى ابن هانئ.

ص: 601

فصل

قولكم في السابع عشر: لو كانت النفس جسمًا لكانت على صفات سائر الأجسام التي لا تخلو منها، من الخفة والثقل، والحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، والنعومةِ والخشونة، إلى آخره

(1)

= شبهةٌ فاسدة، وحجة داحضة، فإنه لا يجب اشتراك الأجسام في جميع الكيفيات والصفات. وقد فاوت اللّهُ سبحانه بين صفاتها وكيفياتها وطبائعها

(2)

، فمنها ما يُرى بالبصر ويُلمَس باليد، ومنها ما لا يُرى ولا يُلمَس. ومنها ما له لون، ومنها ما لا لون له. ومنها ما يقبل الحرارة والبرودة، ومنها ما لا يقبله.

على أن للنفس

(3)

من الكيفيات المختصَّة بها ما لا يشاركُها فيها البدن، ولها خفة وثقل، وحرارة وبرودة، ويبس

(4)

ولِين بحسبها. وأنت تجد الإنسان في غاية الثقالة، وبدنُه نحيل

(5)

جدًّا. وتجده في غاية الخفَّة، وبدنُه ثقيل. وتجد نفسًا لينة وادعة، ونفسًا يابسة [139 ب] قاسية. ومن له حسٌّ

(6)

سليمٌ يشمُّ رائحةَ بعض النفوس كالجيفة المنتنة، ورائحةَ بعضِها أطيبَ من ريح المسك.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرَّ في طريق بقيَ أثر رائحته في الطريق،

(1)

«آخره» ساقط من (ب، ط، ز).

(2)

(ز، ن): «طباعها» .

(3)

في الأصل: «النفس» . وكذا في (ب، ط، ق، ن). والمثبت من غيرها.

(4)

(ن): «يبوسة» .

(5)

تحرّف في (ب، ط) إلى «ثقيل» ، فلما فسد المعنى أثبت ناسخا (ج، ن): «خفيف» .

(6)

(ن): «شمّ» .

ص: 602

ويُعرف

(1)

أنه مرَّ بها

(2)

. وتلك رائحة نفسه وقلبه

(3)

. وكانت رائحة عَرَقه من أطيب شيء

(4)

، وذلك تابعٌ لطيبِ نفسه وبدنه.

وأخبر ــ وهو أصدق البشر ــ أنَّ الروحَ عند المفارقة يوجد لها كأطيب نفحةِ مسكٍ وُجِدت على وجه الأرض، أو كأنتن ريحِ جيفةٍ وُجِدت على وجه الأرض

(5)

. ولولا الزكامُ الغالب لشمَّ الحاضرون ذلك. على أنَّ كثيرًا من الناس

(6)

يجد ذلك، وقد أخبر به غيرُ واحد، ويكفي فيه خبر الصادق المصدوق. وكذلك أخبر بأن أرواح المؤمنين مشرقةٌ، وأرواحَ الكفار سُودٌ

(7)

.

وبالجملة فكيفياتُ النفوس أظهرُ من أن ينكرها إلا مَن هو مِن أجهلِ الناس بها

(8)

.

فصل

قولكم في الثامن عشر: لو كانت

(9)

جسمًا لوجب أن تقع تحت جميع

(1)

(ب، ط، ج): «فيعرف» .

(2)

أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (1273) عن جابر.

(3)

(ب، ط، ج): «قلبه ونفسه» .

(4)

انظر حديث أنس في صحيح مسلم (2331).

(5)

سبق تخريجه.

(6)

(ن): «أكثر الناس» .

(7)

سبق تخريجه.

(8)

ساقط من (ط، ج، ز). وفي (ط): «من هو أجهل الناس» ، فأسقط «مِن» أيضًا.

(9)

في النسخ المطبوعة زادوا بعدها: «النفس» .

ص: 603

الحواسِّ أو تحت حاسة منها، إلى آخره.

فجوابه بمنع

(1)

اللزوم، فإنكم لم تذكروا عليه شبهةً فضلًا عن دليل. ومَع

(2)

انتفاءِ اللازم، فإن الروح تُدرَك بالحواسِّ، فتُلمَس، وتُرى، وتُشَمُّ لها الرائحة الطيبة والخبيثة، كما تقدم في النصوص المستفيضة، ولكن لا نشاهد نحن ذلك.

وهذا الدليل لا يمكن مَن يصدِّقُ الرسلَ أن يحتجَّ به، فإن الملَك جسم ولا يقع تحت حاسَّة من حواسنا، وكذلك الجنُّ والشياطين أجسام لِطاف لا تقع تحت حواسنا

(3)

.

والأجسام متفاوتة في ذلك تفاوتًا كثيرًا، فمنها ما يدرَك بأكثر الحواس، ومنها ما لا يدرَك

(4)

بأكثرها، ومنها ما يدرَك بحاسَّة واحدة. ومنها ما لا ندرِكه نحن

(5)

في الغالب، وإن أُدرِك في بعض الأحوال؛ لكونه لم يُخلَق

(6)

(1)

الأصل غير منقوط. وفي (ق، ز، غ): «يمنع» . وكذا في بعض النسخ المطبوعة وفي بعضها: «منع» . وفي (ط): «يمتنع» . والمثبت من (ج، ن). ويحتمل: «نمنع» وقبلها في (ب، ط، ج، ز): «جوابه» دون الفاء.

(2)

هذا في (ن، ز). وفي غيرهما: «منع» .

(3)

(ن): «حاسة من حواسنا» .

(4)

كذا في (ج) وحدها والنسخ المطبوعة. وفي الأصل وغيره: «ما يدرك» . فإن صح فالجملة مكررة، ومن ثم حذفت في (ن). وفي (ق):«بأكبر الحواس» في الجملة السابقة، و «بأكثرها» في هذه الجملة. وفي (غ) على العكس.

(5)

«نحن» ساقط من (ب، ط، ج، ز). وفي (ط): «يُدرك» .

(6)

في الأصل: «يخلو» . وكذا في (غ). وفي (ق): «يخلونا» . وفي (ن): «يثبت» ، ولعله تصرف من ناسخها.

ص: 604

لنا إدراكه، أو لمانعٍ يمنع من إدراكه، أو للطفِه عن إدراك حواسِّنا. فما عَدِمَ اللون من الأجسام لم يُدرَك بالبصر كالهواء والنار في عنصرها، وما عَدِم الرائحةَ لم يُدرَك بالشمِّ كالنار والحصا والزجاج، وما عَدِمَ المجَسَّةَ لم يُدرَك باللمس كالهواء الساكن

(1)

.

وأيضًا فالروح هي المدرِكةُ لمدارك

(2)

هذه الحواسِّ بواسطة آلاتها

(3)

، فالنفسُ هي الحاسة المدركة

(4)

، وإن لم تكن محسوسة. فالأجسام والأعراض محسوسة، والنفس مُحِسَّة بها. وهي القابلة لأعراضها المتعاقبةِ عليها من الفضائل والرذائل، كقبول الأجرام لأعراضها المتعاقبة عليها. وهي المتحركة باختيارها، المحرِّكة للبدن قسرًا

(5)

وقهرًا. وهي مؤثرة في البدن، متأثرةٌ به، تألمُ وتلَذُّ، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتنعَم وتبأس، وتحب وتكره، وتَذكرُ وتنسى، وتصعد وتنزل، وتعرِفُ وتُنكر. فآثارها

(6)

من أدلِّ الدلائل على وجودها، كما أن آثار الخالق سبحانه دالةٌ على وجوده وعلى كماله؛ فإن دلالة الأثر على مؤثره ضرورية.

وتأثيراتُ النفوس بعضِها في بعض أمرٌ لا ينكره ذو حسٍّ سليم ولا عقل

(1)

في الأصل: «الساكنة» . وكذا في (غ) مع (ظ) فوقها».

(2)

(ز): «لنحو ما تدرك» .

(3)

(أ، غ): «آلتها» .

(4)

(أ، غ): «المذكورة» ، تحريف.

(5)

(ط): «صبرًا» ، تحريف.

(6)

(أ، غ): «فأثرها» .

ص: 605

مستقيم، ولا سيَّما عند تجرُّدها نوعَ تجرُّدٍ عن العلائق والعوائق البدنية

(1)

؛ فإنَّ قواها تتضاعفُ وتتزايد بحسب ذلك، ولاسيما عند مخالفةِ هواها وحملِها على الأخلاق العالية من العفة والشجاعة والعدل والسخاء، وتجنُّبِها سفسافَ

(2)

الأخلاق ورذائلَها وسافلَها؛ فإنَّ تأثيرها في العالم يقوى جدًّا، تأثيرًا يعجز عنه البدنُ وأعراضُه

(3)

: أن تنظرَ إلى حجرٍ عظيم فتشُقَّه، أو إلى حيوان كبير فتُتلِفَه، أو إلى نعمةٍ فتزيلَها. وهذا أمر قد شاهده الأمم على اختلاف أجناسها وأديانها وهو الذي يُسمَّى

(4)

إصابة العين، فيضيفون الأثر إلى العين، وليس لها في الحقيقة، وإنما هو للنفس

(5)

المتكيِّفة بكيفية ردِيَّة سُمِّيَّة. وقد يكون بواسطة نظر العين، وقد لا يكون، بل يوصفُ له الشيء من بعيد، فتتكيف عليه نفسُه بتلك الكيفية

(6)

، فتُفسِده. وأنت ترى تأثير النفس في الأجسام صفرةً وحمرةً وارتعاشًا بمجرد مقابلتها لها وقوتها

(7)

. وهذه وأضعافُها آثارٌ خارجةٌ عن تأثير البدن وأعراضِه، فإن البدن [140 ب] لا يؤثِّر إلا فيما لاقاه وماسَّه تأثيرًا مخصوصًا. ولم تزل الأمم تشهد تأثيرَ الهِمَم الفعَّالة

(8)

في العالم، وتستعين بها، وتحذَر أثرها.

(1)

«البدنية» ساقط من (ب، ط، ج).

(2)

«سفساف» ساقط من (ب، ط). وفي (ج): «ذمائم» ، ولعله اجتهاد من ناسخها.

(3)

في (ب، ط، ج) هنا زيادة: «فليس في قوة البدن وأعراضه» . والنص لا يستلزمها.

(4)

(أ، غ، ق): «سمي» .

(5)

في (ب، ط، ج) زيادة: الغضبية».

(6)

«بكيفية رديّة

الكيفية» ساقط من (ب، ط).

(7)

وانظر: زاد المعاد (4/ 165 ــ 166)، ومدارج السالكين (1/ 56).

(8)

(غ، ز): «الفاعلة» . وفي (ن، ز) قبلها زيادة «العالية» .

ص: 606

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغسل العائِنُ مغابنَهُ ومواضعَ القذر منه، ثم يُصَبَّ ذلك الماءُ على المَعِين، فإنه يزيلُ عنه تأثير نفسه فيه

(1)

. وذلك بسبب

(2)

أمرٍ طبيعي اقتضته حكمة الله سبحانه، فإن النفس الأمارة لها بهذه المواضع تعلُّقٌ وإلْفٌ، والأرواحُ الخبيثة الخارجية تساعدها، وتألف هذه المواضع غالبًا للمناسبة بينها وبينها. فإذا غُسِلتْ بالماء طَفِئَتْ تلك الناريَّةُ منها كانطفاءِ

(3)

الحديدِ المُحْمَى بالماء، فإذا صُبَّ ذلك الماءُ على المصاب طفئ

(4)

عنه تلك النارية التي وصلت إليه من العائن. وقد وصفَ الأطباء الماءَ الذي يُطفأ فيه الحديدُ لآلامٍ وأوجاع معروفة.

وقد جرَّب

(5)

الناس من تأثير الأرواح بعضها في بعض عند تجرُّدها في المنام عجائبَ تفوت الحصر، وقد نبَّهنا على بعضها فيما مضى. فعالَمُ الأرواحِ عالَمٌ آخَر أعظَم من عالَم الأبدان، وأحكامُه وآثارُه أعجبُ من آثار الأبدان. بل كلُّ ما في العالم من الآثار الإنسانية فإنما هي من تأثير النفوس بواسطة البدن. فالنفوسُ والأبدانُ يتعاونان

(6)

على التأثير تعاونَ المشتركين في الفعل. وتنفردُ النفس بآثار لا يشاركها فيها البدن، ولا يكون للبدن تأثيرٌ

(1)

يشير إلى قصة سهل بن حنيف الذي عانه عامر بن ربيعة. أخرجها مالك في الموطأ (1679) عن أبي أمامة بن سهل.

(2)

كذا في (أ، ن). وفي غيرهما: «سببُ» .

(3)

هكذا في الأصل. وفي غيره: «كما يطفى» .

(4)

رسمها في جميع النسخ: «طفا» ، فتحتمل قراءة «طفَّى» بمعنى أطفأ، وهي عامية.

(5)

في الأصل: «درب» ، ولعله تحريف. وكذا في (ق، ز، ن).

(6)

كذا بالياء في النسخ ما عدا الأصل الذي لم يعجم فيه أوله. وفي (ن، ز): «متعاونَين» ، تحريف.

ص: 607

لا تشارِكه فيها النفس.

فصل

قولكم في التاسع عشر: لو كانت

(1)

جسمًا لكانت ذاتَ طول وعَرْض وعمق وشكل وسطح، وهذه المقادير لا تقوم إلا بمادة

(2)

، إلى آخره.

جوابه: أنَّا نقول: قولُكم: هذه المقاديرُ لا تقوم إلا بمادة. قلنا: وكان ماذا؟ والنفس لها مادة

(3)

خُلِقتْ منها، وجُعِلت على شكل معيَّن وصورة معيَّنة.

قولكم: مادتها إن كانت نفسًا لزم اجتماع نفسَين، وإن كانت غيرَ نفس كانت مركَّبةً من بدن وصورة.

قلنا: مادتها ليست [141 أ] نفسًا، كما أنَّ مادة الإنسان ليست إنسانًا، ومادةَ الجنِّ ليست جِنًّا، ومادةَ الحيوان ليست حيوانًا.

قولكم: «يلزم كونُ النفسِ مركبةً من بدن وصورة» مقدِّمة كاذبة، وإنما يلزم كونُ النفسِ مخلوقةً من مادة، ولها صورة معينة. وهكذا نقول سواءً، ولم تذكروا على بطلان هذا شبهةً، فضلًا عن حجَّة

(4)

ظنية أو قطعية.

فصل

قولكم في الوجه العشرين: إنَّ خاصَّة الجسم أن يقبلَ التجزِّي

(5)

، وأن

(1)

(ط): «كانت النفس» .

(2)

في الأصل هنا وفيما يأتي: «بأمارة» ، وكذا في (غ)، وهو تحريف.

(3)

(ب، ط): «وكان بإرادة النفس الأمارة» ، تحريف طريف.

(4)

في الأصل: «شبهة» ، وهو سهو. وكذا في (غ).

(5)

مصدر تجزَّى بتسهيل الهمزة. والأصل: التجزُّؤ.

ص: 608

الجزء الصغير منه

(1)

ليس كالكبير. فلو قبلت التجزِّي، فكل جزء منها إن كان نفسًا لزم أن يكون للإنسان نفوس كثيرة، وإن لم يكن نفسًا لم يكن المجموع نفسًا.

جوابه: إن أردتم أنَّ كلَّ جسم يقبل التجزِّي في الخارج، فكذبٌ ظاهر؛ فإن الشمس والقمر والكواكب لا تقبل ذلك. ولا يلزم أنَّ كلَّ جسم يصحُّ عليه التجزِّي والتبعيض في الخارج، أما على قولِ نُفاةِ الجوهر الفرد فظاهر، وأما على قول مثبتيه فإنه عندهم جوهر متحيِّز لا يصح عليه قبول الانقسام. سَلَّمنا

(2)

أنها تقبل الانقسام

(3)

، فأيُّ شيء يلزم من ذلك؟

قولكم: إن كان كلُّ جزء من تلك الأجزاء أنفسًا لزم اجتماعُ نفوس كثيرة في الإنسان.

قلنا: إنما يلزم ذلك لو

(4)

انقسمت النفسُ بالفعل إلى نفوسٍ كثيرة، وهذا محال

(5)

.

قولكم: «وإن لم يكن كلُّ جزء نفسًا لم يكن المجموع نفسًا» مقدمة كاذبة منتقِضة. فكلُّ ماهية ثبتَ لها حكمٌ عند اجتماع أجزائها، فإنَّ ذلك الحكم لا يثبت لكل جزء من تلك الأجزاء، كماهية البيت والإنسان والعشَرة وغيرها.

(1)

ساقط من الأصل.

(2)

(ب، ط): «فسلَّمنا» .

(3)

«سلمنا

الانقسام» ساقط من (ن، ز).

(4)

في جميع النسخ: «ان لو» ، ولعله سهو كان في الأصل. وقد حذفت «أن» في النسخ المطبوعة.

(5)

هذه الفقرة ساقطة من (ج).

ص: 609

فصل

قولكم في الوجه الحادي والعشرين: إن الجسم يحتاج في قوامه وبقائه وحفظه إلى النفس، فلو كانت النفس جسمًا لكانت محتاجة في قوامها وبقائها إلى نفس أخرى، ويلزمُ التسلسل.

جوابه: أنه لا يلزم من افتقار البدن إلى نفس تحفظُه افتقارُ النفس إلى نفسٍ تحفظها، وهل ذلك إلا مجرَّدُ دعوى كاذبةٍ تستند

(1)

إلى قياسٍ [141 ب] قد تبيَّن بطلانُه، فإن كلَّ جسم لا يفتقر إلى نفس تحفظه كأجسام المعادن وجسم الهواء والماء والنار والتراب وأجسام سائر الجمادات.

فإن قلتم: إن هذه ليست أحياءً ناطقةً بخلاف النفس فإنها حية ناطقة. قلنا: فحيئذٍ يبقى الدليل هكذا: إنَّ كلَّ جسمٍ حيٍّ ناطقٍ يحتاج في حفظه وقيامه إلى نفسٍ تقوم به. وهذه دعوى مجرَّدة، وهي كاذبة، فإنَّ الجن والملائكة أحياء ناطقون، وليسوا مفتقرين في قيامهم إلى أرواح أُخَر تقوم بهم.

فإن قلتم: وكلامنا معكم في الجن والملائكة فإنهم ليسوا بأجسامٍ متحيزة

(2)

.

(1)

في (ن): «مستندة» . وفي غيرها جميعًا: «مستند» ، فأقرب قراءة لهذا الرسم ما أثبتنا، إلا أن يكون سهو قد وقع في أصل المصنف فيكون الصواب ما ورد في (ن). وكذا في النسخ المطبوعة.

(2)

كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة ما عدا (غ)، ولعل في النص سقطًا أو تصحيفًا. وفي (غ): «فكلامنا معكم

أنهم ليسوا». وهو أشبه.

ص: 610

قلنا: الكلام مع من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. وأما مَن كَفَر بذلك فالكلام

(1)

معه في النفس ضائع، وقد كفر بفاطر النفوس ومُبدِعها وملائكتِه وما جاءت به رسلُه وبسائر ما دلَّ

(2)

عليه العيانُ مع دليل الإيمان

(3)

، فإن الآثار المشهودة في العالم من تأثيرات الملائكة والجن بإذن ربهم لا يمكن إنكارُها، ولا هي موجودة بنفسها، ولا تقدرُ عليها القوى البشرية.

فصل

قولكم في الثاني والعشرين: لو كانت جسمًا لكان اتصالُها بالبدن إن كان على سبيل المداخلة لزمَ تداخلُ الأجسام، وإن كان على سبيل الملاصقة والمجاورة كان الإنسان الواحد جسمين متلاصقين: أحدُهما يُرى، والآخر لا يُرى.

جوابه من وجوه:

أحدها: أنَّ تداخل الأجسام المحالَ أن يتداخل جسمان كثيفان أحدُهما في الآخر، بحيث يكون حيِّزُهما واحدًا. وأما أن يدخل جسمٌ لطيف في كثيف يسري فيه، فهذا ليس بمحال.

(1)

في الأصل: «فلا كلام» . وكذا في (ق). وهو سهو.

(2)

«وكاين بارك» كذا في الأصل دون نقط. وفي (ن): «رسله ويكفي العيان» . وفي (ز): «رسله وما شهد عليه العيان» . وفي النسخ المطبوعة: «رسله وكان تاركًا ما دلَّ

». وكل أولئك إصلاحات بالحذف والزيادة. وفي (ب، ط، ج): «وكسائر ما دلَّ» . ولعل الصواب ما أثبتنا.

(3)

(ب، ط، ج): «الآثار» ، تحريف.

ص: 611

الثاني: أن هذا باطل

(1)

بصور كثيرة، منها: دخول الماء في العودِ والسحاب

(2)

، ودخول النار في الحديد، ودخول الغذاء في [142 أ] جميع أجزاء البدن، ودخول الجن في المصروع. فالروح لِلَطافتها لا يمتنع عليها مشابكةُ البدن

(3)

، والدخولُ في جميع أجزائه.

الثالث: أن حيِّزَ النفس البدنُ، وحيزُه مكانُه المنفصل عنه، وهذا

(4)

ليس بتداخلٍ ممتنع، فإذا فارقَتْه صار لها حيِّز

(5)

آخر غير حيزِه، وحينئذٍ فلا يتداخلان بل يصيرُ

(6)

لكلٍّ منهما حيزٌ يخصه.

وبالجملة: فدخول الروح في البدن ألطفُ من دخول الماء في الثرى، والدهن في البدن. فهذه الشُّبَه

(7)

الفاسدة لا يعارَض بها ما دلَّ عليه نصوصُ الوحي والأدلةُ العقلية. وبالله التوفيق.

(1)

(ب، ط، ج): «يبطل» .

(2)

ساقط من (ن، ز).

(3)

(أ، غ، ق): «مشاركة البدن» .

(4)

في الأصل: «فهذا» .

(5)

ما عدا (ز): «حيِّزًا، وهو خطأ.

(6)

(ز): «يصفو» .

(7)

في (غ) والنسخ المطبوعة: «الشبهة» . والصواب ما أثبتنا من الأصل وغيره، فإن المقصود: الشبه المردود عليها كلها لا الشبهة الأخيرة فحسب.

ص: 612

فصل

وأمَّا المسألة العشرون

(1)

وهي: هل النفس والروح شيءٌ واحد أو شيئان متغايران؟

فاختلف الناس في ذلك، فمن قائل: إن مسمَّاهما واحدٌ، وهم الجمهور. ومن قائل: إنهما متغايران. ونحن نكشف سرَّ المسألة بحول الله وقوته، فنقول:

النفس تطلَق على أمور:

أحدها: الروحُ. قال الجوهري

(2)

: «النفس: الروح. يقال: خرجت نفسه. قال أبو خِرَاش

(3)

:

نجا سالمٌ والنفسُ منه بشِدْقِه

ولم ينجُ إلا جَفْنَ سيفٍ ومئزرا

(4)

أي: بجَفنِ سيفٍ ومئزرٍ.

والنفس: الدم. يقال: سالت نفسه. وفي الحديث

(5)

: «ما لا نفس له

(1)

في (ن): «الحادية والعشرون» ، ونحوه في (ز). وفي (ب):«التاسعة عشر» . ولم يرد في (ن)«فصل وأما» .

(2)

في الصحاح (984).

(3)

كذا في الصحاح، والصاحبي لابن فارس (135). ونبَّه ابن بَرِّي في حواشيه على الصحاح (2/ 307) على أن البيت لحذيفة بن أنس الهذلي. وانظر: شرح أشعار الهذليين (558).

(4)

ما عدا (ب، ج): «سالمًا» ، ظنُّوه حالًا من الناجي، وهو خطأ. وسالم: ابن عامر بن عَريب الكناني.

(5)

يعني حديث النخعي كما في النهاية لابن الأثير (5/ 96) وهو من كلامه. انظر: غريب الحديث لابن قتيبة (1/ 355) والزاهر لابن الأنباري (2/ 233) وتهذيب اللغة (13/ 12) وزاد المعاد (4/ 112).

ص: 613

سائلةً لا ينجِّس الماءَ إذا مات فيه».

والنفسُ: الجسد. قال الشاعر

(1)

:

نُبِّئتُ أنَّ بني سُحَيمٍ أدخَلوا

(2)

أبياتَهم تامُورَ نَفْسِ المنذر

والتامور: الدم.

والنفس: العين. يقال: أصابت فلانًا نفسٌ، أي: عين».

قلت: ليس كما قال، بل النفس هاهنا: الروح، ونسبةُ الإصابة

(3)

[142 ب] إلى العين توسُّعٌ؛ لأنها تكون بواسطة النظر المصيب. والذي أصابه إنما هو نفس العائن، كما تقدم

(4)

.

قلت: والنفس في القرآن تطلَق على الذات بجملتها، كقوله تعالى:{فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61]، وقوله:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، وقوله:{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111]

(5)

، وقوله:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38].

(1)

هو أوس بن حجر، من أبيات يحرِّض بها عمرو بن هند على قَتَلة أبيه المنذر بن ماء السماء. انظر: ديوان أوس (47).

(2)

في جميع النسخ: «بني تميم» . وتصحيحه من الصحاح والديوان.

(3)

هذا في (ب، ج، ز). وفي غيرها: «الإضافة» ، وكذا في النسخ المطبوعة، وهو تصحيف.

(4)

في (ص 606).

(5)

زاد بعدها في (ط): «وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}» .

ص: 614

وتطلق على الروح وحدها، كقوله تعالى:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27]، وقوله:{أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93]، وقوله:{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]، وقوله:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53].

وأما الروح فلا تطلق على البدن، لا بانفراده، ولا مع النفس.

وتطلق الروح على القرآن الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]. وعلى الوحي الذي يوحيه إلى أنبيائه ورسله. قال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15]. وقال: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2].

وسمَّى ذلك

(1)

روحًا لما يحصل به من الحياة النافعة، فإن الحياة بدونه لا تنفع صاحبَها البتة، بل حياةُ الحيوان البهيم خيرٌ منها وأسلَمُ عاقبة.

وسُمِّيت الروح روحًا لأنَّ بها حياة البدن. وكذلك سُمِّيت الريح لِما يحصل بها من الحياة. وهي من ذوات الواو، ولهذا تُجمَع على أرواح. قال الشاعر

(2)

:

(1)

«ذلك» ساقط من الأصل.

(2)

لم أجد البيت على الوجه المذكور هنا.

والبيت الذي استشهدوا به على جمع الريح على «أرواح» قول ذي الرمة من قصيدة في ديوانه (694):

إذا هبَّت الأرواحُ مِن نحوِ جانبٍ

به أهلُ مَيٍّ هاجَ شوقي هبوبُها =

انظر: النكت والعيون (1/ 217)، ودرّة الغواص (190).

وقد ورد في الأشباه والنظائر للخالديين (1/ 82) قبل بيت ذي الرمة قول بعضهم:

إذا الريحُ من أرض الحجاز تنسَّمتْ

وجدتُ لِمَسْراها على كبدي بَرْدا

وهو يُنسب إلى علي بن علقمة وغيره. انظر تخريجه في الأشباه والحماسة البصرية (1179). ولعل البيت الذي أورده المصنف ملفق من عجز هذا البيت وصدر بيت ذي الرمة.

ص: 615

إذا هبَّت الأرواحُ من نحوِ أرضِكم

وجدتُ لمَسْراها على كبِدي بَرْدا

ومنها الرَّوح، والرياح، والاستراحة. فسمِّيت النفْسُ رُوحًا لحصول الحياة بها.

وسُمِّيت نفْسًا إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها، وإما مِن تنفَّسَ الشيءُ إذا خرج

(1)

. فلكثرة خروجها ودخولها في البدن سمِّيتْ نفْسًا. ومنه النَّفَس ــ بالتحريك ــ فإنَّ العبد كلَّما نام خرجَتْ منه، فإذا استيقظ رجعت إليه، فإذا مات خرجت خروجًا كلِّيًا، فإذا دُفنَ عادت إليه، فإذا سُئل خرجتْ، فإذا بُعِث رجعت إليه.

فالفرق بين النفس والروح فرقٌ بالصفات، لا فرق بالذات.

وإنما سُمِّي الدم نفسًا لأن خروجَه الذي يكون معه الموتُ يلازم

(2)

(1)

ذكر ابن فارس في المقاييس (5/ 460) أن المادة تدل على خروج النسيم كيف كان، من ريح أو غيرها، وإليه يرجع فروعها. وقال المصنف في مدارج السالكين (3/ 186) إن النون والفاء وما يثلثهما تدل حيث وجدت على الخروج والانفصال. وهو قول الزمخشري في الكشاف (1/ 41).

(2)

ما عدا (ب، ج، غ): «بلادم» ، تصحيف.

ص: 616

خروجَ النفس، وأن الحياة لا تتم إلا به، كما لا تتم إلا بالنفس. فلهذا قال

(1)

:

تَسِيلُ على حدِّ الظُّبات نفوسُنا

وليست على غيرِ الظُّباتِ تَسِيلُ

(2)

ويقال: فاضت نفسه، وخرجت نفسه؛ كما يقال: خرجت روحه، وفارقت. ولكن الفَيض: الاندفاع وَهْلةً واحدةً. ومنه الإفاضة، وهي: الاندفاع بكثرة وسرعة. لكن أفاض: إذا دفع باختياره وإرادته، وفاض: إذا اندفع قسرًا وقهرًا. فالله سبحانه هو الذي يُفيضها

(3)

عند الموت، فتَفِيض هي.

فصل

وقالت فرقة

(4)

أخرى من أهل الحديث والفقه والتصوُّف: الروح غيرُ النفس. قال مقاتل بن سليمان

(5)

: للإنسان حياة، وروح، ونفس. فإذا نام

(1)

زاد في (ن): «الشاعر» . وهو السموأل بن عادياء. انظر تخريجه والاختلاف في نسبة الأبيات التي منها هذا البيت في الحماسة (1/ 79).

(2)

كلمة «الظبات» رسمت في جميع النسخ بالتاء المربوطة.

(3)

(ط، ن): «يقبضها» ، تصحيف.

(4)

(ط): «طائفة» .

(5)

لم أجد قول مقاتل، ولعل المؤلف نقله من كتاب النفس والروح لابن منده. ولكنه يشبه ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: في جوف الإنسان نفس وروح، بينهما مثل شعاع الشمس، فيتوفى الله النفسَ في منامه، ويدع الروح في جوفه تنقلب وتعيش. فإن أراد الله أن يقبضه قبض الروح فمات. وإن أخَّر أجله ردَّ النفس إلى مكانها من جوفه.

وقد نقل السيوطي في شرح الصدور (416) قول مقاتل من كتابنا هذا.

ص: 617

خرجت نفسه التي يعقِل بها الأشياء، ولم تفارق الجسد، بل تخرج كحبلٍ ممتدٍّ له شعاع، فيرى الرؤيا بالنفس التي خرجت منه. وتبقى الحياة والروح في الجسد، فبه

(1)

يتقلب ويتنفَّس. فإذا حُرِّك رجعَتْ إليه أسرعَ من طرفة عين، فإذا أراد الله عز وجل أن يميته في المنام أمسك تلك النفس التي خرجَتْ.

وقال أيضًا: إذا نام خرجت نفسه، فصعدت إلى فوق، فإذا رأت الرؤيا رجعَتْ، فأخبرت الروح، ويخبرُ الروح القلب، فيصبح يعلمُ أنه قد رأى كيتَ وكيتَ.

قال أبو عبد الله بن منده

(2)

: ثم اختلفوا في معرفة الروح والنفس. فقال بعضهم: النفس طينية ناريَّة، والروح نوريَّة روحانية. وقال بعضهم: الروح لاهوتية، والنفس [143 ب] ناسوتية، وإنَّ الخلق بها ابتُلي.

وقالت طائفة، وهم أهل الأثر: إنَّ الروحَ غيرُ النفس، والنفسَ غيرُ الروح، وقوامُ النفس بالروح. والنفسُ صورةُ العبد، والهوى والشهوةُ والبلاءُ معجونٌ

(3)

فيها. ولا عدوَّ أعدى لابن آدم من نفسه، فالنفس لا تريد إلا الدنيا، ولا تحب إلا إياها. والروح تدعو إلى الآخرة، وتؤثِرُها. وجُعِل الهوى تَبَعًا للنفس، والشيطانُ مع

(4)

النفس والهوى، والملك مع العقل

(1)

يعني ببقاء الحياة والروح. والأصل غير منقوط، والمثبت من (ب). وفي غيرهما: فيه. وفي شرح الصدور (416): «فيهما» . وصوابه: «فبهما» ، أي بالحياة والروح.

(2)

في كتاب النفس والروح كما سبق.

(3)

(ب): «يعجنون» . وفي غيرها: «يعجون» . ولعل الصواب ما أثبتنا من النسخ المطبوعة.

(4)

(أ، غ، ق): «تبع» .

ص: 618

والروح، واللّهُ تعالى يُمِدُّهما

(1)

بإلهامه وتوفيقه.

وقال بعضهم: الأرواح من أمر الله أخفَى حقيقتها وعِلمها عن الخلق.

وقال بعضهم: الأرواح نور من نور الله، وحياةٌ من حياة الله.

ثم اختلفوا في الأرواح: هل تموت بموت الأبدان والأنفس أو لا تموت؟

فقالت طائفة: الأرواح لا تموت ولا تَبلى.

وقالت جماعة: الأرواح على صور الخلق، لها أيدٍ وأرجل وأعين وسمع وبصر ولسان.

وقالت طائفة: للمؤمن ثلاثة أرواح، وللمنافق والكافر روح واحدة

(2)

.

وقال بعضهم: للأنبياء والصدِّيقين خمسُ أرواح

(3)

.

وقال بعضهم: الأرواح روحانيةٌ خُلِقت من الملَكوت، فإذا صَفَتْ رجعت إلى الملكوت.

قلت: أما الروح التي تُتَوفَّى وتُقبض، فهي روح واحدة

(4)

، وهي النفس. وأما ما يؤيد اللهُ به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح، كما قال تعالى:{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}

(1)

(أ، غ، ط): «يمدها» .

(2)

(ط): «واحد» نظرًا لقوله: «ثلاثة أرواح» .

(3)

(ن، ز): «خمسة أرواح» .

(4)

«واحدة» من (أ، غ، ق).

ص: 619

[المجادلة: 22]، وكذلك الروح الذي أيد بها روحَه المسيحَ ابن مريم كما قال تعالى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة: 110]، وكذلك الروحُ التي يلقيها على من يشاء من عباده هي

(1)

غيرُ الروح التي في البدن.

وأما القوى

(2)

التي في البدن فإنها أيضًا تسمَّى

(3)

أرواحًا فيقال: الروح الباصر، والروح السامع، والروح الشامُّ. فهذه الأرواح قُوىً مودَعةٌ في الأبدان تموت [144 أ] بموت الأبدان. وهي غيرُ الروح التي لا تموت بموت البدن، ولا تبلى كما يبلى.

وتُطلَق الروح على أخصَّ من هذا كلّه، وهو قوة المعرفة بالله، والإنابِة إليه، ومحبتِه، وانبعاثِ الهمة إلى طلبه وإرادته. ونسبةُ هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن. فإذا فقدَتْها الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحَه. وهي الروح التي يؤيِّد بها أهلَ ولايته وطاعته. ولهذا يقول الناس: فلان فيه روح، وفلان ما فيه روح، وهو بَوٌّ

(4)

، وهو قصَبة فارغة، ونحو ذلك.

فللعلم

(5)

روحٌ، وللإحسان

(6)

روح، وللإخلاص روح، وللمحبة

(1)

ساقط من (ن، ز).

(2)

هذه الفقرة إلى آخر المسألة نقلها شارح الطحاوية (389) حسب طريقته في عدم الإحالة.

(3)

(ط، ق): «تسمى أيضًا» .

(4)

البّوُّ: جلد الحُوار يُحشى تبنًا ويقرَّب إلى أم الفصيل، فتعطف عليه، وتدرُّ.

(5)

(ط): «فالعلم» . وكذا «فالإحسان» إلى آخره.

(6)

ما عدا (ب، ج): «للأجساد» . وفي (ز): «للأجسام» ، وكلاهما تحريف.

ص: 620

والإنابة روح، وللتوكل والصدق روح. والناس متفاوتون في هذه الأرواح أعظم تفاوتٍ، فمنهم مَن تغلبُ عليه هذه الأرواح، فيصير روحانيًّا. ومنهم من يفقدها أو أكثرَها، فيصير أرضيًّا بهيميًّا. والله المستعان.

ص: 621

فصل

وأما المسألة الحادية والعشرون

(1)

وهي: هل النفس واحدة أم ثلاثة؟

فقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاثة أنفس

(2)

؛ نفس مطمئنة، ونفس لوَّامة، ونفس أمارة، وأن منهم من تغلب عليه هذه، ومنهم من تغلب عليه الأخرى. ويحتجُّون على ذلك بقوله تعالى:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27]، وبقوله:{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 1، 2]، وبقوله:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53].

والتحقيق: أنها نفس واحدة، ولكن لها صفات

(3)

، فتسمَّى باعتبار كل صفة باسم. فتسمى «مطمئنة» باعتبار طمأنينتها إلى ربها بعبوديته، ومحبته، والإنابة إليه، والتوكُّل عليه، والرضا به، والسكون إليه.

وإن سمةَ محبته وخوفه ورجائه فناؤها [عن] محبةِ غيره وخوفه

(1)

(ن): «الثانية والعشرون» . وفي (ب): «التاسعة عشر» ، ثم ضرب عليها وكتب:«العشرون» . ولم يَرد «فصل وأما» في (ن).

(2)

«النفس» بمعنى الروح مؤنثة، وقد وصفها المصنف بالواحدة والمطمئنة وغيرها، ولكن أنث العدد فقال:«ثلاثة» هنا وفي السطر السابق. وفي النسخ المطبوعة: «ثلاث» .

(3)

من أول المسألة إلى هنا نقله شارح الطحاوية (389 ــ 390). وقارن بكلام المصنف في إغاثة اللهفان (1/ 75 وما بعدها).

ص: 622