الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ل 56/ب]
الرحمة
العرب بلسانها وفطرتها تعرف معنى الرحمة، وتصف بها الخالق عز وجل مع علمها بأنه سبحانه ليس من جنس البشر ولا غيرهم من الخلق. وجاء الكتاب والسنة مملوئين بوصف الرب تعالى بالرحمة. وجاء أول كتابه:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وسمَّى نفسه: الرحمن، الرحيم، الرؤوف، أرحم الراحمين.
ولم يشتبه معنى ذلك على أحد من العرب، ولا شكَّ فيه أو تأوَّله أحد من الصحابة والتابعين، فثبت أنَّ وصفَ الله تبارك وتعالى بالرحمة على ما يفهمه الناس بفِطَرهم حتى لا يجوز أن يرتاب فيه مؤمن بالله وكتبه ورسوله.
ولكن كثيرًا من الناس أبوا ذلك، وقالوا:"الرحمة" لغةً: رقَّة القلب، كما فسَّرها بذلك أهل اللغة، وهذا مستحيل في حقِّ الله تبارك وتعالى. والمتكلمون يعرِّفونها تعريفًا يُعلم منه أنها مستحيلة في حق الله تبارك وتعالى، فلابد من تأويل الرحمة إذا وُصِف بها الرب عز وجل بالإحسان أو إرادته.
فيقال لهم: أما تفسيرها برقة القلب فهو تفسير غير محقَّق، وإنما رقة القلب كناية عن الرحمة. وإنما فسَّرها بذلك المتكلِّفون من أهل اللغة وغيرهم، فإنَّ معنى الرحمة أظهر من أن يحتاج إلى تفسير. ولذلك لم يتعرَّضْ لها الأوائل كابن جرير وغيره. وهذه الألفاظ الواضحة المعنى إذا تكلَّف الإنسان تفسيرَها وقع غالبًا في التخليط؛ على أننا نعلم أنَّ أهلَ اللغة ولاسيما المتأخرين منهم يتسامحون كثيرًا في تفسير الألفاظ.
ونحن نجد من بقي على الفطرة من العرب يصفون الرجل بالرحمة مع ذهولهم عن القلب ورقَّته، ويصفون الربَّ عز وجل بالرحمة ولا يتصورون له قلبًا ولا رقَّةَ قلب.
وأما تفسير المتكلمين إياها، فينظر فيه، فإن كان ظاهر الاختصاص بالمخلوق فهو تفسير لرحمة المخلوق فقط. والمعنى المطلق إذا فُسِّر باعتبار تقيُّده كان التفسير مقيَّدًا. ولا ينافي ذلك ثبوتَ الرحمة لله عز وجل بغير ذاك التفسير المقيَّد. وإن كان تفسيرًا مطابقًا للرحمة المطلقة على الحقيقة فلابد أن يكون ثابتًا لله تبارك وتعالى.
وأما تأويلكم إياها بالإحسان أو إرادته، فمردودٌ عليكم. فإننا نعلم أنَّ العرب الذي سمعوا القرآنَ وصحبوا النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يفهمون من رحمة الله عز وجل معنًى وراء ذلك. فإن قلتم: وما هو؟ قلنا: هو الرحمة.
فإن قلتم: وما هي الرحمة؟ قلنا: إن كنتم تعرفون العربية حقَّ معرفتها، فسؤالُكم تعنُّت؛ وإلا فأخبرونا: أيَّ لسانٍ تتقنونه حتى ننظر من يترجم لكم به!
فإن قلتم: نحن نعرف اللسان المنطقي الذي يفسِّر بالحدِّ المبني على الجنس والفصل، كقولنا في الإنسان: حيوان ناطق.
قلنا: قولكم هذا رأس مالكم في الحدود، وليس هو عندكم حدًّا صحيحًا، وقد ملأتم الكتب بالاعتراضات عليه والأجوبة! ومع ذلك فهو بألفاظ عربية، والعربي يفهم المقصود بالإنسان أوضحَ مما يُفهِم قولُكم:"حيوان ناطق".
فكذلك الرحمة المطلقة، لو حاولنا أن نحُدَّها بمنطقكم فقد لا يتأتَّى، وإن تأتَّى فقد يحتمل المناقشات. ولو سلِمَ لكان أخفى في الدلالة على المعنى من لفظ الرحمة!
وأنتم تسمُّون الحدَّ: "القول الشارح"، والشرح إنما يُحتاج إليه فيما ليس بالواضح، وإنما يكون بأوضح من المشروح، ومعنى الرحمة بيِّن بنفسه.
فإن أبيتم وقلتم: قلوبُنا غُلْف عن فهم الرحمة حتى تحدُّوها لنا حدًّا منطقيًّا. قلنا: فدعوها لأهلها، وهم المؤمنون بها!
وهذا آخر الكلام معكم هنا. والله المستعان.
مسألة
اختلف الناس في البسملة، فقال بعضهم: هي آية من الفاتحة. وقال بعضهم: ليست من نفس السورة، وإنما هي آية نزلت للفصل بين السور.
وتفصيلُ الأقوال وحججها
(1)
وبيانُ الراجح منها، له موضع آخر. وإنما أذكر هنا الحجج التي من نفس النظم الكريم، فأقول:
مما احتج به النفاة على أنها ليست آية من الفاتحة بأنها لو كانت منها لكان الظاهر أن يقال: "والحمد لله رب العالمين" بالعطف؛ وبأن فيها "الرحمن الرحيم"، ثم جاء هذان الاسمان في الفاتحة. ومثل هذا التكرار إنما يقع في السورة الواحدة بعد فصلٍ بكلام تكون فيه مناسبة لذلك.
فأما الحجة الأولى فليست بقائمة؛ لأنَّ للوصل شروطًا لم تجتمع هنا، واذكر قول الله عز وجل:{فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [المؤمن: 65]
(2)
، وقوله فيما أخبر به من دعاء إبراهيم عليه السلام:{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي} الآية [سورة إبراهيم: 38 ــ 39]
(3)
، وقوله تعالى فيما أخبر به عن بلقيس:{إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 29 ــ 31].
(1)
في الأصل: "حجاجها"، وكذلك فيما بعد:"الحجاج التي". وهو من سبق القلم.
(2)
تخريج الآية من المصنف. والمقصود سورة غافر، وكذا اسمها في المصاحف الهندية.
(3)
هذا التخريج أيضًا من المصنف.
وأما الحجة الثانية، فإن ابن جرير مع أنه يرى أن البسملة ليست من الفاتحة حكاها متبرِّئًا منها
(1)
. وهي أيضًا غير سديدة، إذ قد يقال: إن الاسمين الكريمين ذُكِرا في البسملة تقريرًا لاستحقاق الله عز وجل البداءةَ باسمه، وإشارةً إلى حصول مطالب المبتدئ التي تقدمت الإشارة إليها. وذُكرا بعد الحمد لما يأتي.
وقد حكى ابن جرير عن المحتجين أنهم يزعمون أن أصل التركيب: الحمد لله الرحمن الرحيم رب العالمين، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله
(2)
. ولو صح لما أفادهم؛ لأن الاسمين الكريمين بعد الحمد لله على كل حال.
(1)
"تفسير الطبري"(1/ 146).
(2)
انظر ما يأتي في تفسير سورة الفاتحة (ص 93).
الرسالة الثانية
في تفسير سورة الفاتحة