الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذه طمأنينة إلى أحكام الصفات وموجباتها وآثارها في العالَم، وهي قَدرٌ زائد على الطمأنينة بمجرَّد العلم بها واعتقادها. وكذلك سائر الصفات وآثارها ومتعلقاتها، كالسمع والبصر والعلم والرضا والغضب والمحبة. فهذه طمأنينة الإيمان.
وأما
طمأنينة الإحسان
فهي: الطمأنينة إلى أمره امتثالًا وإخلاصًا ونصحًا. فلا يُقَدِّم على أمره إرادةً ولا هوًى ولا تقليدًا، فلا يساكن شبهةً تعارض خبرَه، ولا شهوةً تعارض أمرَه، بل إذا مرَّت به أنزلها منزلةَ الوساوس التي لَأنْ يَخِرَّ من السماء إلى الأرض أحبُّ إليه من أن يجدها، فهذا ــ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ــ «صريحُ الإيمان»
(1)
. وعلامةُ هذه الطمأنينة أن يطمئن من قلق المعصية وانزعاجها إلى سكون التوبة وحلاوتها وفرحتها. ويسهِّل عليه ذلك أن يعلم
(2)
أنَّ اللذة والحلاوة والفرحة التي في الظفر بالتوبة أضعافُ أضعافِ اللذة والحلاوة والفرحة التي في الظفر
(3)
بالمعصية. وهذا أمر لا يعرفه إلا من ذاق الأمرَيْن وباشر قلبُه آثارهما.
فللتوبة
(4)
طمأنينةٌ تقابل ما في المعصية من الانزعاج والقلق، ولو فتَّش العاصي عن قلبه لوجَد حشوَه المخاوفَ والانزعاج والقلق والاضطراب.
(1)
يشير إلى ما أخرجه مسلم (132) من حديث أبي هريرة.
(2)
في النسخ المطبوعة: «بأن يعلم» لما قرؤوا: «يسهُل» .
(3)
«بالتوبة
…
الظفر» ساقط من الأصل، وكذا من (ب، ج، ق) وجميع النسخ المطبوعة، إلا أن ناشر الطبعة الهندية ــ وتابعه الآخرون ــ أثبت «بالتوبة» مكان «بالمعصية» وحذف «التي» ، ليصح المعنى.
(4)
(ب، ج): «وللتوبة» .
وإنما يواري عنه شهودَ ذلك سُكْرُ الغفلة والشهوة، فإن للشهوة
(1)
سُكرًا يزيد على سكر الخمر، وكذلك الغضبُ له سكر أعظم من سكر الشراب. ولهذا ترى العاشقَ
(2)
والغضبان يفعل ما لا يفعله شارب الخمر.
وكذلك يطمئن
(3)
من قلق الغفلة والإعراض إلى سكون الإقبال على الله وحلاوة ذكره وتعلُّق الروح [146 أ] بحبه ومعرفته، فلا طمأنينة للروح بدون هذا أبدًا. ولو أنصفَت نفسَها لرأتها
(4)
إذا فقدت ذلك في غاية الانزعاج والقلق والاضطراب، ولكن تُواريها السَّكرة، فإذا كُشِفَ الغطاء تبيَّن له حقيقة ما كان فيه.
فصل
وهاهنا سرٌّ لطيف يجب التنبيه عليه والتنبُّه له
(5)
، والتوفيقُ له بيد مَن أزِمَّةُ التوفيق بيديه
(6)
، وهو أنَّ الله سبحانه جعل لكل عضوٍ من أعضاء الإنسان كمالًا إن لم يحصل له وإلا
(7)
فهو في قلق واضطراب وانزعاج،
(1)
(أ، ق، غ): «لكل شهوة» .
(2)
ما عدا (ب، ج، غ): «الفاسق» .
(3)
ما عدا (ط، ج، ز): «يظهر» ، تصحيف.
(4)
ما عدا (ب، ج، غ): «لذاتها» ، تصحيف.
(5)
(ط): «يجب تبيينه والتنبيه عليه» .
(6)
ما عدا (أ، ق، غ): «بيده» . وفي (ط): «بين يديه وبيديه» .
(7)
كذا في جميع النسخ، ولا يستقيم المعنى إلا بحذف «وإلا» . وهو من الأخطاء الشائعة في عهد المؤلف. انظر ما علقت في طريق الهجرتين (45) وقد تعوَّد الناشرون حذفها دون الإشارة إلى ما في أصولهم.
بسبب فقدِ كماله الذي جُعِل له. مثاله: كمال العين بالإبصار، وكمال الأذن بالسمع، وكمال اللسان بالنطق. فإذا عَدِمتْ هذه الأعضاء القوى التي بها كمالُها حصَل الألم والنقص بحسب فوات ذلك.
وجَعَل كمال القلب ونعيمَه وسروره ولذته وابتهاجه في معرفته سبحانه، وإرادته، ومحبته، والإنابة إليه، والإقبال عليه، والشوق إليه، والأنس به. فإذا عَدِمَ القلبُ ذلك كان أشدَّ عذابًا واضطرابًا من العين التي فقدت النور الباصر، ومن اللسان الذي فقدَ قوة الكلام والذوق. ولا سبيلَ له إلى الطمأنينة بوجه من الوجوه، ولو نال من الدنيا وأسبابها ومن العلوم ما نال، إلا بأن يكون الله وحده هو محبوبَه وإلاهه ومعبودَه وغايةَ مطلوبه، ويكون هو وحده مستعانَه على تحصيل ذلك. فحقيقة الأمر أنه لا طمأنينة له بدون التحقُّق
(1)
بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
وأقوالُ المفسرين في «المطمئنة» ترجع إلى ذلك
(2)
.
قال ابن عباس: المطمئنة: المصدِّقة.
وقال قتادة: هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله.
وقال الحسن: المصدِّقة
(3)
بما قال الله تعالى.
(1)
ما عدا (ج، ز): «التحقيق» .
(2)
انظر الأقوال الآتية بترتيبها في تفسير الطبري (24/ 393 ــ 394). وقد ذكرها المصنف على هذا الترتيب أيضًا في إغاثة اللهفان (1/ 76) إلا قول مجاهد فإنه لم يُفصِّل رواياته فيه كتفصيلها هنا.
(3)
«وقال قتادة
…
المصدقة» ساقط من الأصل.
وقال مجاهد: هي النفس التي أيقنَتْ بأن الله ربُّها، المسلِّمةُ لأمره فيما هو فاعل بها
(1)
.
وروى منصور عنه
(2)
قال: النفس التي أيقنت أن الله ربُّها، وضربت جأشًا لأمره وطاعته.
وقال ابن أبي نَجيح عنه: النفس المطمئنة المخبِتة إلى الله.
وقال أيضًا: هي التي أيقنت بلقاء الله
(3)
.
فكلام السلف
(4)
في «المطمئنة» يدور [146 ب] على هذين الأصلين: طمأنينة العلم والإيمان، وطمأنينة الإرادة والعمل.
فصل
فإذا اطمأنت من الشكِّ إلى اليقين، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الخيانة إلى التوبة، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكذب إلى الصدق، ومن العجز إلى الكَيْس، ومن صَولة العُجب إلى ذلَّة الإخبات، ومن التِّيه إلى التواضع، ومن الفتور إلى العمل= فقد باشرتْ روحَ الطمأنينة.
وأصل ذلك كلِّه ومنشؤه من اليقظة، فهي أولُ مفاتيح الخير، فإن الغافل عن الاستعداد للقاء ربه والتزود لمعاده بمنزلة النائم، بل أسوأُ حالًا منه؟ فإن
(1)
قال الطبري: «وقال آخرون: بل معنى ذلك: الموقنة بأن الله ربُّها
…
بها». فهذه ترجمة الطبري لقول الآخرين لا نص قول مجاهد الذي أورده بالألفاظ الآتية.
(2)
بعده في (ب، ج): «يعني مجاهدًا» .
(3)
هذا القول أيضًا رواه منصور عن مجاهد.
(4)
(ب، ج، ق): «وكلام السلف» .
الغافل
(1)
يعلمُ وعد الله ووعيدَه وما تتقاضاه أوامر الرب تعالى ونواهيه وأحكامُه من الحقوق، لكن يحجبُه عن حقيقة الإدراك ويُقعده عن الاستدراك سِنةُ القلب، وهي غفلته التي رقد فيها فطال رقوده، وركد وأخلد
(2)
إلى نوازع الشهوات، فاشتدَّ إخلاده وركوده. وانغمس في غمار الشهوات، واستولت عليه العادات ومخالطةُ أهل البطالات، ورضي بالتشبُّه بأهل إضاعة الأوقات. فهو في رقاده مع النائمين، وفي سَكْرته مع المخمورين. فمتى انكشفت عن قلبه سِنَةُ هذه الغفلة بزجرةٍ من زواجر الحق في قلبه، استجاب فيها لواعظِ الله في قلب عبده المؤمن، أو هِمَّة عليَّةٍ
(3)
أثارها مِعولُ الفكر في المحلِّ القابل، فضرب بمعول فكره، وكبَّر تكبيرةً أضاءت له منها قصورُ الجنة، فقال
(4)
:
ألا يا نفسُ ويحكِ ساعديني
…
بسعيٍ منكِ في ظُلَم الليالي
لعلَّكِ في القيامة أن تفوزي
…
بطِيبِ العيشِ في تلك العلالي
فأنارت
(5)
له تلك الفكرةُ نورًا رأى في ضوئه ما خُلِق له وما سيلقاه بين
(1)
في الأصل: «العاقل» . وكذا في (ق، غ، ج). وفي (ب): «العالم» .
(2)
رسمها في الأصل: «ركد خلده» . ونحوه في (ق، غ، ط). وفي (ز): «ركد مخلدًا» . وفي (ب، ج) حذف «وركد» . والمثبت من (ن). وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
قرأها الناسخون والناشرون «عليه» . فحذف ناسخ (ط): «همة» ، وناسخ (ن) الكلمتين.
(4)
البيتان لرجل من بني سعد كما في التهجد وقيام الليل لابن أبي الدنيا (141). وانظر: صفة الصفوة (4/ 59) وتذكرة القرطبي (967).
(5)
ما عدا (ز): «فأثارت» . وكذا في النسخ المطبوعة. والأصل غير منقوط.
يديه من حين الموتِ إلى دخول دار القرار. ورأى سرعةَ انقضاء الدنيا، وعَدَم وفائها لبنيها، وقتلَها لعُشَّاقها وفعلَها بهم أنواع المَثُلات. فنهض في ذلك الضوء على ساقِ [147 أ] عزمه قائلًا:{يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]. فاستقبل بقيةَ عُمره التي لا قيمة لها مستدركًا بها ما فات، محييًا بها ما أمات، مستقيلًا
(1)
بها ما تقدَّم له من العثَرات، منتهزًا فرصةَ الإمكان التي إن فاتت فاته جميعُ الخيرات.
ثم يلحظ في نور تلك اليقظة وفود
(2)
نعمة ربِّه عليه من حين استقرَّ في الرحِم إلى وقته، وهو يتقلب فيها ظاهرًا وباطنًا ليلًا ونهارًا، يقظةً ومنامًا، سرًّا وعلانيةً. فلو اجتهد على إحصاء أنواعها لما قَدَر، ويكفي أنَّ أدناها نعمةُ النفَس، ولله عليه في كلِّ يوم أربعة وعشرون ألفَ نعمة، فما ظنُّك بغيرها؟
(3)
.
ثم يرى في ضوء ذلك النورِ أنه آيسٌ من حصرها وإحصائها، عاجزٌ عن أداء حقِّها، وأنَّ المنعِم بها إن طالبه بحقوقها استوعب جميعَ أعماله حقُّ نعمةٍ واحدة منها، فيتيقَّن
(4)
حينئذ أنه لا مطمعَ له في النجاة إلا بعفو الله ورحمته وفضله
(5)
.
(1)
في النسخ المطبوعة ما عدا الطبعة الهندية: «مستقبلًا» ، تصحيف.
(2)
في (ن): «وقوَّة» ، تحريف. وفي غيرهما جميعًا ما أثبتنا، يعني الورود والقدوم. وفي نشرتي العموش وبديوي:«وفور» ، تحريف.
(3)
انظر: التبيان في أيمان القرآن (464، 621)، وطريق الهجرتين (114)، ومفتاح دار السعادة (2/ 54).
(4)
(ب، ط، ق، غ): «فتيقَّن» .
(5)
«منها
…
فضله» ساقط من (ن، ز).
ثم يرى في ضوء تلك اليقظةِ أنه لو عمل أعمال الثَّقَلَين من البرِّ لاحتقرَها إلى جنب
(1)
عظمةِ الربِّ تعالى وما يستحقُّه بجلال وجهه وعظيم سلطانه. هذا لو كانت أعمالُه منه، فكيف وهي مجرَّدُ فضلِ الله ومنَّتِه
(2)
وإحسانِه؛ حيث يسَّرها له، وأعانه عليها، وهيَّأه لها، وشاءها منه، وكوَّنها. ولو لم يفعل ذلك لم يكن له سبيل إليها، فحينئذٍ لا يرى أعمالَه منه.
وإن الله سبحانه لن يقبل عملًا يراه صاحبُه من نفسه حتى يراه عينَ توفيقِ الله له، وفضلِه عليه، ومنَّتِه عليه، وأنه من الله لا من نفسه، وأنه ليس له من نفسه إلا الشرُّ وأسبابُه. وما به من نعمة، فمن الله وحده، صدقةٌ تصدَّق بها عليه، وفضلٌ
(3)
منه ساقه إليه، من غير أن يستحقَّه بسبب، أو يستأهِلَه بوسيلة. فيرى ربَّه ووليَّه ومعبودَه أهلًا لكلِّ خير، ويرى نفسه أهلًا لكل شر. وهذا أساس جميع الأعمال الصالحة، الظاهرة والباطنة. وهو الذي يرفعها، ويجعلها في ديوان أصحاب [147 ب] اليمين.
ثم تبرقُ له في نور تلك اليقظة بارقةٌ أخرى، يرى في ضوئها عيوبَ نفسه وآفاتِ عمله، وما تقدَّم له من الجنايات والإساءات وهتكِ الحرمات، والتقاعدِ عن كثير من الحقوق والواجبات. فإذا انضم ذلك إلى شهودِ نِعَم الله عليه وأياديه لديه رأى أنَّ حقَّ المنعِم عليه في نعمِه وأوامره لم يُبقِ له حسنةً واحدةً يرفع بها رأسه. فتطامَنَ
(4)
قلبه، وانكسرت نفسه، وخشعت
(1)
في الأصل: «بالنسبة إلى جنب» . وكذا في (ق، غ، ط). والظاهر أنه سهو. فحذف «جنب» في (ب، ج، ز، ن) وكذا في النسخ المطبوعة. وفضَّلتُ حذف «بالنسبة» .
(2)
زاد في (ن): «وهدايته» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «فضلًا» خلافًا لما في النسخ الخطية.
(4)
في (ط، غ): «فيطمئن» . وكذا في النسخ المطبوعة، وهو تصحيف.
جوارحه، وسار إلى الله ناكسَ الرأس بين مشاهدةِ نعمه، ومطالعة جناياته وعيوب نفسه وآفات عمله، قائلًا:«أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»
(1)
.
فلا يرى لنفسه حسنةً، ولا يراها أهلًا لخير، فيُوجب له أمرين عظيمين: أحدهما: استكثارُ ما منَّ الله عليه
(2)
. والثاني: استقلالُ ما مِنه من الطاعة، كائنةً ما كانت.
ثم تبرُق له بارقة أخرى، يرى في ضوئها عزَّةَ وقته
(3)
وخطرَه وشرفَه، وأنه رأسُ مال سعادته، فيبخل به أن يضيِّعه فيما لا يقرِّبُه إلى ربِّه، فإنَّ في إضاعته الخسرانَ والحسرةَ والندامة، وفي حفظه وعِمارته الربح والسعادة، فيشحُّ بأنفاسه أن يضيِّعها فيما لا ينفعه يوم معاده.
فصل
(4)
ثم يلحظ في ضوء تلك البارقةِ ما تقتضيه يقظته من سِنةِ غفلته: من التوبة والمحاسبة والمراقبة، والغَيرة لربه أن يؤثر عليه غيرَه، وعلى حظِّه من رضاه وقربه وكرامته أن يبيعه بثمن بخس في دارٍ سريعةِ الزوال، وعلى نفسه أن يُملِّك رِقَّها لمعشوق لو فكَّر في منتهى حسنه ورأى آخره بعين بصيرته لأنِفَ لها من محبته.
(1)
جزء من سيد الاستغفار. أخرجه البخاري (6306) من حديث شداد بن أوس. وانظر شرحه في طريق الهجرتين (203 ــ 205)، (357 ــ 359).
(2)
(ن، ز): «مِن الله إليه» .
(3)
(ب، ج): «عزّه ورفعه» ، تحريف.
(4)
لم ترد كلمة «فصل» في (ن، ز).
فهذا كله من آثار اليقظة وموجَباتها. وهي أول منازل النفس المطمئنة التي نشأ منها سفرُها إلى الله والدار الآخرة.
فصل
وأما اللوَّامة، وهي التي أقسم بها سبحانه في قوله:{وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]، فاختُلف فيها. فقالت طائفة: هي التي لا تثبتُ على حال واحدة
(1)
.
أخذوا اللفظةَ [148 أ] من التلوُّم، وهو التردُّد، فهي كثيرة التقلُّب
(1)
لم أجد في كتب التفسير ولا في كتب اللغة أن النفس اللوَّامة هي التي لا تثبت على حال واحدة، وأن اللفظ مأخوذ من التلوُّم، وأن التلوُّم بمعنى التقلب والتلون. وقد تكلَّم المؤلف رحمه الله على معنى اللوامة في مدارج السالكين، والتبيان في أيمان القرآن، وإغاثة اللهفان أيضًا. أما المدارج (2/ 6 ــ 7) فاقتصر فيه على إيراد أقوال سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة ومجاهد والفراء والحسن ومقاتل، ولم يشر البتة إلى معنى التلون والتردد. وأما في التبيان (22 - 25) فذكر ثلاثة أقوال للسلف في المراد بالنفس اللوَّامة، ليس منها معنى التلون، غير أنه قال في آخر كلامه:«ولأنها متلومة مترددة لا تثبت على حال واحدة، فهي محتاجة إلى من يعرِّفها الخير والشرّ .. » .
وأما إغاثة اللهفان فنصَّ فيه على الخلاف في اشتقاق اللوَّامة «هل هي من التلوُّم، وهو: التلون والتردد، أو من اللَّوم» . وذكر أن «عبارات السلف تدور على هذين المعنيين» ثم ساق أقوال سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وعكرمة وابن عباس والحسن وقال: «فهذه عبارات من ذهب إلى أنها من اللَّوم. وأما من جعلها من التلوُّم فلكثرة ترددها وتلوُّمها وأنها لا تستقر على حال واحدة» . وسكت، فلم يسمِّ أحدًا ممن جعلها من التلوُّم، ولا أورد قولًا يدل على معنى التلون أو يدور عليه.
وهكذا هنا أيضًا نسب هذا القول إلى طائفة دون أن يشير إلى أحد منهم.
وقد رجَّح في الإغاثة القولَ بأنها مأخوذة من اللوم لا من التلوُّم «فإن هذا المعنى لو أريد لقيل: المتلوِّمة، كما يقال: المتلونة والمترددة؛ ولكن هو من لوازم القول الأول» .
وقد ذهب عليه ــ رحمه الله ــ أن التلوُّم في اللغة لم يرد بمعنى التلون والتقلب من حال إلى حال، وإنما هو: التلبُّث والتمكُّث والتثبت والانتظار. في حديث علي رضي الله عنه: «إذا أجنَبَ في السفر تلوَّمَ ما بينه وبين آخر الوقت، فإن لم يجد الماء تيمَّم وصلَّى» . تلوَّم، أي انتظَر. وكذلك في حديث عمرو بن سلمة الجرَمي:«وكانت العرب تلوَّمُ بإسلامهم الفتحَ» أي تنتظر. الحديثان أخرجهما البيهقي في السنن الكبرى (4364، 5341) وغيره. وانظر شرحهما في النهاية لابن الأثير (4/ 278). ومنه قول عمر بن عبد العزيز: «إنما التلوُّم قبل الغشيان» يعني التثبت والنظر. قاله الحربي في غريبه (1/ 328). والقصة في كتاب القضاء لسريج بن يونس (86).
ومنه قول عنترة في معلقته:
فوقفتُ فيها ناقتي وكأنها
…
فدَنٌ لأقضيَ حاجةَ المتلوِّم
قال ابن الأنباري: «يقول: لأقضي حاجتي التي تلوَّمت لها، أي تمكثتُ. يقول الرجل لصاحبه: تلوَّم عليَّ، أي تحبَّسْ وتمكَّث» . شرح القصائد السبع (297).
ثم قرأت كلام شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (9/ 294): «النفس اللوَّامة، وهي التي تذنب وتتوب، فعنها خير وشر، لكن إذا فعلت الشر تابت وأنابت، فتسمَّى لوامة، لأنها تلوم صاحبها على الذنوب، ولأنها تتلوَّم، أي تتردد بين الخير والشر» . وقال أيضًا: «28/ 148): «التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه، وتتلون تارة كذا، وتارة كذا، وتخلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا» . وانظر أيضًا (10/ 632). ولعل المصنف رحمه الله بنى كلامه في ذكر الخلاف في التفسير والاشتقاق على نحو هذا الكلام من كلام شيخه، وسمَّاه «طائفة» ، ولا غرو، فإنه رحمه الله كان أمَّةً وحده. والله أعلم.
والتلوُّن. وهي من أعظم آيات الله، فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلَّب وتتلوَّن في الساعة الواحدة ــ فضلًا عن اليوم والشهر والعامِ والعمر ــ ألوانًا متلوِّنةً. فتذكُر وتغفُل، وتُقبِل وتُعرِض، وتلطُف وتكثُف، وتنيب وتجفو، وتحبُّ
وتبغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتطيع وتعصي، وتتَّقي
(1)
وتفجر، إلى أضعاف أضعاف ذلك من حالاتها وتلوُّنها، فهي تتلون كلَّ وقت ألوانًا كثيرة. فهذا قول.
وقالت طائفة: اللفظة مأخوذة من اللوم. ثم اختلفوا، فقالت فرقة: هي نفس المؤمن، وهذا من صفاتها المحمودة
(2)
. قال الحسن البصري: إن
(3)
المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسَه دائمًا. يقول: ما أردتُ بهذا؟ لمَ فعلتُ هذا؟ كان غيرُ هذا أولى، ونحوَ هذا من الكلام
(4)
.
وقال غيره: هي نفس المؤمن توقِعُه في الذنب، ثم تلومه عليه، فهذا اللوم من الإيمان، بخلاف الشقيِّ فإنه لا يلوم نفسَه على ذنب، بل يلومها، وتلومه على فواته.
وقالت طائفة: بل هذا اللوم للنوعين، فإن كلَّ أحد يلوم نفسه، برًّا كان أو فاجرًا. فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية الله وتركِ طاعته، والشقيُّ لا يلومها إلا على فوات حظِّها وهواها.
وقالت فرقة أخرى: هذا اللومُ يومَ القيامة، فإنَّ كلَّ أحد يلوم نفسه: إن كان مسيئًا، على إساءته، وإن كان محسنًا على تقصيره
(5)
.
(1)
(ب، ج، ن): «تبغي» ، تصحيف.
(2)
في الأصل: «المجردة» . وكذا في (ق، غ)، وهو تحريف.
(3)
(ز): «إنه» .
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (15/ 97) إلى عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (4) وقد حكاه المصنف هنا بالمعنى.
(5)
ما عدا (أ، ق، غ): «فعلى تقصيره» .
وهذه الأقوال كلها حقٌّ، ولا تنافي بينها، فإن النفس موصوفة بهذا كلِّه، وباعتباره سميت لوَّامةً، ولكن اللوَّامة نوعان:
لوَّامةٌ مَلُومة: وهي النفس الجاهلة الظالمة التي يلومها الله وملائكته.
ولوَّامة غيرُ ملومة: وهي التي لا تزال تلومُ صاحبَها على تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده، فهذه غيرُ ملومة.
وأشرف النفوس مَن لامت نفسَها في طاعة الله، واحتملت ملامَ اللائمين في مرضاته، فلا تأخذها فيه لومة لائم، فهذه قد تخلَّصت من لَومِ الله لها. وأما من رضيت بأعمالها، ولم [148 ب] تلم نفسها عليها
(1)
، ولم تحتمِل في الله ملام اللُّوَّام، فهي التي يلومها الله عز وجل.
فصل
وأما النفس الأمارة، فهي
(2)
المذمومة، فإنها التي تأمر بكلِّ سوء. وهذا من طبيعتها إلا ما وفَّقها الله، وثبَّتها، وأعانها. فما تخلَّص أحد من شرِّ نفسه إلا بتوفيق الله له
(3)
، كما قال تعالى حاكيًا عن امرأة العزيز
(4)
: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53]. وقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21].
(1)
«عليها» لم ترد في (أ، ق، غ).
(2)
(ب، ج): «وهي» .
(3)
«له» لم ترد في (أ، غ).
(4)
حكاه الماوردي في النكت والعيون (3/ 48) ونصره شيخ الإسلام. انظر: مجموع الفتاوى (15/ 138)، (10/ 298).
وقال تعالى لأكرم خلقه عليه وأحبِّهم إليه: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلِّمهم خطبة الحاجة: «إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له»
(1)
. فالشرُّ كامنٌ في النفس،
(1)
أخرجه النسائي (1404)، وأبو داود الطيالسي (336)، والإمام أحمد (3720)، وأبو يعلى (5257)، والطبراني في الكبير (10080)، وفي الدعاء (931)، والحاكم (2/ 182 ــ 183) من طرق عن شعبة، قال: «سمعت أبا إسحاق، يحدِّث عن أبيه عبيدة يحدِّث عن أبيه عبد الله بن مسعود، قال: علّمنا رسول الله خطبة الحاجة
…
» قال النسائي عقبه: «أبو عبيدة لم يسمع من أبيه شيئًا» .
لكنه تُوبع، تابعه أبو الأحوص عوف بن مالك بن نضلة الجشمي.
فأخرجه أبو داود (2118)، والإمام أحمد (4116)، وأبو يعلى (5234) من طريق وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة وأبي الأحوص، عن ابن مسعود، به.
وأخرجه الترمذي (1105)، والنسائي (3277)، وابن الجارود في المنتقى (679)، والطبراني في الكبير (10079)، وفي الدعاء (932) من طريق عبثر بن القاسم، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، مرفوعًا.
وأخرجه ابن ماجه (1892) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن أبيه، به.
وكذا ذكر الإمام الدارقطني هذا الاختلاف على أبي إسحاق، ثم قال:«وكل الأقاويل صحاح عن أبي إسحاق» العلل (5/ 311 ــ 313).
وهذه الخطبة المباركة أفردها العلامة الألباني رحمه الله في رسالة وخلص إلى تصحيح الحديث. (قالمي).
وهو موجِب سيئات الأعمال
(1)
. فإن خلَّى الله بين العبد وبين نفسه هلك بين شرِّها وما تقتضيه من سيئات الأعمال، وإن وفَّقه وأعانه نجَّاه من ذلك كلِّه. فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
وقد امتحن الله سبحانه الإنسان بهاتين النفسين: الأمارة، واللوَّامة؛ كما أكرمه بالمطمئنة. فهي نفسٌ واحدة تكون أمَّارة، ثم لوامة، ثم مطمئنة. وهي غاية كمالها وصلاحها.
وأيَّد المطمئنة بجنود عديدة. فجعل الملَكَ قرينَها وصاحبَها الذي يليها ويسدِّدها، ويقذف فيها الحقَّ، ويُرغِّبها فيه، ويُريها حسن صورته، ويزجرها عن الباطل، ويُزهِّدها فيه، ويُريها قُبحَ صورته. وأمدَّها بما علَّمها من القرآن والأذكار وأعمال البر، وجعل وُفودَ الخيرات وأمدادَ التوفيق تنتابها
(2)
وتصلُ إليها من كل ناحية. وكلَّما تلقَّتها بالقبول، والشكرِ، والحمدِ لله، ورؤيةِ أوَّلِيَّته في ذلك كله، ازدادَ مَدَدُها، فتقوى على محاربة الأمَّارة. فمِن جندها ــ وهو سلطانُ عساكرها ومَلِكُها ــ الإيمان واليقين. فالجيوش الإسلامية كلُّها [149 أ] تحت لوائه ناظرةٌ إليه. إن ثبت ثبتَتْ، وإن انهزم ولَّت على أدبارها.
(1)
انظر شرح الحديث في: طريق الهجرتين (200 ــ 201).
(2)
الأصل غير منقوط، وقد تصحفت في النسخ إلى «بثباتها» ، و «يثبتانها» ، و «بنياتها» . وقد أسقطها ناسخ (ن).
ثم أمراءُ هذا الجيش ومقدَّمو عساكره: شُعَبُ الإيمانِ المتعلِّقةُ بالجوارح على اختلاف أنواعها، كالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصيحةِ الخلق، والإحسان إليهم بأنواع الإحسان؛ وشُعَبُه الباطنةُ المتعلِّقةُ بالقلب، كالإخلاص والتوكلُّ والإنابة والتوبة والمراقبة والصبر والحِلم والتواضع والمسكنة، وامتلاءِ القلب من محبة الله ورسوله، وتعظيمِ أوامر الله وحقوقه، والغيرةِ لله وفي الله، والشجاعة والعفَّة والصدق والشفقة والرحمة.
ومِلاكُ ذلك كلِّه الإخلاص والصدق. فلا يتعنَّى
(1)
الصادق المخلص، فقد أقيم على الصراط المستقيم، فيُسَارُ به وهو راقد. ولا يتهَنَّى
(2)
من حُرِم الصدق والإخلاص، فقد قُطِعت عليه الطريقُ، واستهوته الشياطين في الأرض حيرانَ، فإن شاء فليعمل، وإن شاء فليترك، فلا يزيده عمله من الله إلا بعدًا.
وبالجملة فما كان لله وبالله، فهو من جند النفس المطمئنة.
وأما النفسُ الأمَّارة فجعل الشيطان قرينَها وصاحبَها الذي يليها، فهو يعِدُها ويمنِّيها، ويقذف فيها الباطل، ويأمرها بالسوء ويزيِّنه لها، ويطيل لها
(3)
في الأمل، ويُريها الباطلَ في صورة تقبلها وتستحسنها، ويُمِدُّها بأنواع
(1)
من (ب، ج، غ). وفي غيرها: «يتعين» ، تصحيف. وفي النسخ المطبوعة:«يتعب» ، ولعله تصرف من بعض الناشرين.
(2)
(ط): «يتعين» . وفي غيرها جميعًا: «يتعنَّى» ، وكلاهما تصحيف. وفي النسخ المطبوعة هنا أيضًا:«يتعب» ، والسياق يقتضي ضده. ويتهنَّى أصله بالهمز.
(3)
«ويطيل لها» ساقط من (ق).
الإمداد الباطل من الأماني الكاذبة والشهوات المهلكة. ويستعينُ عليها بهواها وإرادتها
(1)
، فمنه يَدخُل عليها، ويُدخِل عليها كلَّ مكروه. فما استعان على النفوس بشيء هو أبلغُ من هواها وإرادتها البتة
(2)
. وقد علَّم ذلك إخوانَه
(3)
من شياطين الإنس، فلا يستعينون على الصُّوَر
(4)
الممنوعة منهم بشيء أبلغَ من هواهم وإرادتهم، فإذا أعيتهم صورة طلبوا بجهدهم ما تحبُّه وتهواه، ثم طلبوا بجدهم تحصيله، فاصطادوا به تلك الصور. فإذا فَتَحت لهم النفسُ باب الهوى دخلوا منه، فجاسُوا خلال الديار، فعاثوا وأفسدوا، وفَتَكوا وسَبَوا، وفعلوا ما يفعله العدو ببلاد عدوه إذا تحكَّم فيها. فهدَموا معالمَ الإيمان والقرآن والذكر والصلاة، وخرَّبوا المساجد، وعمروا البِيَع والكنائس والحانات والمواخير. وقصدوا إلى المَلِك، فأسروه، وسلبوه ملكه، ونقلوه من عبادة الرحمن إلى عبادة البغايا والأوثان، ومن عزِّ الطاعة إلى ذلِّ المعصية، ومن السماع الرَّحماني إلى السماع الشيطاني، ومن الاستعداد للقاء ربِّ العالمين إلى الاستعداد للقاء إخوان الشياطين. فبينا هو يراعى حقوقَ الله وما أمَرَه به، إذ صار يرعى الخنازير! وبينا هو منتصب لخدمة العزيز الرحيم، إذ صار منتصبًا لخدمة كلِّ شيطان رجيم!
والمقصود أن الملَك قرينُ النفس المطمئنة، والشيطان قرين الأمَّارة. وقد روى أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن مُرَّة، عن عبد الله قال:
(1)
في الأصل: «إراداتها» ، ولعله سهو.
(2)
ما عدا (ب، ج، غ): «إليه» . وكذا في النسخ المطبوعة. وهو ساقط من (ز).
(3)
الضبط من (ط، ن).
(4)
ما عدا (أ، ق، غ): «الصورة» .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ للشيطان لَمَّةً من ابن آدم
(1)
، وللِملَك لَمَّة. فأمَّا لَمَّةُ الشيطان، فإيعادٌ بالشر، وتكذيبٌ بالحق. وأما لَمَّةُ الملَك، فإيعاد بالخير، وتصديقٌ بالحق
(2)
. فمن وجد ذلك فلْيَعلم أنه من الله، ولْيحمد الله. ومن وجد الآخر فليتعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم». ثم قرأ:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]
(3)
.
(1)
كذا في جميع النسخ. وفي المصادر: «بابن آدم» ونحوه بالباء.
(2)
في جميع النسخ الخطية: «بالحق وتصديق بالخير» ولعله سهو. وقد ورد في الداء والدواء (251) وزاد المعاد (2/ 421) وغيره على الصواب.
(3)
أخرجه الترمذي (2988)، والنسائي في الكبرى (11051)، وابن جرير الطبري في تفسيره (5/ 6)، وأبو يعلى (4999)، وابن حبان (997)، كلهم من طريق هناد بن السري، ثنا أبو الأحوص بإسناده. وقال الترمذي:«هذا حديث حسن غريب، وهو حديث أبي الأحوص لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث أبي الأحوص» .
قلت: وفي تحسينه نظر؛ لأنه من رواية عطاء بن السائب وكان قد اختلط ولا يدرى سماع أبي الأحوص ــ واسمه سلام بن سُليم ــ منه أكان قبل الاختلاط أو بعده؟ ثم قد خولف أبو الأحوص في إسناده، فرواه حماد بن سلمة، وإسماعيل بن علية، وعمرو بن قيس الملائي، وجرير بن عبد الحميد الضبي، عن عطاء به، موقوفًا. ورواية هؤلاء جميعًا عند ابن جرير الطبري في تفسيره (5/ 6 ــ 8).
وسُئل أبو زرعة وأبو حاتم الرّازيان عن رواية أبي الأحوص عن عطاء المرفوعة. فقال أبو زرعة: «الناس يوقفونه عن عبد الله وهو الصحيح» وكذا مال أبو حاتم إلى ترجيح الوقف. فقال: «هذا من عطاء بن السائب كان يرفع الحديث مرة ويوقفه أخرى، والناس يحدِّثون من وجوه عن عبد الله موقوف. ورواه الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن مسعود موقوف» (علل ابن أبي حاتم (2224). ورواية الزهري المذكورة أخرجها عبد الرزاق الصنعاني في تفسيره (348)، وأبو داود في الزهد (164). كلاهما من طريق معمر، عنه، به.
وأخرجه ابن المبارك في الزهد (1435) من وجه آخر عن ابن مسعود موقوفًا وإسناده صحيح. (قالمي).
وقد رواه عمرو عن عطاء بن السائب، وزاد فيه عمرو، قال: سمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال: «إذا أحسَّ أحدكم من لَمَّةِ الملَك شيئًا فليحمد الله، وليسأله من فضله. وإذا أحسَّ من لَمَّة الشيطان شيئًا فليستغفر الله، وليتعوذ من الشيطان»
(1)
.
فصل
فالملَكُ وجندُه
(2)
من الإيمان يقتضيان من النفس المطمئنة التوحيدَ، والإحسانَ والبرَّ، والتقوى والصبر والتوكل، والتوبة والإنابة والإقبال على الله، وقصر الأمل والاستعداد للموت وما بعده. والشيطانُ وجندُه من الكفر يقتضيان من النفس الأمَّارة ضدَّ ذلك.
وقد سلَّط الله سبحانه الشيطانَ على كلِّ ما ليس له
(3)
، ولم يُرَدْ به وجهُه، ولا هو طاعةٌ له. [150 أ] وجَعَل ذلك إقطاعَه، فهو يستنيب النفسَ الأمَّارةَ على هذا العمل والإقطاع، ويتقاضاها أن تأخذَ الأعمال من النفس المطمئنة، فتجعلَها قوةً لها. فهي أحرَصُ شيءٍ على تخليص الأعمال كلِّها لها، وأن تصير من حظوظها، فأصعَبُ شيءٍ على النفس المطمئنة تخليصُ الأعمال من
(1)
رواية عمرو وهو ابن قيس الملائي مع الزيادة هذه أخرجها ابن جرير ــ كما سبق ــ موقوفة على ابن مسعود. (قالمي).
(2)
في الأصل وغيره: «فالنفس والملك وجنده» ، والصواب ما أثبتناه من (ب، ج). ويقابله «الشيطان وجنده» .
(3)
(ز): «ليس لله تعالى» .
الشيطان ومن الأمَّارة لله. فلو وصل منها عملٌ واحدٌ كما ينبغي لنجا به العبد، ولكن أبت الأمَّارةُ والشيطانُ أن يدَعا لها عملًا واحدًا
(1)
يصل إلى الله. كما قال بعض العارفين بالله وبنفسه: والله لو أعلم أنَّ لي عملًا واحدًا
(2)
وصلَ إلى الله لكنتُ أفرحَ بالموت من الغائبِ يقدَمُ على أهله
(3)
.
وقال عبد الله بن عمر: لو أعلم أن الله تقبَّلَ مني سجدة واحدة لم يكن غائبٌ أحبَّ إليَّ من الموت، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]
(4)
.
فصل
وقد انتصبت الأمَّارة في مقابلة المطمئنة، فكلُّ ما جاءت به تلك من خيرٍ ضاهتها هذه وجاءت من الشرِّ بما يقابله حتى تفسدَه عليها. فإذا جاءت بالإيمان والتوحيد جاءت هذه بما يقدحُ في الإيمان من الشك والنفاق، وما يقدح في التوحيد من الشرك ومحبةِ غير الله وخوفهِ ورجائه. ولا ترضى حتى تقدِّم محبةَ غيره وخوفَه ورجاءَه على محبته سبحانه وخوفه ورجائه، فيكون ما له
(5)
عندها هو المؤخَّر، وما للخلق هو المقدَّم، وهذا حال أكثرِ هذا الخلق.
وإذا جاءت تلك بتجريد المتابعة للرسول، جاءت هذه بتحكيم آراء الرجال وأقوالهم على الوحي، وأتت من الشُّبهِ المضِلَّة بما يمنعها من كمال
(1)
(ن، ز): «صالحًا» .
(2)
«واحدًا» لم يرد في الأصل. وفي (ن): «صالحًا واحدًا» .
(3)
لم أجده.
(4)
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (31/ 146).
(5)
(ب، ج): «ما لله» .
المتابعة وتحكيم السُّنَّة وعدم الالتفات إلى آراء الرجال، فتقوم الحربُ بين هاتين النفسين، والمنصورُ مَن نصره الله.
وإذا جاءت تلك بالإخلاص والصدق والتوكل والإنابة والمراقبة، جاءت هذه بأضدادها، وأخرجتها في عدة قوالب، وتُقسِم بالله ما مرادُها إلا الإحسان والتوفيق. والله يعلم أنها كاذبة، وما مرادُها إلا مجردُ حظِّها واتباع هواها، والتفلُّت
(1)
من سجن المتابعةِ [150 ب] والتحكيمِ المحضِ للسنَّة إلى فضاء إرادتها وشهوتها وحظوظها. ولَعمرُ الله ما تخلَّصتْ إلا من فضاءِ المتابعة والتسليم إلى سجن الهوى والإرادة وضيقه
(2)
وظلمته ووحشته. فهي
(3)
مسجونة فيه في هذا العالم، وفي البرزخ في أضيقَ منه، ويومَ المعاد الثاني في أضيقَ منهما.
ومن أعجبِ أمرها أن تسحر العقلَ والقلبَ، فتأتي إلى أشرف الأشياء وأفضلها وأجلِّها، فتخرجُه في صورة مذمومة ــ وأكثرُ الخلق صبيانُ العقول، أطفال الأحلام، لم يصلوا إلى حدِّ الفطام الأولِ عن
(4)
العوائد والمألوفات، فضلًا عن البلوغ الذي يُميِّز به العاقلُ البالغُ بين خير الخيرَين فيؤثِرُه، وشرِّ الشرين فيجتنبُه ــ فتُريه صورةَ تجريد التوحيد، التي هي أبهى من صورة الشمس والقمر، في صورة التنقُّص المذموم، وهَضْم العظماء منازلَهم، وحطِّهم منها إلى مرتبة العبودية المحضة والمسكنة والذلِّ والفقر المحض
(1)
(ب، ن، ز): «التقلب» . (ط): «النقلة» وكلاهما تصحيف.
(2)
الأصل وحده: «ضيقته» .
(3)
في الأصل: «وهي» .
(4)
في الأصل: «عند» ، تحريف.
الذي لا ملكة لهم معه ولا إرادة ولا شفاعة إلا من بعد إذن الله. فتُريهم
(1)
النفسُ السحَّارةُ هذا القَدْرَ غايةَ تنقُّصهم وهضمهم ونزولِ أقدارهم
(2)
، وعدمِ تميُّزهم عن المساكين الفقراء. فتنفِرُ نفوسُهم من تجريد التوحيد أشدَّ النِّفار ويقولون:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
وتُريهم تجريدَ المتابعة للرسول وما جاء به وتقديمَه على آراء الرجال في صورة تنقُّصِ العلماء والرغبةِ عن أقوالهم وما فهموه عن الله ورسوله، وأنَّ هذا إساءةُ أدب عليهم وتقدُّمٌ بين أيديهم، وهو مفضٍ إلى إساءة الظن بهم وأنَّهم قد فاتهم الصواب، وكيف لنا قوة أن نردَّ عليهم ونفوز ونحظى بالصواب دونهم؟ فتنفِرُ من ذلك أشد النِّفار، وتجعلُ كلامَهم هو المحكَّم الواجبَ الاتباع، وكلامَ الرسول هو المتشابه الذي يُعرَض على أقوالهم، فما وافقها قبلناه، وما خالفها ردَدْناه أو أوَّلناه أو فوَّضناه. وتُقاسِم
(3)
النفسُ السحَّارةُ بالله إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا! أولئك الذين يعلم [151 أ] الله ما في قلوبهم.
فصل
وتُريه صورةَ الإخلاص في صورةٍ ينفرُ منها، وهي الخروجُ عن حكمِ العقلِ المعيشي والمداراةِ والمداهنةِ التي بها اندراجُ حال صاحبها ومشيُه بين
(1)
زاد في (ط): «هذه» .
(2)
(ط): «درجتهم وأقدارهم» .
(3)
كذا في جميع النسخ. ومنه قوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 20] وغُيِّر في النسخ المطبوعة إلى «تقسم» .
الناس. فمَنْ
(1)
أخلصَ أعماله ولم يعمل لأحد شيئًا تجنبهم وتجنَّبوه، وأبغضَهم وأبغضوه، وعاداهم وعادوه، وسار على جادَّةٍ وهم على جادَّة؛ فينفِر من ذلك أشدَّ النِّفار. وغايته أن يُخلِصَ في القدر اليسير من أعماله التي لا تتعلَّق بهم، وسائرُ أعماله لغير الله.
فصل
وتُريه صورةَ الصدقِ مع الله وجهادِ مَن خرج عن دينِه وأمرِه في قالَب الانتصاب لعداوة الخلق وأذاهم وحربهم، وأنه يُعرِّض نفسَه من البلاء لما لا يطيق، وأنه يصير غرضًا لسهام الطاعنين، وأمثال ذلك من الشُّبَه التي تُقيمها
(2)
النفس السحَّارة والخيالات التي تُخيِّلها. وتُريه حقيقةَ الجهاد في صورةٍ تُقتَل فيها النفسُ وتُنكَح المرأة، ويصير الأولادُ يتامى، ويُقسَم المال.
وتُريه حقيقةَ الزكاة والصدقة في صورةِ مُفارقة المال ونقصه وخُلوِّ اليد منه، واحتياجه إلى الناس، ومساواته للفقير وعَودِه بمنزلته.
وتُريه حقيقةَ إثباتِ صفاتِ الكمال لله في صورة التشبيه والتمثيل، فينفِرُ من التصديق بها ويُنفِّرُ غيرَه. وتُريه حقيقةَ التعطيل والإلحاد فيها في صورة التنزيه والتعظيم.
وأعجبُ من ذلك أنها تُضاهي ما يحبِّه الله ورسوله من الصفات والأخلاق والأفعال بما يبغضه منها، وتَلبِسُ على العبد أحدَ الأمرين بالآخر. ولا يُخَلِّص هذا
(3)
من هذا إلا أربابُ البصائر، فإنَّ الأفعال تصدر عن
(1)
ما عدا (أ، ن، ز): «فمتى» .
(2)
في الأصل: «لا تقيمها» ، سهو.
(3)
حذفوا «هذا» في النسخ المطبوعة.
الإرادات وتظهر على الأركان من النَّفسين: الأمَّارة والمطمئنة، فيتباين الفعلان في الباطن، ويشتبهان في الظاهر.
ولذلك أمثلة كثيرة. منها: المداراة والمداهنة. فالأول من المطمئنة، والثاني من الأمَّارة. وخشوعُ الإيمان وخشوع النِّفاق، وشرف النفس والتِّيه، والحميَّة والجفاء، والتواضع [151 ب] والمهانة، والقوة في أمر الله والعلو في الأرض، والحميَّة لله والغضب له والحميَّة للنفس والغضب لها، والجودُ والسَّرَف، والمهابة والكبر، والصيانةُ والتكبر، والشجاعة والجراءة، والحزمُ والجبن، والاقتصادُ والشُّح، والاحتراز وسوءُ الظنِّ، والفِراسة والظن، والنصيحة والغيبة، والهدية والرِّشوة، والصبرُ والقسوة، والعفو والذُّل، وسلامة القلب والبَلَه والغفلة، والثقة والغِرَّة، والرجاءُ والتمني، والتحدُّث بنعم الله والفخر بها، وفرحُ القلب وفرحُ النفس، ورِقَّة القلب والجزع، والمَوْجِدةُ والحقد، والمنافسةُ والحسد، وحبُّ الرِّياسة وحب الإمامة والدعوة إلى الله، والحبُّ لله والحب مع الله، والتوكلُ والعجز، والاحتياط والوَسْوسة، وإلهامُ الملك وإلهام الشيطان، والأَناةُ والتسويف، والاقتصاد والتقصيرُ، والاجتهاد والغُلوُّ، والنصيحة والتأنيب، والمبادرة والعَجَلة، والإخبار بالحال عند الحاجةِ والشكوى
(1)
.
فالشيء الواحد تكون صورته واحدةً، وهو منقسم إلى محمود ومذموم، كالفرح والحزن والأسف والغضب والغيرة والخُيَلاء والطمع والتجمُّل
(1)
سيأتي الكلام على هذه الأمثلة مفصَّلًا إلا «الأناة والتسويف» . وهذا باب الفروق قد لخَّصه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله، وعلَّق على بعضها. انظر مقدمة التحقيق.
والخشوع والحسد والغِبطة والجَراءة والتجسسُّ
(1)
والحرص والتنافس وإظهار النعمة والحَلِف
(2)
والمسكنة والصَّمت والزهد والورع والتخلِّي والعُزلة والأنفة والحميَّة والغيبة.
(3)
.
وفي الصحيح أيضًا: «لا حسَدَ إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالًا فسلَّطه على هَلَكته في الحقِّ، ورجلٌ آتاه الحكمةَ، فهو يقضي بها ويعلِّمها»
(4)
.
وفي الصحيح أيضًا: «إن الله رفيقٌ [152 أ] يحبُّ الرِّفقَ، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف»
(5)
.
وفيه أيضًا: «من أُعطي حظَّه من الرفق فقد أُعطِيَ حظَّه من الخير»
(6)
.
(1)
(ن): «الجبن» ، تصحيف. وفي النسخ المطبوعة:«التحسر» .
(2)
(ب، ج): «الصلف» .
(3)
أخرجه أبو داود (2659)، والنسائي (2558)، والإمام أحمد (23747)، والدارمي (2226)، وابن حبان (295)، والبيهقي (7/ 308) كلهم من طرق عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن ابن جابر بن عتيك الأنصاري، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فذكره). وفيه ابن جابر بن عتيك، وهو مجهول.
والحديث حسَّنه الألباني في الشواهد. انظر: إرواء الغليل (1199). (قالمي).
(4)
أخرجه البخاري (73) ومسلم (816) من حديث عبد الله بن مسعود وغيره.
(5)
أخرجه مسلم (2593) من حديث عائشة.
(6)
قول المصنف رحمه الله: «وفيه أيضًا» يعني في الصحيح، ولكن ليس في الصحيحين ولا أحدهما حديث بهذا اللفظ، وقريب منه حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه في صحيح مسلم (2592) بلفظ:«من يُحرم الرِّفق يُحرم الخير» .
وأما اللفظ الذي ساقه المصنف فهو ما أخرجه الترمذي (2013)، والإمام أحمد (27553)، والحميدي (393)، والبخاري في الأدب المفرد (464) وغيرهم من حديث أبي الدرداء. وقال الترمذي:«حديث حسن صحيح» . كذا قال! وفي سنده يعلى بن مملك تفرد عنه عبد الله بن أبي مُليكة وقال فيه النسائي: «ليس بذاك المشهور» . السنن الكبرى (1/ 432).
لكن له شاهد صحيح من حديث عائشة رضي الله عنها، بلفظ: «إنه من أُعطي حظّه من الرّفق، فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة
…
» أخرجه الإمام أحمد (25259) وأبو يعلى (4530). (قالمي).
فالرفقُ شيء، والتواني والكسلُ شيء. فإن المتوانيَ يتثاقل عن مصلحته بعد إمكانها، فيتقاعد عنها؛ والرفيقُ يتلطَّف في تحصيلها بحسب الإمكان مع المطاولة.
وكذلك المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذمٍّ. والفرقُ بينهما: أنَّ المداريِ يتلطَّف بصاحبه حتى يستخرج منه الحقَّ أو يردَّه عن الباطل، والمداهن يتلطَّف به لِيُقِرَّه على باطله ويتركَه على هواه. فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النِّفاق.
وقد ضُرِب لذلك مثل مطابق، وهو حالُ رجل به قرحةٌ قد آلمته، فجاءه الطبيبُ المداري الرفيق، فتعرَّف حالَها، ثم أخذ في تليينها حتى إذا نضجتْ أخذ في بَطِّها
(1)
برفق وسهولة حتى أخرج ما فيها. ثم وضع على مكانها من الدواء والمرهم ما يمنع فسادَها
(2)
ويقطع مادَّتها، ثم تابع عليها بالمراهم
(1)
بطَّ الدمَّلَ ونحوه: شقَّه.
(2)
ما عدا (ط): «فساده» .
التي تُنبِتُ اللحم، ثم يذُرُّ عليها بعد نبات اللحم ما ينشف رطوبتها، ثم يشدُّ عليها الرِّباط، ولم يزل يتابع ذلك حتى صلحتْ. والمداهن قال لصاحبها: لا بأس عليك منها، وهذه لا شيء، فاسُتْرها عن العيون بخِرقة، ثم الهُ عنها. فلم تزل مادَّتُها تقوَى وتستحكم حتى عَظُم فسادها.
وهذا المثل أيضًا مطابق كلَّ المطابقة لحال النفس الأمَّارة مع المطمئنة فتأمله. فإذا كانت هذه حالَ قرحةٍ بقدر الحِمَّصة، فكيف بسُقْمٍ هاج من نفس أمَّارة بالسوء، هي معدنُ الشهوات ومأوى كلِّ فسق
(1)
وقد قارنها شيطانٌ في غاية المكر والخِداع، يَعِدها ويُمنِّيها، ويسحرها بجميع أنواع السِّحر حتى يُخيِّل إليها النافعَ ضارًّا، والضارَّ نافعًا، والحسنَ قبيحًا، والقبيحَ جميلًا؟ وهذا لعمرو الله من أعظمِ أنواعِ السحر! ولهذا يقول سبحانه:{فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89].
والذي
(2)
نسبوا إليه الرسلَ من كونهم مسحورين هو الذي أصابهم بعينه، وهم أهلُه، لا رسل [152 ب] الله صلوات الله وسلامه عليهم، كما أنهم نسبوهم إلى الضَّلال والفساد في الأرض والجنون والسَّفَه. وما استعاذت الأنبياءُ والرسل وأمروا الأممَ بالاستعاذة من شرِّ النفس الأمَّارة وصاحبها وقرينها الشيطان إلا لأنها أصلُ كل شرٍّ وقاعدتُه ومنبعه، وهما متساعدان عليه متعاونان.
رضيعَي لِبانٍ ثديَ أمٍّ تقاسما
…
بأسحمَ داجٍ عوضُ لا نتفرَّقُ
(3)
(1)
ما عدا (أ، ق، غ): «سوء» .
(2)
ما عدا (ط): «والذين» ، تحريف.
(3)
للأعشى في ديوانه (2/ 75).
قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. وقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]. وقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 - 98].
وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} فهذه استعاذة من شرِّ النَّفس.
وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} . فهذا استعاذة من شرِّ قرينها وصاحبها، وبئسَ القرين والصاحب.
فأمرَ سبحانه نبيَّه وأتباعَه بالاستعاذة بربوبيته التامَّة الكاملة من هذين
(1)
الخَلقين العظيم شأنُهما في الشرِّ والفساد.
والقلبُ بين هذين العدوين، لا يزال شرُّهما يطرقه وينتابه. وأول ما يدِبُّ فيه السُّقم من النفس الأمارة من الشهوة وما يتبعها من الحُبِّ والحِرص والطلب والغضب، وما يتبعُه من الكِبر والحسد والظلم والتسلط. فيعلم الطبيبُ الغاشُّ الخائنُ بمرضه، فيعوده، ويصِفُ له أنواعَ السموم والمُؤذيات، ويُخَيِّل إليه بسحره
(2)
أنَّ شفاءَه فيها. ويتفق ضعفُ القلب