الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإما أن يقال: الخطاب مع المؤمنين، والمؤمن لا يطيب له طبعًا نكاح محرمة، كبنت ابنه، أو بنت أخيه.
هذا، وطريقة المحققين من أئمة التفسير والحديث تحرِّي الجمع بين الروايات، و
إذا كانت الآية ظاهرة في العموم لم تصرف عنه إلى الخصوص لظاهر تفسير بعض السلف
. فقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية أن كثيرًا من تفسيرات السلف إنما أريد بها النصُّ على أنَّ ما ذكره مما يدخل في الآية، لا أنه المعنى كله
(1)
.
فعلى هذا، يمكن تقرير معنى الآية [ص 6] على ما يشمل ما تقدم وغيره من صور خوف عدم الإقساط، وتسلم مع ذلك عن كثرة الحذف والتقدير، ودونكه:
3 -
قال الله عز وجل أولًا: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} فهذا خطاب للناس جميعًا، فكذلك قوله في الآية الثانية: {وَآتُوا
…
وَلَا تَتَبَدَّلُوا
…
وَلَا تَأْكُلُوا
…
} وكذلك قوله في الثالثة: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا
…
} فالناس جميعًا مكلفون بالإقساط إلى اليتامى، كلٌّ بحسبه، فالولي يقسط في معاملة اليتيم، وسائر الناس يأمرونه بذلك، ويحثونه عليه، ويمنعونه من الجور.
وهناك صور يعلم فيها وجه القسط، فأمرها بيِّن.
وهناك صور يشتبه فيها وجه القسط، فيقول الولي: إن فعلت كذا خفت عدم الإقساط، وإن فعلت كذا فكذلك. وهكذا يلتبس الأمر على غيره، فلا يدري بماذا يأمره؟ وعلى ماذا يعينه؟
(1)
مقدمة التفسير في "مجموع الفتاوى"(13/ 337).
يقول الولي: إن نكحت هذه اليتيمة فلعلِّي لا أقسط لها، ولعلِّي لو أبقيتها تيسَّر لها أجنبي يبذل في صداقها أكثر مما أبذل، ولعلي إذا نكحتها أن لا أحسن معاملتها، وكذلك إذا فكر في إنكاحها ابنه، أو ابن أخيه مثلًا. ثم يقول: ولعلي إذا تركتها لا يرغب فيها أجنبي فتتضرر، وإن رغب فلعله يحتال على مالها فيأكله، ولعله يتمتع بشبابها ثم يجفوها، ويضرّ بها؛ لأنه أجنبي، لا يعطفه عليها إلا جمالها ومالها.
وهكذا يلتبس الأمر على غيره، فلا يدري بماذا يأمره؟
فأرشدهم الله عز وجل إلى أولى الأوجه، وأقربها إلى القسط، وهو تحري الطيب في النكاح، والطيب أن تكون المرأة مع حِلّها للرجل معجِبة له خَلْقًا وخُلُقًا، بحيث يغلب على الظن أنه إذا نكحها عاش معها عيشة طيبة، ولن يكون ذلك حتى يكون معجبًا لها خَلْقًا وخُلُقًا، وحتى تكون راضية بنكاحه رضًا تامًّا، فلن تطيب لمن هي كارهة له، ولن تطيب لمن هواها في غيره.
[ص 7] ولن تطيب إذا عرض عليها الوليُّ مهرًا دونًا، فتمنعت، فعضلها حتى ألجأها إلى القبول لنكاحه، أو نكاح ابنه، أو ابن أخيه مثلاً.
ومتى تحرَّى الولي وغيره إنكاح اليتيمة مَن تطيب له ذاك الطيب، سواء أكان هو الولي، أم ابنه، أو ابن أخيه، أم أجنبيًا؛ فقد أدوا ما عليهم من رعاية الإقساط، فلا يمنعهم عنه تخوُّف من عدم الإقساط.
ولما كان الطيب بهذا المعنى هو مظنة استقامة النكاح، وائتلاف الزوجين مطلقًا، أي في اليتيمة وغيرها، سيقت الآية هذا المساق {فَانْكِحُوا مَا
طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} أي لينكح الولي ما طاب له، ولينكح ابنه أو ابن أخيه ما طاب له،
ولينكح كل منكم ما طاب له، وليأمر الناس بعضهم بعضًا بذلك، وليتعاونوا عليه.
وعلم بذلك أنه ينكح اليتيمة من طابت له، سواء أكان هو الولي، أم أحد أقاربه، أم أجنبيًا؛ وأن من نكح امرأة لا تطيب له ذلك الطيب، أو أنكحها من لا تطيب له ذاك الطيب، أو أمر بذلك، أو أعان عليه، فلم يقسط، حتى الأب إذا أنكح ابنته من لا تطيب له ذاك الطيب فلم يقسط إليها، ولا إلى الزوج، ولا إلى نفسه؛ لأن الثلاثة معرضون للإثم، ولما ينشأ عن مثل ذلك النكاح من الخصومة والنكد.
وكذلك من ألجأ ابنه إلى نكاح امرأة لا تطيب له، أو منعه من نكاح امرأة تطيب له، أو ألجأه إلى فراقها، فلم يقسط إلى ابنه، ولا إلى المرأة، ولا إلى نفسه.
وكذلك من أمر، أو أعان على نكاح رجل لامرأة لا تطيب له، أو منعه من نكاح من تطيب له، أو التفريق بينهما، فلم يقسط إلى الرجل، ولا إلى المرأة، ولا إلى نفسه.
فتدبر لو أن المسلمين راعوا هذا الأمر، فكلما وُجد الطيب بادروا إلى النكاح، والأمر به، والإعانة عليه؛ وكلما عُدم الطيب امتنعوا عن النكاح، ومنعوا منه = كيف يكون حالهم؟
هذا، والآخذون بظاهر أحد القولين الأولين يعذرون؛ لما يأتي:
{وَإِنْ خِفْتُمْ} يا معشر الأولياء {أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} إذا نكحتموهن
{فَـ} لا تنكحوهن، و {انكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} سواهن.
والمعنى الثالث غني عن تلك التقديرات، وإنما تحتاج إلى تفسير يكشف [ص 8] المعنى، وبيان أن التعليق منحوٌّ به نحو اللازم، فكأنه قيل:{وَإِنْ} ألبس عليكم سبيل الإقساط إلى اليتامى في قضية نكاحهم فَـ {خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَـ} هذا سبيل الإقساط في ذلك وفي النكاح كله {? نكِحُوا
…
مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} إلى آخر ما تقدم.
وقوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} يفيد أن الأصل في سبيل الإقساط هو الجمع بين اثنتين أو ثلاث أو أربع، ومما يوجَّه به ذلك أن الرجل قد يكون عنده المرأة، ثم تطيب له أخرى، فإذا امتنع، أو مُنِع من الجمع فهو بين أمرين:
إما أن يطلِّق الأولى، فيسيء إليها، وإلى أطفالها، وإلى أهلها ، وإلى نفسه. ثم لعل النوبة تصل إلى هذه الأخرى، بأن يطلقها إذا طابت له ثالثة.
وإما أن لا ينكح الأخرى، فتبقى بغير زوج، فتتضرر، وقد تسقط أو تضطر إلى نكاح من لا يطيب لها؛ فيكون المانع من نكاحها قد أساء إليها، وإلى أهلها ، وإلى الذي تطيب له، وإلى الذي يتزوجها وهي لا تطيب له.
ثم لعل الرجل امتنع من طلاق الأولى وهي لا تغنيه، وإنما أبقاها لأجل أولادها أو غير ذلك، فيحتاج إلى التعرض للفجور، فيفسد بعض النساء، فيسيء بذلك إليهن، وإلى أهلهن، وإلى المجتمع كله، وإلى المرأة التي عنده أيضًا.
والمرأة تحيض، وتحمل، وتنفس، وترضع، وتمرض، وتكبر، وتكون
(1)
عاقرًا، ويغيب عنها الزوج، وغير ذلك مما يجعل الزوج بحاجة إلى غيرها. وقد يكون الرجل قويًّا غنيًّا يمكنه أن يعف ويغني أكثر من واحدة، والإقساطُ تمكينُه من ذلك لينتفع جماعة من النساء، وإن نال بعضهن أوكلا منهن بعض الضرر، فذلك أولى من أن تستبدّ به واحدة [ص 9] ويحرم غيرها من خيره كله، على أن هذه الواحدة معرضة للضرر، كما مرَّ.
ولا ريب أن المرأة تحب أن تستبد بالرجل، لكن كثيرًا منهن ترى مصلحتها في أن ينكحها فلان، وإن كان عنده غيرها: واحدة أو اثنتان أو ثلاث، ولهذا يمكن الجمع، فإن النكاح مشروط فيه رضا المرأة، ولولا رضا الكثيرات بما ذُكِر لم يمكن الجمع.
ولا ريب أن المرأة تكره غالبًا أن يتزوج عليها زوجها، ولكن لو خُيِّرت بين ذلك، وبين أن يطلقها لاختارت البقاء على ما فيه، والعاقلة منهن إذا كانت تحب زوجها، ورأت أنها لا تحمل، تحبُّ أن ينكح زوجها عليها غيرها، لعل الله يرزقه ولدًا
(2)
، كما أنها إذا رأت أنها لا تغنيه لمرضها أو كبرها، أحبّت أن ينكح غيرها عليها، خوفًا من أن يميل إلى الفجور، فيخرب البيت كله.
وبالجملة، إن المرأة التي ينكحها رجل عنده غيرها، إنما ينكحها برضاها وطيب نفسها، فلا وجه لعدِّ ذلك مخالفًا للإقساط إليها. وأما التي تكون عند الرجل فينكح غيرها، فإذا رأت أن ذلك مخالف للإقساط إليها، فإنها تستطيع أن تسأله الطلاق، فإن أبى شاقَّته، ورفعت الأمر إلى الحاكم،
(1)
في الأصل: "يكون"
(2)
في الأصل: "ولد".
فيبعث حكمًا من أهله، وحكمًا من أهلها، فتصل إلى الطلاق إن أحبت.
وإن قالت: لا أرضى أن ينكح عليّ، ولا أحبّ فراقه، قيل لها: قد تكون مصلحتك في ذلك، ولكن في المنع من غيره ضرر على غيرك، بل قد يعود الضرر عليك، وعلى أولادك إن كانوا.
قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ} قد تقدم بيان الأصل في "إن"، وفي "الخوف". ولا مانع أن يكون الخطاب على عمومه، أي للأزواج وغيرهم؛ لأن الناس كلهم مأمورون بالإقساط، كما تقدم. والخوف قد يكون من الزوج، أو من الزوجة، أو وليها، أو من غيرهم ممن يتمكن من أمرهم ونهيهم، ومعونتهم. [ص 11]
(1)
{أَلَّا تَعْدِلُوا} إذا لم يعدل الزوج كانت تبعة ذلك عليه، وعلى كل من أمره بالزواج، أو أعانه عليه، أو لم ينهه عنه، إذا علموا أن ذلك الزوج مظنة أن لا يعدل. وكذا من قصّر بعد وقوع الزواج عن أمره بالعدل، ونهيه عن الجور، ومنعه منه، ولكن أصل المدار على عدل الزوج.
[ص 12] والعدل على ضربين:
الأول: في الحقوق المالية.
والثاني: في الحبِّ والعشرة.
وكل منهما يطلب من جهة في النساء، بتوفيتهن حقوقهن، وهذا يأتي في حال الجمع، وفي حال الواحدة.
ومن جهة يطلب بين النساء، بأن لا يزيد واحدة، وينقص أخرى مثلاً، وهذا إنما يأتي حال الجمع.
(1)
الصفحة (10) مضروب عليها.
وخوف الزوج من أن لا يعدل يقتضي أنه يحب العدل، ويحرص عليه،
ومن كان كذلك فإنما يخاف أن لا يعدل إذا كان يتوقع وجود مانع يمنعه من العدل.
والعادة المستمرة أن ينكح الرجل واحدة، ثم قد يبدو له، فينكح أخرى، وهكذا. فمن كانت عنده واحدة، وفكر في نكاح أخرى، وطابت له، فلماذا يخاف أن لا يعدل؟
لا ريب أنه إذا كان قليل المال، ضعيف الكسب، فإنه يخاف إذا نكح الثانية أن لا يتمكن من الوفاء بالحقوق المالية، بل إما أن يقصر بكل من المرأتين، وإما أن يفي لواحدة، ويقصر بالأخرى، كما أنه إذا كان عزبًا، وأراد أن يتزوج حرّة، وطابت له، فقد يخاف أن لا يتمكن من الوفاء بحقوقها المالية، فينطبق على هذا أن يؤمر بمملوكة، على ما يأتي بيانه.
وقد يأتي نحو هذا فيما يتعلق بالعشرة، وذلك أن يكون الرجل ضعيف الشهوة، يخاف أن لا تفي قوّته بما يرضي امرأتين مثلاً، وقد يشتد ضعفه فيخاف أن لا يفي بما يرضي الواحدة. فحال هذا في حقوق العشرة كحال قليل المال، ضعيف الكسب في الحقوق المالية.
وهل ثمَّ مانعٌ آخر يتصور في الغني القوي؟
[ص 13] لا ريب أن من جمع بين امرأتين مثلاً، لا بد أن يميل إلى إحداهما؛ لقول الله عز وجل:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}
(1)
[النساء: 129].
(1)
في الأصل: "كالمطلقة"، وهو سبق قلم.
وفسَّر السلف ما لا يستطاع بالحب والجماع، فالحب لا يملك الإنسان التصرف فيه، والجماع ليس في ملكه دائمًا، فقد ينشط مع التي يحبها، ويعيا مع الأخرى.
لكن ذاك العدل الذي لا يستطاع لا يمكن أن يفسَّر به العدل هنا في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} ؛ لوجوه:
الأول: أن انتفاء ذاك مجزوم بوقوعه، وانتفاء هذا غير مجزوم بوقوعه؛ لقوله:{فَإِنْ خِفْتُمْ} وقد تقدم إيضاح ذلك.
[ص 14] الوجه الثاني: أن انتفاء ذاك لا يحتمل في الواحدة، وانتفاء هذا محتمل فيها لدليلين:
أحدهما: قوله: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} والمعنى على ما قاله ابن جرير وأسنده عن سعيد بن جبير وقتادة والربيع: فإن خفتم ألا تعدلوا في الحرة الواحدة فما ملكت أيمانكم
(1)
.
وثانيهما: قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} ومعناه ــ كما لا يخفى ــ: "الاقتصار على واحدة حرة أو مملوكة أقرب إلى أن لا تعولوا"، وكونه أقرب فقط يقتضي أن العول فيه، أي في الاقتصار على واحدة حرة أو مملوكة، محتمل. وتفسير العول بكثرة العيال أو بالافتقار ظاهر في أن العدل في الآية هو الوفاء بالحقوق المالية.
(1)
انظر: "تفسير الطبري"(شاكر 7/ 537، 539) قول قتادة برقم 8468، وقول الربيع برقم 8474. أما سعيد بن جبير (8469 - 8471) فلم يقل بذلك.
وتفسيره بالجور قابل لذلك، أو يصدق على ترك الوفاء للواحدة بحقوقها أنه جور عليها. وكذلك تفسيره بالميل إذا أريد به الميل عن الاستقامة. فأما إذا أريد الميل عن بعضهن إلى غيرها، فهو مردود بما تراه.
الوجه الثالث: أن في أول الآية الترغيب في الجمع؛ لأن أصل صيغة الأمر للوجوب، لكن لا قائل ــ فيما أعلم ــ بوجوب الجمع، فعلى الأقل يكون للترغيب؛ إذ هو أقرب إلى الوجوب الذي هو الأصل، من الإباحة؛ لأن السياق يدل على [أن] قوله:{فَانْكِحُوا} بيان سبيل الإقساط، والإقساط واجب، فأقل الحال في سبيله أن يكون مرغبًا فيه.
وفي قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا} الآية إقرار الناس على الجمع، مع بيان عدم استطاعتهم لذلك العدل، ووجود الميل الشديد منهم، وإنما نهوا فيها عن الميل كل الميل.
وفي الآية التي قبلها إرشاد المرأة إلى ملاطفة الزوج، بأن تدع له بعض حقها. وفي الآية التي بعدها: إرشاد المرأة التي لا تصبر على الميل إلى سؤالها الطلاق.
في ذلك كله [ص 15] تأكيد لإقرار الجمع، وأقر الله عز وجل ورسوله كثيرًا من الصحابة على الجمع، وشرعت لذلك عدة أحكام، ومضت الأمة على ذلك إلى اليوم.
وفي بعض هذا ــ فضلاً عن كلّه ــ ما يمنع من حمل قوله: {أَلَّا تَعْدِلُوا} على ما يناقض ذلك ما دام غيره محتملاً، بل هو الظاهر البين، بل المتعين.
فالعدل في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} هو العدل الذي يستطيعه
الغني القوي، وقد يعجز عنه الفقير أو الضعيف، ويأتي في الجمع، وفي الواحدة، وهو الوفاء بالحقوق الواجبة.
والعدل في قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 129] هو العدل الذي لا يستطيعه أحد، وهو التسوية بين النساء في الحب والجماع، وإنما يأتي في حال الجمع.
الرسالة السابعة
في تفسير أول سورة المائدة (1 - 3)
[ص 19] سورة المائدة [1 - 3]
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} بينكم وبين الله والناس. ومما بينكم وبين الله إحلالُ ما أحَلَّ وتحريمُ ما حرَّم، وهاكم إيضاح ما أحلَّ وحرَّم من البهائم:{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} وهي الإبل والبقر والغنم {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ} وغيرها من الآيات، وذلك: الميتة والدم المسفوح وما أهل لغير الله به {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} حال من ضمير "أوفوا" فيما يظهر. ثم رأيت الزمخشري
(1)
نقله عن الأخفش
(2)
. {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)} .
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ} من إحرامكم {فَاصْطَادُوا} كلَّ ما يسمَّى أخْذُه في اللغه صيدًا {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)}
ثم رجع إلى بقية إيضاح المحرمات، فقال:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} المراد بها ما يقال لها في اللغة: "ميتة" وأهل اللغة يطلقون الميتة على ما مات بغير ذكاة، فيدخل فيها المنخنقة وما يأتي معها. وإنما عُطِفن على الميتة من باب
(1)
انظر: "الكشاف"(1/ 601) و"معاني القرآن" للأخفش (1/ 271).
(2)
عبارة "ثم رأيت
…
الأخفش" ألحقها في الحاشية.
عطف الخاص
على العام دفعًا لما يتوهم من قياس الخنق ونحوه على الذبح.
قال: {وَالدَّمُ} المسفوح {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} واللحم يتناول الشحم كما بُيِّن في موضعه {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} في "القاموس"
(1)
: "وأهَلَّ: نظر إلى الهلال. والسيفُ بفلان: قطع منه". وعليه فقوله في الآية: "أُهِلَّ به" معناه: ذُبِحَ أو نُحِرَ، وليس من الإهلال الذي هو رفع الصوت. وهكذا في سائر الآيات التي في هذه الجملة.
وقوله: {لِغَيْرِ اللَّهِ} يتناول كلَّ ما لم يُذبَح له. وقد بيَّن الشرع معنى الذبح لله بأنه ما لم يُذكر عليه اسمُه
(2)
. قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا [ص 21] لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121].
{وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} أي صاده. هذه داخلة في الميتة كما تقدَّم، وأعيدت على سبيل عطف الخاص على العام دفعًا لتوهم أنها كالمذكَّاة لأنها لم تمت حتف أنفها.
نعم، قوله:{مَا أَكَلَ السَّبُعُ} يتناول لفظًا ما أدرك حيًّا فذُكِّيَ، وما كان أكل السبعُ منه ذكاةً، وسيأتي تفصيله. وهذان ليسا داخلين في الميتة، فقال:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} . وفيه إجمال سيأتي تفصيله.
{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} وإن ذُكِر اسمُ الله عليه {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا
(1)
انظر: "تاج العروس"(31/ 150).
(2)
كذا في الأصل، وهو معنى الذبح لغير الله.
بِالْأَزْلَامِ} على ذبح بهيمة أو صيد، فإنَّ تلك البهيمة أو الصيد لا تحلُّ لكم وإن ذكَّيتموها، أو اصطدتموها، أو ذكرتم اسم الله عليها؛ لأن استقسامكم بالأزلام فيها شركٌ كالذبح على النصب. {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} شرك.
{الْيَوْمَ} وهو يوم الجمعة يوم عرفة من حجة الودراع {يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص 22]
…
مِنْ دِينِكُمْ} أن يبطلوه، أو يُحلُّوا بعضَ ما حُرِّم أو يحرِّموا بعضَ ما أُحِلَّ {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الإكمالَ المطلقَ بحيث بيَّنتُ لكم جميع الأحكام التي تحتاجون إليها في دينكم إلى يوم القيامة في شأن الحلال والحرام من اللحوم وغيره من جميع الأحكام {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بإكمال الدين وإظهاره حتى لم يحجَّ
(1)
مشرك وغير ذلك. {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} لا أرضى غيره في الحلال أو الحرام أو غيره.
{فَمَنِ اضْطُرَّ} إلى تناول شيء مما حرَّمتُه عليه {فِي مَخْمَصَةٍ} أي جوع. وربما كان التقييد بها لإخراج المضطر للتداوي وغيره، فتأمَّلْ {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} مائل {لِإِثْمٍ} معصيةٍ بأن تكون المعصية هي سبب اضطراره {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)} لا يعاقبه إن أكل.
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} من صيد السِّباع كما يُعرف من السياق [ص 23] فقد تقدَّم تحريمُ ما أكل السبع، واستثناءُ ما ذُكِّي، وهذا مجمل
ــ كما تقدَّم ــ يُسأل عن بيانه وتفصيله. والبيان والتفصيل الآتي خاصٌّ بذلك، كما سترى إن
(1)
كذا في الأصل.
شاء الله.
ويدلُّ على ذلك سبب نزول الآية. أخرج ابن جرير
(1)
من طريق الشعبي أنَّ عدي بن حاتم الطائي قال: أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
يسأله عن صيد الكلاب، فلم يدر ما يقول له، حتى نزلت هذه الآية:{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} .
وأخرج ابن أبي حاتم
(3)
عن سعيد بن جبير أنَّ عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله، إنَّا قوم نصيد بالكلاب والبُزاة، وإنَّ كلاب آل ذريح تصيد البقر والحمير والظباء، وقد حرَّم الله الميتة، فماذا يحلُّ لنا منها؟ فنزلت:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} .
وأخرج الحاكم
(4)
وقال: صحيح ــ وأقرَّه الذهبي ــ عن أبي رافع قال: أمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب. قالوا: يا رسولَ الله، ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرتَ بقتلها؟ فأنزل الله:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} .
وروى الطبراني والحاكم والبيهقي وغيرهم عن أبي رافع أيضًا نحوه مطوَّلًا
(5)
.
(1)
في "تفسيره" ــ شاكر (9/ 553)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور"(5/ 193) إليه وإلى عبد بن حميد.
(2)
في الأصل هنا وفيما يأتي حرف الصاد اختصار الصلاة والسلام.
(3)
انظر: "الدر المنثور"(5/ 192).
(4)
في "المستدرك"(2/ 311).
(5)
عزاه السيوطي في "الدر المنثور"(5/ 191) إلى الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم والبيهقي. ورواية الحاكم هي السابقة. وأخرجه الطبراني (965) والبيهقي في "السنن"(9/ 235).
وأخرج ابن جرير
(1)
عن عكرمة نحوه.
[ص 24]{قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} المراد به ــ والله أعلم ــ ما هو داخل تحت المُحَلِّ بما تقدَّم، وذلك غير الخنزير وغير الميتة. والمراد بالميتة ما لم يدرَكْ حيًّا فيُذَكَّى أو كان أخذ السبع له ذكاة. ولما كان في هذا الخبر إجمال بيَّنه الله عز وجل بقوله:
{وَمَا} شرطية {عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} مُضَرِّين [ص 25]{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} من حيل الصيد وآدابه {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} بخلاف ما أمسكن على أنفسهن. وعلامة إمساكها على نفسها أن تأكل منه كما في "الصحيحين"
(2)
{وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} عند الإرسال كما بيَّنتْه السنة الصحيحة {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فلا تتعدوا حدوده {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)} .
{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} المتقدِّم بيانها. أعاده تأكيدًا، وليبني عليه ما يأتي؛ فإن إحلال المذكَّاة يصدُق بما ذكَّاه المسلم، وما ذكَّاه المشرك، وما ذكَّاه الكتابي.
فأما ما ذكَّاه المسلم، فلا شبهة في حلِّه إذا ذكر اسم الله عليه.
وأما ما ذكَّاه المشرك، فلا شبهة في حرمته لأنه إن لم يكن على نصب أو
(1)
في "تفسيره" ــ شاكر (9/ 546).
(2)
من حديث عدي بن حاتم. البخاري (5483، 5487) ومسلم (1929).
مع
الاستقسام بالأزلام أو مع ذكر اسم إله عليه، فإنه لا يذكر اسم الله. وإنْ ذكَره، فذكرُه له غير معتبر [ص 26]، لأنه مشرك لا عبرة بعبادته.
وأما ما ذكَّاه الكتابي، فهو مفتقر إلى البيات، فبيَّنه الله عز وجل بقوله:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فكلوا مما بأيديهم من اللحوم المستوفية لشروط الحل المتقدمة بأن لا تكون ميتة ولا لحم خنزير ولا غير ذلك مما تقدَّم بيان حرمته.
{وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} فائدة هذا ــ والله أعلم ــ بيان أنه يجوز لنا إطعامهم.
ولما ذكر حكم طعام أهل الكتاب أراد أن يذكر حكم نسائهم، وقدَّم قبلهن المؤمنات إشارةً إلى أنَّ الاختيارَ الاقتصارُ عليهن، فقال
(1)
:
(1)
انتهت المسودة هنا.
الرسالة الثامنة
في تفسير قوله تعالى:
{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ
…
} الآية
بسم الله الرحمن الرحيم
فائدةٌ في بحثٍ جرى فحرّرتُ ما عَلِق بفكري منه بالمعنى بحسب ما بلغ إليه فهمي، والله الهادي.
دعاني سيدنا الإمام
(1)
أيده الله تعالى ليلةً، وعنده السيد العلَّامة محمد بن عبد الرحمن الأهدل، وأخبرني أنهما تذاكرا في قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، فذكر ــ أيَّده الله ــ وجهًا، وذكر السيد محمد بن عبد الرحمن وجهًا، وأمرني بنظر "الجلَالَيْن"، فنظرته، فإذا السيوطي يقول في قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} قبل النضج {وَآتُوا حَقَّهُ} زكاته {يَوْمَ حَصَادِهِ}
…
{وَلَا تُسْرِفُوا} بإعطاء كله، فلا يبقى لعيالكم شيء"
(2)
.
فخَطَر للحقير أنَّ قوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا} يرجع إلى الأكل؛ لأنه المحتاج إلى التقييد؛ لأنَّ البعض الذي يستفاد مِنْ (مِنْ) مطلقٌ يصدق على الربع فما فوقه، ما دام لم يستغرق؛ فاحتاج إلى تقييد الإذن بعدم الإسراف، كما احتاج الأكل والشرب للتقييد بعدم الإسراف، والإذنُ بالوصيّة إلى التقييد بعدم المضارَّة
(3)
. وقدَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا بالربع أو الثلث، والثلثُ هو الغاية
(4)
، كما
(1)
محمد بن علي الإدريسي.
(2)
"تفسير الجلالين"(146).
(3)
يعني في سورة النساء: 12.
(4)
انظر حديث سعد بن أبي وقاص في البخاري (2744) ومسلم (1628)، وحديث ابن عباس في البخاري (2743) ومسلم (1629).
أنَّ الأكل
والشرب والوصية كذلك.
ثم لمحتُ على الحواشي
(1)
ما كتبه سيِّدُنا أيَّده الله، فإذا هو هذا الوجه، أعني: رجوع {وَلَا تُسْرِفُوا} إلى الأكل. قال: ويؤيِّده قوله تعالى في آية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31].
فعلمتُ أنَّ الخاطر الذي خطر لي إنما هو من توجُّه قلبِ سيِّدنا أيّده الله تعالى
(2)
.
ثم قرَّر سيّدنا ــ أيَّده الله ــ هذا الوجه، وقال: إنه رَجَح بوجهين:
الأول: آية {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} . فقوله: {وَلَا تُسْرِفُوا} فيها راجع إلى الأكل والشرب مطلقًا، ففي آية البحث الأَوْلى موافقتها.
الثاني: أنَّ إعطاء الكلّ ليس ممّا يُنهى عنه، لقوله تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، وقصةِ سيِّدنا أبي بكر
(3)
، وغير ذلك. وإنما يُنهى عن إعطاء الكل في حقِّ أهل القصور عن اليقين.
وحملُ القرآن على الأوّل أولى، بل يتعيَّن؛ لأنه الأشرف، والقرآن يُحمل
(1)
يعني حواشي الجلالين.
(2)
كذا جرت هذه العبارة على قلم الشيخ في هذا الموضع، ولم يتكرر مثلها في كتبه. وهذه الرسالة مما قيَّده الشيخ في مقتبل شبابه حين اتصاله بالإدريسي. وكان الإدريسي متصوفًا، وتوجُّه القلب مصطلح معروف عند الصوفية شائع في مجالسهم.
(3)
أخرجها أبو داود (1680) وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وخلاصتها: أنَّ عمر رضي الله عنه أراد أن يسابق أبا بكر رضي الله عنه في الصدقة، فجاء بنصف ماله. وجاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له عمر: لا أسابقك إلى شيء أبدًا.
على أحسن المحامل وأكملها.
ثالثًا: أنَّ الأكل هو المحتاج إلى التقييد، ولذلك قدَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يدعه الخارص بالثلث أو الربع
(1)
.
فقلت: وأيضًا: المأمور بإيتائه معلوم مقدَّر، وهو الحقّ الذي قد بيَّنه الشارع، فتقييده بعدم الإسراف خالٍ عن الفائدة.
فقال سيّدنا أيَّده الله: هو كذلك مع الإيتاء المذكور، فأمّا أن يرجع إلى صدقة التطوّع فهو بعيد، مع أنه قد مرَّ أنَّ إعطاء الكل مطلوب في حقِّ أهل اليقين، والأولى حملُ القرآن على حالهم، كما مرّ.
أقول: وأيضًا: إنَّ جَعْلَ {وَلَا تُسْرِفُوا} قيدًا لشيء غير مذكور ــ وهو صدقة التطوع ــ بعيد، إن لم يكن ممتنعًا، ولا سيَّما مع وجود ما يحتاج إلى التقييد وهو الأكل، مع غير ذلك من الأدلة.
ثم قال سيّدنا أيَّده الله تعالى: وهل في الآية دليل على جواز الأكل بعد تتمُّرِ الرُّطَب ونحوه، أو حظره أو لا؟
ثم أخذ يقرِّر أن الظاهر ليس له ذلك.
فقلت: قد يقال: إنَّ قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} يُفهِم أنَّ ما تمَّ صلاحُه حتى صار مستحقًّا للحصاد لا يجوز الأكل منه وإن لم يُحْصَد
بالفعل.
(1)
أخرجه الإمام أحمد (5713) وأبو داود (1607) والترمذي (643) والنسائي (2491) وغيرهم من حديث سهل بن أبي حثمة.
فقال أيَّده الله: فسَّرتَ مقصودي.
أقول: وأمّا أمرُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخرَّاصين أن يدَعوا الثلث أو الربع، فذلك قبل حلول الحصاد، ليأكلوا منه ويتصدَّقوا ويُهدوا؛ لأنَّ ما قد خُرِص فقد لزمت الزكاة بقدر الخرص.
ولو بقي من هذا الثلث المتروك لهم شيء إلى حلول الحصاد، فهل تجب فيه الزكاة أو لا؟
الظاهرُ: نعم، للآية، وتكون فائدة السنَّة في أنه لو أكله لم تلزمه زكاته.
والظاهر: أنَّ ما جاز له أن يأكله جاز له أن يتصرَّف فيه بغير ذلك.
والظاهر: استمرارُ الجواز إلى استحقاق الحصاد كما هو ظاهر الآية. وإيَّاه رجَّح سيّدُنا أيَّده الله.
وأما السيد محمد بن عبد الرحمن فقال: إن قوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا} ليس قيدًا في شيء مما قبله، بل هو جملة مستأنفة عامّة؛ لمجيء الفعل في حيِّز النهي، والنهي كالنفي، والفعل كالنكرة؛ فيشمل كلَّ إسراف.
فقال سيدنا أيَّده الله: ويقوِّيه أنهم يقولون: حذفُ المعمول يُؤذِن بالعموم.
فقلت: وحينئذ يدخل تحت عمومه إعطاءُ الكل في صدقة التطوّع، فيحتاج إلى تخصيص كون ذلك محمودًا في حقِّ أهل اليقين بأدلّته، كآية {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] وغيرها.
فقال سيّدنا أيَّده الله: وحينئذ لا يبقى محملٌ للإطلاق إلّا على ضعفاء اليقين
بالنظر إلى صدقة التطوع.
فيَرِد عليه ما ورد على الوجه الذي ذكره المفسِّر
(1)
، هذا مع أنَّ ظاهر السياق لا يحُدُّه
(2)
.
ثم قلت: ومع كون الوجه الأول هو الراجح نظرًا، فهو المتبادر، وحكيتُ ما خطر لي أوّلًا.
وبعد ذلك قال سيِّدنا أيَّده الله: قد سبق لي مثل هذا في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، فقال الخطيب
(3)
: إنَّ المجيء بِـ (مِنْ) التبعيضيّة إشارةٌ إلى منع إعطاء الكلّ
(4)
.
فقلت: كلا، وإنما فائدتها تعريف المخاطبين أن الأجر والمدح يحصل بإعطاء البعض، ولا يتوقف على إعطاء الكلّ، كما في قوله عليه أفضل الصلاة والسلام:"اتقوا النار ولو بشق تمرة"
(5)
، وغيره.
فقلت: فنصُّه على أن البعض موجبٌ للأجر والثواب يدلُّ على أن الكلّ من باب أولى. ولو نصَّ على الكلِّ لكان الظاهر توقُّف المدح عليه دون البعض، والأمر بخلافه.
أقول: وعلى ما تقرّر، فيكون هذا من مفهوم الموافقة لا مفهوم المخالفة، فإن
مفهوم المخالفة شرطه كما في "اللبّ" أن لا يظهر لتخصيص المنطوق
(1)
يعني الجلال السيوطي في تفسير الجلَالين، كما سبق.
(2)
الكلمة في الأصل تشبه ما أثبت.
(3)
يعني الرازي، وهو معروف بابن الخطيب أو ابن خطيب الري.
(4)
"مفاتيح الغيب"(2/ 35).
(5)
أخرجه البخاري (6023) ومسلم (1016) من حديث عدي بن حاتم.
بالذكر فائدةٌ غير نفي حكم غيره
(1)
. وهاهنا قد ظهرت فائدةٌ غير نفي حكم غيره، وهي ما قرّره سيّدنا أيَّده الله تعالى.
قال في "شرح اللّبّ" بعد أن حكى بعض الصور لِما يظهر لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي حكم غيره ــ ما لفظه:
"والمقصود ممّا مرّ أنه لا مفهوم للمذكور في الأمثلة المذكورة، ونحوها. ويُعْلَم حكم المسكوت فيها من خارجٍ بالمخالفة، كما في الغنم المعلوفة؛ أو بالموافقة كما في آية الرَّبيبة
(2)
، للمعنى، وهو أنَّ الرَّبيبة حرمت لئلا يقع بينها وبين أمّها التباغض لو أبيحت، نظرًا للعادة في مثل ذلك، سواء أكانت في حِجْر الزوج أم لا"
(3)
اهـ.
أي: فقد ظهرت فيه لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي حكم غيره، ودلّ المعنى على موافقة المسكوت للمنطوق في الحكم.
وكذلك قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، فإنها ظهرت فيها لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي حكم غيره، ودلّ المعنى على موافقة المسكوت للمنطوق؛ إذ المعنى أنَّ المدح تسبَّب عن البذل والإنفاق، ومن المعلوم أنه كلما كثر البذل والإنفاق زاد المدح. بل هو في هذه أوضح منه في آية الربيبة، لأنَّ ذلك مساوٍ، وهو المسمَّى بـ "لحن الخطاب"، وهذا بالأَوْلى، وهو المسمَّى بـ
"فحوى الخطاب"
(4)
، والله أعلم.
(1)
"غاية الوصول شرح لبِّ الأصول"(39).
(2)
النساء: 23.
(3)
"غاية الوصول"(40).
(4)
انظر: "غاية الوصول"(39).
بعد هذا رأيتُ في "حاشية العلامة الصاوي على الجلَالَيْن"
(1)
ما لفظه: "قوله: {وَلَا تُسْرِفُوا} أي: تتجاوزوا الحدّ بإخراج كلّه للفقراء، أو بعدم الإخراج من أصله، أو بإنفاقه في المعاصي. والأقربُ الأوّل الذي اقتصر عليه المفسِّر؛ لأن سبب نزولها أنَّ ثابت بن قيس صرم خمسمائة نخلة يوم أُحُد، ففرَّقها ولم يترك لأهله شيئًا".
وفي "أسباب النزول" للسيوطي
(2)
ما لفظه: "قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا} الآية: أخرج ابن جرير عن أبي العالية، قال: كانوا يعطون شيئًا سوى الزكاة، ثم تسارفوا، فنزلت هذه الآية.
وأخرج عن ابن جريج أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، جَدَّ نخله، فأطعَمَ حتى أمسى وليست له ثمرة".
وعلى صحة هذا، فلا مانع من أن يكون قوله:{وَلَا تُسْرِفُوا} عائد
(3)
إلى قوله: {كُلُوا} ، كما قررناه. وتكون مناسبة سبب النزول في قوله:{حَقَّهُ} ، أو يكون {وَلَا تُسْرِفُوا} عائد
(4)
إليهما معًا: إلى {كُلُوا} وإلى {وَآتُوا} تأكيدًا
لمفهوم {حَقَّهُ} .
ويُجْمَع بين هذا وبين أدلَّة الإيثار بأنَّ الإيثار مستحبٌّ إذا كان على النفس،
(1)
(2/ 45 ــ 46).
(2)
على حاشية "تفسير الجلَالَين"(207). وانظر: "تفسير الطبري"(12/ 174).
(3)
كذا في الأصل بدلًا من "عائدًا".
(4)
كذا في الأصل.
وأمَّا إذا كان على المتصدِّق حقٌّ لأهله فتصدَّق بالكلِّ بغير رضاهم، فإنه حينئذ ظالم لهم. وعلى الأول يُحمَل حال من نزلت فيه:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9]، ونحوها، وقصَّة الصِّدِّيق، وعلى الثاني تُحَمل هذه الآية ــ على صحّة السبب في حقِّ ثابت بن قيس ــ، وحديث:"لا صدقة إلَّا عن ظهر غنًى، وابدأ بمَن تعول"
(1)
، ونحو ذلك، والله أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (1426) من حديث أبي هريرة.
الرسالة التاسعة
في تفسير قوله تعالى:
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ
…
} الآية