الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
"اسم
"
لفظ "اسم" في المعروف المتواتر من اللغة: هو اسم للفظ الدالِّ على المسمَّى. وأقرب ما يضبط به أنه اللفظ الذي يصلح جوابًا مطابقًا للسؤال عن اسم الشيء، كأن يقال: ما اسم هذا الرجل؟ فيقال: زيد. أي لفظ "زيد". وما اسم الإنسان في بطن أمه؟ فيقال: جنين. وما اسم الواحد من بني آدم؟ فيقال: إنسان. وما اسم الواحد من هذه التي تلمع في السماء؟ فيقال: نجم أو كوكب. وما اسم هذا الفعل؟ فيقال: قيام. وقس على ذلك.
وتقول: كتبت اسم محمد، تريد كتبت هذا اللفظ "محمد".
واسم الله هو هذه الكلمة "الله"، وله سبحانه الأسماء الحسنى، كالرحمن والرحيم وغيرهما.
وهاهنا أقوال مشهورة، لا بأس بذكرها:
الأول: زعم ابن جرير أنَّ كلمة "اسم" هنا بمعنى التسمية، كما يطلق "عطاء" بمعنى إعطاء، و"كلام" بمعنى تكليم
(1)
. وهذا قول لا حجة عليه، ولا حاجة إليه.
الثاني: زعم ابن عبد السلام
(2)
أن لفظ "اسم" قد يطلق بمعنى "مسمى"
(1)
"تفسير ابن جرير"(شاكر 1/ 115 - 118). وقد نصر قوله الأستاذ محمود شاكر.
(2)
لم أجده في موضعه من كتابه "مجاز القرآن". نعم ذكر أمثلة للتعبير بالمصدر عن المفعول في موضع آخر، وأولها قوله تعالى:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] أي مخلوق الله (ص 116) ولم يذكر آية الإسراء.
كما يطلق "خَلْق" بمعنى "مخلوق"، كقول الله عز وجل:{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء: 50 - 51]. واحتج على ذلك بأمور سنعقد لها فصلًا، ونبين إن شاء الله تعالى أنه لا حجة فيها.
ويردُّ قولَه هذا أمور:
منها: أن كلمة "اسم" ليست بمصدر.
ومنها: أن اسم المفعول وما في معناه أكثر ما يضاف إلى الفاعل، مثل: خلق الله، بمعنى مخلوقه. وقد يضاف إلى غير ذلك، ولكن إضافة لفظ "مسمَّى" إلى الاسم الدالِّ على المسمَّى لا أراها تصح.
نعم، استعمل المولدون قولهم:"مسمَّى زيد" يريدون مسمَّى هذا الاسم. وهذا مع أني لا أُثبِتُ صحته لا يأتي في نحو "بسم الله"؛ لظهور أنه ليس المراد هنا بلفظ الجلالة نفس اللفظ، بل المراد مدلولها، وهو الربّ عز وجل.
وجعل ابن عبد السلام
(1)
من هذا قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: "معناه: سبح ربك الأعلى". وكذلك صنع في أمثلة بحذف لفظ "مسمى"
(2)
، كأنه رأى أن الكلام يسمح بالتصريح به.
الثالث: قال البغوي في أوائل تفسيره في الكلام على البسملة: "والاسم هو المسمَّى وعينُه وذاتُه، قال الله تعالى:{إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 7] ثم نادى الاسم فقال: {يَايَحْيَى} [مريم: 8]. وقال: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ
(1)
"مجاز القرآن" ــ طبعة طرابلس (197).
(2)
كذا في الأصل.
إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40] وأراد الأشخاص المعبودة؛ لأنهم كانوا يعبدون المسمَّيات. وقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 18]. ثم يقال للتسمية أيضًا: اسم، فاستعماله في التسمية أكثر من المسمَّى"
(1)
.
[43/ب] أقول: ينبغي أن يحقَّق أولًا المراد بقولهم: "الاسم عين المسمى"، هل المراد لفظ "اسم" أو مدلوله في كل كلمة دالة على مسمًّى مثل زيد ورجل ونخلة وفهم؟
فإن كان الأول، فما المراد بلفظ "مسمَّى"؟ أهذا اللفظ على نحو ما مرَّ عن ابن عبد السلام، وهذا الوجه الأول. أو ذاته صاحب الاسم، فيكون لفظ "اسم" بمعنى ذات، وهو الثاني. أو الاسم الخاص، بأن يقال: إن لفظ "اسم" في قولنا: اسم الله، هو لفظ الله. وهذا الثالث. أو صاحب الاسم عينه، فيقال: إن لفظ "اسم" في قولنا: اسم الله، هو الربُّ عز وجل. وهذا الرابع.
أما الأول: فقد مرَّ ما فيه، ولا حجة عليه في قوله تعالى:{يَايَحْيَى} [مريم: 8]؛ لأن لفظ "يحيى" ليس بمصدر، ولا بينه وبين ذات الرجل اشتقاق، كما بين لفظي "خَلْق"، و"مخلوق". وعجيب من ابن عبد السلام أنه قرَّر التجوَّز على هذا الوجه على ما مر عنه، ثم قال: "واستدل بعضهم على ذلك بقوله تعالى: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ
…
} [مريم: 8] ".
وأما الثاني، فلا دليل عليه، والأمثلة التي ذكرها هو وغيره سيأتي الكلام عليها، إن شاء الله تعالى.
(1)
"معالم التنزيل"(1/ 1 - 2).
وأما الثالث، فبطلانه واضح؛ لأنه إذا كان لفظ "اسم" بمعنى الله، فكيف أضيف إلى الله؟ إلا أن يريد أن مدلول اسم الله هو هذه الكلمة "الله"، فهذا لا نزاع فيه، وليس مراده؛ لأنه يقول في {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]: إنَّ المعنى سَبِّحْ رَبَّكَ. ولو كان ذاك مراده، لكان المعنى: سبح اللفظ الذي هو اسم ربك، مثل لفظ "الله"، ولفظ "الرحمن"، وهو لا يقول ذلك.
وأما الرابع، فبطلانه واضح.
وإن كان الثاني، أي أن المراد بالاسم مدلوله من كل لفظ دالٍّ على مسمًّى، مثل زيد ورجل ونخلة وفهم، فهذا حقٌّ، فإن من قال: بايعت زيدًا، إنما يريد بقوله:"زيد" الرجلَ عينَه، وكذلك الباقي.
هذا هو الحقيقة، وقد يطلق الاسم ويراد به نفسه، كقولك: كتبت "زيد"، وقوله تعالى:{اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 8]، وغير ذلك.
فإذا كان المعنى الثاني هو مراد من قال: الاسم عين المسمى، فمراده أن ذلك هو الحقيقة. وهذا حق لا ريب فيه، ولكنه لا دليل فيه على أن لفظ "اسم" في قوله:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] أريد به الرب تعالى؛ لأن لفظ "اسم" هو في نفسه فرد من أفراد الاسم، فإنك تقول: ما اسم اللفظ الذي يوضع للشخص ليعرف به؟ فيقال: اسم.
ومقتضى القاعدة أن لفظ "اسم" حيث يطلق فالمراد به مدلوله إذا كان الكلام على حقيقته، ومدلول لفظ "اسم" هو اللفظ الموضوع للشيء ليعرف به، وهذا حق، فإننا نقول لزيد: كتبنا اسمك، أي كتبنا لفظ:"زيد".
فقضية القاعدة أن لفظ "اسم" في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] أريد به اللفظ الذي تسمى به الله عز وجل، كلفظ الله، ولفظ الرحمن. وهذا عكس مراده.
وإيضاح هذا أن للفظ "اسم" مسمًّى هو لفظ يحيى مثلًا، وللفظ "يحيى" مسمًّى هو الرجل، فإذا أريد بالقاعدة أن لفظ يحيى إذا أطلق على وجه الحقيقة، فالمراد به الرجل، فقضية ذلك أن لفظ "اسم" إذا أطلق على وجه الحقيقة، فالمراد به لفظ "يحيى" مثلًا، فأما إطلاق لفظ "اسم" على الرجل، فلو أريد لقيل: الاسم هو المسمى بالمسمى به؛ فتدبَّرْ هذا، فإنّ فيه شبه غموض.
ومن العجب أن في كلام ابن عبد السلام
(1)
ما يظهر منه أن إطلاق الاسم وإرادة مدلوله، كقوله تعالى:{يَايَحْيَى} وقوله: {يَازَكَرِيَّا} ، وقولك: ركبت الفرس، بل وقولنا: عبدت الله= مجاز غالب، وإنما الحقيقة هي أن يراد بالكلمة نفسها كيحيى في قوله تعالى:{اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 8]، وقولك: كتبت "جعفر"، تريد كتبت هذا اللفظ؛ ونحو ذلك.
لكنه مع ذلك عاد فقال: إن إطلاق الأسماء على الألفاظ المسمى بها حقيقة. وكأن ذلك منه مبني على أصل الوهم، وهو أن وزان لفظ "اسم" إلى الرجل، كوزان لفظ "يحيى" إلى الرجل.
وبالجملة، ففي كلامه تخليط، ولكن هذا القول ــ أعني أن إطلاق الاسم مثل "يحيى" مرادًا به مدلوله مجاز ــ قد يفسر لنا أصل النزاع في
(1)
الإشارة إلى الإيجاز، طبعة دار الكتب العلمية (49).
الاسم والمسمى، فإنه اشتهر أنَّ مذهب أهل السنة أنَّ الاسم عين المسمى، ومذهب المعتزلة
والخوارج ــ كما قال الأشعري في كتاب المقالات ــ أن الاسم غير المسمى
(1)
.
وقد تحير المتأخرون في معنى الخلاف. قالوا: لأنه إن أريد بالاسم لفظه، فهو غير المسمى قطعًا، ولا يقول عاقل ــ فضلًا عن أهل السنة ــ إنه عينه. وإن أريد مدلوله فهو عين المسمى، ولا يخالف في ذلك المعتزلة ولا الخوارج.
أقول: لا يبعد أن يكون أول الأمر زعم بعض المبتدعة أنَّ الدلالة الحقيقية للألفاظ إنما هي على أنفسها، كما في قوله تعالى:{اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 8]، وأما دلالتها على المسمى فإنما هي مجاز، وروَّج ذلك بأن دلالة الشيء على نفسه أسبق وأوضح من دلالته على غيره، فالدخان مثلًا يدل على نفسه ثم على النار، ودلالته على نفسه أسبق وأوضح. [44/أ] ثم عبَّر عن ذلك بقوله:"الاسم غير المسمى" أي هو غيره في نفس الأمر، فإن لفظ "يحيى" غير ذات الرجل قطعًا، أي فينبغي أن يكون كذلك في حقيقة الدلالة.
وكأن غرض ذلك المبتدع أن يوصل بهذا القول إلى ترويج تأويلاتهم لنصوص الكتاب والسنة قائلًا: المعاني التي تحملون عليها النصوص ــ معشر أهل الحديث ــ كلها مجازات، والتي نحملها نحن عليها هي أيضًا مجازات، فلا مزية لكم علينا من هذا الوجه.
(1)
حكى الأشعري في "المقالات" من جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة "أن أسماء الله لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج"(290) وأنهم "يقولون: أسماء الله هي الله"(293). وانظر: "روح المعاني"(1/ 52).
ثم يقول: لا ريب أنه لا يمكن تركيب جملة واحدة مفيدة سالمة عن المجاز، فثبت بذلك أنَّ جميع نصوص الكتاب والسنة مجاز، ووجوه المجاز
كثيرة، فقد يمكن احتمال عدة مجازات في الكلمة الواحدة، بعضها ينقض بعضًا. غاية الأمر أن مجازًا أقرب من مجاز، وهذا رجحان ظني، إنما يكفي فيما يكفي فيه الظن من فروع الأحكام. فأما ما يطلب فيه القطع ــ وهو العقائد ــ فلا، فدعوا نصوصكم، وهلموا إلى العقل.
فأجاب أهل السنة بقولهم: "الاسم عين المسمى" أي أن دلالته الحقيقية التي لا يجوز العدول عنها إلا بقرينة واضحة، هي دلالته على عين المسمى، أي والمعاني التي تحمل عليها النصوص هي حقائقها، وما يزعمه المبتدعة من قرينة العقل باطلة كما هو مبين في موضعه.
ثم كأن المبتدعة رأوا أنَّ دعواهم تلك واضحة البطلان، فحولوا العبارة إلى معنى آخر، وهو قولهم: إن المراد بالاسم هو الصفة التي يدل عليها بعض الأسماء كالعليم والقدير، فقالوا: مرادنا أن العلم والقدرة ونحوهما مما تثبتونه لربكم عز وجل هي غيره سبحانه، وأنتم تقولون: إنها قديمة، فقد أثبتم عدة قدماء غير الله تعالى. فأجابهم أهل السنة بالتفصيل المعروف.
هذا، والقول بأن الألفاظ إنما تدل حقيقة على أنفسها مختلٌّ كما مر، وقد ظهر من كلام ابن عبد السلام القول به، فلا بأس بأن نبين الحجة على بطلانه، فأقول:
قد تقرر أن الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وُضِعت له، والمجاز بخلافها، وقد وجدنا الألفاظ تستعمل للدلالة على معانيها، كقوله تعالى {يا يَحْيَى} وللدلالة على أنفسها، كقوله سبحانه {اسْمُهُ يَحْيَى} . فحاصل القول
المتقدم أن الواضع إنما وضع الألفاظ للدلالة على أنفسها، وأنها إنما استعملت للدلالة على معانيها على سبيل المجاز. فيقال لمن يلتزم ذلك القول: حاصل
قولك أن الواضع بدأ فركب الألفاظ ورتّبها، ثم استعملت في المعاني تجوُّزًا. وقد علمنا أن المجاز يعتمد العلاقة الواضحة، فأي علاقة بين المعاني وبين الألفاظ التي لا معاني لها إلا دلالتها على أنفسها.
وافرض أن أحدنا ركَّب ألف لفظ مخترع، ثم أراد أن يستعملها في المعاني تجوزًا، فأنّى ذلك، وما العلاقة؟
فإن تشبث بما يذكره المدققون في بعض الألفاظ الدالة على الأصوات، أو على ما يُفهم الصوت، من أنها مناسبة لتلك الأصوات، كما في: صرَّ، وصرصر، ودقَّ، وجرَّ؛ وفي بعض الألفاظ من مناسبة بين صفات حروفها من الشدة والهمس وغيرهما، وبين معانيها.
قيل له: إن الألفاظ التي يُدَّعى فيها ذلك قليلة جدًّا بالنسبة إلى غيرها، وتلك المناسبات تعتمد في الغالب التوهم والتخيل، وذلك مما يختلف باختلاف الناس، وأجمع الناس على أنه لا يجوز اعتماد هذه المناسبة في إثبات اللغة بدون سماع.
فإن قال: من أصلي في المعقولات أنه يستحيل الترجيح بدون مرجح، فإن لم تسلموا ذلك فناظروني فيه. وإنْ سلمتم، فمن قولكم إن الواضع إنما كان يتصور المعنى، ثم يضع له لفظًا، فيلزمكم أن تقولوا: إنه إنما رجح لفظًا على آخر لمرجِّح، فأنا أقول: إن ذلك المرجح هو العلاقة.
قلنا: إنه يمكن أحدنا أن يعمد إلى المعاني ويضع لها ألفاظًا مخترعة، فيجمع مائة لفظ لمائة معنى، أو يبدأ فيركب مائة لفظ مخترع ثم يعين لكل
لفظ معنى، ولعله يقضي عمله هذا في بضع دقائق، كل هذا بدون تصور مرجِّح في غالب تلك الألفاظ.
بل لو فكر بعد ذلك العمل أيامًا ليبين لكل لفظ من تلك الألفاظ مرجحًا لما أمكنه ذلك، والذي يمكنه من ذلك يغلب فيه التعسف بحيث يعلم قطعًا أنه عند التعيين لم يستحضر ذلك المرجح، وهذا أمر يمكنك أن تجربه إن شككت فيه، فماذا ترى في تفسير ذلك؟
[44/ب] فإن قال: لابد من مرجح، إلا أنه في مثل هذا يكفي المرجح العارض والوهمي الذي يؤثر أثره في النفس بدون أن يثبته العقل.
قلنا: فلا علينا إن نسلم لك هذا، ثم نقول: إن هذه هي حال الواضع إذا كان من البشر في وضع الألفاظ للمعاني، ولا يمكنك أن تجعل ذلك علاقة للمجاز، لأنها غير معلومة ولا مستقرة. فلو اقتصر الواضع على تركيب الألفاظ وتعيينها، ثم قال للناس: يجوز لكم أن تستعملوها في المعاني للمناسبات، لما أمكنهم أن يعتمدوا ذاك المعنى في المناسبة لعدم العلم، وعدم استقراره، وغلبة الاختلاف فيه.
وبيان ذلك: أننا لو عيَّنَّا معنى، ثم قلنا لمائة رجل: ليضع كل منكم لهذا المعنى لفظًا مخترعًا لاختلفوا، حتى لقد يندر أن يتفق ثلاثة منهم على لفظ.
وكذلك لو اخترعنا لفظًا، ثم قلنا لهم: ليضعه كل منكم لمعنى.
فإن قال: أنا أقول إن الواضع لم يَكِلْ هذا التجوز إلى الناس، بل نص عليه، وقال: هذا اللفظ يصح أن يُتجوَّز به عن هذا المعنى، وهذا عن هذا، وهكذا.
قلنا: فإذا فعل الواضع هذا، فهذا وضع، لا تجوُّز.
فإن قال: لكني أسمِّيه تجوّزًا.
قلنا: سمِّه ما شئت، فقد ثبت وضع الألفاظ للمعاني، ولم يبق إلا دعواك أن الواضع بدأ فوضع الألفاظ لأنفسها، فنسألك: ما فائدة وضع الألفاظ لأنفسها، والناس لا يحتاجون إلى ذلك، وإنما احتاجوا إليه في الجملة بعد أن وضعت الألفاظ للمعاني؟ فإنه بعد أن تقرر أن لكل شجرة اسمها دعت الحاجة إلى أن يقال: ما اسم هذه الشجرة؟ فيقال: نخلة، وغير ذلك، فأما قبل أن تعرف علاقة ما بين الألفاظ والمعاني فأي حاجة بالإنسان إلى أن يقول لصاحبه:"نخلة"، ليعرف صاحبه أن لفظ "نخلة" يدل على هذا اللفظ "نخلة"؟
أولا ترانا لا نكاد نحتاج إلى ذكر الألفاظ المهملة؟ وهل تذكر أنك نطقت، أو سمعت من نطق بلفظ:"ضصقح"؟
ولهذا لما احتاج علماء اللغة إلى ذكر الألفاظ المهملة استعانوا بالمستعملة، فمثلّوها بقولهم:"ديز" مقلوب "زيد".
ثم أي حاجة بالألفاظ في دلالتها على نفسها إلى الوضع؟ فإن المقصود من الوضع إنما هو أن يعرف العلاقة بين الشيئين، حتى إذا أريد إحضار أحدهما في ذهن المخاطب توصل إلى ذلك بإحضار الآخر. وهذا إنما هو في وضع الألفاظ للمعاني، مثاله: أن الإنسان قد يحتاج إلى أن يخاطب صاحبه بشيء يتعلق بهذا الطائر الأسود، ولا يستطيع في كل وقت إحضار الطائر نفسه والإشارة إليه، فوضع له لفظ "غراب"، حتى إذا عرف ذلك كفاك أن تقول:"غراب" فيحضر ذاك الطائر في ذهن صاحبك.
فأما اللفظ نفسه، فإنه يكفيك أن تنطق به، فيحضر في ذهن صاحبك. وها
نحن نحضر الألفاظ المهملة بذلك كما نقول: "ضصقح لفظ مهمل".
فإن قال: إنما أريد بوضع الألفاظ لأنفسها أولًا أن الواضع بدأ فانتقى الألفاظ، وركَّبها، وجمعها.
قلنا: فهذا ليس بوضع
(1)
، فكيف يقتضي أن دلالتها على أنفسها هي الحقيقة؟ ثم ما الحاجة إلى أن يبدأ الواضع بجمع الألفاظ وهي عرضة له، يمكنه أن يكتفي بعمل واحد، هو أن يتصور المعنى، ثم يقتطع له لفظًا، وهكذا.
فإن قال: دعوا هذا، ولكني أقول: إن دلالة الألفاظ على أنفسها طبيعية، بمعنى أن الإنسان إذا نطق باللفظ حضر ذاك اللفظ في ذهن صاحبه بدون حاجة إلى شيء آخر. وهذه الدلالة مقدمة على الدلالة الوضعية، فأنا أسمي الدلالة الطبيعية حقيقة، والوضعية مجازًا.
قلنا: هذا خلاف ما عليه الناس في تعريف الحقيقة والمجاز. ثم قد بينَّا أن حاجة الناس إلى الألفاظ إنما هي من جهة دلالتها على المعاني، وأنه إنما احتيج إليها للدلالة على أنفسها للاستعانة بذلك على معرفة الدلالة على المعاني، كما في قوله تعالى:{اسْمُهُ يَحْيَى} . وإذا كان الأمر كذلك علم أن المعتمد في فهم كلام الناس وفهم دلالات الألفاظ إنما هو دلالتها على المعاني.
ومثال ذلك: المرايا، فإن المرآة تدل على نفسها، بمعنى أن الإنسان إذا
(1)
في الأصل: "يوضع".
رآها علم أنها مرآة، ولكن هل تجد أحدًا يشتري مرآة لتكون عنده فقط، أو إنما يشتري الناس المرايا ليروا فيها صورهم؟
وإنما نزاعنا معك في فهم الألفاظ في كلام الناس، وقد عُلِم مما مرَّ أن الأصل في ذلك هو أن يفهم منها معانيها، فلا يضرُّها بعد ذلك أن تسميها مجازًا.
[45/أ] واعلم أن المحققين من علماء الوضع اتفقوا على أن الواضع إنما قصد وضع الألفاظ للمعاني، ولكنهم اختلفوا في دلالة الألفاظ على أنفسها حيث وقعت في الكلام، كقول النحاة:"قام" فعل ماض، و"من" حرف جر، وأشباه ذلك، فقال السعد التفتازاني وجماعة: إنها دلالة وضعية وضعًا تبعيًّا. وأنكر السيد الشريف الجرجاني وجماعة ذلك، وقالوا: لا يدل صحة استعمالها في الكلام على الوضع لأنه يصح استعمال المهمل، كأن يقال:"ديز" مقلوب "زيد"، وأشباه ذلك.
والذي أراه أن الخلاف صوري، والتحقيق مع السعد، وذلك أن الواضع لما وضع الألفاظ للمعاني دعت الحاجة إلى استعمالها في الدلالة على أنفسها، فأقرَّها الواضع، ونطق بها العرب كذلك حيث احتاجوا إليها، فكان هذا وضعًا تبعيًّا.
أَوَلا ترى أن الإنسان إذا نطق باللفظ المستعمل كان متكلّمًا بالعربية، سواء أراد به معناه أم لفظه، كقول القائل: طلع القمر، وقوله: كتبت "قمر"؛ وأنه إذا نطق باللفظ الأعجمي كان خارجًا عن العربية، كقولك: طلعتْ "جانْدْ"
(1)
(اسم للقمر بالفارسية)، وكتبت "جاند"؟
(1)
كلمة "جانْدْ" بالجيم الفارسية وإخفاء النون: كلمة هندية تستعمل باللغة الأردية. أما اللغة الفارسية فيقال للقمر فيها: "ماه". ولا أدري لماذا أنَّث الفعل "طلعتْ"، فإن الاسم المذكور مذكر.
وإنما يستثنى من هذا الألفاظ الأعجمية التي تقبلها العرب، فصارت في حكم العربية، فلفظ "قمر" له علاقة بالوضع العربي، سواء أعُبِّر به للدلالة على معناه أم على نفسه، ولفظ " جاند" لا علاقة له بالوضع العربي.
القول الرابع: زعم بعضهم أن لفظ "اسم" قد يأتي بمعنى الصفة كما مرَّ عن المتكلمين. وذكر ابن عبد السلام
(1)
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن لله تسعةً وتسعين اسمًا"
(2)
، وقوله تعالى:{فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 11] وقوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] ثم قال: "ويجوز أن يراد بالأسماء الحسنى الصفات، فيكون تعبيرًا بالأسماء عن المسميات، فإنّ الحسن والشرف إنما يتحقق في المسميات دون التسميات، لأنها ألفاظ، ولا تتصف الألفاظ بالحسن إلا إذا كانت خفيفة على اللسان، فصيحةً في البيان. وكذلك لا تتصف الأجرام بالشرف والحسن، إلا إذا قامت بها الصفات الشراف الحسان".
أقول: لم يقم دليل على صحة إطلاق الاسم بمعنى الصفة.
وقوله: "تعبيرًا بالأسماء عن المسميات" قد مرَّ ما فيه.
وقوله: "إن الألفاظ لا تتصف بالحسن إلا لخفة على اللسان، وفصاحة في البيان" من عثراته التي لا تقال، فإن الألفاظ تكتسب الحسن والشرف من
(1)
"مجاز القرآن"(199).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب ما يجوز من الأشراط
…
(2736) ومسلم في كتاب الذكر، باب في أسماء الله تعالى (2677) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
معانيها ومدلولاتها والمتكلم بها، وعلى التنزُّل فيمكن أن يقال: إن حسنها باعتبار معانيها، فكأنه قيل:"الحسنى معانيها".
ولو فرضنا أن الاسم قد يطلق بمعنى الصفة، فسياق الحديث والآيات يأبى هذا المعنى، ولا حاجة للإطالة ببيان ذلك. والله المستعان.
القول الخامس: إن لفظ "اسم" قد يقحم في الكلام، فيكون زائدًا. وقد حكى ابن جرير هذا عن بعضهم، وردَّه
(1)
. والبصريون من النحاة يمنعون زيادة الأسماء. وقد ذكر ابن هشام ذلك في "المغني" في الكلام على "مَنْ" بفتح الميم
(2)
. وقال في الكلام على "ماذا": "التحقيق أن الأسماء لا تزاد"
(3)
.
وقد أنكر بعض أهل العلم أن يكون في القرآن لفظ زائد حرفًا أو غيره. وأجاب المحققون بأنَّ المراد الزيادة بحسب صناعة الإعراب، وأما في المعنى فما من لفظ يقال بزيادته إلا ولذكره معنى وفائدة لا تحصل بدونه.
وأقول: إن ثبت ما زعمه بعضهم من جواز زيادة الأسماء، فذاك في أسماء تُشبه الحروف مثل "مَنْ". ولو ثبت في غيرها فليس في فصيح
(1)
انظر: "تفسير ابن جرير"(1/ 119 - 120). والذي ردّ عليه ابن جرير هو أبو عبيدة معمر بن المثنى الذي قال في "المجاز"(1/ 16): " (بسم الله) إنما هو الله، لأن اسم الشيء هو الشيء بعينه". ونقل اللالكائي عن الأصمعي وأبي عبيدة قولهما: "إذا رأيت الرجل يقول: الاسم غير المسمى، فاشهد عليه بالزندقة". "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"(2/ 207).
(2)
"المغني"(433).
(3)
"المغني"(397).
الكلام، ولو ثبت في فصيح الكلام فليس مما يقاس عليه. وحملُ القرآن على ما لم يثبت لا يجوز، ما دام يحتمل غيره.
وسنبيِّن إن شاء الله تعالى أن الآيات التي زعموا زيادة لفظ "اسم" فيها لا
حاجة بها إلى ذلك.
[45/ب] القول السادس: إن لفظ "اسم" في نحو {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] بمنزلة المجلس والحضرة في قولهم: سلام على المجلس العالي، والحضرة الشريفة
(1)
.
أقول: هاتان الكلمتان من تنطعات المولَّدين تبعًا للأعاجم. ونظير ذلك أو أقرب منه قول بعضهم
(2)
في قوله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] واحتجاجه ببيت الشماخ:
ذعرتُ به القطا ونفيتُ عنه
…
مقامَ الذئبِ كالرجلِ اللَّعينِ
(3)
وليس بشيء، فقد فسّر السلف ومن يقرب منهم {مَقَامَ رَبِّهِ} بما يليق به.
وأما بيت الشماخ، فـ "مقام" فيه بمعنى "قيام"، يريد: أزلت عنه قيام الذئب، أي وقوفه.
وأما المولدون، فيستعملون "المقام" بمعنى مكان الإقامة، ثم يقولون: سلام على ذلك المقام، ونحو ذلك. والعارف منهم يشبه هذا بقول
(1)
وهو قول أبي حامد الغزالي في كتابه "المقصد الأسنى"(38).
(2)
انظر: "روح المعاني"(25/ 4) و (27/ 116).
(3)
"ديوان الشمَّاخ"(321).
العربي
(1)
:
إنَّ السَّماحةَ والمروءةَ والندى
…
في قُبَّةٍ ضُرِبتْ على ابنِ الحَشْرَج
ويقول: إذا سلَّمتُ على المحلّة التي يقيم فيها، فكأني قد غمرتُه بالسلام من جميع جوانبه.
هذا، ولا يتجه نحو هذا في لفظ "اسم"، وأقرب ما يُدَّعى فيه مما يقرب من هذا أن يقال: إن في الكلام كناية، كما يقول الرجل: إني أحبُّ اسم علي، يكني بذلك عن حبه لعلي بن أبي طالب عليه السلام. ومن شأن الكناية أنه يصلح معها إرادة المعنى الحقيقي بأن يكون هذا الرجل لشدة حبه لعلي عليه السلام قد أحبَّ هذا الاسم لأنه يذكر به.
وهذا يلاقي المعنى المختار في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
(1)
هو زياد الأعجم، وممدوحه عبد الله بن الحشرج كان سيِّدًا من سادات قيس. انظر:"الأغاني"(12/ 20) و (15/ 312).