الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع: أسباب عدم الاحتجاج ببعض السنن
أستهل هذا المبحث بقول للإمام ابن تيمية: " ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عامًا يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سننه دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون على وجوب إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم أن كل واحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم "(1) .
فلو وجد لأحدهم قول مخالف لسنة صحيحة فلا بد له من سبب قوي كضعف في رجال السند، أو اختلاف في عدالة الرواة، أو غير ذلك مما يسوغ عد الأخذ بالحديث والعدول عنه إلى غيره (2) .
وينبغي لطالب العلم أن يرفع الملام عن الأئمة الأعلام إن وجد لأحدهم فتوى تخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد ذكر العلماء أسباباً عديدة تجعل الأئمة معذورين مأجورين، وملخصها هذان السببان:
الأول: زيادة بعضهم على بعض في كثرة العلم:
فالخلفاء الراشدون والصحابة رضي الله عنهم كانوا أعلم الأمة وأفقهها، وأتقاها وأفضلها، ومع ذلك لم يحيطوا بجميع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) ، فمن بعدهم أنقص (4) .
وقد ينظر العالم في الحديث فيراه ضعيفًا لرجل متهم في إسناده ويخفى عليه طريق أخرى للحديث صحيحة يعلمها إمام غيره.
(1) رفع الملام عن الأئمة الأعلام: ص 3.
(2)
المنبجي/ اللباب في الجمع بين السنة والكتاب: 1/55.
(3)
وقعت قصص ثابتة معروفة مثل قصة استئذان أبي موسى الأشعري على عمر رضي الله عنه ثلاثًا ثم رجوعه، وقصة التيمم لعمار بن ياسر رضي الله عنهما. انظر: رفعت فوزي/ توثيق السنة في القرن الثاني: ص 114.
(4)
ابن تيمية/ رفع الملام عن الأئمة الأعلام: ص 114.
الثاني: زيادة بعضهم على بعض في قوة الفهم:
فقد تخفى دلالة الحديث على إمام وتظهر لغيره، أو يعتقد الإمام أن تلك الدلالة قد عارضها ما دلّ على أنها ليست مُرادة (1) وقد يفتح الحق سبحانه بدقائق الفهم لإمام لا تفتح لغيره (2) . وذكر سبحانه قصة داود وسليمان عليهما السلام دليلاً على ذلك:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْنَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:78-79] . فاختصّ سبحانه سليمان عليه السلام بالفهم، وأثنى عليهما بالحكم والعلم، وتدلّ الآية كذلك على أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه بل يبقى المجتهد موضع الثناء والتقدير لعلمه الذي يحمله (3) . ولقد بين العلماء أن دلالات أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث وضوحها وخفاؤها تنقسم إلى قسمين:
1-
دلالة قطعية واضحة، لا يسع أحداً – غير مغلوب على عقله- جهلها كالأمر بالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، فالقطع بوجوبها لا خلاف فيه. وكالنهي عن الربا، والزنى، وقول الزور، والسرقة، فالقطع بتحريمها لا خلاف فيه (4) .
(1) ابن تيمية/ الفتاوى: 20/231.
(2)
ذكر الرامهرمزي قصة لامرأة تغسل الموتى فسألت الفقيه أبا ثور فأجاب: إذا فرقت رأس الحي بالماء فالميت من باب أولى، استنباطًا من حديث عائشة رضي الله عنها كنت أفرق رأس رسول الله وأنا حائض. المحدث الفاصل بين الراوي والسامع: ص 249.
(3)
البيضاوي/ أنوار التنزيل: ص 434.
(4)
أبو زهرة/ أصول الفقه: ص 347.
1-
دلالة ظنية خفية يعلمها الخاصة دون العامة كفروع الفرائض والمسائل المختلف فيها بين الصحابة رضوان الله عليهم، وقد يكون خفاؤها في الحديث، إما للفظ غريب غير مشتهر، وإما لكون اللفظ مشتركًا وفيه أكثر من معنى (1) ، أو لكون المعنى يختلف بين عرف وعرف، وبلد وبلد. وإما لكون الحديثين ظاهرهما التعارض. وهذه الدلالة يتفاوت العلماء في إدراكها وفهم وجوه الكلام فيها بحسب ما يفتح الحق سبحانه. وهي أحد أسباب اختلاف الأئمة رحمهم الله تعالى (2) .
(1) الألفاظ المشتركة: ما اتحد لفظه وتعدد معناه: كالقرء. والمترادفة: كالفقير والمسكين. والمترددة بين الحقيقة والمجاز كالقمر. انظر: ولد بيه: أمالي الدلالات ومجالي الاختلافات: ص 75.
(2)
رفع الملام: ص 21.