الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستقرارُه بزوال
(1)
القلق والانزعاج والاضطراب عنه، وهذا لا يتأتَّى بشيء سوى الله وذكرِه البتَّة. وأما ما عداه، فالطمأنينةُ إليه وبه غرورٌ، والثقةُ به عَجْزٌ.
قضى الله سبحانه وتعالى قضاءً لا مردَّ له: أنَّ من اطمأن إلى شيءٍ
(2)
سواه أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته، كائنًا ما كان؛ بل لو اطمأنَّ العبد إلى علمه وحاله وعمله
(3)
سُلِبَه وزايَلَه.
وقد جعل الله سبحانه نفوسَ المطمئنين إلى سواه أغراضًا لسهام البلاء، ليعلّم عباده وأولياءه أنَّ المتعلِّق بغيره مقطوعٌ، والمطمئنَّ إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدودٌ وممنوع.
و
حقيقة الطمأنينة
التي تصير بها النفس مطمئنةً: أن تطمئن
(4)
في باب معرفة أسمائه وصفاته ونعوت كماله إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه، وأخبرَتْ به عنه رسلُه؛ فتتلقاه بالقبول والتسليم والإذعان، وانشراح الصدر له، وفرحِ القلب به؛ فإنه تعرُّفٌ
(5)
من تعرُّفات الربِّ سبحانه إلى عبده على لسان رسوله. فلا يزال القلب في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب حتى يخالطَ الإيمانُ بأسماء الربِّ تعالى وصفاتِه وتوحيدِه وعلُوِّه على عرشه وتكلُّمِه بالوحي بشاشةَ قلبه. فينزلُ ذلك عليه نزولَ الماء الزُّلالِ على القلب
(1)
(ب): «ويزول به» .
(2)
ساقط من (ق).
(3)
ساقط من (ط).
(4)
(ب، ق): «تظهر» ، تصحيف.
(5)
ما عدا (ب، ج): «معرفة» . وكذلك «تعرّفات» تصحف في غيرهما إلى «تقربات» ، والأصل غير منقوط.
الملتهِب بالعطش، فيطمئنُّ إليه، ويسكن إليه، ويفرح [145 ب] به، ويلين إليه
(1)
قلبه ومفاصله، حتى كأنه شاهدَ الأمر كما أخبرت به الرسلُ. بل يصير ذلك لقلبه بمنزلةِ رؤية الشمس في الظهيرة لعينه
(2)
، فلو خالفه في ذلك مَن بين شرقِ الأرض وغربِها لم يلتفت إلى خلافهم، وقال إذا استوحش من الغربة: قد كان الصدِّيق الأكبر مطمئنًّا بالإيمان وحده، وجميعُ أهل الأرض يخالفُه، وما نقَصَ ذلك من طمأنينته شيئًا. فهذا أول
(3)
درجات الطمأنينة، ثم لا يزال يقوَى كلما سمع بآية متضمنة
(4)
لصفة من صفات ربه. وهذا أمر لا نهاية له.
فهذه الطمأنينةُ أصلُ أصولِ الإيمان التي عليها قام بناؤه. ثم يطمئنُّ إلى خبره عما بعدَ الموتِ من أمور البرزخ وما بعدها من أحوال القيامة، حتى كأنه يشاهدُ ذلك كلَّه عِيانًا. وهذا حقيقةُ اليقين الذي وصف به سبحانه أهلَ الإيمان حيث قال:{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4].
فلا يحصل الإيمان بالآخرة حتى يطمئنَّ القلبُ إلى ما أخبرَ الله سبحانه به
(5)
عنها طمأنينتَه إلى الأمور التي لا يشكُّ فيها ولا يرتاب. فهذا هو
(1)
ما عدا (أ، غ): «له» .
(2)
(ن، ز): «بعينه» ، تصحيف.
(3)
في (أ، ق): «أولى» .
(4)
في الأصل: «متضمن» . وكذا في (ب، ج، ق). ومن ثم قراءة (ب، ج): «بأثر» مكان «بآية» ؛ لأن الآية مؤنثة. وفي (ق، ز): «بأنه» ، خطأ. وفي (ط، غ): «تتضمن» ، وفي (ن):«تتضمن صفة» .
(5)
ساقط من (ب، ط).
المؤمن حقًّا باليوم الآخر، كما في حديث حارثة: أصبحتُ مؤمنًا حقًّا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن لكل حقٍّ حقيقةً فما حقيقةُ إيمانك؟» قال: عَزَفتْ نفسي عن الدنيا وأهلها، وكأني أنظر إلى عرش ربِّي بارزًا، وإلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يعذَّبون فيها. فقال:«عبدٌ نوَّر الله قلبَه»
(1)
.
(1)
أخرجه البزار في مسنده (6948)، والبيهقي في شعب الإيمان (10589) من طريق يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي رجلًا يقال له حارثة في بعض سكك المدينة، فقال:«كيف أصبحت يا حارثة؟» قال: أصبحتُ مؤمنًا حقًّا، قال (فذكره بنحوه). وهو عند البيهقي في سياق أطول وسماه: حارثة بن النعمان. قال الحافظ في «الإصابة» ترجمة (الحارث بن مالك الأنصاري)(2/ 394): «وهو ضعيف جدًّا» ونقل عن البيهقي قوله: «هذا منكر، وقد خبط فيه يوسف، فقال مرة: الحارث، وقال مرة: حارثة» .
ومن هذا الوجه أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (4/ 455) في ترجمة (يوسف بن عطية) ونقل عن البخاري قوله فيه: «منكر الحديث» وعن ابن معين قوله: «ليس بشيء» . وقال عقب الحديث: «ليس لهذا الحديث إسناد يثبت» اهـ.
وروي بأسانيد مرسلة ومعضلة أورد بعضها الحافظ في الإصابة، وجاء موصولًا من طريق آخر أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (3367)، والبيهقي في شعب الإيمان (10592) من طريق ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد السكسكي، عن سعيد بن أبي هلال، عن محمد ابن أبي الجهم، عن الحارث بن مالك الأنصاري، أنه مرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:«كيف أصبحت يا حارث؟» الحديث.
قال الهيثمي في المجمع (1/ 57): «وفيه ابن لهيعة، وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه» . لعله يعني محمد ابن أبي الجهم وقد ذُكر في الصحابة على سبيل الخطأ؛ كما نبّه على ذلك الحافظ ابن حجر حيث ترجمه في القسم الرابع من الإصابة (8546) فقال: «محمد بن أبي الجهم، ذكره محمد بن عثمان بن أبي شيبة في المقلين من الصحابة، وأورده أبو نعيم وقال: لا أُراه صحيحًا. قلت: بل هو من أتباع التابعين روى حديثًا فأرسله فغلِط بعضُ رواته في لفظ منه» . ثم فرَّق بينه وبين محمد ابن أبي الجهم بن حذيفة العدوي المترجم في الجرح والتعديل (7/ 224) وغيره. وعليه فيكون مجهولًا. وقد ضعَّف الحديثين الحافظ العراقي في المغني عن حمل الأسفار (3991). (قالمي).
فصل
والطمأنينةُ إلى أسماء الربِّ تعالى وصفاته نوعان: طمأنينةٌ إلى الإيمانِ بها وإثباتِها واعتقادِها، وطمأنينةٌ إلى ما تقتضيه وتُوجِبه من آثار العبودية.
مثاله: الطمأنينةُ إلى القَدَر. فإثباتُه
(1)
والإيمانُ به يقتضي الطمأنينةَ إلى مواضع الأقدار التي لم يؤمر العبد بدفعها، ولا قدرَة له على دفعها. فيسلِّم لها، ويرضَى بها، ولا يتسخَّط ولا يشكو، ولا يضطرب إيمانه. فلا يأسَى
(2)
على ما فاته، ولا يفرح بما أتاه؛ لأنَّ المصيبة [145 ب] فيه مقدَّرة قبل أن تصل إليه، وقبل أن يُخلَق، كما قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22، 23].
وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]. قال غير واحد من السلف: هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلمُ أنها من عند الله، فيرضى، ويسلِّم
(3)
.
(1)
رسمها في الأصل يحتمل الفاء والواو. وفي غيره: «والإثبات» . وضبط في بعض النسخ بكسر التاء. والتصحيف بين الواو والفاء في هذه النسخ كثير جدًّا.
(2)
(ط): «ولا يأسى» .
(3)
أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 12) عن علقمة بن قيس. وانظر: الدر المنثور (14/ 514).