الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: ثبوت أحكام استقلت بها السنة
يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:" فلم أعلم من أهل العلم مخالفًا في أن سنن النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين. والوجهان يجتمعان ويتفرعان:
أحدهما: ما أنزل الله فيه نص كتاب فبين رسول الله مثل ما نص الكتاب.
والآخر: مما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبين عن الله معنى ما أراد. وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما (1) . الوجه الثالث: ما سن رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب...." (2) .
وهذا الوجه الثالث ذهب الجمهور إلى أن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس في القرآن (3) واستدلوا على ذلك بأدلة عديدة أهمها:
أولاً: إن في نصوص القرآن الكريم ما يدل على أن في السنة ما ليس في القرآن مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] . والرد إلى الله هو الرد إلى الكتاب والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته بعد وفاته. وكذا سائر ما قرن فيه طاعة الرسول بطاعة الله فهو دال على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه وطاعة الرسول ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن؛ إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله (4) .
(1) انظر: البحث: ص 36.
(2)
الشافعي/ أحكام القرآن: 1/21.
(3)
انظر: السباعي/ السنة ومكانتها في التشريع: ص 380.
(4)
الشاطبي/ الموافقات: 4/321.
ثانيًا: إنه لا مانع عقلاً من وقوع استقلال السنة بالتشريع مادام رسول الله معصومًا عن الخطأ، والله قد أمر رسوله بتبليغ أحكامه إلى الناس من أي طريق سواء كان بالكتاب أو بغيره.
ثالثًا: ثبت من قول علي رضي الله عنه: ((ما عندنا إلاّ كتاب الله أو فهمًا أعطيه رجل مسلم وما في هذه الصحيفة، فنشرها فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها: المدينة حرم من عيْر (1) إلى كذا، فمن أحدث فيها حدثًا، فعليه لعنة الله واللائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلا، وإذا فيها: ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلا، وإذا فيها: من والى قومًا بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلا)) (2) .
فدل على أن في السنة أشياء لا تحصى كثرة، لم ينص عليها في القرآن. وستأتي أمثلة أخرى عليها.
ويظهر للباحث أن الخلاف لفظي، لأن القائلين إنه ليس في السنة ما لم يرد في الكتاب يثبتون هذه الأحكام ولكن يدخلونها تحت القواعد الكليّة التي وردت في القرآن كالأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فالخلاف لا ثمرة له. حيث إن كلا منهما يعترف بوجود أحكام في السنة لم تثبت في القرآن ولكن أحدهما لا يسمي ذلك استقلالاً، والآخر يسميه، والنتيجة واحدة (3) . وكذا يتم الجمع
(1) عيْر: جبل بالمدينة، انظر ابن الأثير: النهاية، باب العين مع الراء، 3/328.
(2)
أخرجه البخاري، انظر: صحيح البخاري، كتاب الجزية، باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة يسعى بها أدناهم:(1339) 4/533.
(3)
انظر: السباعي/ السنة ومكانتها في التشريع: 385.
بين رأي الجمهور وظاهر قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًىوَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89] . فكونه تبيانًا لكل شيء من أمور الدين باعتبار أنّ فيه نصا على بعض الأمور، وإحالة لبعضها على السنة (1) . وأن الآيات المعجزات جاءت تبيانًا لكل شيء: إما تأصيلاً وإما تفصيلاً (2) .
(1) أبو السعود/ إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم: 5/135.
(2)
الشافعي/ أحكام القرآن: 1/20.