الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه شهادة على نفي ما لم يعلمه. فما يُدريه أنَّ السلف كانوا يفعلون ذلك، ولا يُشهِدون من حضَرَهم عليه، بل يكفي
(1)
اطِّلاع علَّام الغيوب على نيَّاتهم ومقاصدهم، لا سيَّما والتلفظُ بنيَّة الإهداء لا يُشترَط، كما تقدم.
وسِرُّ المسألة: أنَّ الثوابَ مِلكٌ للعامل، فإذا تبرَّع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله إليه. فما الذي خَصَّ من هذا ثوابَ قراءة القرآن، وحجَرَ على العبد أن يُوصله إلى أخيه
(2)
؟ وهذا عملُ الناس حتى المنكرين في سائر الأعصار
(3)
والأمصار من غير نكيرٍ من العلماء
(4)
.
فإن قيل: فما
(5)
تقولون في
الإهداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
-؟
قيل: من الفقهاء المتأخرين
(6)
من استحبَّه. ومنهم من لم يستحِبَّه، ورآه بدعةً
(7)
؛ لأنَّ الصحابة لم يكونوا يفعلونه، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم له أجرُ كل من عمِل خيرًا من أمته، من غير أن يَنقُص من أجر العامل شيء؛ لأنه هو الذي دلَّ أمَّتَه
(1)
(ط): «كفى» .
(2)
في (ب، ط) زيادة: «المسلم» .
(3)
في (ب، ط، ج): «الأقطار والأعصار» .
(4)
(أ، غ): «بين العلماء» . وانظر في تعقب كلام المؤلف في هذا الفصل: تفسير المنار (8/ 226 - 232).
(5)
(ب، ط، ج): «ما» .
(6)
(ب، ط، ج): «من المتأخرين» . وفي جامع المسائل (4/ 254): «ذهب إليه طائفة من الفقهاء والعبّاد من أصحاب أحمد وغيرهم. وأقدم من بلغنا ذلك عنه علي بن الموفق أحد الشيوخ المشهورين. كان أقدم من الجنيد وطبقته. وقد أدرك أحمد وعصره، وعاش بعده» .
(7)
قال شيخ الإسلام: «وهو الصواب المقطوع به» . المصدر السابق.
على كلِّ خير، وأرشدهم، ودعاهم إليه. و «من دعا إلى هُدًى، فله من الأجرِ مثلُ [91 ب] أجور من اتبعه، من غير أن يَنقُص من أجورهم شيء»
(1)
. وكلُّ هدًى وعلم فإنما ناله أمته على يده، فله مثلُ أجر من اتَّبعه، أهداه إليه أو لم يُهْدِه. والله أعلم
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم (2674) من حديث أبي هريرة.
(2)
انظر في هذه المسألة جامع المسائل (4/ 243 ــ 299) ومجموع الفتاوى (1/ 191، 327)، (26/ 156)، وقد لخص كلام المصنف شارح الطحاوية (465) حسب منهجه.
فصل
وأما المسألة السابعة عشرة
(1)
وهي: هل الروح قديمة أم محدثة مخلوقة؟
وإذا كانت مُحدَثة مخلوقة، وهي من أمر الله، فكيف يكون أمرُ الله مُحدَثًا مخلوقًا؟ وقد أخبر سبحانه أنه نفخَ في آدم من روحه، فهذه الإضافةُ إليه هل تدلُّ على أنها
(2)
قديمة أم لا؟ وما حقيقة هذه الإضافة
(3)
؟ فقد أخبر عن آدم أنه خلَقه بيده، ونفخَ فيه من روحه، فأضاف اليد والروح إليه إضافة واحدة.
فهذه مسألةٌ زلَّ فيها عالَم، وضلَّ فيها طوائف من بني آدم. وهدى الله أتباعَ رسوله فيها للحق المبين والصواب المستبين. فأجمعت الرسل ــ صلوات الله وسلامه عليهم ــ على أنها محدَثةٌ مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبَّرة. هذا معلومٌ بالاضطرار من دين الرسل ــ صلوات الله وسلامه عليهم ــ كما يُعلَم بالاضطرار من دينهم أنَّ العالَم حادث، وأنَّ معاد الأبدان واقع، وأنَّ الله وحده الخالق
(4)
، وكلُّ ما سواه مخلوق له.
وقد انطوى عصرُ الصحابة والتابعين وتابعيهم ــ وهم القرون المفضَّلة
(5)
ــ على ذلك من غير اختلاف بينهم في حدوثها، وأنها مخلوقة
(1)
(ن): «المسألة الثامنة عشرة» . ولم يرد فيها «فصل وأما» .
(2)
«أنها» ساقط من (ق).
(3)
(ن): «الأوصاف» ، تحريف.
(4)
(ط): «خالق» .
(5)
في (ق): «الفضيلة» . و «القرون المفضلة» ساقطة من (ن).
حتى نبغَت نابغةٌ ممن قَصَر فهمه في الكتاب والسُّنَّة، فزعم أنها قديمة غير مخلوقة. واحتجَّ على ذلك
(1)
بأنها من أمر الله، وأمرُه
(2)
غير مخلوق، وبأن الله تعالى أضافها إليه كما أضاف إليه علِمه وكتابه
(3)
وقدرته وسمعه وبصره ويدَه. وتوقَّف آخرون، وقالوا: لا نقول: مخلوقة ولا غير مخلوقة
(4)
.
وسُئل عن ذلك حافظُ أصبهان أبو عبد الله بن منده، فقال
(5)
: أما بعد، فإنَّ سائلاً سألني عن الروح التي جعَلها الله سبحانه قِوامَ أنفُسِ
(6)
الخلق وأبدانهم، وذكَر أنَّ أقوامًا تكلَّموا في الروح، وزعموا أنها غير مخلوقة، وخصَّ بعضهم منها أرواحَ القدس، وأنها من ذات الله.
قال: وأنا أذكر اختلاف أقاويل متقدِّميهم، وأبيِّن ما يخالف أقاويلهم من الكتاب والأثر وأقاويل الصحابة والتابعين وأهل العلم. وأذكر بعد ذلك وجوهَ الروح من الكتاب والأثر، وأوضِّح به
(7)
خطأ المتكلِّم في الروح بغير علم، وأنَّ كلامهم يوافق قولَ جهم
(8)
وأصحابه. فنقول وبالله التوفيق:
إنَّ الناس اختلفوا في معرفة الأرواح ومحلِّها من النفس، فقال بعضهم:
(1)
«على ذلك» من (أ، غ) فقط.
(2)
(ط): «أمر الله» .
(3)
(ب، ج): «حياته» .
(4)
«وتوقف
…
مخلوقة» ساقط من (ط). و «لا غير مخلوقة» ساقط من (ب).
(5)
(أ، غ): «قال» . والظاهر أن النقل من مقدمة كتاب الروح والنفس لابن منده.
(6)
(ب، ج، ن): «نفس» .
(7)
«به» ساقط من (ط).
(8)
في (ن) زيادة: «بن صفوان» .
الأرواح كلُّها مخلوقة. وهذا مذهب أهل الجماعة والأثر. واحتجَّت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجنَّدة، فما تعارَف منها ائتلف، وما تناكرَ منها اختلف»
(1)
. والجنود المجنَّدة لا تكون إلا مخلوقة.
وقال بعضهم: الأرواح من أمر الله، أخفى الله حقيقتَها وعِلمَها عن الخلق. واحتجَّتْ بقول الله
(2)
تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85].
وقال بعضهم: الأرواح نور من نور الله تعالى وحياة من حياته
(3)
. واحتجَّتْ بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله خلقَ خلْقَه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره»
(4)
.
ثم ذكر الخلافَ في الأرواح، هل تموت أم لا؟ وهل تعذَّب مع الأجساد في البرزخ؟ وفي مستقرِّها بعد الموت، وهل هي النفس أو غيرها؟
(1)
سبق تخريجه في المسألة الرابعة عشرة.
(2)
(ب، ن): «بقوله» .
(3)
و «احتجت بقول الله
…
حياته» ساقط من (ب).
(4)
أخرجه الترمذي (2642)، والإمام أحمد (6854)، وابن أبي عاصم في السُّنَّة (241، 242، 243، 244)، وابن حبان (6169، 6170)، من طرق عن عبد الله بن فيروز الديلمي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله يقول (فذكره) وزاد: «فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضلّ، فلذلك أقول: جفّ القلم على علم الله» . وقال الترمذي: «هذا حديث حسن» .
وأخرجه الإمام أحمد (6644)، والحاكم (1/ 30) من هذا الوجه في حديث طويل، وقال الحاكم:«هذا صحيح قد تداوله الأئمة» وهو كما قال. (قالمي)
وقال محمد بن نصر المروزيُّ في كتابه
(1)
: تأوَّل صنفٌ من الزنادقة وصنفٌ
(2)
من الروافض في روح آدم ما تأوَّلت
(3)
النصارى في روح عيسى، وما تأوَّله قومٌ من أن الروح انفصل من ذات الله، فصار [92 ب] في ذات المؤمن
(4)
. فعَبَد صنفٌ من النصارى عيسى ومريم جميعًا لأنَّ عيسى عندهم روحٌ من الله صار في مريم، فهو غير مخلوق عندهم
(5)
.
وقال صنفٌ من الزنادقة وصنفٌ من الروافض: إنَّ روحَ آدم مثل ذلك أنه غير مخلوق
(6)
. وتأوَّلوا قوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحِجر: 29]. وقوله: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 9]. فزعموا أنَّ روحَ آدم ليس بمخلوق، كما تأوَّل من قال: إن النورَ من الربِّ غير مخلوق، وقالوا: ثم صار بعد آدم في الوصيِّ بعده، ثم هو في كل نبيٍّ ووصيٍّ إلى أن صار في عليٍّ، ثم في الحسن والحسين، ثم في كل وصيٍّ وإمام. فبه يعلم الإمامُ كلَّ
(1)
لم يصرّح المصنف باسم الكتاب. وقد نقل من قبل في المسألة الخامسة عشرة في مستقرّ الأرواح من كتابه في الرد على ابن قتيبة. وقد نص الحافظ في الفتح (8/ 404) على أن ابن منده في كتاب الروح له نقل عن المروزي الإجماع على كون الروح مخلوقة. فلا يبعد أن يكون هذا النقل كسابقه من كتاب ابن منده.
(2)
«وصنف» ساقط من (ب، ج).
(3)
ما عدا (أ، غ): «تأولته» .
(4)
ما عدا (أ، غ): «في المؤمن» . نقله التيمي في كتاب الحجة في بيان المحجة (1/ 469) بلفظ: «أن النور والروح انفصلا من ذات الله عز وجل فصارا في المؤمن» .
(5)
«عندهم» ساقط من (ط).
(6)
«أنه غير مخلوق» ساقط من (ن).
شيء، ولا يحتاج
(1)
أن يتعلَّمَ من أحد.
ولا خلافَ بين المسلمين أنَّ الأرواحَ التي في آدم وبنيه وعيسى ومن سواه من بني آدم كلَّها مخلوقةٌ لله، خلَقَها
(2)
، وأنشأها، وكوَّنها، واخترعها؛ ثم أضافَها إلى نفسه كما أضاف إليه سائرَ خلقه. قال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]
(3)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية
(4)
: روحُ الآدمي مخلوقةٌ مبتدَعةٌ
(5)
باتِّفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة. وقد حَكى إجماعَ العلماء على أنها مخلوقة غيرُ واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور الذي هو من أعلم أهل زمانه
(6)
بالإجماع والاختلاف. وكذلك أبو محمد بن قُتيبة قال في كتاب «اللفظ»
(7)
لما تكلَّم على الروح، قال: النَّسَم: الأرواح. قال: وأجمعَ الناس على أنَّ الله تعالى هو فالقُ
(1)
في (أ، غ) دون واو العطف قبله. وفي (ط) بعده: «إلى» .
(2)
السياق في كتاب الحجة: «مخلوقة. اللهُ خلَقَها» .
(3)
هنا انتهى النقل من كتاب المروزي. وقد نقل أبو القاسم التيمي في كتاب الحجة (1/ 506 ــ 507) هذه الفقرة، ثم الفقرة الأولى، دون قوله: «وقال صنف من الزنادقة
…
يتعلم من أحد».
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (4/ 216 ــ 220).
(5)
ما عدا (أ، غ): «مبدعة» .
(6)
«أهل» ساقط من (ب، ج). وفي (ط): «هو أعلم من» .
(7)
وهو كتاب الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية. انظر: طبعة دار الراية (66) وطبعة العلمية (56).
الحبَّة
(1)
، وبارئ النَّسَمة، أي: خالق الروح.
وقال أبو إسحاق ابن شاقْلا
(2)
فيما أجاب به في هذه المسألة: سألتَ ــ رحمك الله ــ عن الروح مخلوقةٌ هي، أو غيرُ مخلوقة؟ قال: وهذا مما لا يشُكُّ فيه مَن وُفِّق للصواب أنَّ الروحَ من الأشياء المخلوقة.
وقد [93 أ] تكلَّم في هذه المسألة طوائفُ من أكابر العلماء والمشايخ، وردُّوا على من يزعم أنها غير مخلوقة. وصنَّف الحافظُ أبو عبد الله ابن منده في ذلك كتابًا كبيرًا. وقبله الإمام محمد بن نصر المروَزي وغيره، والشيخ أبو سعيد الخرَّاز، وأبو يعقوب النهرَجُوري
(3)
والقاضي أبو يعلى.
وقد نصَّ على ذلك الأئمة الكبار، واشتدَّ نكيرُهم على من يقول ذلك في روح عيسى ابن مريم، فكيف بروح غيره! كما ذكره الإمام أحمد فيما كتبه في محبِسه
(4)
في «الرد على الزنادقة والجهمية»
(5)
:
«ثم إنَّ الجهميَّ ادَّعى أمرًا، فقال: أنا أجد آيةً في كتاب الله مما يدلُّ على أنَّ القرآن مخلوقٌ: قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ
(1)
(ب، ج): «فالق الحب والنوى» . وفي (ن): «فالق الحبّ وبارئ النسم
…
الأروح». وفي طبعة دار الراية: «خالق الجن» ، تحريف.
(2)
هنا أيضًا ضبط في (ق) بسكون القاف مع علامة صح، وانظر ما سبق في (ص 99).
(3)
أبو سعيد (ت 279) من أصحاب ذي النون، وأبو يعقوب (ت 330) من أصحاب الجنيد. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (228، 378). وقد ذكر شيخ الإسلام من كلامهما على الروح. مجموع الفتاوى (4/ 220 ــ 221).
(4)
في (ب، ن): «مِحنته» ، وهو مع صحة معناه تصحيف. انظر: منهاج السُّنَّة (5/ 190) ودرء التعارض (1/ 120).
(5)
(ص 31 ــ 32).
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]. وعيسى مخلوق. قلنا له: إن الله تعالى منَعَك الفهمَ للقرآن. إنَّ عيسى تجري عليه ألفاظٌ لا تجري على القرآن، لأنا نُسمِّيه مولودَا وطفلاً وصبيًّا وغلامًا يأكل ويشرب، وهو مخاطَبٌ بالأمر والنهي، يجري عليه الخطاب والوعد والوعيد، ثم هو من ذرِّية نوح ومن ذرِّية إبراهيم. فلا يحِلُّ لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى فهل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال في عيسى؟
ولكن المعنى في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} : فالكلمة التي ألقاها إلى مريم
(1)
حين قال له: كُن، فكان عيسى هو بكُنْ، وليس عيسى هو «كن» ، ولكن كان بـ «كُن» . فـ «كُن» من الله قولٌ، وليس «كُن» مخلوقًا.
وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر
(2)
عيسى. وذلك أنَّ الجهمية قالوا: روحُ الله وكلمتُه، إلا أنَّ كلمتَه مخلوقة. وقالت النصارى: عيسى روحُ الله وكلمته، فالكلمةُ
(3)
من ذاته، كما يقال
(4)
: هذه الخِرْقة من هذا الثوب.
قلنا نحن: إن عيسى بالكلمةِ كان، وليس عيسى هو الكلمة، وإنما الكلمة قولُ الله. وقوله:{وَرُوحٌ مِنْهُ} يقول: من أمرِه كان الروح فيه، كقوله تعالى:
(1)
«فالكلمة
…
مريم» ساقط من (ق).
(2)
«أمر» ساقط من (ن).
(3)
«فالكلمة» من (أ، غ).
(4)
(ن): «نقول» .
{وَسَخَّرَ لَكُمْ [93 ب] مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]. يقول: من أمره. وتفسيرُ روح الله إنما معناها: بكلمة الله خلَقَها، كما يقال: عبد الله، وسماءُ الله، وأرضُ الله»
(1)
.
فقد صرَّح
(2)
بأنَّ روحَ المسيح مخلوقة، فكيف بسائر
(3)
الأرواح! وقد أضاف الله سبحانه إليه الروحَ الذي أرسله إلى مريم، وهو عبده
(4)
ورسوله، ولم يدلَّ ذلك على أنه قديم غير مخلوق، فقال تعالى:{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم: 17 ــ 19]. فهذا الروح هو روح الله، وهو عبده
(5)
ورسوله.
وسنذكر إن شاء الله أقسامَ المضاف إلى الله، وأنَّى يكون المضاف صفةً له قديمة؟ وأنَّى يكون مخلوقًا؟ وما ضابط ذلك؟
فصل
والذي يدلُّ على خَلْقها وجوه:
أحدها: قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 63]. فهذا لفظٌ عامٌّ لا تخصيصَ فيه بوجهٍ ما. ولا يدخل في ذلك صفاتُه، فإنها داخلةٌ في
(1)
انتهى النقل من كتاب الرد على الزنادقة والجهمية.
(2)
يعني الإمام أحمد. وقارن بمجموع الفتاوى (4/ 220).
(3)
(ب، ط، ج): «سائر» .
(4)
(ط): «عبد الله» .
(5)
(ط): «عبد الله» .
مُسمَّى اسمه. فالله سبحانه هو الإله الموصوف بصفات الكمال، فعِلمُه وقدرتُه وحياتُه وإرادتُه وسمعُه وبصرُه وسائرُ صفاته داخلٌ في مسمَّى اسمه، ليس داخلاً في الأشياء المخلوقة، كما لم تدخُل ذاته فيها. فهو سبحانه بذاته وصفاته الخالقُ، وما سواه مخلوقٌ، ومعلومٌ قطعًا أنَّ الروحَ ليست هي الله، ولا صفةً من صفاته، وإنما هي مصنوعٌ من مصنوعاته؛ فوقوعُ
(1)
الخَلْق عليها كوقوعه على الملائكة والجنِّ والإنس.
الوجه الثاني
(2)
: قوله تعالى لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]. وهذا الخطابُ لروحه وبدنه، ليس لبدنه فقط. فإنَّ البدنَ وحده لا يَفهم، ولا يخاطَب، ولا يَعقِل؛ وإنما الذي يفهَم ويَعقِل ويخاطَب هو الروح.
الثالث: قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصفات: 96].
الرابع: قوله [94 أ]: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11]. وهذا الإخبار إما أن يتناول أرواحنا وأجسادنا، كما يقوله الجمهور؛ وإما أن يكون واقعًا على الأرواح قبل خَلْق الأجساد، كما يقوله من يزعم ذلك
(3)
. وعلى التقديرين فهو صريحٌ في خلق الأرواح.
الخامس: النصوص الدالَّة على أنه سبحانه ربُّنا وربُّ آبائنا الأولين وربُّ كل شيء. وهذه الرُّبوبية شاملةٌ لأرواحنا وأبداننا، فالأرواحُ مربوبة له
(1)
(ب): «بوقوعه» ، تصحيف.
(2)
«الوجه» ساقط من (ن).
(3)
سيأتي الكلام على الآية في المسألة الآتية.
مملوكة
(1)
، كما أنَّ الأجسامَ
(2)
كذلك، وكلُّ مربوبٍ مملوكٍ فهو مخلوقٌ.
السادس: أولُ سورة في القرآن ــ وهي الفاتحة ــ تدلُّ على أنَّ الأرواحَ مخلوقة من عدَّة أوجه:
أحدها
(3)
: قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . والأرواح من جُملة العالَم، فهو ربُّها.
الثاني: قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . فالأرواح عابدة له، مستعينة به. ولو كانت غير مخلوقة لكانت معبودةً مستعانًا بها.
الثالث: أنها فقيرة إلى هدايةِ فاطرِها وربِّها، تسأله أن يهديها صراطَه المستقيم.
الرابع: أنها منعمٌ عليها مرحومة، ومغضوبٌ عليها وضالَّة شقيّة
(4)
. وهذا شأنُ المربوب المملوك، لا شأنُ القديم غيرِ المخلوق.
الوجه السابع
(5)
: النصوص الدالَّة على أنَّ الإنسان عبد بجملته، وليست عبوديَّته واقعة على بدنه دون روحه، بل عبوديةُ الروح أصلٌ، وعبودية البدن تَبَعٌ، كما أنه تَبَعٌ لها في الأحكام، وهي التي تُحرِّكه وتستعمله،
(1)
بعده في (أ، غ): «مخلوقة» ، ولعله من سهو الناسخ. وفي (ن) ورد «له» بعد «مملوكة» .
(2)
(ن): «الأجساد» .
(3)
(ن): «الأول» .
(4)
«صراطه
…
شقية» ساقط من (ن).
(5)
«الوجه» ساقط من (أ، غ).
فهو
(1)
تَبَعٌ لها في العبودية.
الوجه الثامن: قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]. فلو كانت روحه قديمةً لكان الإنسانُ لم يزَل شيئًا مذكورًا، فإنه إنما هو إنسانٌ بروحه، لا ببدنه فقط، كما قيل
(2)
:
يا خادمَ الجسمِ كم تشقَى بخدمته
…
فأنت بالروح، لا بالجسم، إنسانُ
(3)
[94 ب] الوجه التاسع: النصوص الدالَّة على أنَّ الله سبحانه كان، ولم يكن شيءٌ غيرُه، كما ثبت في «صحيح البخاري»
(4)
من حديث عمران بن حُصين أن أهلَ اليمن قالوا: يا رسولَ الله، جئناك لِنتفقَّه في الدين، ونسألَك عن أول هذا الأمر، فقال:«كان الله، ولم يكن شيء غيرُه. وكان عرشُه على الماء، وكتَبَ في الذِّكر كلَّ شيء» . فلم يكن مع الله أرواحٌ ولا نفوسٌ قديمةٌ يساوي وجودُها وجودَه، تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرًا، بل هو الأول وحده، لا يشاركه غيره في أوَّليته بوجهٍ من الوجوه.
الوجه العاشر: النصوصُ الدالَّة على خلق الملائكة. وهم أرواحٌ
(1)
(أ، ق، غ): «وهو» .
(2)
بعده في الأصل: «شعر» .
(3)
كذا أنشده المؤلف في مفتاح دار السعادة (1/ 362) ومدارج السالكين (3/ 74) وهو ملفق من بيتين لأبي الفتح البستي. وهما في ديوانه (183). ووردا على الصواب في عدة الصابرين للمؤلف (68):
يا خادمَ الجسم كم تشقى بخدمته
…
لتطلب الربحَ فيما فيه خُسرانُ
أقبِلْ على النفس فاستكمِلْ فضائلَها
…
فأنت بالنفس، لا بالجسم، إنسانُ
(4)
برقم (3191).
مستغنية عن أجسادٍ
(1)
تقوم بها، وهم مخلوقون قبلَ خلق الإنسان وروحِه، فإذا
(2)
كان الملَك الذي يُحدِث الروحَ في جسد ابن آدم بنفخته مخلوقًا، فكيف تكون الروحُ الحادثةُ بنفخه قديمةً
(3)
؟
وهؤلاء الغالطون يظنون أنَّ الملَك يُرسَل إلى الجنين بروح قديمة أزليَّة ينفخها فيه، كما يرسل الرسول بثوب إلى الإنسان يلبسه إيَّاه. وهذا ضلالٌ وخطأ، وإنما يُرسِل الله سبحانه إليه الملَك، فينفخ فيه نفخةً، تحدثُ له الروحُ بواسطة تلك النفخة. فتكون النفخةُ هي سببَ حصول الروح وحُدوثها له، كما كان الوطءُ والإنزالُ سببَ تكوين
(4)
جسمه، والغذاءُ سببَ نموِّه. فمادَّةُ الروح من نَفْخةِ الملك، ومادَّةُ الجسم من صَبِّ الماء في الرحم. فهذه مادة سماويَّة، وهذه مادة أرضيَّة. فمن الناس من تغلِبُ عليه المادَّة السماوية، فتصير روحُه علويةً شريفةً تُناسِب الملائكة. ومنهم من تغلِبُ عليه المادَّة الأرضية، فتصير روحُه سفليةً ترابيةً مَهينةً تُناسب الأرواحَ السُّفلية. فالملَكُ أبٌ لروحه، والترابُ أبٌ لبدنه وجسمه.
الوجه الحادي عشر: حديثُ أبي هريرة الذي في «صحيح البخاري» وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنودٌ مُجنَّدةٌ، [95 أ] فما تعارفَ منها ائتلفَ، وما تَناكرَ منها اختلفَ»
(5)
. والجنود المجنَّدة لا تكون إلا مخلوقة.
(1)
(ط): «أجسادها» . (ن): «أجسادها التي» .
(2)
(أ، غ): «وإذا» .
(3)
في (ق، غ): «بنفخةٍ قديمةٍ» كذا مضبوطتين. وهو خطأ.
(4)
(ب، ج): «تكوّن» .
(5)
سبق تخريجه في (ص 277).
وهذا الحديث رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو هريرة، وعائشة أمُّ المؤمنين، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعلي بن أبي طالب، وعمرو بن عَبَسة.
الوجه الثاني عشر: أن الروح تُوصف بالوفاة
(1)
والقبض والإمساك والإرسال
(2)
، وهذا شأنُ المخلوق المحدَث
(3)
المربوب. قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42]. والأنفس هاهنا هي الأرواح قطعًا.
وفي «الصحيحين»
(4)
من حديث عبد الله بن أبي قتادة الأنصاريِّ عن أبيه قال: سَرَينا
(5)
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ ذاتَ ليلة، فقلنا: يا رسولَ الله، لو عرَّستَ بنا، فقال: «إني أخاف أن تناموا، فمن يوقظنا للصلاة
(6)
؟». فقال بلال: أنا يا رسول الله. قال: فعرَّس بالقوم، فاضطجعوا. واستندَ بلال
(7)
إلى راحلته، فغلبَتْه عيناه. فاستيقظ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجبُ الشمس
(8)
،
(1)
(ط): «بالحياة» .
(2)
(ط): «الإرسال والإمساك» .
(3)
«المحدث» ساقط من (ن).
(4)
البخاري (595)، ومسلم (681).
(5)
(ط، ن): «سِرْنا» .
(6)
(ب، ج): «للغداة» .
(7)
(ب، ج، ن): «وأسند بلالٌ ظهره» .
(8)
(ب، ط، ج، ن): «جانب الشمس» .
فقال: «يا بلالُ، أين ما قلتَ لنا؟» فقال: والذي بعثك بالحق، ما أُلقِيتْ عليَّ نَوْمةٌ مثلها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الله قبَضَ أرواحَكم حين شاء، وردَّها حين شاء» .
فهذه الروح المقبوضة هي النفس التي يتوفَّاها الله حين موتها وفي منامها، وهي التي يتوفَّاها ملكُ الموت
(1)
، وهي التي تتوفاها رسُلُ الله سبحانه. وهي التي يجلسُ الملَك عند رأس صاحبها، ويُخرجها
(2)
من بدنه كرهًا، ويكفِّنها
(3)
بكفن من الجنة أو النار، ويصعَد بها إلى السماء، فتصلِّي عليها الملائكة أو تلعنها، وتُوقَف بين يدي ربها، فيقضي فيها أمَره. ثم تُعاد إلى الأرض فتدخل بين الميت وأكفانه، فتُسأل وتُمتحَن وتُعاقَب وتُنعَّم. وهي التي تُجعَل في أجواف الطير الخُضْر تأكل وتشرب من الجنة. وهي التي تُعرَض على النار غُدوًّا وعَشِيًّا
(4)
.
وهي التي
(5)
تؤمن وتكفر، وتطيع وتعصي. وهي الأمَّارة بالسوء، وهي اللوَّامة، وهي المطمئنة إلى ربِّها وأمرِه وذكرِه. وهي التي تعذَّب وتنعَّم
(6)
، وتسعَد وتشقى، وتُحبَس وتُرسَل، وتصِحُّ وتسقَمُ، وتلذُّ وتألمُ، وتخاف وتحزن.
(1)
«وهي
…
الموت» ساقط من (ن).
(2)
(ن): «ليخرجها» .
(3)
(ب، ج): «يلفّها» .
(4)
الأحاديث الشواهد على الأمور المذكورة قد تقدمت في المسألة السادسة.
(5)
«التي» ساقط من (ب، ج).
(6)
(ط): «تنعم وتعذب» .
وما ذاك إلّا سِماتُ مخلوق مُبدَع، وصِفات مُنْشَأ مُخْترَع، وأحكام مربوب مدبَّر مصرَّف تحت مشيئة خالقه وفاطره وبارئه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند نومه: «اللهم أنت خلقتَ نفسي وأنت تَوَفَّاها
(1)
. لك مماتها ومحياها، فإن أمسكتَها فارحَمْها، وإن أرسلتَها فاحفَظْها بما تحفظُ به عبادَك الصالحين»
(2)
.
وهو تعالى بارئ النفوس كما هو بارئُ الأجساد. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]. قيل: من قبل أن نبرأ
(3)
المصيبة. وقيل: من قبل أن نبرأ الأرض. وقيل: من قبل أن نبرأ الأنفس، وهو أولى؛ لأنه أقرب مذكور إلى الضمير. ولو قيل: يرجع إلى الثلاثة أي: من قبل أن نبرأ المصيبة والأرض والأنفس لكان أوجَه
(4)
.
(1)
(ط): «تتوفاها» .
(2)
كذا في جميع النسخ. وهذا اللفظ مركب من حديثين: حديث ابن عمر الذي أخرجه مسلم (2712) وفيه بعد «محياها» : «إن أحييتها فاحفظها وإن أمَتَّها فاغفر لها. اللهم إني أسألك العافية» . وحديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (6320، 7393) ومسلم (2714) وأوله: «باسمك ربِّي وضعتُ جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها
…
».
(3)
في (ق، غ) هنا وفي المواضع الآتية: «يبرأ» . وفي (ب): «نبرأها: المصيبة» وكذلك فيما بعد.
(4)
انظر المحرر الوجيز (5/ 268) وقد نقل عن المهدوي جواز عود الضمير على جميع ما ذكر.
وكيف تكون قديمةً مستغنيةً عن خالق مُحدِث مُبدِع لها، وشواهدُ الفقر والحاجة والضرورة أعدلُ شواهد على أنها مخلوقة مربوبة مصنوعة، وأن وجود ذواتها
(1)
وصفاتها وأفعالها من ربِّها وفاطرها، ليس لها من نفسها إلا العدَم؟ فهي
(2)
لا تملِك لنفسها [96 أ] ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا. لا تستطيع
(3)
أن تأخذ من الخير إلا ما أعطاها، ولا تتّقي من الشر إلا ما وقَاها. ولا تهتدي إلى شيء من مصالح دنياها وأخراها إلا بهداه، ولا تصلح إلا بتوفيقه لها وإصلاحه إيَّاها. ولا تعلم إلا ما علَّمها، ولا تتعدَّى ما ألهمها. فهو الذي خلقها فسوَّاها، وألهمها فجورها وتقواها. فأخبر سبحانه أنه خالقها ومبدعها وخالق أفعالها من الفجور والتقوى، خلافًا لمن يقول: إنها ليست مخلوقة، ولمن يقول: إنها
(4)
وإن كانت مخلوقة، فليس خالقًا لأفعالها، بل هي التي تخلق أفعالها، وهما قولان لأهل الضلال والغيِّ.
ومعلومٌ أنها لو كانت قديمة غيرَ مخلوقة لكانت مستغنيةً بنفسها في وجودها وصفاتها وكمالها. وهذا من أبطَلِ الباطل، فإنَّ فقرَها إليه سبحانه في وجودها وكمالها وصلاحِها هو من لوازم ذاتها، ليس معلَّلًا بعلَّة، فإنه أمرٌ ذاتيٌّ لها، كما أن غنى ربِّها وفاطرها ومبدعها من لوازم ذاته، ليس معلَّلاً بعلَّة
(5)
. فهو الغني بالذات، وهي الفقيرة إليه بالذات. فلا يشاركه سبحانه في
(1)
(ق): «رفاتها» ، تصحيف.
(2)
(ب، ج): «وهي» .
(3)
(ط): «ولا تستطيع» .
(4)
(ط): «فيها» .
(5)
(ق): «يعلمه» ، تحريف.
غناه مشاركٌ، كما لا يشاركه في قِدَمه وربوبيّته وإلهيته وملكه التامِّ وكماله المقدَّس مشاركٌ. فشواهدُ الخلق والحدوث على الأرواح كشواهده على الأبدان. قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]. وهذا الخطابُ بالفقر إليه للأرواح والأبدان، ليس هو للأبدان فقط. وهذا الغِنى التامُّ لله وحده لا يَشرَكُه فيه غيره
(1)
.
وقد أرشد الله سبحانه عبادَه إلى أوضح دليل على ذلك بقوله: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة: 83 ــ 87]. أي: فلولا، إن كنتم غيرَ مملوكين ومقهورين ومربوبين ومُجازَين بأعمالكم، ترُدُّون الأرواح إلى الأبدان إذا وصلتْ إلى هذا الموضعِ! أوَلا تعلمون بذلك أنها مدينة مملوكة مربوبة محاسبة مجزيَّة بعملها.
وكلُّ ما [96 ب] تقدَّم ذكرُه في هذا الجواب من أحكام الروح وشأنها ومستقرِّها بعد الموت، فهو دليلٌ على أنها محدَثة
(2)
مخلوقة مربوبة مدبَّرة، ليست بقديمة. وهذا الأمر أوضحُ من أن تُساقَ الأدلةُ عليه لولا ضُلَّالٌ
(3)
من المتصوفة وأهل البدع، ومن قصَر فهمُه في كتاب الله وسنة رسوله، فأتِيَ من سوء الفهم
(4)
لا من النصِّ؛ تكلَّموا في أنفسهم وأرواحهم بما دلَّ على أنهم
(1)
انظر الفصل الأول من «طريق الهجرتين» للمؤلف (12).
(2)
«محدثة» من (ب، ج، ن).
(3)
كذا في الأصل مضبوطًا.
(4)
(ن): «فمن سوء الفهم أتي» . وقد تصحف «فأتي» إلى «فإن» في (ط). وفيها أيضًا: «من سوء النص» .
من أجهل الناس بها.
وكيف يمكن مَن له أدنى مُسكةٍ من عقل أن ينكر أمرًا يشهد به عليه نفسه وصفاته وأفعاله وجوارحه وأعضاؤه، بل تشهد به
(1)
السماوات والأرض والخليقة؟ فلله سبحانه في كل ما سواه آيةٌ، بل
(2)
آياتٌ تدلُّ على أنه مخلوق مربوب، وأنه
(3)
خالقه وربُّه
(4)
ومليكه. ولو جحَدَ ذلك، فمعه شاهدٌ عليه به
(5)
.
فصل
وأمَّا ما احتجَّت به
(6)
هذه الطائفة: فأمَّا ما أتَوا به من اتِّباع متشابه القرآن، والعدول عن محكمه
(7)
ــ وهذا شأن كلِّ ضالٍّ مبتدع ــ فمحكمُ
(8)
القرآن من أوله إلى آخره يدلُّ على أن الله تعالى خالق الأرواح ومبدعها.
وأما قوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]. فمعلومٌ قطعًا أنه ليس المرادُ هاهنا بالأمر الطلبَ الذي هو أحد أنواع الكلام، فيكون المراد أنَّ الروح كلامه الذي يأمر به، وإنما المراد بالأمر هاهنا: المأمور. وهو عُرفٌ
(1)
(ط): «له» .
(2)
«آية بل» ساقط من (ن).
(3)
(ط): «والله» .
(4)
في (ق) بعده زيادة: «وباريه» .
(5)
«به» ساقط من (ق).
(6)
ساقط من (ط).
(7)
ما عدا (ط، ج، ن): «محلّه» ، تحريف.
(8)
(ط، ن): «فحكم» ، تحريف.
مستعمل في لغة العرب
(1)
، وفي القرآن منه كثير، كقوله تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] أي: مأموره الذي قدَّره وقضاه، وقال له: كن
(2)
، وكذلك قوله:{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: 101]. أي: مأموره الذي أمرَ به من إهلاكهم. وكذلك قوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} [النحل: 77].
وكذلك لفظ الخَلْق يستعمل بمعنى المخلوق كثيرًا
(3)
، كقوله:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11]. والرحمة تُستعمل
(4)
بمعنى المخلوق بالرحمة
(5)
، كقوله للجنة:«أنت رحمتي»
(6)
.
فليس في قوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ما يدل على أنها قديمة غير مخلوقة بوجهٍ ما. وقد قال بعض السلف في تفسيرها: جرى بأمر [97 أ] الله في أجساد الخلق، وبقدرته استقرَّ
(7)
.
(1)
انظر: درء التعارض (7/ 261) والجواب الصحيح (2/ 158)، (4/ 65)، ومجموع الفتاوى (20/ 493).
(2)
ساقط من (ن).
(3)
«كثيرًا» ساقط من (ط).
(4)
«بمعنى
…
نستعمل» ساقط من (ن).
(5)
لم يرد «بالرحمة» في (أ، غ). وانظر: بدائع الفوائد (676) ودرء التعارض (7/ 261) والجواب الصحيح (2/ 198).
(6)
أخرجه البخاري (4850) ومسلم (2846) من حديث ابي هريرة.
(7)
لم أقف عليه.
وهذا بناء على
(1)
أنَّ المراد بالروح في الآية روح الإنسان. وفي ذلك خلافٌ بين السلف والخلف، وأكثرُ السلف بل كلُّهم على أنَّ الروح المسؤول عنها في الآية ليست أرواحَ بني آدم. بل هو الروح الذي أخبر الله عنه في كتابه أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة
(2)
. وهو ملَك عظيم.
وقد ثبت في الصحيح
(3)
من حديث الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: بينا أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرْثِ
(4)
المدينة، وهو متكئ على عَسيب، فمررنا على نفرٍ من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. وقال بعضهم: لا تسألوه، عسى أن يجيء
(5)
فيه بشيء تكرهونه. وقال بعضهم: نسأله، فقام رجلٌ، فقال: يا أبا القاسم، ما الروح؟ فسكتَ عنه
(6)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلمتُ أنه يُوحى إليه، فقمتُ، فلما تجلَّى عنه قال:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
ومعلومٌ أنهم إنما سألوه
(7)
عن أمر لا يُعرف إلا بالوحي، وذلك هو
(1)
في (ق): «وهذا بيان أن» سقط وتحريف.
(2)
يشير إلى قوله تعالى في سورة النبأ (38): {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} .
(3)
أخرجه البخاري (125، 4721، 7297) ومسلم (2794).
(4)
في (ق، ط): «خِرَب» . وكذا في كتاب العلم من صحيح البخاري (125). وكذا ضبط بكسر أوله وفتح ثانيه في (ط)، ويجوز بالعكس. وفي المواضع الأخرى من الصحيح ما أثبتنا من الأصل وغيره.
(5)
ما عدا (أ، غ): «يخبر» . وفي (ن) بعده «عنه» موضع «فيه» .
(6)
«عنه» ساقط من (ط).
(7)
(ق): «يسألوه» . (ن): «يسألونه» . وفي (ب، ج) تحرّف «إنما» إلى «لا» .
الروحُ التي
(1)
عند الله، لا يعلمها الناس. وأما أرواحُ بني آدم فليست من الغيب، وقد تكلَّم فيها طوائف من الناس من أهل الملل وغيرهم، فلم يكن الجواب عنها من أعلام النبوة.
فإن قيل: فقد قال أبو الشيخ: حدثنا الحسين بن محمد بن إبراهيم، أخبرنا إبراهيم
(2)
بن الحكم عن أبيه عن السُّدِّي عن أبي مالك عن ابن عباس قال: بعثت قريش عُقبةَ بن أبي مُعَيط وعبدَ الله بن أبي أمية بن المغيرة إلى يهود المدينة يسألونهم عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(3)
، فقالوا لهم: إنه قد خرج فينا رجلٌ يزعُم أنه نبيٌّ، وليس على ديننا ولا على دينكم. قالوا: فمن تبِعه
(4)
؟ قالوا: سَفِلَتُنا والضعفاء والعَبيد ومن لا خيرَ فيه، وأما أشراف قومه فلم يتَّبعوه. فقالوا: إنه قد [97 ب] أظلَّ زمانُ نبيٍّ يخرج، وهو على ما تصفون من أمر هذا الرجل، فَأْتوه، فاسألوه عن ثلاث خِصال نأمركم
(5)
بهن. فإن أخبركم بهن فهو نبيٌّ صادق، وإن لم يخبِرْكم بهن فهو كذابٌ: سَلُوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم. فإن قال لكم: هي من الله، فقولوا له: كيف يُعذِّب الله في النار شيئًا هو منه؟ فسأل جبريلَ عنها، فأنزل الله عز وجل:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]. يقول: هو خلقٌ
(1)
(أ، غ): «الذي» .
(2)
«أخبرنا إبراهيم» ساقط من (أ، ب، غ).
(3)
بعده في (ب، ج): «فأتوهم» .
(4)
(ب، ج): «معه» .
(5)
في جميع النسخ: «يأمركم» ، وفي حاشية (ط):«لعله: يخبركم» . والصواب ما أثبتنا.
من خلق الله، ليس هو الله
(1)
. ثم ذكر باقي الحديث
(2)
.
قيل: مثلُ هذا الإسناد لا يُحتجُّ به، فإنه من تفسير السُّدِّي عن أبي مالك، وفيه أشياء منكرة، وسياقُ هذه القصة في السؤال من الصحاح والمساند
(3)
كلِّها يخالف سياقَ السُّدي.
وقد رواها الأعمش والمغيرة بن مِقْسَم، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على ملأ من اليهود، وأنا أمشي معه، فسألوه عن الروح. قال: فسكتَ، فظننتُ أنه يُوحَى إليه. فنزلت:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} يعني اليهود {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}
(4)
ــ وكذلك هي في قراءة عبد الله
(5)
ــ فقالوا: كذلك نجدُ مثلَه في التوراة أنَّ الروحَ من أمر الله عز وجل. رواه جرير بن عبد الحميد وغيره عن المغيرة
(6)
.
(1)
كذا في الأصل و (غ). وفي (ق، ط، ن): «من الله» . وفي (ب، ج): «شيء من الله» .
(2)
إسناده تالف. آفته إبراهيم بن الحكم هو ابن ظُهير الكوفي، شيعي جلد، كذبه أبو حاتم الرازي. (الجرح والتعديل 2/ 94 ــ 95، ولسان الميزان 1/ 49). وكذا أبوه الحكم بن ظهير، قال الحافظ:«متروك رُمي بالرفض، واتهمه ابن معين» . والسدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة الكوفي فيه ضعف، وشيخه أبو مالك اسمه غزوان الغفاري ثقة من رجال التهذيب. (قالمي)
(3)
(ق، ط): «المسانيد» .
(4)
وردت الآية في جميع النسخ على القراءة المشهورة {وَمَا أُوتِيتُمْ} ولكن السياق يقتضي ما أثبتنا من بعض طرق الحديث في الصحيحين، وقد نبَّه عليه بعضهم في طرّة الأصل.
(5)
(ط): «قوله عند الله» ، تحريف.
(6)
أخرجه البخاري (125) ومسلم (2794) من طريق الأعمش. وليس فيه: «فقالوا: كذلك نجد
…
» إلخ.
وروى يحيى بن زكريا بن
(1)
أبي زائدة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أتَتِ اليهود إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فسألوه عن الروح، فلم يُجبهم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فأنزل الله عز وجل {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
فهذا يدلُّ على ضَعف حديث السُّدِّي وأنَّ السؤال كان بمكة، فإنَّ هذا الحديثَ وحديثَ ابن مسعود صريحٌ أن السؤال كان بالمدينة مباشرةً
(2)
من اليهود. ولو كان قد تقدَّم السؤال والجواب بمكة لم يسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ولبادَرَ إلى جوابهم بما تقدَّم من إعلامِ [98 أ] الله له وما أنزل عليه.
وقد اضطربت الروايات عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أعظمَ اضطراب. فإما أن تكونَ من قِبَل الرُّواة
(3)
، أو تكون أقوالُه قد اضطربَت فيها. ونحن نذكر ذلك. فقد ذكرنا روايةَ السدِّي عن أبي مالك عنه، وروايةُ داود بن أبي هند عن عكرمة عنه تُخالفها. وفي رواية داودَ بن أبي هند هذه اضطراب. فقال مسروق بن المرزُبان وإبراهيمُ بن أبي طالب عن يحيى بن زكريا عنه: إنَّ اليهود أتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم
(4)
.
وقال محمد بن نصر المروزي: ثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا
(1)
(ب): «عن» ، خطأ.
(2)
(ن): «بمباشرة» .
(3)
(أ، غ): «الرواية» .
(4)
لم أقف عليه بهذا اللفظ من رواية يحيى بن زكريا بن أبي زائدة. وسيأتي أن مسروق بن المرزبان رواه عنه بلفظ: «قالت قريش لليهود
…
» موافقًا لرواية الجماعة. (قالمي)
يحيى بن زكريَّا، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قالت قريشٌ لليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجلَ. فقالوا: سلوه عن الروح. فنزلت {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية [الإسراء]
(1)
.
وهذا يُخالف الروايةَ
(2)
الأخرى عنه وحديثَ ابن مسعود.
وعن ابن عباس رواية ثالثة. قال هُشَيم
(3)
: ثنا أبو بشر، عن مجاهد، عن
(1)
أخرجه الترمذي (3140)، والنسائي في الكبرى (11314)، والإمام أحمد (2309) من طريق قتيبة بن سعيد.
وأبو يعلى (2501). وعنه ابن حبان (99)، وأبو الشيخ في العَظَمة (403) من طريق مسروق بن المرزبان.
والحاكم (2/ 531) وعنه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 269) من طريق يحيى بن يحيى النيسابوري ثلاثتهم عن يحيى بن زكريا، به. بمثله.
وإسناده صحيح، وصحَّحه الترمذي والحاكم.
وأما قول المصنف رحمه الله بأن هذه الرواية تخالف الرواية الأخرى عن ابن عباس، فيمكن ترجيح رواية الجماعة عن يحيى بن زكريا وهي أن السؤال وقع من قريش في مكة. كما يمكن الجمع بين حديث ابن عباس هذا وبين حديث ابن مسعود الذي دلّ على أن السؤال وقع بالمدينة من اليهود، وذلك بحملهما على تعدد النزول، وهذا المسلك له نظائر كثيرة في أسباب النزول، وهو أولى من تضعيف الروايات وتوهيم الثقات إذا سلم من التعسف والتكلف. وكأن الحافظ ابن حجر يميل إلى هذا المسلك حيث قال:«ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول بحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك، وإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح» . فتح الباري (8/ 401). (قالمي)
(2)
(ط): «مخالف للرواية» .
(3)
(ق): «هشام» ، خطأ.
ابن عباس قال: الروحُ أمرٌ من أمر الله عز وجل، وخَلْقٌ من خلق الله، وصُوَر من صوَر بني آدم. وما نزل من السماء ملكٌ إلا ومعه واحدٌ من الروح
(1)
.
وهذا يدلُّ على أنها غيرُ الروح التي في ابن آدم.
وعنه رواية رابعة. قال ابن منده: وروى
(2)
عبد السلام بن حرب، عن خُصَيف، عن مجاهد، عن ابن عباس:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] قد نزل من القرآن بمنزلة «كن» ، نقول كما قال الله:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} . ثم ساقَ من طريق خُصَيف، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان لا يُفسِّر أربعةَ أشياء: الرَّقيم، والغِسلين، والروح، وقوله تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]
(3)
.
وعنه رواية خامسة رواها جُويبر، عن الضحَّاك، عنه: أن اليهودَ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، قال: «قال الله تعالى [98 ب]: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} . يعني: خلقًا من خَلْقي {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] يعني: لو سُئلتم عن خلق أنفسكم وعن مدخل الطعام والشراب ومخرجهما ما وصفتم ذلك حقَّ صفته، وما اهتديتم لصفتها
(4)
.
(1)
أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (779).
(2)
ما عدا (أ، غ): «روى» دون الواو قبله.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (13/ 292) إلى ابن المنذر.
(4)
لم أقف عليه بهذا الإسناد، وهو من الروايات التي لم تصح عن ابن عباس في التفسير، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في مقدمة كتابه العجاب في بيان الأسباب (1/ 209) حيث قال: «ومن روايات الضعفاء عن ابن عباس:
…
ومنهم جويبر بن سعيد. وهو واهٍ. روى التفسير عن الضحاك بن مزاحم. وهو صدوق. عن ابن عباس، ولم يسمع منه شيئًا» (قالمي)
وعنه رواية سادسة: روى عبد الغني بن سعيد، ثنا موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جُريج، عن عطاء، عن ابن عباس
(1)
؛ وعن مقاتل عن الضحَّاك عن ابن عباس
(2)
في قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} . وذلك أنَّ قريشًا اجتمعت، فقال بعضهم لبعض: والله ما كان محمد يكذب، ولقد نشأ فينا بالصدق والأمانة. فأرسَلوا جماعةً إلى اليهود فسألوهم
(3)
عنه. وكانوا مستبشرين به، ويُكثِرون ذكرَه، ويدَّعون نبوتَه، ويرجون نصرتَه، موقنين بأنه سيهاجر إليهم، ويكونون له أنصارًا. فسألوهم عنه، فقالت لهم اليهود: سلوه عن ثلاثٍ: سلوه عن الروح. وذلك أنه ليس في التوراة قصته ولا تفسيره إلا ذكرَ اسمِ الروح. فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]. يُريد: من خَلْق ربِّي عز وجل
(4)
.
(1)
إسناد منقطع؛ لأن عطاء وهو ابن أبي مسلم الخراساني لم يسمع من ابن عباس. قال الحافظ ابن حجر: «ومن طريق ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، لكن فيما يتعلق بالبقرة وآل عمران، وما عدا ذلك يكون عطاء هو الخراساني، وهو لم يسمع من ابن عباس، فيكون منقطعًا إلا إن صرّح ابن جريح بأنه عطاء بن أبي رباح» العجاب (1/ 209 ــ 209). (قالمي)
(2)
«وعن مقاتل
…
عباس» ساقط من (ب، ج).
(3)
كذا رسمه في جميع النسخ، وقد ضبط بفتح السين في (ط). وقراءة بعض النسخ المطبوعة:«فاسألوهم» .
(4)
إسناده منقطع أيضًا. الضحاك بن مزاحم لم يسمع التفسير من ابن عباس، كما سبق. (قالمي)
و «الروح» في القرآن على عدَّة أوجه:
أحدها: الوحي، كقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]. وقوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15]. وسُمِّي الوحيُ روحًا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح.
الثاني: القوة والثَّبات والنُّصرة التي يؤيد بها من يشاء من عباده المؤمنين
(1)
، كما قال:{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22].
الثالث: جبريل، كقوله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193 - 194]. وقال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97]. وهو روح القدس، قال تعالى:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ}
(2)
[النحل: 102].
الرابع: الروح التي سأل عنها اليهود، فأجيبوا بأنها أمرٌ
(3)
من أمر الله. وقد قيل: إنها [99 أ] الروح المذكورة في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ} [النبأ: 38]، وإنها الروح المذكورة في قوله تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر: 4]
(4)
.
(1)
روي عن ابن عباس والحسن. زاد المسير (8/ 200).
(2)
«قال
…
القدس» ساقط من (ط).
(3)
«أمر» لم يرد إلا في الأصل و (غ).
(4)
انظر: زاد المسير (9/ 12، 193)، ومجموع الفتاوى (4/ 226).
الخامس: المسيح ابن مريم قال تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
(1)
رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171].
وأما أرواحُ بني آدم، فلم يقع تسميتها في القرآن إلا بالنفس. قال تعالى:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27]. وقال: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]. وقال: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]. وقال: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93]. وقال: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8]. وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]. وأما في السُّنَّة
(2)
فجاءت بلفظ النفس والروح.
والمقصود أنَّ كونها من أمر الله لا يدلُّ على قِدَمها وأنها غير مخلوقة.
فصل
وأما استدلالُهم بإضافتها إليه سبحانه بقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحِجر: 29، ص: 72]، فينبغي أن يُعلمَ أنَّ المضاف إلى الله سبحانه نوعان:
صفاتٌ لا تقوم بأنفسها، كالعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر. فهذه إضافةُ صفةٍ إلى الموصوف بها. فعلمُه وكلامُه وإرادتُه وقدرتُه وحياتُه صفاتٌ له غير مخلوقة. وكذلك وجهه ويده سبحانه.
(1)
«قال
…
مريم» ساقط من (ق).
(2)
(ن، غ): «وأما السُّنَّة» . وقد ضرب بعضهم على «في» ووضع على «السُّنَّة» ضمَّةً في الأصل.
والثاني: إضافةُ أعيانٍ منفصلةٍ عنه، كالبيت والناقة والعبد
(1)
والرسول والروح. فهذه إضافة مخلوقٍ إلى خالقه ومصنوعٍ إلى صانعه، لكنها إضافة تقتضي تخصيصًا وتشريفًا يتميَّز به المضاف إليه
(2)
عن غيره، كـ «بيت الله» ، وإن كانت البيوتُ كلها مِلْكًا له. وكذلك «ناقة الله» ، والنوقُ كلُّها مِلْكه وخَلْقه. لكن هذه إضافةٌ إلى إلهيته تقتضي محبتَه لها وتكريمه وتشريفَه، بخلاف الإضافة العامة إلى ربوبيّته حيث تقتضي
(3)
خلقَه وإيجاده.
فالإضافةُ العامَّةُ تقتضي الخلق
(4)
والإيجاد، والخاصَّةُ تقتضي الاختيار. والله يخلق ما يشاء ويختار مما خلقه، كما قال [99 ب] تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}
(5)
[القصص: 68]. وإضافةُ الروح إليه من هذه الإضافة الخاصة، لا من العامة، ولا من باب إضافة الصِّفات. فتأمَّل هذا الموضع، فإنه يخلِّصك من ضلالات كثيرة وقع فيها من شاء الله من الناس
(6)
.
(1)
«والعبد» ساقط من (ن).
(2)
يعني: المضاف إلى الله. ولما فهم الناشرون أن «المضاف إليه» هو الله، والمقصود هنا: المضاف، حذفوا «إليه» ، مع اتفاق النسخ على إثباته. وهو صواب محض.
(3)
(ط): «حسب مقتضى» ، تصحيف.
(4)
«الخلق و» ساقط من (ق).
(5)
«مما خلقه
…
يختار» ساقط من (ب، ج).
(6)
وقال شيخ الإسلام في الجواب الصحيح: «ضلَّ فيه كثير من أهل الأرض من أهل الملل كلهم» . انظر كلامًا مفصَّلًا له على المضافات إلى الله في الكتاب المذكور (2/ 155 ــ 161) ودرء التعارض (7/ 263 ــ 266). وانظر: التبيان في أيمان القرآن (267) وهداية الحيارى (360) للمصنف.
فإن قيل: فما تقولون
(1)
في قوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ} [الحجر: 29]، فأضاف النَّفخ إلى نفسه؟ وهذا يقتضي المباشرةَ منه تعالى كما في قوله:{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. ولهذا قرَنَ
(2)
بينهما في الذكر في الحديث الصحيح في قوله صلى الله عليه وسلم: «فيأتون آدمَ، فيقولون: أنت آدم أبو البشر، خلقَكَ الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجَدَ لك ملائكتَه، وعلَّمك أسماءَ كلِّ شيء»
(3)
، فذكروا لآدم أربعَ خصائص
(4)
اختصَّ بها عن غيره، ولو كانت الروح التي فيه إنما هي من نفخة الملك لم يكن له خَصيصةٌ
(5)
بذلك، وكان بمنزلة المسيح، بل وسائر أولاده، فإنَّ الروح حصلتْ فيهم من نفخة الملك. وقد قال تعالى:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] فهو الذي سوَّاه بيده، وهو الذي نفخ فيه من روحه؟
قيل: هذا الموضع هو الذي أوجَبَ لهذه الطائفة أن قالت بِقدَم الروح، وتوقَّف فيها آخرون، ولم يفهموا مرادَ القرآن. فأما الروح المضافة إلى الربِّ، فهي روحٌ مخلوقة أضافها إلى نفسه إضافةَ تخصيص وتشريف، كما بيَّناه. وأما النفخ فقد قال تعالى في مريم: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا
(1)
(ط): «تقول» .
(2)
ما عدا الأصل و (غ) وطرّة (ط): «فرق» ، تصحيف.
(3)
وهو حديث الشفاعة. أخرجه البخاري (3340) ومسلم (194) من حديث أبي هريرة.
(4)
(ط): «خصال» .
(5)
(ط): «تخصيص» .