المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: في اسمه - الرياض النضرة في مناقب العشرة - جـ ٤

[الطبري، محب الدين]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الرابع

- ‌تابع القسم الثاني: في مناقب الأفراد

- ‌الباب الخامس: في مناقب أبي محمد طلحة بن عبد الله

- ‌الفصل الأول: في ذكر نسبه

- ‌الفصل الثاني: في اسمه وكنيته

- ‌الفصل الثالث: في صفته

- ‌الفصل الرابع: في إسلامه

- ‌الفصل الخامس: في ذكر هجرته

- ‌الفصل السادس: في خصائصه

- ‌الفصل السابع: في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة

- ‌الفصل الثامن: في ذكر نبذ من فضائله

- ‌الفصل التاسع: في مقتله وما يتعلق بذلك

- ‌الفصل العاشر: في ذكر ولده

- ‌الباب السادس: في مناقب الزبير بن العوام

- ‌الفصل الأول: في نسبه

- ‌الفصل الثاني: في اسمه

- ‌الفصل الثالث: في صفته

- ‌الفصل الرابع: في إسلامه، وسنه يوم أسلم

- ‌الفصل الخامس: في هجرته

- ‌الفصل السادس: في خصائصه

- ‌الفصل السابع: في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة

- ‌الفصل الثامن: في ذكر نبذ من فضائله

- ‌الفصل التاسع: في مقتله وما يتعلق به

- ‌الفصل العاشر: في ذكر ولده

- ‌الباب السابع: في مناقب أبي محمد عبد الرحمن بن عوف

- ‌الفصل الأول: في نسبه

- ‌الفصل الثاني: في اسمه

- ‌الفصل الثالث: في صفته

- ‌الفصل الرابع: في إسلامه

- ‌الفصل الخامس: في هجرته

- ‌الفصل السادس: في خصائصه

- ‌الفصل السابع: في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة

- ‌الفصل الثامن: في ذكر نبذ من فضائله

- ‌الفصل التاسع: في ذكر وفاته، وما يتعلق بها

- ‌الفصل العاشر: في ولده

- ‌الباب الثامن: في مناقب سعد بن مالك

- ‌الفصل الأول: في نسبه

- ‌الفصل الثاني: في اسمه

- ‌الفصل الثالث: في صفته

- ‌الفصل الرابع: في إسلامه

- ‌الفصل الخامس: في هجرته

- ‌الفصل السادس: في خصائصه

- ‌الفصل السابع: في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة

- ‌الفصل الثامن: في ذكر نبذ من فضائله

- ‌الفصل التاسع: في ذكر وفاته، وما يتعلق بها

- ‌الفصل العاشر: في ذكر ولده

- ‌الباب التاسع: في مناقب أبي الأعور سعيد بن زيد

- ‌الفصل الأول: في نسبه

- ‌الفصل الثاني: في اسمه

- ‌الفصل الثالث والرابع: في صفته وإسلامه

- ‌الفصل الخامس، والسادس، والسابع: في هجرته وخصائصه وفي شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة:

- ‌الفصل الثامن: في ذكر نبذ من فضائله

- ‌الفصل التاسع: في وفاته، وما يتعلق بها

- ‌الفصل العاشر: في ذكر ولده

- ‌الباب العاشر: في مناقب أبي عبيدة بن الجراح

- ‌الفصل الأول والثاني والثالث: في نسبه وأسمه وصفته

- ‌الفصل الرابع والخامس: في إسلامه وهجرته

- ‌الفصل السادس: في خصائصه

- ‌الفصل السابع: في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة

- ‌الفصل الثامن: في ذكر نبذ من فضائله

- ‌الفصل التاسع: في ذكر وفاته، وما يتعلق بها

- ‌الفصل العاشر: في ذكر ولده

- ‌الفهارس

- ‌فهرس الجزء الثالث من الكتاب

- ‌فهرس الجزء الرابع من الكتاب:

الفصل: ‌الفصل الثاني: في اسمه

‌المجلد الرابع

‌تابع القسم الثاني: في مناقب الأفراد

‌الباب الخامس: في مناقب أبي محمد طلحة بن عبد الله

‌الفصل الأول: في ذكر نسبه

تابع القسم الثاني: في مناقب الأفراد

الباب الخامس: في مناقب أبي محمد طلحة بن عبيد الله، وفيه عشرة فصول

الفصل الأول: في ذكر نسبه

وقد تقدم ذكر آبائه في باب العشرة، يجتمع نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب، وينسب إلى تيم بن مرة، فيقال: القرشي التيمي. ويجتمع مع أبي بكر في كعب بن سعد بن تيم، أمه الصعبة بنت عبد الله بن عباد بن مالك بن ربيعة الحضرمي، أخت العلاء بن الحضرمي، أسلمت. ذكره ابن الضحاك، في الآحاد والمثاني.

ص: 245

‌الفصل الثاني: في اسمه وكنيته

ولم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام طلحة، ويكنى أبا محمد، وكان يلقب بطلحة الخير، لقبه1 به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد2، وقيل: في وقعة بدر حين غاب عنها في حاجة المسلمين، وطلحة الفياض، لقبه به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غزوة ذات العشيرة1، وطلحة الجود، لقبه به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين2. حكاه ابن قتيبة وصاحب الصفوة ومشكل

1 لا ريب في إفادة كثرة ألقابه عظم فضله، وكل لقب يدل على فضيلة خاصة.

2 يوم غزوة أحد التي انتهت بقتل سبعين من المسلمين، وعزى الله تعالى المسلمين بقوله:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} وكان طلحة في غزوة أحد يتلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربات السيوف، وطعنات الرماح، ورميات السهام؛ حرصًا على الخير للأمة بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلامته، وقد شلت يده رضي الله عنه بدفعه سهمًا بها عنه صلى الله عليه وسلم وسيأتي هنا مزيد بيان للمؤلف في هذا الأمر، فلا عجب أن لقبه صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة بطلحة الخير، وما أعظم فوزه رضي الله عنه بمثوبته.

والقول بأن تلقيبه بذلك كان في غزوة بدر ضعيف، كما أشار المؤلف إلى ذلك بقوله: وقيل: في وقعة بدر.

وكانت غزوة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وكانت غزوة أحد في شوال من السنة الثالثة من الهجرة.

وروى الترمذي، والحاكم في مستدركه عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرض، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله".

3خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الغزوة في جمادى الأولى من السنة الثانية للهجرة من أجل عير لقريش عظيمة جمعوا فيها أموالهم، ولم يزل سائرا بمن معه من الصحابة حتى بلغ العشيرة، فوجد العير قد مضت، فرجع إلى المدينة ينتظرها حينما ترجع.

4 بعد فتح مكة الأعظم وسقوط دولة الأوثان والأصنام، دخل الناس في دين الله أفواجًا، ودانت للإسلام جموع العرب.

ولكن قبيلتي هوازن وثقيف أدركتهما حمية الجاهلية، واجتمع أشرافهم يتشاورون وقالوا: قد فرغ محمد من قتال قومه ففرغ لنا، فلنغزُه قبل أن يغزونا، فأجمعوا أمرهم على ذلك، وولوا رياستهم مالك بن عوف النصري، فاجتمع له جموع كثيره فيهم بنو سعد بن بكر، الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مسترضعا فيهم، وكان في القوم دريد بن الصمة المشهور بأصالة الرأي وشدة البأس في القتال، ولكن لم يكن له في هذه الحرب إلا الرأي، ثم إن مالك بن عوف أمر الناس أن يأخذوا معهم نساءهم وذراريهم وأموالهم ليكون خلف كل رجل أهله وماله يقاتل عنهم، فتمتلئ نفسه زيادة وحماسة وإقداما، فقال دريد: وهل يرد المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، فلم يقبل مالك مشورته، وجعل النساء صفوفًا وراء المقاتلة، ووراءهم

ص: 246

الصحيحين والفضائلي والطائي وغيره.

وعن طلحة بن عبيد الله قال: سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد طلحة

الإبل ثم البقر ثم الغنم؛ لكيلا يفر أحد من المقاتلة.

وقد سار صلى الله عليه وسلم إليهم في اثني عشر ألف مقاتل، حين بلغه استعدادهم لحربه وقد أعجب المسلمون بكثرتهم فلم تغن عنهم شيئًا، فإن مقدمة المسلمين توجهت جهة العدو، فخرج لهم كمين كان مستترا في شعاب الوادي ومضايقه، وقابلهم بنبل كأنه الجراد المنتشر، فلووا أعنة خيلهم متقهقرين، ولما وصلوا إلى من قبلهم تبعوهم في الهزيمة، لما لحقهم من الدهشة.

وقد ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته في ميدان القتال، وثبت معه قليل من المهاجرين والأنصار، وكان العباس آخذا بلجام البغلة، وأبو سفيان بن الحارث آخذا بالركاب، وكان عليه الصلاة والسلام ينادي:"أيها الناس" لا يلوي عليه أحد وضاقت بالمنهزمين الأرض بما رحبت.

وأما رجال مكة الذين هم حديثو عهد بالإسلام والذين لم ينزعوا عنهم ربقة الشرك، فمنهم من فرح، ومنهم من ساءه هذا الإدبار. قال أخ لصفوان بن أمية: الآن بطل السحر، فقال له صفوان وهو على شركه: اسكت، فض الله فاك، والله لأن يربيني رجل من قريش خير من أن يربيني رجل من هوازن، وقد بلغت هزيمة بعض الفارين مكة، كل هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف مكانه يقول:

"أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" ثم قال للعباس وكان جهوري الصوت: "ناد بالأنصار يا عباس" فنادى: يا معشر الأنصار، يا أصحاب بيعة الرضوان فأسمع من في الوادي، وصار الأنصار يقولون: لبيك لبيك، ويريد كل واحد منهم أن يلوي عنان بعيره، فيمنعه من ذلك كثرة الأعراب المنهزمين، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وترسه، وينزل عن بعيره، ويخلي سبيله، ويؤم الصوت حتى اجتمع حول رسول الله جمع عظيم منهم، وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا لم يروها، فكر المسلمون على عدوهم على قلب رجل واحد، فتفرق المشركون في كل وجه لا يلوون على شيء من الأموال والنساء والذراري، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فأخذوا النساء والذراري وأسروا كثيرًا من المحاربين، وهرب من هرب وجرح في هذا اليوم خالد بن الوليد جراحات بالغة، وأسلم ناس كثيرون من مشركي مكة لما رأوه من عناية الله بالمسلمين وأن في الذي حصل في هذه الغزوة لعبرة بالغة، فقد دخل جيش المسلمين أخلاط كثيرون من أعراب ومشركين وحديثي عهد بإسلام، وهولاء يستوي لديهم نصر الإسلام وخذلانه، ولذلك بادروا

ص: 247

الخير، وفي غزوة العشيرة طلحة الفياض، ويوم حنين طلحة الجود.

أخرجه ابن الضحاك.

لأول صدمة إلى الهزيمة، ولولا فضل الله لانتهى أمر المسلمين وعزهم. فلا ينبغي إذًا أن يكون في الجيش إلا من يقاتل خالصًا مخلصًا من قلبه؛ ليكون مدافعًا حقا عن دينه ولا يتجه إلى الفرار أبدًا فرارًا من أليم العقاب الذي أعده الله للفارين؛ قال تعالى:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .

وفي غزوة حنين، يقول الله تعالى في القرآن الكريم:{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وحنين: اسم موضع بين مكة وبين الطائف وإليه سار صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة لقتال هوازن وثقيف، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا يقسم غنائم هوازن بحنين، فوقف عليه رجل من الناس، فقال: إن لي عندك موعدا يا رسول الله، فقال:"صدقت، فاحتكم ما شئت " أي: لك الحكم في طلب ما تريد، فقال: أحتكم ثمانين ضائنة -أي: نعجة، فالذكر ضائن- وراعيها -أي: معها الخادم الذي يرعاها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي لك"، ولقد احتكمت يسيرًا، ولصاحبة موسى عليه السلام وهي العجوز من عجائز مصر، التي دلته على عظام يوسف عليه السلام، أي: جسده الشريف، وكان في صندوق من رخام في قعر النيل تتلاطم عليه الأمواج، أحزم منك، أي: أكثر حزمًا منك، وأجزل حكما حين حكمها موسى عليه السلام، فإنه لما سأل عن يوسف عليه السلام لم يجد عند أحد علمًا لتقادم العصر ومرور الأزمنة، وأجمع رأيهم على عجوز كانت من بقايا القبط وقد أتت عليها سنون، فطلبها سيدنا موسى عليه السلام وسألها، فقالت: عندي علم من ذلك، فقال: أخبرينا ولك ما تريدين، فقالت: حكمي أن تردني شابة كأحسن ما كنت عليه من الشباب، وأدخل معك الجنة. فأخبرته عن محله، فدعا الله تعالى أن يردها شابة فارتدت في الحال شابة ورجع إليها حسنها وجمالها، ودعا الله تعالى أن يجعلها معه في الجنة فاستجيب له، ودلته على محله في قعر النيل، فأتى إليه وأشار بعصاه فانفرق البحر وظهر الصندوق، فحمله موسى عليه السلام إلى بيت المقدس، فدفنه عند آبائه الكرام عليهم السلام فكان الناس يصفون ما احتكم به حتى جعل مثلا يقولون: هو أشح من صاحب الثمانين والراعي يعنون به ذلك الرجل الدنيء الهمة". قال العراقي في تخريج هذا الحديث: رواه ابن حبان، والحاكم في المستدرك؛ من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مع اختلاف.

ص: 248

ودعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبيح المليح الفصيح. ذكره الطائي في الأربعين.

وعن موسى بن طلحة أن طلحة نحر جزورًا، وحفر بئرًا يوم ذي قرد فأطعمهم وسقاهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الفياض" وقال: اشترى طلحة بئرًا فتصدق بها ونحر جزورًا، فأطعمهم وسقاهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا طلحة، أنت الفياض" فسمي طلحة الفياض. أخرجه ابن الضحاك.

وأما طلحة الطلحات الذي قيل فيه:

رحم الله أعظمًا دفنوها

بسجستان طلحة الطلحات

فهو رجل من خزاعة، ذكره ابن قتيبة.

"شرح" إنما لقب بطلحة الجود وطلحة الفياض؛ لسعة عطائه وكرمه، وكان جوادًا؛ وسيأتي من وصف جوده طرف في بابه إن شاء الله تعالى، وغزوة ذات العشيرة، ويقال: العشيرة، وهو موضع ببطن ينبع.

ص: 249

‌الفصل الثالث: في صفته

قال بعضهم: كان آدم، كثير الشعر ليس بالسبط ولا بالجعد القطط، حسن الوجه، دقيق العرنين، إذا مشى أسرع، وكان لا يغير شعره. هكذا ذكره أبو عمر، وقيل: ولم يحك البغوي غيره، كان أبيض إلى الحمرة، مربوعًا إلى القصر أقرب منه إلى الطول، رحب الصدر، عريض المنكبين، إذا التفت التفت جميعًا، ضخم القدمين لا أخمص لهما. والقولان حكاهما ابن قتيبة.

"شرح" آدم: أسمر والأدمة بالضم: السمرة، والأدمة أيضًا: الوسيلة إلى الشيء؛ قاله الفراء. والسبط بكسر الباء وإسكانها: الشعر المسترسل، والجعد ضده، والقطط: الشديد الجعودة. وعرنين الأنف: أوله تحت مجتمع الحاجبين، وقد يطلق على الأنف، وعرنين كل شيء: أوله.

ص: 249

‌الفصل الرابع: في إسلامه

عن إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله قال: قال طلحة: حضرت بسوق بصرى فإذا راهب1 في صومعة يقول: سلوا أهل هذا الموسم: أفيهم أحد من الحرم2? قال طلحة: نعم أنا. قال: هل ظهر أحمد بعد? قال: قلت: ومن أحمد? قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم ومهاجره إلى نخل3 وحرة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه. قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت مسرعًا حتى قدمت مكة فقلت: هل كان من حدث? قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين تنبَّأ، وقد تبعه ابن4 أبي قحافة. قال: فخرجت حتى دخلت على أبي بكر فقلت: اتبعت هذا الرجل? قال: نعم، فانطلق إليه فادخل عليه فاتبعه فإنه يدعو إلى الحق، وأخبره طلحة بما قال الراهب، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد، وشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم؛ فلذلك سمي أبو بكر وطلحة "القرينين" أخرجه الفضائلي، وصاحب فضائل أبي بكر.

وأسلم أخو طلحة عثمان بن عبيد الله، أمه كريمة بنت موهب من كندة، وقيل: بنت جندب من بني سواة بن عباس بن صعصعة، ولده عبد الرحمن بن عثمان، له صحبة ورواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ولهما أخ ثالث قتل يوم بدر كافرًا.

1 منقطع من النصارى للعبادة وفق تعاليم النصرانية في زعمه.

2 حرم مكة.

3 يعني: يثرب "المدينة".

4 أبو بكر رضي الله عنه.

ص: 250

‌الفصل الخامس: في ذكر هجرته

1

لم أظفر بشيء يخصها، ولا شك في أنه رضي الله عنه هاجر ولم يزل مع النبي صلى الله عليه وسلم ملازما له، حتى توفي2 وهو عنه راض، وقضاياه في أحد وغيرها مما يشهد له بذلك.

1 أي: من مكة إلى المدينة المنورة.

2 أي: النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنه أي: عن طلحة راض، فإنه رضي الله عنه توفي شهيدًا يوم وقعة الجمل ستة ست وثلاثين من الهجرة في خلافة سيدنا علي رضي الله عنه.

ص: 251

‌الفصل السادس: في خصائصه

ذكر اختصاصه بالبروك يوم أحد للنبي حتى صعد على ظهره إلى صخرة

عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعان، فذهب لينهض على صخرة فلم يستطع، فبرك طلحة بن عبيد الله تحته وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهره حتى صعد على الصخرة؛ قال الزبير: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أوجب 1 طلحة". أخرجه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح، وأبو حاتم واللفظ للترمذي.

وعن طلحة رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد وحملت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهري حتى استقل، وصار على الصخرة فاستتر من المشركين، قال لي هكذا، وأومأ بيده إلى وراء ظهره: "هذا جبريل يخبرني أنه لا

1 أي: لنفسه الخير، ببروكه.

ص: 251

يراك يوم القيامة في هول، إلا أنقذك منه" أخرجه الفضائلي.

ذكر اختصاصه برفع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، حتى استوى قائما:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فكسر رباعيته1 اليمنى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهري شجه في جبهته، وأن ابن قمئة جرح وجنته، فدخلت حلقتان من حلق الدرع في وجنته، ووقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي عمل عامر ليقع المسلمون وهم لا يعلمون، فأخذ علي بيد رسول الله، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، ومص مالك بن أبي سعيد الخدري الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:"من مس دمه دمي 2 لم تمسه النار" أخرجه ابن إسحاق.

ذكر اختصاصه بحمل النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، والقتال دونه:

عن عائشة بنت طلحة قالت: لما كان يوم أحد كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم وشج وجهه، وخلاه الغشي، فجعل طلحة يحمله ويرجع القهقرى، وكلما أدركه أحد من المشركين قاتل دونه، حتى أسنده إلى الشعب. أخرجه الفضائلي.

ذكر اختصاصه بيوم أحد 3:

عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك كله يوم طلحة، قال أبو بكر: كنت أول من جاء يوم أحد، فقال لي رسول

1 السن من المفلجتين والناب، على وزن ثمانية.

2 مما اختص به صلى الله عليه وسلم طهارة دمه.

3 وما أعظم هذه المنقبة لطلحة رضي الله عنه.

ص: 252

الله صلى الله عليه وسلم ولأبي عبيدة بن الجراح: "عليكما 1 " يريد طلحة وقد نزف، فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتينا طلحة في بعض تلك الحفار، فإذا فيه بضع وسبعون أو أقل أو أكثر بين طعنة وضربة ورمية، وإذا قد قطعت أصبعه، فأصلحنا من شأنه. أخرجه صاحب الصفوة، وأخرج أبو حاتم معناه ولفظه: قال: قال أبو بكر: لما صرف الناس يوم أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أول من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت أنظر إلى رجل بين يديه يقاتل عنه ويحميه، فجعلت أقول: كن طلحة فداك أبي وأمي، مرتين؛ ثم نظرت إلى رجل خلفي كأنه طائر، فلم أنشب أن أدركني، فإذا أبو عبيدة بن الجراح فدفعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا طلحة بين يديه صريع؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"دونكم أخاكم" فأهويت إلى ما رمي به في جبهته ووجنته لأنزعه؛ قال لي أبو عبيدة: نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني. قال: فتركته، فأخذ أبو عبيدة السهم بفمه فجعل ينضنضه، ويكره أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استله بفمه؛ ثم أهويت إلى السهم الذي في وجنته لأنزعه؛ فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني. فأخذ السهم بفمه، وجعل ينضنضه، ويكره أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استله؛ وكان طلحة أشد

1 أي: ارمياه بما يصلح شأنه، وتلك العناية بطلحة منه صلى الله عليه وسلم دليل رحمته صلى الله عليه وسلم ووفائه وحسن صنيعه وتقديره، وصدق الله العظيم إذ قال لصلاح المجتمع، وحسن حال الفرد:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} .

والدنيا اليوم في حاجة ملحة إلى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هذين الخلقين العظيمين: الرحمة والوفاء، وهما من أظهر شعب الإيمان وصفات المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" رواه الإمام أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما والوفاء من حسن العهد، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إن حسن العهد من الإيمان" رواه الحاكم في مستدركه عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 253

نهكة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد1 منه، وكان قد2 أصاب طلحة بضع وثلاثون من طعنة وضربة ورمية.

"شرح" ينضنضه أي: يحركه؛ يقال بالصاد والضاد معا. ونهكة من قولهم: نهكته الحمى بالكسر تنهكه نهكا إذا أجهدته، ونهكته بالفتح نهكا، لغتان والمعنى أشد جراحة وجهدا وألما.

وعن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة بن عبيد الله شلاء؛ وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، أخرجه البخاري وأبو حاتم، واللفظ له. وعن أبي عثمان قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد. أخرجاه3.

ذكر اختصاصه بمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم جسده بيده الكريمة يوم أحد، فقام صحيحًا:

عن أبي هريرة أن طلحة لما جرح يوم أحد، مسح صلى الله عليه وسلم بيده على جسده، وقال:"اللهم اشفه وقوه" فقام صحيحًا فرجع إلى العدو. أخرجه الملاء.

ذكر اختصاصه بالمبادرة إلى تسوية رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا إلى ذلك:

عن عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وقد سقط رحله، يقول:"من يسوي رحلي وله الجنة?" فبدر طلحة بن عبيد الله فسواه حتى ركب؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا طلحة هذا جبريل يقرئكالسلام، ويقول: أنا معك في أهوال يوم القيامة حتى أنجيك منها" أخرجه الحافظ أبو القاسم الدمشقي.

1 أقوى منه.

2 بيان لسبب أن طلحة أشد نهكة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

3 يعني: البخاري ومسلم.

ص: 254

‌الفصل السابع: في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة

تقدم في باب العشرة طرف من ذلك.

وعن علي بن أبي طالب قال: سمعت أذني من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "طلحة والزبير جاراي في الجنة" أخرجه الترمذي، وقال: غريب.

وعن الزبير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد يقول: "أوجب طلحة الجنة" أخرجه البغوي في معجمه.

وعن طلحة قال: كان بيني وبين عبد الرحمن بن عوف مال، فقاسمته إياه فأراد شربا في أرضي فمنعته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكاني إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتشكو رجلا قد أوجب?" فأتاني فبشرني، فقلت: يا أخي أبلغ من المال ما تشكوني فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم? قال: قد كان ذلك؛ قال: فإني أشهد الله وأشهد رسوله صلى الله عليه وسلم أنه لك. أخرجه الفضائلي.

ص: 255

‌الفصل الثامن: في ذكر نبذ من فضائله

قال ابن قتيبة وأبو عمر وغيرهما: شهد طلحة أحدا وما بعدها. وقال الزبير بن بكار وغيره: أبلى طلحة يوم أحد بلاء حسنا، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقاه بيده فشلت، وشهد الحديبية والمشاهد1 كلها، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الستة الذين جعل عمر فيهم الشورى2 وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راضٍ، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر.

ذكر إثبات سهمه من غنيمة بدر وأجره، ولم يحضر:

عن ابن شهاب قال: لم يشهد طلحة بدرا، وقدم من الشام بعد مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سهمه3، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لك سهمك" قال: وأجري يا رسول الله? قال: "وأجرك" فلذلك كان معدودا في البدريين. أخرجه ابن إسحاق وابن الضحاك، وحكاه أبو عمر عن موسى بن عقبة قال الزبير بن بكار: كان طلحة بن عبيد الله بالشام في تجارة حين كانت وقعة بدر وكان من المهاجرين الأولين، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه، فلما قدم قال: وأجري يا رسول الله? قال: "وأجرك" أخرجه أبو عمر.

وقال الوقدي: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من المدينة إلى بدر طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى طريق الشام يتجسسان4 الأخبار، ثم رجعا إلى المدينة فقدماها يوم وقعة بدر.

1 مشاهد القتال في سبيل الله تعالى.

2 لاختيار الخليفة بعده، وكان من الستة الذين جعل عمر فيهم الشورى عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي اختير خليفة كما هو مشهور، وكان ابن عمر مع أهل الشورى في الرأي فقط، ولم يرض عمر رضي الله عنه له أن يكون خليفة لتبعات الخلافة الثقيلة، فما أرحم عمر بابنه، وهكذا يكون الآباء الرحماء حقا.

3 السهم: النصيب.

4 وتجسسهما الأخبار عون على كسب المعركة، فهو ضرب من الجهاد، فلا عجب أن عُدَّا في البدريين.

ص: 256

ذكر شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالشهادة 1:

تقدم في باب ما دون العشرة حديث: "تحرك حراء 2 " وقوله صلى الله عليه وسلم: "اثبت حراء؛ فما عليك إلا نبي أو صديق 3 أو شهيد" وكان طلحة ممن كان معه صلى الله عليه وسلم.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله" أخرجه الترمذي وقال: غريب.

ذكر شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له أنه ممن قضى نحبه:

عن موسى بن معاوية قال: دخلت على معاوية فقال: ألا أبشرك? سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طلحة ممن قضى نحبه" أخرجه الترمذي وقال: غريب.

وعن طلحة: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو? وكانوا لا يجترئون على مسألته يوقرونه ويهابونه، فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض، ثم إني طلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أين السائل عمن قضى نحبه?" قال الأعرابي: أنا يا رسول الله. قال: "هذا ممن قضى نحبه" أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب.

وعنه قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قرأ هذه الآية: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ

1 الشهادة: الموت في سبيل الله تعالى.

2 حراء وزان كتاب: جبل بمكة، يذكر ويؤنث، قاله الجوهري.

3 ملازم للصدق، وذلك الوصف من أوصاف سيدنا أبي بكر رضي الله عنه.

ص: 257

مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} 1 الآية، فقام إليه رجل، فقال:"أيها السائل، هذا منهم" أخرجه في الصفوة.

وعن جابر رضي الله عنه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طلحة فقال: "من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي على وجه الأرض وقد قضى نحبه، فلينظر إلى وجه طلحة بن عبيد الله" أخرجه الملاء.

"شرح" نحبه: نذره، كأنه ألزم نفسه أن يموت على وصف فوفى به، هذا أصله؛ لأن النحب النذر، تقول: نحبت أنحب بالضم، والنحب: الوقت والمدة، يقال: فلان قضى نحبه أي: مدته فمات، والمعنى: أن طلحة التزم أن يصدق الله في الحرب لأعدائه فوفى له ولم يفسخ، وتناحب القوم: إذا تواعدوا للقتال أو غيره، وناحبت الرجل: فاخرته أيضًا، ومنه حديث طلحة أنه قال لابن عباس: هل لك أن أناحبك ونرفع النبي صلى الله عليه وسلم? أي: أفاخرك ونرفع النبي صلى الله عليه وسلم من رأس الأمر، لا تذكره في فضائلك وقرابتك منه. ذكره الهروي.

ذكر شهادته صلى الله عليه وسلم بالمغفرة له، وإثبات اسمه في ديوان المقربين:

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلحة بن عبيد الله: "أبشر يا أبا محمد، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وقد أثبت اسمك في ديوان المقربين" أخرجه الملاء.

ذكر أنه في حفظ الله عز وجل وفي نظره:

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلحة: "أنت في حفظ الله، ونظره إلى أن تلحق به" أخرجه الملاء.

1 سورة الأحزاب الآية 23.

ص: 258

ذكر أنه سلف 1 النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة:

عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلحة بن عبيد الله: "أنت سلفي في الدنيا، وأنت سلفي في الآخرة" أخرجه الملاء في سيرته، وذلك أن طلحة تزوج حمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأمهما أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر أنه حواري النبي صلى الله عليه وسلم:

عن زيد بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لطلحة والزبير: "أنتما حوارياي كحواريي عيسى ابن مريم" أخرجه الحافظ الدمشقي والبغوي في معجمه.

"شرح" الحواري: الناصر، والحواريون: أنصار عيسى عليه السلام ومنه قول الأعور الكلابي:

ولكنه ألقى زمام قلوصه2

ليحيي كريمًا أو يموت حواريا

قال يونس بن حبيب: الحواري: الخالصة، وقيل: إن أصحاب عيسى إنما سموا حواريين؛ لأنهم كانوا يغسلون الثياب ويخلصونها من الأوساخ، ويحورونها أي: يبيضونها، والتحوير: التبييض، والحور: البياض، وقال محمد بن السائب: الحواري: الخليل، وقال معمر عن قتادة: الحواريون كلهم من قريش: أبو بكر وعمر وعلي وعثمان وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير. وعن قتادة أيضًا أنه قال: الحواريون الذين تصلح

1 السلف: هو المعروف بالعديل الآن.

2 ناقته.

ص: 259

لهم الخلافة. ذكره جميعه أبو بكر، وذكر الهروي طائفة منهم، وكذلك الجوهري.

ذكر إثبات الرجاء بأنه ممن قال الله تعالى فيه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} :

عن علي عليه السلام أنه قال: إني والله لأرجو1 أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله تعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} 1 أخرجه أبو عمر.

وعن أبي حبيبة عن مولى طلحة قال: دخلت على علي مع عمران بن طلحة بعدما فرغ من أصحاب الجمل، فرحب به وأدناه، وقال: إني لأرجو أن يجعلني وأباك من الذين قال الله تعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ

} الآية وقال: يابن أخي كيف فلان? وكيف فلان? وسأله عن أمهات أولاد ابنه، ثم قال: لم نقبض أرضكم هذه إلا مخافة أن ينهبها الناس. يا فلان، انطلق به إلى ابن قرطة مرة فليعطه غلته وليدفع إليه أرضه، فقال رجلان جالسان ناحية أحدهما الحارث الأعور: الله أعدل من ذلك أن يقتلهم ويكونوا إخواننا في الجنة. فقال: قوما، وأبعدهما وأسحقهما، فمن هو إذا لم أكن أنا وطلحة أخوين? يابن أخي إذا كان لك حاجة فأتنا. أخرجه الفضائلي الرازي.

"شرح" أسحقهما: أبعدهما، ومنه:{فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي: بعيد، وكرر لاختلاف اللفظ، والسحق بالضم: البعد، تقول: سحقًا له، ومنه

1 ومن أراد أن يكون ممن قال الله تعالى فيهم هذا القول الكريم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} فليقتد بأولئك المذكورين في سيرهم وسلوكهم، وروى ابن ماجه بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال:"كل مخموم القلب، صدوق اللسان" قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال:"التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد".

ص: 260

الحديث: "فأقول: سحقًا سحقًا" والسحق بضم الحاء لغة فيه، نحو: عسر وعسر، وسحق الشيء: بعده وأسحقه الله: أبعده.

ذكر جوده 1 وسماحة نفسه، وكثرة عطائه وصلة رحمه:

عن سعدى بنت عوف امرأة طلحة قالت: لقد تصدق طلحة يومًا بمائة ألف.

وعنها قالت: دخل علي طلحة فرأيته مغمومًا، فقلت: ما شأنك? قال: المال الذي عندي قد كثر وأكربني، فقلت: وما عليك? اقسمه، فقسمه حتى ما بقي منه درهم؛ قال طلحة بن يحيى: فقلت لخازن طلحة: كم كان المال? قال: أربعمائة ألف.

وعن الحسن قال: باع طلحة أرضًا له بسبعمائة ألف، فبات أرقًا من مخافة ذلك المال، حتى أصبح ففرقه.

"شرح" الأرق: السهر، وأرقت بالكسر: سهرت، وكذلك ايترقت على افتعلت فأنا أرق؛ وأرقني كذا تأريقا أي: أسهرني.

وعنه أن طلحة باع أرضًا من عثمان بسبعمائة ألف فحملها إليه، فلما جاء بها قال: إن رجلا تبيت هذه عنده في بيته -لا يدري ما يطرقه من أمر الله- لغرير بالله، فبات ورسله تختلف في سكك المدينة حتى أسحر وما عنده منها درهم. أخرجهن صاحب الصفوة.

"شرح" غرير أي: مغرور؛ فعيل بمعنى مفعول كقتيل وطريح، وأسحر أي: دخل في السحر.

1 وبالنظر إلى ما تضمنه هذا الباب، قلت في ختام مدح له رضي الله عنه وأرضاه:

عليك رضا الرحمن يا طلحة الندي

ولا زلت بين الأكرمين إماما

ص: 261

وعن جابر رضي الله عنه قال: صحبت طلحة، فما رأيت رجلًا أعطى لجزيل مال عن غير مسألة منه.

وعن علي بن زيد قال: جاء أعرابي إلى طلحة يسأله ويتقرب إليه برحم فقال: إن هذه لرحم ما سألني بها أحد قبلك، إن لي أرضًا أعطاني بها عثمان ثلاثمائة ألف؛ فإن شئت فاغدُ فاقبضها، وإن شئت بعتها من عثمان، ودفعت إليك الثمن فقال الأعرابي: الثمن. فباعها من عثمان، ودفع إليه الثمن.

وعن بعض ولد طلحة قال: لبس طلحة رداءً نفيسًا، فبينا هو يسير إذا رجل قد استله، فقام الناس فأخذوه منه، فقال طلحة: ردوه عليه، فلما رآه الرجل خجل ورمى به إلى طلحة، فقال طلحة: خذه بارك الله لك فيه؛ إني لأستحي من الله أن يؤمل في أحد أملا فأخيب أمله.

وعن محمد بن إبراهيم قال: كان طلحة يغل بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف، ويغل بالشراة عشرة آلاف دينار أو أكثر أو أقل، وكان لا يدع أحدًا من بني تيم عائلًا إلا كفى مئونة عياله، ويزوج أياماهم ويخدم عائلهم ويقضي دين غارمهم، وكان يرسل إلى عائشة إذا جاءت غلته كل سنة عشرة آلاف، ولقد قضى عن صبيحة ثلاثين ألف درهم. أخرج الأربعة الفضائلي.

"شرح" العائل: الفقير ومنه: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي: فقرًا والأيامى: جمع أيم وهي التي لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا، ويقال للذي لا زوجة له: أيم أيضا. قال أبو عبيد: يقال: رجل أيم وامرأة أيم؛ ولا يقال: أيمة، والغارم: المديون1.

وعن الزبير بن بكار أنه سمع سفيان بن عيينة يقول: كانت غلة طلحة

1 يقال في المقترض: مديون، ومدين.

ص: 262

ابن عبيد الله كل يوم ألفًا وافيًا، قال: والوافي وزنه وزن الدينار وقال: وعلى ذلك وزن دراهم فارس التي تعرف بالبغلية.

وسمع علي عليه السلام رجلًا ينشد:

فتى كان يدنيه الغنى من صديقه

إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر

قال: ذلك أبو محمد طلحة.

ذكر أنه كان من خطباء الصحابة:

عن ابن مسعود رضي الله عنه أن عمر شاور الناس في الزحف إلى قتال ملوك فارس التي اجتمعت بنهاوند، فقام طلحة بن عبيد الله وكان من خطباء الصحابة، فتشهد ثم قال: أما بعد يا أمير المؤمنين، فقد أحكمتك الأمور، وعجنتك البلايا، وأحنكتك التجارب، فأنت وشأنك، وأنت ورأيك، إليك هذا الأمر، فمرنا نطع، وادعُنا نُجِب، واحملنا نركب، وقدنا ننقد، فإنك ولي هذه الأمور، وقد بلوت واختبرت فلم ينكشف لك عن شيء من عواقب قضاء الله عز وجل إلا عن خيار، ثم جلس. أخرجه في فضائل عمر.

ذكر ثناء ابن عباس عليه، وعلى الزبير:

عن ابن عباس -وقد سئل عن طلحة والزبير- فقال: رحمة الله عليهما، كانا والله مسلمين مؤمنين بارين، تقيين خيرين فاضلين طاهرين، زلالتين والله غافر لهما؛ للصحبة القديمة والعشرة الكريمة والأفعال الجميلة، فأعقب الله من يبغضهما بسوء الغفلة إلى يوم الحشر. أخرجه الأصبهاني.

وقد تقدم في مناقب علي عليه السلام عن سعد بن أبي وقاص وعن سعيد بن المسيب ما يدل على الحث على محبتهما، والزجر عن بغضهما.

ص: 263

‌الفصل التاسع: في مقتله وما يتعلق بذلك

، ذكر كيفية قتله وسببه ومن قتله

كان رضي الله عنه حربا لعلي -رضى الله عنه- وزعم بعضهم أن عليا دعاه فذكره أشياء من سوابقه وفضله، فخرج طلحة عن قتله واعتزل في بعض الصفوف، فجاءه سهم عزب، فقطع من رجله عرق النسا، فلم يزل دمه ينزف منه حتى مات. ويقال: إن السهم أصاب ثغرة نحره، فقال: بسم الله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} 1.

"شرح" سهم عزب بفتح الزاي: هو الذي لا يعرف راميه، قاله الأزهري. وعن أبي زيد: يقال: أصابه سهم عزب، بإسكانها إذا أتاه من حيث لا يدري، وبفتحها إذا رمى غيره فأصابه، والنسا بالفتح والقصر: عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذين ثم يمر بالعروق حتى يبلغ الحافر، فإذا سمنت الدابة انفلت فخذاها بلحمتين عظيمتين ويجري النسا بينهما ويستبين، وإذا هزلت الدابة اضطرب الفخذان وخفي النسا، وثغرة النحر بالضم: النقرة التي بين الترقوتين.

قال الأحنف بن قيس: لما التقوا كان أول قتيل طلحة، والمشهور أن مروان بن الحكم هو الذي قتله، رماه بسهم؛ وقال: لا أطلب بثأري بعد اليوم؛ وذلك أن طلحة زعموا أنه كان ممن حاصر عثمان واشتد عليه.

وعن يحيى بن سعيد قال: قال طلحة يوم الجمل:

ندمت ندامة الكسعي لما

شريت رضى بني حزم برغمي

1 سورة الأحزاب الآية 38.

ص: 264

اللهم خذ مني لعثمان حتى ترضى؛ فرماه مروان بن الحكم بسهم في ركبته فجعل الدم يسيل، فإذا أمسكوا فم الجرح انتفخت ركبته، فقال: دعوه فإنما هو سهم أرسله الله تعالى. قال: فمات، فدفناه على شاطئ الكلأ فرأى بعض أهله أنه أتاه في المنام فقال: ألا تريحونني من هذا الماء، فإني قد غرقت? ثلاث مرات يقولها، قال: فنبشوه، فإذا هو أخضر كأنه السلق فنزحوا عنه الماء، ثم استخرجوه فإذا ما يلي الأرض من لحيته ووجهه قد أكله الأرض، فاشتروا له دارا من دور بني بكرة بعشرة آلاف، فدفنوه فيها. أخرجه أبو عمر؛ وأخرج بعضه ابن قتيبة وصاحب الصفوة.

وذكر أبو عمر من طريق آخر أن مروان بن الحكم رماه بسهم في فخذه، فشكه بسرجه، فانتزع السهم، وكان إذا أمسك الجرح انتفخ الفخذ وإذا أرسلوه سال. فقال طلحة: دعوه، فإنه سهم من سهام الله أرسله، فمات ودفن، فرآه مولى له ثلاث ليال في المنام كأنه يشكو إليه البرد، فنبش عنه فوجد ما يلي الأرض من جسده مخضرا وقد تحاص شعره، فاشتروا له دارا، وذكر ما تقدم.

وعن المثنى بن سعد قال: لما قدمت عائشة بنت طلحة أتاها رجل، فقال: أنت عائشة بنت طلحة? قالت: نعم قال: إني رأيت طلحة في المنام، فقال: قل لعائشة حتى تحولني من هذا المكان فإن البرد قد آذاني، فركبت في مواليها وحشمها فضربوا عليه بيتا، واستثاروه فلم يتغير منه إلا شعرات في أحد شقي لحيته -أو قال: رأسه- حتى حول إلى هذا الموضع، وكان بينهما بضع وثلاثون سنة. أخرجه ابن قتيبة والفضائلي.

"شرح" قوله: ندمت ندامة الكسعي: البيت، هكذا رواه أبو عمر والمشهور:

ص: 265

ندمت ندامة الكسعي1 لما

رأت عيناه ما صنعت يداه

وهو رجل كان ربى نبعة، وهو شجر ينبت في الصخر، واتخذ منها قوسا فرمى به الوحش ليلا فأصاب وظن أنه أخطأ، فكسر القوس، فلما أصبح رأى ما أصمى من الصيد، فندم، فقال الشاعر:

ندمت ندامة الكسعي

البيت

وقوله: برغمي: في الرغم ثلاث لغات ضم الراء وفتحها وكسرها، تقول: رغم أنفي لله بكسر الغين وفتحها رغمًا ورغمًا، إذا انقدت على كره من نفسك، وفعلت ذلك على الرغم من أنفه ورغم فلان بالفتح: إذا لم يقدر على الانتصاف، وأصله من الرغام بالفتح وهو التراب، يقال: أرغم الله أنفه أي: ألصقه بالرغام، فكأن الفاعل للشيء على كره ملصق أنفه بالرغام لما اتصف به من إذلال نفسه، والشاطئ: الجانب وكذلك الشطء، وتحاص شعره أي: سقط، ورجل أحص بين الحصص: قليل الشعر.

ذكر تاريخ مقتله:

قتل رضي الله عنه يوم الجمل، وكان يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين.

ذكر سنه يوم قتل:

وكان له يوم قتل ستون سنة، وقيل: اثنتان وستون، وقيل: أربع

1 رجل يضرب به المثل عند الندم، واسمه كما ذكر صاحب القاموس: غامد بن الحارث الكسعي، الذي اتخذ قوسا وخمسة أسهم، وكمن في فترة -في ناحية- فمر قطيع، فرمى عيرًا أي حمارًا، وغلب على الوحشي، فأمخطه -أي أنفذه- السهم، وصدم الجبل، فأورى نارا، فظن أنه أخطأ، فرمى ثانيا، وثالثا إلى آخرها، وهو يظن خطأه، فعمد إلى قوسه فكسرها ثم بات، فلما أصبح نظر، فإذا الحمر مطرحة مصرعة وأسهمه بالدم مضرجة، فندم فقطع إبهامه، وأنشد:

ندمت ندامة لو أن نفسي

تطاوعني إذًا لقطعت خمسي

تبين لي سفاه الرأي مني

لعمر أبيك حين كسرت قوسي

ص: 266

وستون، وقيل غير ذلك. أخرجه ابن قتيبة وأبو عمر وغيرهما.

ذكر ما روي عن علي عليه السلام من القول عند موت طلحة:

عن طلحة بن معروف أن عليا انتهى إلى طلحة وقد مات، فنزل عن دابته وأجلسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه ولحيته وهو يترحم عليه ويقول: ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. أخرجه الفضائلي.

ص: 267

‌الفصل العاشر: في ذكر ولده

وكان له أربعة عشر ولدا؛ عشرة بنين وأربع بنات.

ذكر البنين:

"محمد" وهو السجاد، سمي بذلك لكثرة عبادته، ولد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسموه محمدًا وكنوه أبا القاسم، فقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم سماه محمدًا وكناه أبا سليمان، وقال:"لا أجمع له بين اسمي وكنيتي" أخرجه الدارقطني، قتل مع أبيه يوم الجمل، وله عقب؛ وكان علي ينهى عنه ويقول: إياكم وصاحب البرنس، فقتله رجل وأنشأ يقول:

وأشعث قوام بآيات ربه

قليل الأذى فيما ترى العين مسلم

أمكنه بالرمح حضني مقبلًا

فخر صريعًا لليدين وللفم

على غير شيء غير أن ليس تابعًا

عليا ومن لا يتبع الحق يظلم

يناشدني حم والرمح شاجر

فهلا تلاحم قبل التقدم

"شرح" الحضن: ما دون الإبط إلى الكشح، وحضنا الشيء: جانباه ونواحي كل شيء: أحضانه، شاجر أي: ملابس له، وتشاجر القوم: تطاعنوا، وتشاجروا: تنازعوا، وشجر الأمر بينهم: اختلف.

ص: 267

وروي أن عليا مر به قتيلا فقال: هذا السجاد، قتله1 بره بأبيه، ذكره الدارقطني. وهو وعمران بن طلحة: أمهما حمنة بنت جحش، أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عقب له، وأختهما لأمهما زينب بنت مصعب بن عمير العبدري. قاله الدارقطني، وذكر أن عمران هذا هو الذي قدم على علي بعد الجمل، وسأله أن يرد عليه أموال أبيه، فقربه وترحم على أبيه، وقال: لم نقبض أموالكم إلا لتحفظ عليكم، ثم أمر بتسليمها وتسليم جميع ما استغل منها إليه و"عيسى بن طلحة" وكان ناسكا له عقب، ويحيى وكان من خيار ولده، وله عقب، أمهما سعدى بنت عوف المرية، أخوهما لأمهما المغيرة بن عبد الرحمن بن هشام بن عبد الله بن المغيرة؛ وإسماعيل، وإسحاق، وله عقب، ويعقوب وكان جوادا ممدحا قاله الدارقطني. قتل يوم الحرة، وله عقب، أمهم أم أبان بنت عتبة بن ربيعة وهم بنو خالة معاوية بن أبي سفيان قاله الدارقطني، وموسى: من خيارهم أيضًا، وله نبل وقدر، ووجهه عبد الملك بن مروان إلى شبيب فقتله شبيب بالكوفة، وله عقب، أمه خولة بنت القعقاع بن معبد بن زرارة، أخوه لأمه محمد بن أبي جهم بن حذيفة العدوي قاله الدارقطني؛ وزكريا، ويوسف أمهما: أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وإخوتهما لأمهما عمار وإبراهيم وموسى بنو عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي؛ وصالح، أمه الفرعة التغلبية.

ذكر الإناث:

"عائشة" شقيقة زكريا ويوسف، وتزوجها مصعب بن الزبير بن العوام بعد أن كانت حلفت2: إن تزوجته فهو عليَّ كظهر أمي، فأمرت

1 ويا له من مثل أعلى تحيا به في النفس عاطفة البر بالأب، وبر الأم أعظم.

2 ذكر الإمام ابن العربي في أحكام القرآن أن التحليل والتحريم في النكاح بيد الرجل وأن هذا إجماع، فالظهار بيد الرجل، وليس للمرأة ظهار كما أنها ليس لها طلاق، فإنه لمن أخذ بالساق.

ص: 268

بكفارة الظهار، فكفرت ثم تزوجته، وأم إسحاق تزوجها الحسن بن علي و"الصعبة" أمها أم ولد وذكر الدارقطني أن أم أم إسحاق أم الحارث الجرباء بنت قسامة بن حنظلة الطائية، و"مريم" أمها أم ولد. وذكر ذلك كله ابن قتيبة وصاحب الصفوة، وذكره الدارقطني، غير أنه ذكر في أولاده "صالحا" و"عثمان" ولم يثبت ذلك.

ص: 269

‌الباب السادس: في مناقب الزبير بن العوام

‌الفصل الأول: في نسبه

الباب السادس: في مناقب الزبير بن العوام

وفيه عشرة فصول على نحو من فصول طلحة

الفصل الأول: في نسبه

وقد تقدم ذكر آبائه في باب العشرة في ذكر الشجرة، يجتمع نسبه ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصي بن كلاب، وينسب إلى أسد بن عبد العزى بن قصي، فيقال: القرشي الأسدي، أمه صفية بنت عبد المطلب، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت وهاجرت، والنبي صلى الله عليه وسلم ابن خاله.

وعن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال له: يا بني، كانت عندي أمك1 وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم خالتك عائشة، وبيني وبينه من الرحم والقرابة ما قد علمت، وعمة أبي أم حبيبة بنت أسد جدته وأمي عمته، وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف، وجدتي هالة بنت وهب بن عبد مناف، وزوجته خديجة بنت خويلد عمتي. أخرجه البغوي في معجمه.

1 أسماء بنت أبي بكر.

ص: 271

‌الفصل الثاني: في اسمه

ولم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام الزبير، ويكنى أبا عبد الله.

ص: 272

‌الفصل الثالث: في صفته

قال الواقدي: كان الزبير ليس بالطويل ولا بالقصير، إلى الخفة، ما هو خفيف اللحية، أسمر اللون، أشعر، وكان لا يغير1 شيبه.

وعن هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير كان طويلا، تخط رجلاه في الأرض إذا ركب الدابة، أزرق، أشعر، وربما أخذت وأنا غلام شعر كنفيه حين أقوم. ذكره ابن قتيبة والبغوي في معجمه وصاحب الصفوة.

1 ارتياحًا منه لنور الشيب.

ص: 272

‌الفصل الرابع: في إسلامه، وسنه يوم أسلم

عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن أنه بلغه أن عليا والزبير أسلما، وهما ابنا ثماني سنين.

وعن عروة قال: أسلم الزبير وهو ابن ست عشرة سنة. أخرجه أبو عمر والبغوي.

قال أبو عمر: وقول عروة أصح من قول أبي الأسود.

وقد روي من طريق آخر عن عروة أن الزبير أسلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة. أخرجه أبو عمر.

وعن أبي الأسود قال: أسلم الزبير بعد أبي بكر رابعا أو خامسا،

وعنه لما أسلم الزبير كان عمه يعلقه في حصير ويدخن عليه بالنار، ويقول له: ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبدًا. أخرجهما في الصفوة.

وأسلم أخواه1 شقيقاه السائب وأم حبيب ابنا العوام وأمهما صفية، وأسلم أخواه لأبيه عبد الرحمن وزينب ابنا العوام: أمهما أم الخير أميمة بنت مالك بن عميلة بن السباق بن عبد الدار بن قصي ولهم إخوة عدد لهم يوقف على إسلامهم وهم: مالك والحارث وصفوان وعبيد الله وبعكل وملك وأصرم وأسد الله وبجير والأسود ومرة وبلال، ومنهم من قتل كافرًا ذكر ذلك الدارقطني، وذكر أن السائب جاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم واستعمله أبو بكر وقتل يوم اليمامة شهيدًا ولا عقب له ولا رواية، وأن عبد الرحمن بن العوام كان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن؛ وحسن إسلامه، واستشهد يوم اليرموك ولم يسند شيئا، وأم حبيب تزوجها خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام فولدت له أم حسين بنت خالد، وزينب بنت العوام تزوجها حكيم بن حزام، فولدت له عبد الله وخالدًا ويحيى وأم شيبة وفاختة بنت حكيم بن حزام، ولا رواية لها ولا لأختها.

1 أخوه وأخته، ففي التثنية تغليب الذكر على الأنثى.

ص: 273

‌الفصل الخامس: في هجرته

عن أبي الأسود قال: أسلم الزبير وهو ابن ثماني سنين وهاجر وهو ابن ثماني عشرة سنة. ذكره صاحب الصفوة وذكر الدارقطني أنه هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وأنه من المهاجرين الأولين.

ص: 274

‌الفصل السادس: في خصائصه

ذكر اختصاصه بأنه أول من سل سيفًا في سبيل الله عز وجل ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لسيفه:

عن سعيد بن المسيب قال: كان الزبير أول من سل سيفا في سبيل الله عز وجل فدعا النبي صلى الله عليه وسلم له بخير.

وعن هشام بن عروة عن أبيه: أن أول رجل سل سيفه في سبيل الله عز وجل الزبير، وذلك أنه نفحت نفحة من الشيطان وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل الزبير يشق الناس بسيفه والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما لك يا زبير?" فقال: أخبرت بأنك أخذت. قال: فصلى عليه ودعا لسيفه. أخرجه أبو عمر، وأخرج الفضائلي معناه عن سعيد بن المسيب، ولفظه: بينا الزبير بمكة إذ سمع نغمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ، فخرج عريانا ما عليه شيء، بيده السيف مصلتا، فتلقاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ما لك يا زبير?" قال: سمعت أنك قد قتلت قال: "فما كنت صانعا?" قال: أردت والله أن أستعرض أهل مكة، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه صاحب الصفوة كذلك وأخرجه الملاء وزاد بعد قوله "أستعرض أهل مكة": وأجري دماءهم كالنهر، لا أترك أحدًا منهم إلا قتلته حتى أقتلهم عن آخرهم. قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وخلع رداءه وألبسه، فنزل جبريل وقال:"إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: أقرئ مني على الزبير السلام، وبشره أن الله أعطاه ثواب كل من سل سيفا في سبيل الله منذ بعثت إلى أن تقوم الساعة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا؛ لأنه أول من سل سيفا في سبيل الله عز وجل".

ص: 274

"شرح" نفحت نفحة: يجوز أن يكون من نفحت الريح إذا هبت، أو من نفح العرق ينفح إذا نزل منه الدم، أو من نفحت الناقة: ضربت برجلها، ونفحه بالسيف: تناوله من بعيد كل هذا يناسبه نفحة الشيطان؛ ويقال: نفح الطيب ينفح إذا فاح، وله نفحة طيبة، ولا يزال لفلان نفحات من المعروف، ونفحة من العذاب: قطعة منه، ونغمة: كلام خفي، يقال منه: نغم ينغم وينغم نغما، وفلان حسن النغمة إذا كان حسن الصوت، مصلتًا: مجردًا وأصلت سيفه: إذا جرده من غمده فهو مصلت بفتح اللام، أستعرض أهل مكة أي: أقتل من جانب، ولا أسأل عن واحد من العرض الجانب، يقال للخارجي: إنه يستعرض الناس أي: يقتلهم ولا يسأل عن مسلم ولا كافر.

ذكر اختصاصه بأنه حواري النبي صلى الله عليه وسلم:

عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حواريًّا، وحواريي الزبير" أخرجه البخاري والترمذي ومسلم بزيادة ولفظه: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فندب الزبير ثم ندبهم، فانتدب الزبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لكل نبي حواري، وحواريي الزبير" وأخرجه الترمذي عن علي بن أبي طالب وقال: حسن صحيح. وأخرجه أحمد عن عبد الله بن الزبير بزيادة ولفظه: "لكل نبي حواري والزبير حواريي وابن عمتي" وأخرجه أبو معاوية ولفظه: "الزبير ابن عمتي، وحواريي من أمتي".

وسمع ابن عمر رجلا يقول: أنا ابن الحواري، فقال: إن كنت ابن الزبير وإلا فلا. أخرجه أبو عمر.

"شرح" الحواري تقدم شرحه في فضائل طلحة، وندب أي: دعا، فانتدب أي: أجاب.

ص: 275

ذكر اختصاصه بنزول الملائكة يوم بدر، عليها عمائم على لون عمامة الزبير:

عن هشام بن عروة عن عبادة بن حمزة بن الزبير قال: كانت على الزبير عمامة صفراء، معتجرًا بها يوم بدر، ونزلت الملائكة عليها عمائم صفراء يوم بدر. أخرجه أبو عمر.

وروي أنه كان يوم بدر على الميمنة وعليه ريطة صفراء، فنزلت الملائكة على سيماه. أخرجه أبو الفرج في مشكل الصحيحين.

"شرح" الاعتجار: لفّ العمامة على الرأس، والمعجر: ما تشده المرأة على رأسها، يقال: اعتجرت المرأة بالمعجر، والمعجرة بالكسر: نوع من العمة، يقال: فلان حسن المعجرة. والريطة: الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ولم تكن لفقين، والسيما: العلامة. ويجوز أن يكون والله أعلم إنما نزلت على سيماه؛ لأنه أول حربها فنزلت على سيما أول محارب لله عز وجل وفي سبيله، وقد تقدم ذلك في هذا الفصل.

ذكر اختصاصه بالقتال بعنزة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر:

عن الزبير رضي الله عنه قال: لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجج لا يرى منه إلا عيناه، وكان يكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه بالعنزة، فطعنته في عينه فمات، قال هشام بن عروة: فأخبرت أن الزبير قال: لقد وضعت رجلي عليه، ثم تمطيت، وكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفها، قال عروة: فسأله إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياها، فلما قبض صلى الله عليه وسلم أخذها، فطلبها أبو بكر فأعطاه إياها، فلما قبض أخذها، ثم سألها عمر فأعطاه إياها، فلما قبض عمر أخذها، ثم سألها عثمان فأعطاه إياها، فلما قتل وقعت

ص: 276

إلى آل علي فطلبها عبد الله بن الزبير، فكانت عنده حتى قتل. أخرجه البخاري.

"شرح" قوله: مدجج: يروى بكسر الجيم وفتحها أي: عليه سلاح تامّ، فسمي به لأنه يدج أي: يمشي رويدًا لثقله بالسلاح، وقيل: لأنه يتغطى به من دججت السماء: إذا تغيمت. وقوله: تمطيت أي: تمددت، ومددت مطاي، المطا: الظهر.

ذكر اختصاصه بجمع النبي صلى الله عليه وسلم له أبويه يفديه بهما يوم الأحزاب:

عن عبد الله بن الزبير قال: كنت عند الأحزاب أنا وعمر بن أبي سلمة مع النساء في أطم حسان، فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثا، فلما رجعت قلت: يا أبة، رأيتك تختلف، فقال: رأيتني يا بني? قلت: نعم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم?" فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال:"فداك أبي وأمي" أخرجاه وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن.

وهذا القول لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله يوم الأحزاب لغيره.

وأخرج أحمد عنه قال: جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد. والمشهور في ذلك يوم أحد أنه كان لسعد، وسيأتي في خصائصه، ويحتمل أن يكون جمعهما لهما، واشتهر في سعد لكثرة ترديد القول له بذلك.

وقد روي عنه أنه قال: جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه مرتين، في أحد وفي قريظة.

"شرح" أطم حسان أي: حصنه، تضم وتسكن؛ والجمع آطام، والأجم مثله.

ص: 277

ذكر اختصاصه بالقتال مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة:

عن عمر بن مصعب بن الزبير قال: قاتل الزبير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وكان يحمل على القوم ويقول له: ههنا بأبي أنت وأمي، ههنا بأبي أنت وأمي. أخرجه البغوي في معجمه، وصاحب الصفوة ولم يقل: بأبي وأمي.

ذكر اختصاصه بمرافقة النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفد الجن:

عن الزبير بن العوام قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح في مسجد المدينة، فلما انصرف قال:"أيكم يتبعني إلى وافد الجن الليلة?" فأسكت القوم فلم يتكلم منهم أحد، قال ذلك ثلاثًا، فلم يتكلم منهم أحد، فمر بي يمشي وأخذ بيدي، فجعلت أمشي معه وما أجد من مس، حتى خنس عنا نخل المدينة كله وأفضينا إلى أرض بوار، فإذ رجال طوال كأنهم رماح مستثفرو ثيابهم بين أرجلهم فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة حتى ما تمسكني رجلاي من الفرق، فلما دنونا منهم خط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجله في الأرض خطا وقال لي:"اقعد في وسطها" فلما جلست فيها ذهب كل شيء كنت أجده، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا عليهم القرآن حتى طلع الفجر، ثم أقبل حتى مر بي، فقال:"الحق" فجعلت أمشي معه، فمضينا غير بعيد فقال لي:"التفت فانظر هل ترى حيث كان أولئك من أحد?" فقلت: يا رسول الله أرى سوادًا كثيرًا، قال: فخفض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الأرض، وأخذ بروثة ثم رمى بها إليهم، وقال:"رشد أولئك من وفد قوم" أخرجه ابن الضحاك في الآحاد والمثاني.

ص: 278

ذكر اختصاصه بكسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة:

عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارًا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابًا بيضاء. أخرجه الحميدي في جامعه من الصحيحين.

ذكر اختصاصه بنزول قرآن بسببه:

عن عبد الله بن الزبير أن رجلًا خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال للأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه فاحتكموا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير:"اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك" فغضب الأنصاري فقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك? فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:"يا زبير، اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر" فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم} 1 الآية، أخرجاه، وعند البخاري: فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حينئذ حقه.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} 2 الآية، وذلك أن خبيبًا أخرجه المشركون ليقتلوه فقال: دعوني حتى أصلي ركعتين، فتركوه حتى صلى ركعتين، ثم قال: لولا أن يقولوا: جزع لزدت، وأنشأ يقول:

ولست أبالي حين أقتل مسلما

على أي جنب كان في الله مصرعي

فصلبوه حيا، فقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس حوالي أحد يبلغ رسولك مقامي، فأبلغه سلامي، ثم رموه بسهم وطعنوه برمح، فبلغ

1 سورة النساء الآية 65.

2 سورة البقرة الآية 207.

ص: 279

النبي صلى الله عليه وسلم خبره فقال: "أيكم يحتمل خبيبًا من خشبته وله الجنة?" فقال الزبير: أنا وصاحبي المقداد. فخرجا يسيران الليل والنهار حتى وافيا المكان، فإذا حول الخشبة أربعون رجلا نياما، وإذا هو رطب لم يتغير منه شيء بعد أربعين يوما، فحمله الزبير على فرسه وسار فلحقه سبعون منهم، فقذف خبيبًا فابتلعته الأرض، وقال: ما جرأكم علينا يا معشر قريش? ثم رفع العمامة عن رأسه، وقال: أنا الزبير بن العوام، وأمي صفية بنت عبد المطلب، وصاحبي المقداد الأسود، أسدان رابضان، إن شئتم ناضلتم وإن شئتم نازلتم، وإن شئتم انصرفتم فانصرفوا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل فقال: يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك، ونزل قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} هذا أحد خمسة أقوال في سبب نزولها، وهو قول ابن عباس والضحاك. الثاني: نزلت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وروي عن علي وعمر. الثالث: في صهيب الرومي. الرابع: في المهاجرين والأنصار، قاله قتادة. الخامس: في المهاجرين خاصة، قاله الحسن.

وقوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} نزلت في سبعين منهم أبو بكر والزبير، وقد سبق ذكر ذلك. أخرجه أبو الفرج في أسباب النزول.

ص: 280

‌الفصل السابع: في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة

وقد تقدم ذلك في باب العشرة من حديث عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد، وتقدم في فصل الشهادة لطلحة بالجنة قوله صلى الله عليه وسلم:"طلحة والزبير جاران في الجنة".

ص: 280

‌الفصل الثامن: في ذكر نبذ من فضائله

قال أبو عمر وغيره: شهد الزبير بدرًا والحديبية والمشاهد كلها، لم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى الذين قال عمر فيهم: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وهاجر الهجرتين1، وفيه يقول حسان بن ثابت:

أقام على عهد النبي وهديه

حواريه والقول بالفعل يعدل

أقام على منهاجه وطريقه

يوالي ولي الحق والحق أعدل

هو الفارس المشهور والبطل الذي

يصول إذا ما كان يوم محجل

له من رسول الله قربى قريبة

ومن نصرة الإسلام مجد مؤثل

فكم كربة ذب الزبير بسيفه

عن المصطفى والله يعطي ويجزل

إذا كشفت عن ساقها الحرب هشَّها

بأبيض سباق إلى الموت يرقل

فما مثله فيهم ولا كان قبله

وليس يكون الدهر ما دام يذبل

ثناؤك خير من فعال معاشر

وفعلك يابن الهاشمية أفضل

"شرح" الهدي بفتح الهاء وإسكان الدال: السيرة، يقول: ما أحسن هديه أي: سيرته، والحواري: تقدم تفسيره، مؤثل أي: مؤصل والتأثيل والتأصيل بمعنًى، يقال: مجد أثيل أي: أصيل، وكشفت الحرب عن ساقها أي: اشتدت، ومنه:{يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أي: عن شدة، وكذلك قامت على ساق، هشها لعله من الهش: الجمع والكسب، والهياشة مثل الحياشة، وهو ما جمع من المال واللباس فكأنه يجمع الناس ويكشفهم بسيفه، والأبيض: السيف والجمع: البيض، والإرقال: ضرب من السير نحو الخبب، ويذبل: اسم جبل.

ذكر شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالشهادة:

تقدم حديث هذا الذكر بطرقه في باب ما دون العشرة وهو حديث

1 الهجرة إلى الحبشة، والهجرة إلى المدينة المنورة.

ص: 281

تحرك حراء، وقوله صلى الله عليه وسلم:"اثبت؛ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" خرجه مسلم.

وخرج صاحب الكوكب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض، فلينظر إلى الزبير" وعلم عليه بعلامة ابن أبي شيبة.

ذكر شهادة عمر أنه ركن من أركان الإسلام:

عن سطيع بن الأسود قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: الزبير ركن من أركان الإسلام. أخرجه ابن السري.

ورفعه ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الزبير بن العوام ركن من أركان المسلمين" أخرجه الملاء في سيرته.

ذكر شهادة عثمان بأنه خيرهم، وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:

عن مروان بن الحكم قال: أصاب عثمان رعاف شديد حتى حبسه عن الحج وأوصى، فدخل رجل من قريش فقال: استخلف، فقال: نعم، قال: ومن؟ قال: فسكت، فدخل عليه رجل أحسبه الحارث فقال: استخلف، فقال عثمان: وقالوا? قال: نعم قال: فمن هو? قال: فسكت، قال: فلعلهم قالوا الزبير؟ قال: نعم قال: أما والذي نفسي بيده إنه لخيرهم ما علمت، وإن كان لأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية أنه قال: والله إنكم لتعلمون أنه خيركم. أخرجه البخاري والبغوي وقال: أما والذي نفسي بيده

إلى آخره، وزاد ثلاث مرات.

ص: 282

ذكر ما جاء عن سعد بن مالك وسعيد بن المسيب في الحث على محبته والزجر عن بغضه، تقدم حديثهما في نظيره من فصل فضائل عثمان، ذكر ثناء ابن عباس عليه:

تقدم في فضائل طلحة؛ لأن الثناء كان عليهما جميعا، والله أعلم.

ذكر إبلائه يوم اليرموك:

عن عروة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للزبير يوم اليرموك: ألا تشد فنشد معك? فحمل عليهم فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر، قال عروة: فكنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير قال عروة: وكان معه عبد الله وهو ابن خمس سنين، فحمله على فرس ووكل به. أخرجه البخاري.

واليرموك: موضع بناحية الشام.

ذكر أنه من الذين استجابوا لله والرسول:

عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت لي: أبوك -والله- من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. أخرجه مسلم، وزاد في رواية: تعني أبا بكر والزبير.

وعنها قالت: يابن أختي، كان أبوك -تعني أبا بكر- والزبير من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح.

قالت: لما انصرف المشركون من أحد، وأصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصابهم فخاف صلى الله عليه وسلم أن يرجعوا، فقال:"من ينتدب لهؤلاء في آثارهم حتى يعلموا أن بنا قوة" فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين، فخرجوا في آثار القوم، فسمعوا بهم فانصرفوا، قالت: فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يقاتلوا عدوا. أخرجه البخاري.

ص: 283

ذكر ما كان في جسده من الجراح:

عن عروة قال: أوصى الزبير إلى ابنه عبد الله صبيحة الجمل، فقال: يا بني ما من عضو إلا وقد جرح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى ذلك إلى فرجه. أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب.

وعن علي بن زيد قال: أخبرني من رأى الزبير، وإن في صدره لأمثال العيون من الطعن والرمي. أخرجه صاحب الصفوة والفضائلي.

وعن بعض التابعين قال: صحبت الزبير في بعض أسفاره، فأصابته جنابة وكنا بأرض قفر، فقال لي: استرني حتى أغتسل، قال: فسترته، فحانت مني التفاتة فرأيته مجدعا بالسيوف، فقلت له: والله لقد رأيت بك آثارا ما رأيتها بأحد قط، قال: أوقد رأيتها? قلت: نعم، قال: أما والله ما فيها جراحة إلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله. أخرجه الملاء في سيرته.

ذكر ذَبِّه عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم، وما ترتب على ذلك:

عن عمر بن الخطاب قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نام، فجلس الزبير يذب عن وجهه حتى استيقظ، فقال له:"يا أبا عبد الله لم تزل?" قال: لم أزل، أنت بأبي وأمي قال:"هذا جبريل يقرئك السلام ويقول: أنا معك يوم القيامة حتى أذب عن وجهك شرر جهنم" أخرجه الحافظ الدمشقي في الأربعين الطوال.

ذكر قوله صلى الله عليه وسلم لابن الزبير: "يابن أخي" فأثبت له وصف الأخوة:

عن سليمان قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن الزبير، ومعه طشت يشرب ما فيه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما شأنك يابن

ص: 284

أخي?" ثم ذكر باقي الحديث، وسيأتي في مناقبه من حديث ابن الغطريف.

ذكر ورعه:

عن عبد الله بن الزبير قال: قلت للزبير: ما يمنعك أن تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث عنه أصحابه? قال: أما والله لم أفارقه منذ أسلمت، ولكني سمعته يقول:"من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" أخرجه البخاري.

وفي رواية: والله لقد كان لي منه منزلة ووجهة، ولكني سمعته يقول، وذكر الحديث.

وفي رواية: لقد نلت من صحابته أفضل ما نال أحد، ولكني سمعته يقول:"من قال عليَّ ما لم أقل تبوأ مقعده من النار" فلا أحب أن أحدث عنه. أخرجهما البغوي في معجمه.

"شرح" الوجهة: الجاه والعز، "فليتبوأ مقعده من النار" أي: لينزل منزلته منها، قال: بوأه الله منزلا أي: أسكنه إياه، والمباءة: المنزل.

ذكر صلته وصدقته:

وعن أم درة قالت: بعث الزبير إلى عائشة بغرارتين، تبلغ الواحدة منهما ثمانين ومائة ألف درهم.

وعن كعب قال: كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فما كان يدخل منها بيته درهم واحد؛ كان يتصدق بذلك كله. أخرجه أبو عمر وأخرجه الفضائلي وقال: فكان يتصدق بقسمه كل ليلة، ويقوم إلى منزله ليس معه منه شيء.

وأخرج الطائي عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال: كان للزبير

ص: 285

وذكره. وعن جويرية قالت: باع الزبير دارًا له بستمائة ألف، قال: فقيل له: يا أبا عبد الله غبنت قال: كلا، والله لتعلمن أني لم أغبن؛ هي في سبيل الله. أخرجه في الصفوة.

ذكر أنه كان من أكرم الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:

عن ابن إسحاق السبيعي قال: سألت مجلسا فيه أكثر من عشرين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان أكرم الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم? قالوا: الزبير وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. أخرجه الفضائلي.

ذكر سماحته في بيعه:

قال أبو عمر: كان الزبير تاجرًا مجدودًا في التجارة، فقيل: بم أدركت في التجارة? قال: لأني لم أشتر معيبا، ولم أرد ربحا، والله يبارك لمن يشاء.

"شرح" مجدودا أي: محظوظًا، والجد: الحظ، والجديد: الحظيظ، فعيل بمعنى مفعول.

ذكر شهادة الحسن بن علي بكفاءة نسبه لنسبهم:

عن هشام بن عروة عن أبيه أن حسن بن علي أوصى في وصيته: أن تزوجوا إلى آل الزبير وزوجوهم، فإنهم أكفاؤكم من قريش. أخرجه أبو معاوية.

وفيه دليل على اعتبار الكفاءة في النسب، وأن قريشا ليسوا أكفاء لبني هاشم، وإلا لما كان في التخصيص فائدة.

ذكر إثبات رخصة عامة للمسلمين بسببه:

عن أنس رضي الله عنه أن الزبير وعبد الرحمن بن عوف شكيا إلى

ص: 286

رسول الله صلى الله عليه وسلم القمل في غزاة لهما؛ فرخص لهما في قميص الحرير، فرأيت على كل واحد منهما قميص حرير.

وعنه رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص الحرير في السفر؛ لحكة كانت بهما. أخرجهما مسلم، ويشبه أن تكون الرخصة للحكة والقمل جمعًا بين الحديثين.

ذكر من أوصى إلى الزبير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:

عن عروة بن الزبير أن ابن مسعود وعثمان والمقداد بن الأسود وعبد الرحمن بن عوف ومطيع بن الأسود أوصوا إلى الزبير بن العوام. أخرجه ابن الضحاك.

ص: 287

‌الفصل التاسع: في مقتله وما يتعلق به

، ذكر كيفية قتله ومن قتله وأين قتل

قال أبو عمر: شهد الزبير يوم الجمل فقاتل فيه ساعة، فناداه علي وانفرد به فذكره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له وقد وجدهما يضحكان بعضهما إلى بعض:"أما إنك ستقاتل عليا وأنت له ظالم" فذكر الزبير ذلك وانصرف عن القتال راجعًا إلى المدينة، قادمًا مفارقا للجماعة التي خرج فيها، فأتبعه ابن جرموز عبد الله ويقال: عمير ويقال: عمر ويقال: عميرة السعدي فقتله بموضع يعرف بوادي السباع، وجاء برأسه إلى علي، فقال علي رضى الله عنه: بشر قاتل ابن صفية بالنار.

وعن أبي الأسود الدؤلي قال: لما دنا علي وأصحابه من طلحة والزبير، ودنت الصفوف بعضها من بعض، خرج علي على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى: ادعوا الزبير، فأقبل حتى اختلفت أعناق دوابهما، فقال علي: يا

ص: 287

زبير نشدتك بالله، أتذكر يوم مر بك رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكان كذا وكذا وقال:"يا زبير أتحب عليا?" قلت: ألا أحب ابن خالي وعلى ديني؟! فقال: "يا علي، أتحبه?" قلت: يا رسول الله ألا أحب ابن عمتي وعلى ديني?! فقال: "يا زبير لتقاتلنه، وإنك له ظالم"؟ قال: نعم، والله لقد أنسيته منذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكرته الآن، والله لا أقاتلك. فرجع الزبير على دابته يشق الصفوف، فعرض له ابنه عبد الله وقال: ما لك? قال: قد ذكرني علي حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لتقاتلنه وأنت له ظالم" ولا أقاتله، ثم رجع منصرفا إلى المدينة، فرأى عبد الله بن جرموز، فقال: أي ها تورش بين الناس ثم تتركهم? والله لا نتركه، فلما لحق بالزبير ورأى أنه يريده، أقبل عليه الزبير فقال له ابن جرموز: اذكر الله، فكف عنه الزبير حتى فعل ذلك مرارًا، فقال الزبير: قاتله الله، يذكر بالله وينساه، ثم غافصه ابن جرموز فقتله. أخرجه الفضائلي وغيره.

"شرح" أي ها بمعنى كيف، والتوريش: التحريش، تقول: ورشت بين القوم وأرشت، وغافصه أي: أخذه على غرة.

قال أبو عمر: ويروى أن الزبير لما انصرف لقيه النغر -رجل من بني مجاشع- فقال: أين تذهب يا حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم? إليَّ فأنت في ذمتي لا يوصل إليك، فأقبل معه، فلحقه عميرة بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع في غزاة من غزاة بني تميم، فلقوه مع الثغر، فأتاه عمير بن جرموز من خلفه وهو على فرس له ضعيفة، فطعنه طعنة خفيفة وحمل عليه الزبير وهو على فرس يقال له: ذو الخمار، حتى ظن أنه قاتله، نادى صاحبيه: يا نفيع، يا فضالة فحملوا عليه حتى قتلوه. قال أبو عمر: وهذا أصح مما تقدم.

ص: 288

وعن عبد العزيز السلمي قال: لما انصرف الزبير يوم الجمل سمعته يقول:

ولقد علمت لو أن علمي نافعي

أن الحياة من الممات قريب

فلم ينشب أن قتله ابن جرموز. أخرجه الملاء في سيرته.

ذكر تاريخ مقتله، وسنه يوم قتل:

قيل: كان قتله يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، وفي ذلك اليوم كانت وقعة الجمل، وسنه يومئذ سبع وستون سنة، وقيل: ست وستون، ذكره أبو عمر. وقيل: أربع وستون، وقيل: ستون، وقيل: إحدى وستون، ذكره البغوي في معجمه. وقيل: خمس وسبعون، وقيل: بضع وخمسون، ذكره صاحب الصفوة والرازي.

ذكر ما قاله علي عليه السلام لقاتل الزبير:

تقدم في كيفية قتله طرف منه.

قال أبو عمر: روي أنه لما جاء قاتل الزبير عليًّا برأس الزبير، لم يأذن له وقال للآذن: بشره بالنار.

وعن زر قال: استأذن ابن جرموز على علي وأنا عنده، فقال: بشر قاتل ابن صفية بالنار. أخرجه صاحب الصفوة.

ذكر وصيته:

عن عبد الله بن الزبير قال: جعل الزبير يوم الجمل يوصيني بدينه ويقول: إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه بمولاي. قال: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبة من مولاك? قال: الله تعالى، فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه، فيقضيه، وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال يستودعه إياه فيقول

ص: 289

الزبير: لا ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة قال عبد الله: فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائة ألف؛ فقتل ولم يدع دينارا ولا درهما إلا أرضين بعتهما وقضيت دينه، فقال بنو الزبير: ميراثنا؛ قلت: والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه. فجعل كل سنة ينادي؛ فلما انقضت أربع سنين قسم بينهم، وكان للزبير أربع نسوة، فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف، فجمع مال الزبير خمسون ألف ألف ومائتا ألف.

وعن عبد الله أنه لقيه حكيم بن حزام فقال: يابن أخي، كم على أخي? فكتمه، وقلت: مائة ألف. فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع هذا، قال: فقال عبد الله: أرأيت إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف? قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي، وكان الزبير قد اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف، ثم قال: من كان له على الزبير شيء فليوافنا على الغابة. قال: فأتاه عبد الله بن جعفر وكان له على الزبير أربعمائة ألف؛ قال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم. قال عبد الله: لا قال: إن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم؛ قال عبد الله: لا، قال: فاقطعوا لي قطعة، قال عبد الله: من ههنا إلى ههنا، قال: فباع عبد الله منها فقضى دينه وأوفاه، وبقي منها أربعة أسهم ونصف قال: فقدم على معاوية، وعنده عمر بن عثمان والمنذر بن الزبير وابن ربيعة، قال: فقال له معاوية: كم قومت الغابة? قال: كل سهم بمائة ألف، قال: كم بقي منه? قال: أربعة أسهم ونصف، قال المنذر بن الزبير: أخذت منها سهما بمائة ألف، وقال عمر بن عثمان: أخذت منها سهما بمائة ألف؛ وقال ابن ربيعة: أخذت منها سهما بمائة ألف، فقال معاوية: كم بقي؟ قال: سهم ونصف، قال: قد أخذته بخمسين ومائة ألف، قال: فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه قال بنو الزبير: اقسم بيننا، قال: لا والله، ثم ذكر معنى ما تقدم. أخرجهما البخاري، وذكر القلعي أن تركته بعد قضاء دينه سبعة وخمسون ألف ألف وستمائة ألف.

وعن عروة بن الزبير أن الزبير أوصى بثلث ماله ولم يدع دينارا ولا درهما. أخرجه البغوي في معجمه.

ص: 290

‌الفصل العاشر: في ذكر ولده

وكان له عشرون ولدًا، أحد عشر ذكرًا وتسع إناث.

ذكر الذكور:

عبد الله، وكان يكنى أبا بكر، ويكنى أيضًا أبا خبيب بابنه خبيب.

عن عائشة -رضى الله عنها- قالت: أول مولود ولد في الإسلام عبد الله بن الزبير، أتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم تمرة فلاكها ثم أدخلها في فيه، فأول ما دخل بطنه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن فاطمة بنت المنذر وهشام بن عروة بن الزبير قالا: خرجت أسماء بنت أبي بكر حين هاجرت وهي حبلى بعبد الله بن الزبير فقدمت قباء فنفست عبد الله بقباء، ثم خرجت حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكه، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فوضعه في حجره، قالا: قالت عائشة: فمكثنا ساعة نلتمسها -يعني تمرة- قبل أن نجدها، فمضغها1 ثم بصقها في فيه؛ فإن أول شيء دخل بطنه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت أسماء: ثم مسحه وصلى2 عليه، وسماه عبد الله، ثم جاء وهو ابن سبع سنين أو ثمانٍ ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره بذلك الزبير، فتبسم

1 وهذا هو التحنيك.

2 المراد: دعا له بالبركة.

ص: 291

رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه مقبلًا، ثم بايعه. أخرجهما البخاري.

وقال أبو عمر: كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنية جده أبي أمه، وسماه باسمه ودعا له، وبارك عليه، وشهد1 الجمل مع أبيه وخالته، وكان فصيحًا ذا أنفة، أطلس، لا لحية له، ولا شعر في وجهه، وكان كثير الصوم والصلاة، شديد البأس، كريم الجدات والأمهات والخالات، وبويع له بالخلافة سنة أربع وستين، وقتل سنة خمس وستين بعد موت معاوية بن يزيد، واجتمع على طاعته أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان، وحج بالناس ثماني حجج؛ وذكر صاحب الصفوة في صفته أنه كان إذا صلى كأنه عود من الخشوع. قال مجاهد: وكان إذا سجد يطول حتى تنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جذما، قاله يحيى بن ثابت.

"شرح" الجذم: أصل الشيء، والجذمة: القطعة من الجبل ونحوه.

وقال ابن المنكدر: لو رأيت ابن الزبير يصلي كأنه غصن شجرة، تصفقه الريح.

وعن عمر بن قيس عن أمه قالت: دخلت على ابن الزبير بيته وهو يصلي فسقطت حية من السقف على ابنه، ثم تطوقت على بطنه وهو نائم فصاح أهل البيت، ولم يزالوا بها حتى قتلوها، وابن الزبير يصلي ما التفت ولا عجل، ثم فرغ بعدما قتلت الحية فقال: ما بالكم? فقالت زوجته: رحمك الله أرأيت إن كنا هُنَّا عليك، يهون عليك ابنك?!

وعن محمد بن حميد قال: كان عبد الله بن الزبير يحيي الدهر أجمع

1 وقعة الجمل المشهورة في التاريخ بين طلحة والزبير ومن كان معهما، وبين علي -كرم الله وجهه.

ص: 292

ليلة قائمًا حتى يصبح، وليلة راكعًا حتى يصبح، وليلة ساجدًا حتى يصبح.

وعن مسلم بن يناق المكي قال: ركع ابن الزبير يومًا ركعة، فقرأت البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وما رفع رأسه.

وعن محمد بن الضحاك وعبد الملك بن عبد العزيز: كان ابن الزبير يصوم يوم الجمعة، فلا يفطر إلا ليلة الجمعة الأخرى، ويصوم بالمدينة فلا يفطر إلا بمكة، ويصوم بمكة فلا يفطر إلا في المدينة، وأول ما يفطر عليه لبن لقحه بسمن بقر.

وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: كان ابن الزبير صواما بالنهار قواما بالليل، وكان يسمى خادم المسجد.

وعن ابن أبي مليكة قال: كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام.

وعن وهب بن كيسان قال: ما رأيت ابن الزبير يعطي كلمة قط -لرغبة ولا لرهبة- سلطانا ولا غيره. أخرجه أبو معاوية الضرير.

وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وإذا عبد الله بن الزبير معه طشت يشرب ما فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما شأنك يابن أخي?" قال: إني أحببت أن يكون من دم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوفي، فقال:"ويل لك من الناس، وويل للناس منك، لا تمسك النار؛ إلا قسم اليمين" أخرجه ابن الغطريف.

وعن عروة قال: عبد الله بن الزبير أحب البشر إلى عائشة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أبي بكر، وكان أبر الناس بها. أخرجه البخاري.

وعنه، وعن وهب بن كيسان قال أهل الشام يعيرون الزبير، يقولون: يابن ذات النطاقين، فقالت أسماء: يا بني، يعيرونك بالنطاقين!! هل تدري ما النطاقين? إنما كان نطاقي شققته نصفين فأكيت قربة رسول الله

ص: 293

-صلى الله عليه وسلم بأحدهما وجعلت في سفرته آخر. قال: وكان أهل الشام إذا عيروه بالنطاقين يقول: إيها والإله؛ تلك شكاة ظاهر عنك عارها. أخرجه البخاري.

قال الدارقطني: روى عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن أبيه الزبير، وروى عنه أخوه عروة وبنوه، والجم الغفير.

ذكر مقتله:

قتل في أيام عبد الملك بن مروان سنة ثلاث وسبعين، وعمره ثلاث وسبعون سنة، صلب بعد قتله بمكة وبدأ الحجاج في حصاره من أول ذي الحجة، وحج الحجاج بالناس ذلك العام، ووقف بعرفة وعليه درع، ولم يطوفوا بالبيت في تلك الحجة، وحاصروه ستة أشهر وسبعة عشر يومًا.

وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما كان قبل قتل ابن الزبير بعشرة أيام، دخل على أمه أسماء وهي شاكية فقال لها: كيف تجدينك يا أماه? قالت: ما أجدني إلا شاكية؛ فقال لها: إن هم الموت راحة؛ فقالت: لعلك تمنيته لي! ما أحب أن أموت حتى تأتي على أحد طرفيك إما قتلت فأحتسبك، وإما ظفرت بعدوك فقرت عيني، وقال عروة: فالتفت إلى عبد الله وضحك قال: فلما كان في اليوم الذي قتل فيه، دخل عليها في المسجد، فقالت: يا بني لا تقبل منهم خطة تخاف منها على نفسك الذل مخافة القتل؛ فوالله لضربة سيف في عز خير من ضربة سوط في مذلة، فأتاه رجل من قريش فقال: ألا نفتح لك الكعبة فتدخلها؟ فقال عبد الله: من كل شيء تحفظ أخاك إلا من حتفه، والله لو وجدوكم تحت أستار الكعبة لقتلوكم، وهل حرمة المسجد إلا كحرمة البيت? قال: ثم شد عليه أصحاب الحجاج؛ فقال: أين أهل مصر? فقالوا: هم هؤلاء

ص: 294

من هذا الباب -لأحد أبواب المسجد- فقال لأصحابه: اكسروا غماد سيوفكم ولا تميلوا عني؛ قال: فأقبل الرعيل الأول، فحمل عليهم وحملوا معه وكان يضرب بسيفين فلحق رجلا فضربه فقطع يده، وانهزموا وجعل يضربهم حتى أخرجهم من باب المسجد. قال: ثم دخل عليه أهل حمص، فشد عليهم وجعل يضربهم حتى أخرجهم من باب المسجد، ثم دخل عليه أهل الأردن من باب آخر، فقال: من هؤلاء? فقيل: من أهل الأردن فجعل يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من المسجد، ثم انصرف؛ قال: فأقبل عليه حجر من ناحية الصف، فوقع بين عينيه، فنكس رأسه، قال: ثم اجتمعوا عليه فلم يزالوا يضربونه، حتى قتلوه ومواليه جميعا.

ولما قتل كبر عليه أهل الشام، فقال عبد الله بن عمر: المكبرون عليه يوم ولد خير من المكبرين عليه يوم قتل، وقال يعلى بن حرملة: دخلت مكة بعدما قتل عبد الله بن الزبير بثلاثة أيام، فإذا هو مصلوب؛ فجاءت أمه -امرأة عجوز كبيرة طويلة مكفوفة البصر- تقاد، فقالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينزل? فقال لها الحجاج: المنافق? قالت: والله ما كان منافقا، ولكنه كان صواما قواما، فقال: انصرفي، فإنك عجوز قد خرفت، قالت: لا، والله ما خرفت، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يخرج من ثقيف كذاب ومبير" أما الكذاب فقد رأيناه وأما المبير فأنت المبير. قال أبو عمر: الكذاب فيما يقولون: المختار بن عبيد الثقفي.

وعن ابن أبي مليكة قال: لما نزل عبد الله دعت أسماء بمركن؛ وأمرتني بغسله فكنا لا نتناول عضوا إلا جاء معنا، فكنا نغسل العضو ونضعه في الأكفان ثم نتناول الذي يليه فنغسله ونضعه في أكفانه، حتى فرغنا منه؛ ثم قامت فصلت عليه، وكانت تقول قبل ذلك: اللهم لا

ص: 295

تمتني حتى تقر عيني بجثته، فما أتت عليها جمعة حتى ماتت. أخرج ذلك كله أبو عمر.

وعن ابن نوفل معاوية بن مسلم بن أبي عقرب قال: رأيت عبد الله بن الزبير على عقبة مكة قال: فجعلت قريش تمر عليه الناس، حتى مر عليه عبد الله بن عمر، فوقف عليه، فقال: السلام عليك أبا خبيب -ثلاثا- أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، والله إن كنت -ما علمت- صواما قواما وصولا للرحم. ثم نفد عبد الله بن عمر فبلغ ذلك الحجاج فأرسل إليه فأنزل عن جذعه، فألقي في قبور الشهود. ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر، فأبت أن تأتيه فأعاد عليها الرسول: إما أن تأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك، قال: فأبت وقالت: والله لا آتينك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني. قال: فقالت: أروني سبتيتي، فأخذ نعليه، ثم انطلق حتى دخل عليها فقال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله? قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك، بلغني أنك تقول له: يابن ذات النطاقين، أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبي بكر من الدواب، وأما الآخر فنطاق المرأة الذي لا تستغني عنه، أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا أياه، قال: فقام عنها ولم يراجعها. أخرجه مسلم.

وعن مجاهد قال: كنت مع ابن عمر فمر على ابن الزبير، فوقف عليه فقال: رحمك الله، فإنك كنت صواما وصولا للرحم؛ وإني أرجو أن لا يعذبك الله عز وجل.

قال الواقدي: حصر ابن الزبير ليلة هلال ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين ستة أشهر وسبع عشرة ليلة؛ ونصب الحجاج عليه المنجنيق، وألح عليه بالقتال من كل جهة، وحبس عنهم المير، وحصرهم أشد

ص: 296

الحصار فقامت أسماء يوما فصلت ودعت فقالت: اللهم لا تخيب عبد الله بن الزبير، اللهم ارحم ذلك السجود والنحيب والظمأ في تلك الهواجر. وقتل يوم الثلاث لست عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. أخرجه صاحب الصفوة.

عودة إلى ولد الزبير: "والمنذر بن الزبير" وكان يكنى أبا عثمان، وكان سيدا حليما؛ قتل مع عبد الله بمكة قتله أهل الشام، ويقال: إنه قتل وله أربعون سنة، وله عقب، وعروة كان فقيها فاضلا يكنى أبا عبد الله وأصابته الأكلة في رجله بالشام فقطعت رجله وعاش بعد ذلك ثماني سنين؛ توفي في ضيعة له بقرب المدينة وله عقب، وهو أحد الفقهاء السبعة المدنيين، وكان حين قتل عثمان بن عفان غلاما لم يبلغ الحلم؛ قال الدارقطني: وروى عن أبيه الزبير، وأمه أسماء، وخالته عائشة، وأخيه عبد الله، وروى عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو، وحكيم بن حزام وعبد الله بن عباس، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وأبي حميد الساعدي، وسفيان بن عبد الله الثقفي، وزيد بن ثابت، وغيرهم، وروى عن عمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف مرسلا. و"المهاجر" أمهم أسماء بنت أبي بكر و"مصعب" كان يكنى أبا عبد الله وقيل: أبا عيسى، وكان أجود العرب، وكان أسمح الناس كفا، وأحسنهم وجها، كريما، شجاعا، جوادا، ممدحا وجمع بين أربع عقائل لم يكن في زمانه أجمل منهن فيما يقال. روي عن عبد الملك بن مروان أنه قال يوما لجلسائه: من أشجع العرب؟ قالوا: ابن فلان شبيب فلان. فقال عبد الملك: إن أشجع العرب لرجل جمع بين سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة وأمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز وابنة زيان بن أنيف الكلبي سيد ضاحية العرب، ذكره الدارقطني. وولاه أخوه عبد الله العراقين، فسار إليه، وقام به خمس سنين فأصاب ألف ألف وألف ألف وألف ألف وأعطي الأمان فأبى، ومشى بسيفه حتى مات. ذلك مصعب بن الزبير، وقتل مصعب

ص: 297

سنة اثنتين وسبعين. سار إليه عبد الملك بن مروان من الشام وكاتب أصحابه فخذلهم عنه، فأسلموه ووجه إليه أخاه محمد بن مروان في مقدمته، فلقيه مصعب فقاتله فقتل مصعب وله عقب، وكان الذي تولى قتله عبيد الله بن زياد بن ظبيان، وجاء برأسه إلى عبد الملك فخر عبد الملك ساجدا، قتل وهو ابن خمس وأربعين سنة، وقيل: ست وأربعين، وقيل: اثنتين وأربعين، وقيل: خمس وثلاثين، حكاه الدارقطني. و"حمزة" قتل مع عبد الله بمكة، أمهما الرباب بنت أنيف بن عبيد الكلبية و"عبيدة" له عقب و"جعفر" أمهما زينب بنت بشر من بني قيس بن تغلب وكان عبيدة يشبه بأبيه، وشهد جعفر مع أخيه حروبه واستعمله على المدينة وقاتل يوم قتل أخوه قتالا شديدا، حتى جمد الدم على سيفه في يده، وله شعر كثير في كل فن وروى عن أبيه. و"عمر" وكان يكنى أبا الزبير، وكان له قدر كبير، وكان من أجمل أهل زمانه وقتل أيضًا وله عقب. و"خالد" له عقب أيضًا، وكان استعمله أخوه عبد الله على اليمن، أمهما أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص.

ذكر الإناث:

"خديجة الكبرى" وأم الحسن و"عائشة" أمهن أسماء، و"حبيبة" و"سودة" و"هند" أمهن أم خالد و"رملة" أمها الرباب و"زينب" أمها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وإخوتها لأمها محمد وإبراهيم وحميد وإسماعيل بنو عبد الرحمن بن عوف. و"خديجة الصغرى" أمها الجلال بنت قيس من بني أسد بن خزيمة وأخواها لأمها الزبير بن مطيع بن الأسود وعبد الرحمن بن الأسود بن أبي البختري بن هشام بن أسد بن عبد العزى بن قصي، ذكره الدارقطني. فأما خديجة الكبرى فتزوجها عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي ثم خلف عليها جبير بن مطعم، ثم خلف عليها السائب بن أبي حبيش بن المطلب بن أسد بن عبد العزى. وأما أم الحسن فتزوجها عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فولدت له أولادا ذكورًا وإناثًا.

ص: 298

وأما عائشة بنت الزبير فتزوجها الوليد بن عثمان بن عفان فولدت له عبد الله بن الوليد. وأما حبيبة فتزوجها يعلى بن أمية السهمي، ثم خلف عليها عبد الله بن عباس بن علقمة من بني عامر بن لؤي. وأما سودة فتزوجها الأشدق عمرو بن سعيد بن العاص، ثم خلف عليها عبد الرحمن بن الأسود بن البختري. وأما هند فتزوجها عبد الملك بن عبد الله بن عامر بن كريز فولدت له رجلين وهلكا، ثم خلف عليها عباس بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب فولدت له عون بن العباس. وأما رملة فتزوجها عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام فولدت له، ثم خلف عليها خالد بن زيد بن معاوية بن أبي معاوية. وأما زينب فتزوجها عتبة بن أبي سفيان بن حرب فولدت له أولادا. وأما خديجة الصغرى فتزوجها أبو يسار عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن شيبة بن ربيعة، فولدت له الزبير ومصعبا ابني أبي يسار، وليس لبنات الزبير رواية. ذكر ذلك الدارقطني، وذكر منهن "حفصة" قال: وماتت بعد أبيها ولم تتزوج.

ص: 299

‌الباب السابع: في مناقب أبي محمد عبد الرحمن بن عوف

‌الفصل الأول: في نسبه

الباب السابع: في مناقب أبي محمد عبد الرحمن بن عوف

وفيه عشرة فصول على ترتيب ما تقدم في طلحة

الفصل الأول: في نسبه

وقد تقدم ذكر آبائه في باب العشرة، يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرة وينسب إلى زهرة بن كلاب، ويقال: القرشي الزهري. أمه الشفاء1 بنت عوف بن عبد الحارث الزهرية، أسلمت وهاجرت. ذكره ابن الضحاك وذكره الدارقطني قال: وأسلمت أختها الضيزنة بنت أبي قيس بن عبد مناف بن زهرة.

1 حضرت مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الإمام البوصيري في الهزيمة:

شممته الأملاك إذ وضمته

وشفتنا بقولها الشفاء

ص: 301

‌الفصل الثاني: في اسمه

كان اسمه في الجاهلية عبد عمرو؛ وقيل: عبد الحارث؛ وقيل:

عبد الكعبة؛ فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، ويكنى أبا محمد وسماه النبي صلى الله عليه وسلم الصادق البار. ذكره الدارقطني.

ص: 301

‌الفصل الثالث: في صفته

قال الواقدي: كان رجلا طويلا، حسن الوجه رقيق البشرة، أبيض اللون مشربا بحمرة لا يغير لحيته ولا رأسه، ضخم الكفين، غليظ الأصابع، أقنى، جعدا له جمة من أسفل أذنيه، أعنق، ساقط الثنيتين أعرج، أصيب يوم أحد فهتم وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصاب بعضها رجله فعرج.

"شرح" ضخم الكفين: عظيمهما، أقنى: القنا: احديداب في الأنف يقال: رجل أقنى الأنف وامرأة قنواء بينة القنا، جعد الشعر ضد السبط، أعنق: طويل العنق؛ والمرأة بينة العنق، والهتم: كسر الثنايا من أصلها، يقول: ضربه فهتم فاه إذا ألقى مقدم أسنانه، ورجل أهتم بين الهتم، والثرم بالتحريك: سقوط الثنيتين أيضا، يقول منه: ثرم الرجل بالكسر ثرما وثرمته أنا بالفتح.

ص: 302

‌الفصل الرابع: في إسلامه

أسلم قديما قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وقد تقدم أنه من جملة من أسلم على يد أبي بكر، ذكرناه في مناقب أبي بكر، وأسلم معه أخوه الأسود بن عوف -وهاجر قبل الفتح- وأخواه لأبيه عبد الله بن عوف وحمن بن عوف ولم يهاجرا وأقاما بمكة، وعاش حمن في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين سنة، وأوصيا إلى الزبير بن العوام.

ص: 302

‌الفصل الخامس: في هجرته

وهاجر عبد الرحمن بن عوف إلى المدينة. ذكره ابن قتيبة وأبو عمر وغيرهما، وقال ابن الضحاك: هاجر الهجرتين. ذكره في كتاب "الآحاد والمثاني".

ص: 303

‌الفصل السادس: في خصائصه

ذكر اختصاصه بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلفه في بعض الأحوال

عن المغيرة بن شعبة قال: تخلفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فتبرز وذكر وضوءه، ثم عمد الناس وعبد الرحمن يصلي بهم فصلى مع الناس الركعة الأخيرة؛ فلما سلم عبد الرحمن قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته، فلما قضاها أقبل عليهم وقال:"قد أصبتم وأحسنتم" يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها. أخرجاه.

وفي رواية: فأراد أن يتأخر، فأومى1 إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يمضي، فصليت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم خلفه.

وفي رواية: قال المغيرة: فأردت تأخير عبد الرحمن، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:"دعه" أخرجه الشافعي في مسنده.

وفي رواية: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن قد صلى بهم، فصلى خلفه وأتم الذي فاته، وقال:"ما قبض نبي حتى يصلي خلف رجل صالح من أمته" أخرجه صاحب الصفوة.

1 فأشار.

ص: 303

ذكر اختصاصه بالأمانة على نساء النبي صلى الله عليه وسلم:

عن الزبير بن بكار قال: كان عبد الرحمن بن عوف أمين النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه. أخرجه أبو عمر.

ذكر إثبات أمانته في السماء والأرض:

عن عبد الله بن عمر أن عبد الرحمن بن عوف قال لأصحاب الشورى: هل لكم أن أختار لكم وأنتفي منها? قال علي: أنا أول من يرضى، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"أنت أمين في أهل الأرض" أخرجه أبو عمر، وأخرجه الحضرمي عن علي مختصرا؛ ولفظه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عبد الرحمن بن عوف أمين في الأرض، وأمين في السماء".

ذكر اختصاصه بأنه وكيل الله في الأرض:

عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عبد الرحمن بن عوف وكيل الله في الأرض" أخرجه الملاء في سيرته.

ذكر اختصاصه وعثمان بآي نزلت فيهما:

عن السائب في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا

} 1 الآية: نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف، فأما عثمان فقد تقدم ذكره، وأما عبد الرحمن فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة وقال: كان عندي ثمانية آلاف، فأمسكت أربعة آلاف لنفسي وعيالي وأربعة آلاف أقرضها ربي عز وجل فقال صلى الله عليه وسلم:"بارك الله لك فيما أمسكت، وفيما أعطيت" ونزلت الآية. أخرجه الواحدي وأبو الفرج.

1 سورة البقرة الآية 262.

ص: 304

‌الفصل السابع: في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة

سبق في نظيره من مناقب أبي بكر حديثه، وحديث سعيد بن زيد في الشهادة للعشرة.

وعن أنس رضي الله عنه قال: بينما عائشة في بيتها إذ سمعت رجة في المدينة فقالت: ما هذا? قالوا: عير لعبد الرحمن بن عوف من الشام تحمل من كل شيء وكانت سبعمائة بعير، فارتجت المدينة من الصوت؛ فقالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رأيت عبد الرحمن يدخل الجنة حبوًا" فبلغ ذلك عبد الرحمن فقال: إن استطعت لأدخلها قائما، فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله عز وجل. أخرجه أحمد.

وفي رواية: أنه لما بلغه قول عائشة أتاها فسألها عما بلغه، فحدثته؛ فقال: إني أشهدك أنها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله عز وجل. أخرجه صاحب الصفوة.

ذكر تسليم الله عز وجل عليه، وتبشيره بالجنة:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وردت قافلة من تجار الشام لعبد الرحمن بن عوف فحملها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، فنزل جبريل وقال:"إن الله يقرئك السلام، ويقول: أقرئ عبد الرحمن السلام وبشره بالجنة" أخرجه الملاء، وسيأتي في ذكر صدقته أتم من هذا إن شاء الله تعالى. وهذه القافلة غير القافلة المتقدم ذكرها في الفصل قبله، فإن الظاهر أن تلك كانت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفي تلك أري عبد الرحمن داخلا الجنة حبوا وفي هذه دعا له بها.

ص: 305

‌الفصل الثامن: في ذكر نبذ من فضائله

قال أبو عمر وغيره: شهد عبد الرحمن بدرا والمشاهد كلها وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا بالإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين شهد عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راضٍ، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دومة الجندل وعممه بيده، وسد لها بين كتفيه وقال له:"سر باسم الله" ووصاه بوصايا وقال له: "إن فتح الله عليك فتزوج بنت شريفهم" أو قال: "بنت مليكهم" وقال: شريفهم الأصبغ بن ثعلبة الكلبي، فتزوج ابنته تماضر وهي أم ابنة أبي سلمة.

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "عبد الرحمن بن عوف سيد من سادات المسلمين" ذكر ذلك كله أبو عمر وغيره.

ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له:

عن عمر بن الخطاب قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منزل فاطمة والحسن والحسين يبكيان جوعا ويتضوران، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من يصلنا بشيء?" فطلع عبد الرحمن بن عوف بصحفة فيها حيس ورغيفان بينهما إهالة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كفاك الله أمر دنياك، وأما آخرتك فأنا لها ضامن" أخرجه الحافظ أبو القاسم في الأربعين الطوال.

وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعبد الرحمن بن عوف: "بارك 1 الله في مالك، وخفف عليك حسابك يوم القيامة" أخرجه الملاء.

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة" أخرجه الدارقطني في كتاب الأخوة.

1 يا لها من دعوة في قبولها راحة البال في الدنيا والآخرة، ولا شك في قبولها من خير خلق الله، وإنه رضي الله عنه لجدير بتلك الدعوة. قال الزهري: تصدق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف، ثم بأربعين، ثم حمل على خمسمائة فرس، ثم على خمسمائة مائة راحلة، وأوصى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بحديقة قومت بأربعمائة ألف، وسيأتي هنا ما يؤيد ذلك.

ص: 306

ذكر ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بإيمانه:

عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطا منهم عبد الرحمن بن عوف ولم يعطه معهم، فخرج عبد الرحمن يبكي، فلقيه عمر بن الخطاب فقال: ما يبكيك? قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا وأنا معهم وتركني فلم يعطني شيئا، فأخشى أن يكون إنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم لموجدة وجدها علي، قال: فدخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبر عبد الرحمن وما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس بي سخط عليه، ولكني وكلته إلى إيمانه" أخرجه عبد الرزاق.

ذكر أنه ولي النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة:

عن أويس بن أبي أويس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: "أنت وليي 1 في الدنيا والآخرة" أخرجه الملاء في سيرته.

ذكر أنه ممن سبقت له السعادة، وهو في بطن أمه:

عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: أغمي على عبد الرحمن ثم أفاق فقال: إنه أتاني ملكان فظان غليظان فقالا لي: انطلق نخاصمك إلى العزيز الأمين؛ قال: فلقيهما ملك فقال: إلى أين تذهبان به؟ فقالا: نخاصمه إلى العزيز الأمين. قال: فخليا عنه، فإنه ممن سبقت له السعادة وهو في بطن أمه. أخرجه الملاء في سيرته وأخرجه الواحدي في أوسطه مسندا في سورة هود عند قوله تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} .

ذكر إثبات الشهادة له:

تقدم في باب العشرة حديث: "اثبت حرا 2 " وفيه ما يدل على ذلك في مناقب سعيد بن زيد؛ ووجه الشهادة مع كونه مات على فراشه

1 حبيبي.

2 مقصور حراء: حبل بمكة، يذكر ويؤنث.

ص: 307

أنه غريب وموت الغريب شهادة على ما تضمنه الحديث، فإنه مات بالمدينة -على ما سيأتي بيانه في باب ذكر وفاته- وليس ببلده، أو لعله كان مبطونا أو مطعونا، على أنني لم أقف على ذلك، لكنه يعلم -بالقطع- أن ثم سببا تثبت له به شهادة لسان النبوة له بذلك، والله أعلم.

ذكر تزكية عثمان له:

عن عروة بن الزبير أن الزبير جاء إلى عثمان وقال: إن عبد الرحمن بن عوف زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه وعمر بن الخطاب أرض كذا وكذا، وإني اشتريت نصيب آل عمر، فقال عثمان: عبد الرحمن بن عوف جائز الشهادة له وعليه. أخرجه أحمد.

ذكر علمه:

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر خرج إلى الشام فلما بلغ سرغ أخبر أن الوباء قد نزل بالشام، فجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشارهم فاختلفوا، فوافق رأيه رأي الرجوع، فرجع فجاء عبد الرحمن بن عوف -وكان متغيبا في بعض حاجته- فقال: إن عندي من هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا وقع بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه" أخرجاه، وقد تقدم مستوعبًا في نظيره من مناقب عمر.

ذكر رجوع عمر إلى رأيه:

عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر أربعين، فلما أن ولي عمر قال: إن الناس قد دنوا من الريف، فما ترون في حد الخمر؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: نرى أن نجعله كأخف الحدود؛ فجلد فيه ثمانين. أخرجاه.

ص: 308

ذكر إثبات رخصة للمسلمين بسببه، وقد تقدم ذكر ذلك في فضائل الزبير لاشتراكهما في سببه، ذكر خوفه من الله عز وجل:

عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه أن عبد الرحمن أتي بطعام -وكان صائما- فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط -أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا- قد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام. أخرجه البخاري.

وفي بعض طرق هذا الحديث: أتي بطعام وكان صائما، فجعل يبكي وقال: قتل حمزة فلم يوجد ما يكفن فيه إلا ثوب واحد وكان خيرًا مني، وقتل مصعب بن عمير، وذكر معنى ما تقدم. وعن نوفل بن إياس الهذلي قال: كان عبد الرحمن لنا جليسا وكان نعم الجليس، وإنه انقلب يوما حتى دخل بيته ودخلنا، فاغتسل ثم خرج فجلس معنا، وأتي بصحفة فيها خبز ولحم، فلما وضعت بكى عبد الرحمن بن عوف، فقلنا له: يا أبا محمد ما يبكيك? قال: ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، ولا أرانا أخرنا لما هو خير لنا. أخرجه صاحب الصفوة.

وعن الحضرمي قال: قرأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم لين الصوت أو لين القراءة، فما بقي أحد من القوم إلا فاضت عينه إلا عبد الرحمن بن عوف، فقال صلى الله عليه وسلم:"إن لم يكن عبد الرحمن فاضت عينه، فقد فاض قلبه" أخرجه الفضائلي.

ذكر تواضعه:

عن سعيد بن جبير قال: كان عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من بين

ص: 309

عبيده. أخرجه صاحب الصفوة.

وعن عبد الرحمن بن عوف قال: نظرت يوم بدر عن يميني وشمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: أي عم، هل تعرف أبا جهل? قلت: نعم، فما حاجتك إليه يابن أخي? قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: فتعجبت لذلك، قال: وغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان? هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال:"أيكما قتله?" قال كل واحد منهما: أنا قتلته فقال: "هل مسحتما سيفيكما?" قالا: لا، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فقال:"كلاكما قتله" وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح؛ الرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء. أخرجاه، وموضع تواضعه رضي الله عنه تمنيه أن يكون بين أضلعهما وقدره أكثر من ذلك.

ذكر تعففه، واستغنائه حتى أغناه الله عز وجل:

عن عبد الرحمن بن عوف قال: لما قدمت المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت فأنزل لك عنها فإذا حلت تزوجتها؛ فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك؛ هل من سوق فيه تجارة? قال: سوق بني قينقاع. قال: فغدا إليه عبد الرحمن، فأتى بأقط وسمن قال: ثم تابع الغدو، فما لبث أن جاء عليه أثر صفرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تزوجت?" قال: نعم. قال: "من؟ " قال: امرأة من الأنصار. قال: "فكم سقت?" قال: زنة نواة من ذهب، فقال صلى الله عليه وسلم:

ص: 310

"أولم ولو بشاة" أخرجه البخاري.

ذكر صلته أزواج النبي صلى الله عليه وسلم:

عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إن أمركن لمما يهمني بعدي، ولن يصبر عليكن إلا الصابرون" قال: ثم تقول عائشة: سقى الله أباك من سلسبيل الجنة، تريد عبد الرحمن بن عوف، وقد كان وصل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بما بيع بأربعين ألفا. أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن1 صحيح، وأبو حاتم.

وعنه أن عبد الرحمن أوصى بحديقة لأمهات المؤمنين، بيعت بأربعمائة ألف. أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب2.

ذكر صلته رحمه:

عن المسور بن مخرمة قال: باع عبد الرحمن بن عوف أرضا من عثمان بأربعين ألف دينار، فقسم ذلك المال في بني زهرة وفقراء المسلمين وأمهات المؤمنين، وبعث إلى عائشة معي من ذلك المال، فقالت عائشة: سقى الله ابن عوف سلسبيل الجنة. أخرجه في الصفوة.

ذكر صدقته، وبره أهل المدينة:

عن الزهري قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله عز وجل ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله؛ وكان عامة ماله من التجارة. أخرجه صاحب الصفوة، وأخرجه الملاء عن ابن عباس وقال: تصدق بشطر ماله -أربعة آلاف درهم- ثم

1 حسن من طريق، صحيح من طريق آخر.

2 روه راوٍ فقط.

ص: 311

بأربعين ألف درهم ثم بأربعين ألف دينار ثم خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم وردت له قافلة من تجارة الشام فحملها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، فنزل جبريل وقال:"إن الله يقرئك السلام، ويقول: أقرئ عبد الرحمن السلام، وبشره بالجنة".

وقد تقدم في خصائصه أن قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُون

} 1 الآية، نزلت في ذلك.

وعن طلحة بن عبد الرحمن بن عوف قال: كان أهل المدينة عيالًا على عبد الرحمن بن عوف، ثلث يقرضهم ماله، وثلث يقضي دينهم بماله، وثلث يصلهم.

وعن عروة بن الزبير أنه قال: أوصى عبد الرحمن بن عوف بخمسين ألف دينار في سبيل الله تعالى. أخرجهما الفضائلي.

ذكر خروجه عن جميع ماله، وتسليم الله عليه وإخباره بقبول صدقته:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرض عبد الرحمن بن عوف فأوصى بثلث ماله، فصح فتصدق بذلك بيد نفسه، ثم قال: يا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من كان من أهل بدر له علي أربعمائة دينار، فقام عثمان وذهب مع الناس فقيل له: يا أبا عمر ألست غنيا? قال: هذه وصلة من عبد الرحمن لا صدقة وهو من مال حلال، فتصدق عليهم في ذلك اليوم بمائة وخمسين ألف دينار، فلما جن عليه الليل جلس في بيته وكتب جريدة بتفريق جميع المال على المهاجرين والأنصار حتى كتب أن قميصه الذي على بدنه لفلان وعمامته لفلان، ولم يترك شيئا من ماله إلا كتبه للفقراء، فلما صلى الصبح خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم هبط جبريل وقال: "يا محمد، إن الله يقول لك: أقرئ مني على عبد الرحمن السلام واقبل منه

1 سورة البقرة الآية 262.

ص: 312

الجريدة ثم ردها عليه، وقل له: قد قبل الله صدقتك وهو وكيل الله ووكيل رسوله، يصنع في ماله ما شاء، وليتصرف فيه كما كان يتصرف قبل، ولا حساب عليه، وبشره" أخرجه الملاء في سيرته.

ذكر تبرره 1 بالعتق:

عن جعفر بن برقان قال: بلغني أن عبد الرحمن بن عوف أعتق ثلاثين ألفا. أخرجه صاحب الصفوة.

وقال أبو عمر: وقد روي أنه أعتق في يوم واحد ثلاثين عبدًا.

ذكر أمر جبريل له بإضافة الضيف وإطعام المسكين، حتى أراد الخروج عن جميع ماله:

عن إبراهيم بن عبد الرحمن عن أبيه أن رسول الله قال له: "يابن عوف إنك من الأغنياء، وإنك لن تدخل الجنة إلا زحفا -وفي رواية: حبوا- فأقرض الله عز وجل يطلق لك قدمك" قال ابن عوف: ما الذي أقرض الله? قال: "مما أمسيت فيه" قال: من كله أجمع يا رسول الله? قال: "نعم" فخرج ابن عوف وهو يهم بذلك، فأتى جبريل فقال:"مر ابن عوف فليضف الضيف وليطعم المسكين وليعط السائل؛ فإذا فعل ذلك كان كفارة لما هو فيه" أخرجه الفضائلي.

ذكر ما فضل به عبد الرحمن وغيره من السابقين على غيرهم ممن شاركهم في أعمالهم، أو زاد عليهم:

عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن رجلا من أهل المدينة قال: والله لأقدمن المدينة ولأحدثن عهدا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم المدينة قال: فلقي المهاجرين إلا عبد الرحمن بن عوف، فأخبر أنه بالجرف في أرضه، فأقبل يسير حتى إذا جاء عبد الرحمن وهو يحول الماء بمسحاة في يده

1 إطاعته لله تعالى بالعتق.

ص: 313

واضعا رداءه، فلما رآه عبد الرحمن استحى فألقى المسحاة وأخذ رداءه، فوقف الرجل عليه فسلم عليه ثم قال: جئتك لأمر ثم رأيت أعجب منه، هل جاءكم إلا ما جاءنا? وهل علمتم إلا ما علمنا? قال عبد الرحمن: ما جاءنا إلا ما جاءكم وما علمنا إلا من علمتم، فقال الرجل: فما لنا نزهد في الدنيا وترغبون فيها، ونخف في الجهاد وتتثاقلون عنه وأنتم خيارنا وسلفنا وأصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم? فقال له عبد الرحمن: إنه لم يأتنا إلا ما جاءكم، ولم نعلم إلا ما قد علمتم، ولكنا ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر. أخرجه ابن حويصا.

ذكر شهادة عمر بن الخطاب بصلاحيته للخلافة، لولا ضعف فيه:

عن ابن عمر قال: خدمت عمر وكنت له هائبًا معظمًا، فدخلت عليه ذات يوم في بيته وقد خلا بنفسه، فتنفس تنفسا ظننت أن نفسه خرجت، ثم رفع رأسه إلى السماء فقلت له: والله ما أخرج هذا منك إلا هم يا أمير المؤمنين قال: هم والله، هم شديد، إن هذا الأمر لم أجد له موضعًا -يعني الخلافة- قال: فذكرت له عليا وطلحة والزبير وسعدا وعثمان فذكر في كل واحد منهم معارضًا، فذكرت له عبد الرحمن بن عوف فقال: أوه! نعم المرء! ذكرت رجلا صالحا إلا أنه ضعيف، وهذا الأمر لا يصلح له إلا الشديد من غير عنف، اللين من غير ضعف، الجواد من غير سرف، الممسك من غير بخل. أخرجه القاسم بن سلام في مصنفه.

ص: 314

‌الفصل التاسع: في ذكر وفاته، وما يتعلق بها

توفي رضي الله عنه سنة إحدى وثلاثين، وقيل: اثنتين وثلاثين وهو ابن خمس وسبعين، وقيل: اثنتين وسبعين، ودفن بالبقيع، وصلى عليه عثمان وكان أوصى بذلك.

وروى ابن النجار في كتاب أخبار المدينة بسنده عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه قال: أرسلت عائشة إلى عبد الرحمن بن عوف حين نزل به الموت أن هلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أخويك، فقال: ما كنت مضيقًا عليك بيتك، إني كنت عاهدت ابن مظعون أينا مات دفن إلى جنب صاحبه، فيكون على هذا قبر عثمان بن مظعون وقبر عبد الرحمن بن عوف في قبة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يزار هناك.

ذكر ما روي عنه عند الموت:

قال أبو عمر: لما حضرته الوفاة بكى بكاء شديدا، فسئل عن بكائه فقال: إن مصعب بن عمير كان خيرًا مني، توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن له ما يكفن فيه، وإن حمزة بن عبد المطلب كان خيرًا مني، توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجد له كفنا؛ وإني أخشى أن أكون ممن عجلت له طيباته في حياته الدنيا، وأخاف أن أحبس عن أصحابي لكثرة مالي.

وقد تقدم في ذكر خوفه صدور هذا القول عنه وهو صائم، ولعله تكرر منه وهو الأظهر؛ أو كان صائما وقد حضرته الوفاة، وقد تقدم أيضا في ذكر صدقته أنه أوصى أن يتصدق من ماله بخمسين ألف دينار، وفي ذكر صلته لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوصى لهن بحديقة فبيعت بأربعمائة ألف.

ذكر ما خلفه:

عن محمد أن عبد الرحمن بن عوف توفي، وكان فيما خلفه ذهب قطع بالفئوس حتى مجلت أيدي الرجال منه، وترك أربع نسوة فأصاب كل امرأة ثمانون ألفا. أخرجه في الصفوة.

وقال أبو عمر: كان تاجرًا مجدودًا1 في التجارة، فكسب مالا كثيرا وخلف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع

1 محظوظًا.

ص: 315

بالجرف على عشرين ناضحًا، فكان يدخل من ذلك قوت أهله سنة.

وعن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن قال: صالحنا امرأة عبد الرحمن التي طلقها في مرضه من ثلث الثمن بثلاثة وثمانين ألفا، وفي رواية: من ربع الثمن. أخرجه أبو عمر.

وقال الطائي: قسم ميراثه على ستة عشر سهما، فبلغ نصيب كل امرأة ثمانين ألف درهم.

ص: 316

‌الفصل العاشر: في ولده

وكان له ثمانية وعشرون ذكرًا وثماني بنات.

ذكر الذكور:

"محمد" وبه كان يكنى، ولد في الإسلام، و"سالم الأكبر" مات قبل الإسلام، أمهما أم كلثوم بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، قاله أبو عمر وذكر ابن قتيبة وصاحب الصفوة أن محمدًا أخو حميد لأمه، وسيأتي؛ و"أبو سلمة الفقيه" واسمه عبد الله الأصغر، أمه تماضر بنت الأصبغ، ذكره ابن قتيبة وغيره "وإبراهيم" و"إسماعيل" و"حميد" أمهم أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ذكره في الصفوة و"زيد" قال ابن قتيبة: أمه أم إبراهيم، وقال في الصفوة: أمه أم معن، وسيأتي ذكره و"معن" و"عمر" أمهما سهلة بنت عاصم بن عدي، و"عروة الأكبر" أمه بحرية بنت هانئ و"سالم الأصغر" أمه سهلة بنت سهيل بن عمر، و"أبو بكر" أمه أم حكيم بنت قارظ، و"عبد الله" أمه بنت أبي الخشخاش؛ و"عبد الرحمن" أمه أسماء بنت سلامة؛ و"مصعب" أمه أم حريث من سبي بهراء، و"سهيل" أبو الأبيض أمه مجد بنت يزيد؛ و"عثمان" أمه عراك بنت كسرى، أم ولد، و"عروة" و"يحيى" و"بلال" لأمهات أولاد.

ص: 316

ذكر البنات:

"أم القسم" ولدت في الجاهلية، أمها أم سالم الأكبر، وقال في الصفوة: أمها بنت شيبة بنت ربيعة و"حميدة" و"أمة الرحمن الكبرى" أمهما أم حميد؛ و"أمة الرحمن الصغرى" شقيقة معن، و"أم يحيى" أمها زينب بنت الصباح؛ و"جويرية" أمها بادنة بنت غيلان؛ و"أمية" و"مريم" شقيقتا مصعب.

ص: 317

‌الباب الثامن: في مناقب سعد بن مالك

‌الفصل الأول: في نسبه

الباب الثامن: في مناقب سعد بن مالك

وفيه عشرة فصول على ترتيب فصول طلحة

الفصل الأول: في نسبه

وقد تقدم ذكر آبائه في باب العشرة في ذكر الشجرة، يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرة، وينسب إلى زهرة بن كلاب، فيقال: الفرشي الزهري، ويجتمع هو وعبد الرحمن في زهرة.

عن سعد بن أبي وقاص أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: من أنا يا رسول الله? قال: "أنت سعد بن مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة؛ من قال غير ذلك فعليه لعنة الله" أخرجه الضحاك، أمه: حمنة بنت سفيان بن أبي أمية بن عبد شمس، قاله ابن قتيبة والدارقطني وغيرهما.

ص: 319