المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ دلالة السياق - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ٧

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الثالث"اسم

- ‌تتمةفي الأمثلة التي يحتج بها أصحاب هذه الأقوال أو بعضهموتحقيق معناها

- ‌ الفصل الرابعلفظ "الله

- ‌الفصل الخامسمعنى "باسم الله

- ‌ الفصل الثامن{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

- ‌فصول ملحقة

- ‌فصل[اختصاص "الرحمن" بالله تبارك وتعالى]

- ‌ الرحمة

- ‌{الْحَمْدُ لِلَّهِ}

- ‌ الألف واللام في "الحمد

- ‌اللام في {لِلَّهِ} للاستحقاق

- ‌{رَبِّ الْعَالَمِينَ}

- ‌{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

- ‌{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}

- ‌من فوائد هذه الصفة:

- ‌ أمور يجب استحضارها:

- ‌{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

- ‌{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}

- ‌الصراط المستقيم:

- ‌{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}

- ‌ من عجائب القرآن:

- ‌إذا كانت الآية ظاهرة في العموم لم تصرف عنه إلى الخصوص لظاهر تفسير بعض السلف

- ‌أجزاء الآية

- ‌ سؤال المغفرة لا يستلزم سبق معصية

- ‌ما قيل في تفسير الآية

- ‌تمحيص

- ‌تدبر

- ‌ المحصل

- ‌ دلالة السياق

- ‌السؤال الأولألم يكمل الفخر الرازي تفسيره

- ‌السؤال الثانيإن لم يكمله فمَنْ أكمله

- ‌ السؤال الثالثإذا لم يكمل الفخر تفسيره فهذا التفسير المتداول الكامل مشتمل على الأصل والتكملة، فهل يُعرَف أحدهما من الآخر

الفصل: ‌ دلالة السياق

لَنَا

} الآية [الحشر: 10]، والرافضي بمعزل عن ذلك. وعليه فالتقدير: ذلك للفقراء إلخ. وإن قلنا: إن التقدير "اعجبوا للفقراء" كما في الجلَالَين وغيره

(1)

، فذلك مستأنفٌ. وقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ} إلخ في سياق تقسيم الفيء، وإن لم يذكر بعدها.

وأيضًا قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الإيتاء والأخذ حقيقةٌ في الأشياء المحسوسة، والأصل في الكلام الحقيقة، وإن كان قد وردا في غيرها مجازًا في القرآن وغيره

(2)

.

فقال المُحاوِر: أما السياق فلا نسلم دلالته، وأمَّا الإيتاء والأخذ فهما بمعنى الأمر والامتثال، لقوله في مقابل ذلك:{وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . وإنما عَدَل عن لفظ الأمر والامتثال، لوجود ذلك المقابل.

فقلتُ له: أمَّا‌

‌ دلالة السياق

فلا يصح إنكارها فإنها لا تخفى، وأمَّا جوابك عن الإيتاء والأخذ فلا يكفي، بل لو وقع ذلك في كلام الناس بالمعنى الذي تقول لربما اختير لفظ الأمر والائتمار [ل 16/أ] على الإيتاء والأخذ لأجل المقابلة.

وأيضًا لفظ "الإيتاء والأخذ" هل المقصود به هنا الحقيقة أو المجاز؟

فإن قلتم: الحقيقة، فإمَّا أن يكون خاصًّا بالفيء، وهذا قول؛ وإمَّا عامًّا فيه وفي الغنيمة ونحوه.

وإن قلتم: المجاز، فما هو؟

(1)

"تفسير الجلالين"(731)، و"التبيان" للعكبري (1215).

(2)

وانظر: "فوائد المجاميع" للمعلمي (ص 69).

ص: 244

فإن قلتم: الأمر والامتثال، قلنا: فحينئذٍ لا تدل على الأموال التي يصدق فيها الإيتاء والأخذ حقيقةً.

فإن قلتم: دَلَّا على الحقيقة والمجاز معًا، أو على القدر المشترك بين ما يصدق عليه الإيتاء والأخذ حقيقةً وغيره، فقولوا: حتى ننظر

(1)

.

ثم رأيت في "حاشية العلامة الصاوي على الجلَالَين" ما لفظه: " (قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}

إلخ) أي: ما أعطاكم من مال الغنيمة، وما نهاكم عنه من الأخذ والقول فانتهوا. وقيل في تفسيرها: ما آتاكم من طاعتي فافعلوا، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه. فالآية محمولةٌ على العموم في جميع أوامره [ونواهيه]

(2)

، لأنَّه لا يأمر إلَاّ بإصلاح، ولا ينهى إلا عن

(1)

علّق المؤلف العبارة الآتية من "قلت" إلى آخر النقل من شرح اللبّ (45 - 46) في وريقة مستقلة، ووضع علامة عليها وهنا في المتن للربط بينهما:

قلت: وكلاهما جائز. قال شيخ الإسلام في اللب: "مسألة: الأصح أن المشترك واقع جوازًا وأنه يصح لغةً إطلاقه على معنييه معا مجازًا، وأن جمعه باعتبارهما مبنيٌّ عليه، وأنّ ذلك آت في الحقيقة والمجاز، وفي المجازين فنحو: (افعلوا الخير) يعمُّ الواجب والمندوب". هـ. قال في الشرح بعد المندوب ما لفظه: "حملًا لصيغة افعل على الحقيقة والمجاز في الوجوب والندب بقرينة كون متعلقهما كالخير شاملًا للواجب والمندوب، وقيل: يختص بالواجب بناءً على أنه لا يراد المجاز مع الحقيقة، وقيل: هو للقدر المشترك بين الواجب والمندوب أي: مطلوب الفعل بناءً على القول الآتي إن الصيغة حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب أي: طلب الفعل، وإطلاق الحقيقة والمجاز على المعنى ــ كما هنا ــ مجازي من إطلاق اسم الدالّ على المدلول".هـ.

(2)

زيادة من حاشية الصاوي.

ص: 245

إفساد.

فينتج من هذه الآية أنّ كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرٌ من الله، وأنّ كلَّ ما نهى عنه النبي نهيٌ من الله، فقد جمعت أمور الدين، كما هو معلوم. هـ

(1)

فالقول الأول وهو الذي اعتمده لتقديمه وتضعيف مقابله بـ (قيل) هو القول الثاني المذكور آنفًا، ومراده بالغنيمة ما يشمل الفيء. والثاني هو الأول لأنَّه يعمُّ الفيء الذي السياق فيه، فلم يطرح السياق. وإذا لوحظ أحد الوجهين اللذين نقلنا عليهما كلام "اللُّبِّ" اتّضح الأمر، ولله الحمد.

وقال المحاوِرُ: لو استُدِلَّ بالسياق هنا لزم أن يكون دليلًا في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]. ودلالة السياق غير مسلَّمة.

فقلتُ له: إنَّ أمهات المؤمنين داخلاتٌ في أهل البيت قطعًا، فإنَّ السياق أمره واضح، وارتباط الآية المعنوي بما قبلها جهله فاضح، وهذا كلام يأخذ بعضُه برقاب بعض، فكيف يُفصل بينه بجملةٍ لا تعلّق لها به؟

فقال: قد يُفصل بين أجزاء الكلام المترابط، كما إذا كنتُ أكلمك، فناداني رجلٌ، فأجبتُه، ثم أتممتُ كلامي.

فقلتُ: هذا لعارضٍ.

فقال: والآية لعارضٍ.

قلتُ: ما هو؟

قال: لمّا أثنى تعالى على الأزواج أراد أن لا يتوهم [ل 16/ب]

أنهنَّ

(1)

"حاشية الصاوي"(4/ 189).

ص: 246

أفضلُ من أهل البيت، فعجَّل بذكرهم.

فقلتُ: وهذا عندك مقبول!

قال: هو الحقُّ.

قلتُ: أمَّا إذا [وصل]

(1)

الحال إلى هنا فلا كلام معك.

أقول: إنه يظهر أن المراد هنا بأهل البيت من كان في بيت النبي ــ عليه وآله الصلاة والسلام ــ وهم: هو صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجه وابنته وبعلها، ومن كان موجودًا من ذريتهما، فإنهم كانوا في بيوته صلى الله عليه وآله وسلم. فالبيت المراد به هنا المسكن لا القرابة، كما هو كذلك في قوله تعالى في خطاب الملائكة لزوج إبراهيم عليه السلام:{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73].

فأصلُ الخطاب للزوجة، وعمَّ جميع أهل البيت. وأصل الخطاب في آية البحث للزوجات، وعمَّ جميع أهل البيت، فهما من باب واحد

(2)

.

والصلاة الإبراهيمية مبنيّةٌ على هذا، فالصلاة والبركات، كما في الصيغ الصحيحة المشهورة ــ وما في بعض الروايات من زيادة الترحم والتحنّن والتسليم فيعود إليهما ــ فالصلاة هي الرحمة كما عليه الجمهور، والدلالة هنا عليه واضحة، إذ قوله:"كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" يلحظ الآية إلا أنه أبدل لفظ الرحمة بالصلاة، وهو في حكم المرادف

(1)

هذا الموضع متأكل، ولعل الصواب ما أثبتنا.

(2)

وانظر: "فوائد المجاميع" للمؤلف (ص 58).

ص: 247

لها. وختمها بقوله: "إنك

حميد مجيد"

(1)

. ثم قال: "وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد"، فأتى بلفظ البركة، وهو بنصِّه في الآية. وختمها أيضًا بـ"حميد مجيد".

وفي ذلك دليل على دخول إبراهيم في لفظ أهل البيت، إذ ليس في الآية إلا قوله في خطاب الزوجة:{رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} ، وفي الصلاة:"على إبراهيم وعلى آل إبراهيم". وأيضًا يدل على أنَّ الآل وأهل البيت في الصلاة بمعنىً، إذ الذي في الصلاة:"على إبراهيم وعلى آل إبراهيم"، وفي الآية:{عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} .

وفي صيغةٍ متَّفقٍ عليها عن أبي حميد الساعدي قال: قالوا: يا رسول الله كيف نصلّي عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قولوا: اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته، كما صلَّيت على آل إبراهيم. وبارِكْ على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد"

(2)

.

فوضع "آل إبراهيم" موضع {أَهْلَ الْبَيْتِ} في الآية، وهو شامل لإبراهيم إذْ يبعُد خلافُه، ووضع "وأزواجه وذريته" موضع "آله" في بقية الصيغ، و"اسمه وأزواجه وذريته" في مقابل "آل إبراهيم" الذي هو في مقابل {أَهْلَ الْبَيْتِ} في الآية.

ولا يخفى ما في هذا من الدلالة على أنَّه هو وأزواجه وذريته أهل

(1)

تأكل ما بعد هذه الكلمة فلا أدري هل بقي شيء من كلام المؤلف.

(2)

أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3369)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد التشهد (407).

ص: 248

البيت،

ولا يُزاد عليهم إلا بدليل، كما في حقِّ سيدنا علي عليه السلام. وسيأتي حديث أبي هريرة عند أبي داود إن شاء الله تعالى.

وحديث أبي حميد غير حديث كعب بن عُجْرة

(1)

، [ل 17/أ] وإن حُمِلت رواية مسلم على رواية البخاري في زيادتها، فإنَّ الراوي هنا أخَّر. وفي أوّل حديث كعب:"كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ فإنَّ الله قد علَّمنا كيف نسلّم عليك". وصيغة الصلاة فيه: "على محمد وعلى آل محمد"، ولا يمكن الجمع مع ذلك كلّه، ولا حاجةَ إليه.

وأصل المقابلة بين الآية والصلاة الإبراهيمية استفدته من إملاء سيدنا الإمام أيَّده الله آمين.

وأمَّا قولكم: دلالة السياق غير مسلّمة، فعجيب:

وليس يصحُّ في الأذهانِ شيءٌ

....................... إلخ

(2)

ولاسيّما في الآية فإنَّ الخطاب قبلها وبعدها لنساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيها ضمير خطاب، وغاية ما فيه أنَّه مذكَّر. فنقول: وفي آية إبراهيم مذكّر مجموع مع أنَّ الخطاب لامرأةٍ واحدة، فحيث قيل هناك خطاب للمخاطبة وغيرها، فغُلِّبَ التذكير لوجود الذَّكَر في مَن دخل في لفظ أهل البيت، وغُلِّبَ الحاضر في مخاطبته مع غائبين= فهنا كذلك، فإنَّ إبراهيم من أهل

(1)

البخاري (3370)، مسلم (406).

(2)

كذا في الأصل. وهو من الأبيات السائرة لأبي الطيب وعجزه (شرح الواحدي: 497):

إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ

ص: 249

بيته، ومحمدًا من أهل

بيته، كما سبق البرهان على ذلك

(1)

.

وممَّا يدلّ عليه: حديث "الصحيحين"

(2)

عن كعب بن عجرة قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلنا: كيف الصلاة عليكم أهل البيت

الحديث، وحديث أبي هريرة عند أبي داود

(3)

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن سرَّه أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلَّى علينا أهلَ البيت فليقلْ: اللهم صلِّ على محمد النبي الأمِّي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد".

وقوله: "وأهل بيته" مِن عطف العام على الخاص إذْ قد قام الدليل على أنَّه وذريته من أهل بيته داخلون بالاتفاق، وأزواجه كذلك.

وكأنَّ حكمةَ تقديمه لهنَّ على الذرية وأهل البيت هي أنهنَّ أول مَنْ تدلُّ عليه الآية، مع كونهنّ موردَ الخطاب.

ثم ظهر لي أنَّ قوله في حديث أبي هريرة: "وأهل بيته"[ل 17/ب] هو بالاستعمال الذي بمعنى القرابة، فيشمل من حرُمت عليه الزكاة. وهذا أولى ممَّا مرَّ.

وهو بهذا الاستعمال في حديث الترمذي

(4)

عن زيد بن أرقم قال: قال

(1)

وقد كثر في كلام العرب مخاطبة المرأة الواحدة بضمير الجمع المذكر. انظر شواهده في "مفردات القرآن" للفراهي (ص 260).

(2)

سبق تخريجه آنفًا.

(3)

كتاب الصلاة، باب ما يقول بعد التشهد (982).

(4)

في أبواب المناقب، باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم (4040).

ص: 250

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوضَ فانظروا كيف تخلفوني فيهما".

ثم رأيت أصله في "صحيح مسلم"

(1)

عن زيد بن أرقم، وفيه: قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومًا فينا خطيبًا بماءٍ يُدعى خُمًّا ــ بين مكة والمدينة ــ فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ، وذكَّر، ثم قال:"أمَّا بعد، ألا أيُّها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسولُ ربِّي فأجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثَقَلَين: أولهما كتابُ الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به". فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال:"وأهل بيتي أذكِّركم اللهُ في أهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي". فقال له حصين: ومَن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته مَنْ حُرم الصدقة بعده. قال: ومَن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قال: كلُّ هؤلاء حُرِمَ الصدقةَ؟ قال: نعم".

وفي رواية: "كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومَن أخطأه ضلَّ".

وفي رواية: "ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومَن تركه كان على ضلالة". وفيه: "فقلنا: مَن أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا، وأيمُ الله إن المرأة تكون مع الرجل العصرَ من الدهر، ثم يطلِّقها، فترجع إلى أبيها وقومها. أهلُ بيته أصلُه وعُصْبَتُه الذين حُرموا الصدقة بعده".

(1)

كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي رضي الله عنه (2408).

ص: 251

فقوله: "نساؤه من أهل بيته"[ل 18/أ] أي: يطلق عليهم "أهل بيتٍ" في الجملة. وقوله: "ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده"، أي المراد بأهل البيت في هذا الحديث [مَنْ]

(1)

حُرِمَ الصدقة بعده.

فاتَّضح من هذا الحديث أنَّ لأهل البيت استعمالين:

أحدهما: بمعنى أهل بيت السكنى، فتدخل فيه الأزواج، بل هنَّ أول من يدخل فيه بعد الزوج. وليس مرادًا في حديث زيد، ولذا أثبت دخول الأزواج في "أهل البيت" في الجملة، ثم نفى ذلك باعتبار حديثه.

وفي الرواية الأخرى نفاه، واقتصر الراوي على النفي لأنَّ زيدًا إنما سئل عن لفظ "أهل البيت" الذي ذُكِرَ، فيكفي في الجواب نفي دخولهن فيه؛ إذْ لا يلزم من نفي دخولهن فيه نفيُ دخولهن في لفظ "أهل البيت" باستعمال آخر، فافهم.

فقد اتضح ما قلناه، ولله الحمدُ، وبه يُردُّ ما قاله التُّورِبِشْتي:"إنَّ العترة تستعمل على أنحاء كثيرة، وقد بيَّنها صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "أهل بيتي" ليُعلم أنَّه أراد بذلك نسله وعصابته الأدنين وأزواجه"

(2)

.

(1)

تأكلت في طرف الورقة.

(2)

انظر "مرقاة المفاتيح"(11/ 307).

ص: 252

الرسالة الحادية عشرة

في إعراب قوله تعالى:

{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}

ص: 253

بسم الله الرحمن الرحيم

[ل 30] قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، الواو حرف عطف، عطفت المصدر المؤول من أن واسمها وخبرها على ما قبلها، وهو {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]. والمعطوف عليه إما في محل رفع، خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو، فيكون هنا استئناف بياني، كأنه عندما قيل له:{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 36 ــ 37]، قال قائل: وما هو الذي فيها؟ فقال: هو أن لا تزر إلخ

(1)

.

وإما في محل جر عطف بيان، أو بدل شيء من شيء، من (ما) من قوله: {بِمَا فِي صُحُفِ

} إلخ.

(أن) مخففة من الثقيلة، وعبارة السيوطي عنها في "همع الهوامع":

"تخفف أنَّ المفتوحة، وفي إعمالها حينئذ مذاهب:

أحدها: أنها لا تعمل شيئًا، لا في ظاهر ولا في مضمر، وتكون حرفًا مصدريًّا مهملًا كسائر الحروف المصدرية، وعليه سيبويه والكوفيون.

الثاني: أنها تعمل في المضمر وفي الظاهر، نحو: علمت أن زيدًا قائم، وقرئ {أَنْ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور: 9] عليه طائفة من المغاربة.

الثالث: أنها تعمل جوازًا في مضمر، لا ظاهر، وعليه الجمهور.

(1)

في النسخة المختصرة ذكر وجهًا آخر أيضًا في الرفع، وهو أن يكون "مبتدأ لخبر محذوف، كأنه قيل: وما فيها؟ فقال: فيها ألا تزر

إلخ".

ص: 255

وقال

(1)

ابن مالك: فإن قيل: ما الذي دعا إلى تقدير اسم لها محذوف، وجعلِ الجملة بعدها في موضع خبرها؟ وهلَّا قيل: إنها ملغاة ولم يتكلف الحذف! فالجواب: أن سبب عملها الاختصاص بالاسم، فما دام الاختصاص ينبغي أن يعتقد أنها عاملة، وكون العرب تستقبح وقوع الفعل

(2)

بعدها إلا بفصل. ثم لا يلزم أن يكون ذلك الضمير المحذوف ضمير الشأن، كما زعم بعض المغاربة، بل إذا أمكن عوده إلى حاضر أو غائب معلوم كان أولى. ولذا قدَّر سيبويه في {أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104 - 105] أنْك.

ولا يكون خبرها مفردًا، بل جملة إما اسمية مجردة صدرها المبتدأ نحو {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [يونس: 10] أو الخبر نحو:

أنْ هَالِكٌ كلُّ مَنْ يَحْفى وَيَنْتَعِلُ

(3)

أو مقرونة بـ"لا" نحو {وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [هود: 14] أو بأداة شرط نحو {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ} [النساء: 140] أو بـ"رُبَّ" نحو:

(1)

لا توجد الواو في مطبوعة "الهمع".

(2)

كذا في الأصل. وفي مطبوعة الهمع: "الأفعال".

(3)

من شواهد سيبويه (2/ 137)، (3/ 74، 454)، وصدره:

في فتية كسيوف الهند قد علموا

والبيت للأعشى، وسيأتي كاملًا في ص (271).

ص: 256

تَيَقّنْتُ أنْ رُبَّ امْرئ خِيلَ خَائِنًا

أمينٌ، وخَوّانٍ يُخَالُ أَمِينَا

(1)

أو فعلية، فإن كان فعلها جامدًا أو دعاء لم يحتج إلى اقتران شيء نحو {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ} [الأعراف: 185].

أّنْ نِعْم مُعْتَركُ الجيَاع إذَا

(2)

{وَالْخَامِسَةَ أَنْ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهَا} [النور: 9].

وإن كان متصرفا غير دعاء قُرن غالبًا بنفي نحو {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} [طه: 89]{أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 3]{أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد: 7].

قال أبو حيان: ولم يحفظ في (ما) ولا في (لما)، فينبغي أن لا يقدم على جوازه حتى يسمع.

أو بـ"لو" نحو {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ} [الأعراف: 100]{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} [الجن: 16]{أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ} [سبأ: 14]{أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ} [الرعد: 31] أو بـ"قد" نحو {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة: 113].

(1)

استشهد به ابن مالك في "شرح التسهيل"(2/ 42) دون عزو. وانظر "ارتشاف الضرب"(3/ 1276، 4/ 1741).

(2)

عجزه:

خبَّ السفيرُ وسابئُ الخمرِ

والبيت لزهير بن أبي سلمى في "ديوانه"(78).

ص: 257

أو بحرف تنفيس نحو {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} [المزمل: 20].

وندر خلوُّها من جميع ما ذكر كقوله:

عَلِمُوا أَنْ يُؤَمَّلُونَ فجَادُوا

(1)

وخُرِّج عليه قراءة {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمُّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] بالرفع

(2)

. وكذا ندر إعمالها في بارز كقوله:

فلو أنْكِ في يَوْم الرخَاء سَألْتنِي

(3)

هـ بحروفه

(4)

. وقد أطلنا بذكره لعظم نفعه.

أقول: فقد علمت أنّ (أن) إذا خففت فالجمهور أنها تعمل في ضمير محذوف، فإن أمكن عوده على حاضر أو غائب فذاك، وإلا فهو ضمير الشأن، ففي الآية هو ضمير الشأن.

والخبر جملة فعلية غير مقترنة بشيء لأن الفعل جامد، كما مثّل بنفس

(1)

عجزه:

قبل أن يُسألوا بأعظم سُولِ

استشهد به ابن مالك في "شرح التسهيل"(2/ 44، 4/ 10) دون عزو. وانظر "شرح ابن عقيل"(1/ 388) وغيره.

(2)

نسبت إلى مجاهد. انظر "البحر المحيط"(2/ 499).

(3)

عجزه:

طلاقَكِ لم أبخَلْ وأنتِ صديقُ

أنشده الفراء في "معانيه"(2/ 90) دون عزو. وانظر "الخزانة"(5/ 426).

(4)

"همع الهوامع"(2/ 184 - 187).

ص: 258

الآية

في كلام "الهمع".

و{لَيْسَ} فعل جامد ناقص يعمل [عمل]

(1)

كان: يرفع الاسم وينصب الخبر.

{لِلْإِنْسَانِ} جار ومجرور. وما العامل في الجارِّ والمجرور؟ اختُلِفَ

(2)

.

[ل 31] قال في "الهمع"

(3)

: "إذا وقع الظرف أو الجار والمجرور خبرًا فشرطه أن يكون تامًّا، نحو: زيد أمامك، وزيد في الدار؛ بخلاف الناقص، وهو ما لا يفهم بمجرد ذكره وذكر معموله ما يتعلق به، نحو: زيد بك، أو فيك، أو عنك، أي واثق بك، وراغب فيك، ومعرض عنك فلا معه خبر

(4)

، إذ لا فائدة فيه. ثم هنا مسائل:

الأولى: اختلف في عامل الظرف والمجرور الواقعين خبرًا. فالأصح أنه كونٌ مقدَّر. وقيل: المبتدأ، وعليه ابن خروف، ونسبه ابن أبي العافية إلى سيبويه. وأنه عمل فيه النصب لا الرفع، لأنه ليس الأول في المعنى. ورُدَّ بأنه مخالف للمشهور من غير دليل، وبأنه يلزم منه تركيب كلام من ناصب ومنصوب بدون ثالث. وقيل: المخالفة

(5)

، وعليه الكوفيون. وإذا قلت: زيد أخوك، فالأخ هو زيد، أو زيد خلفك، فالخلف ليس بزيد، فمخالفته له

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

(2)

كلمة مهملة يشبه رسمها: "اقلب"، ولعل الصواب ما قرأت.

(3)

(2/ 21 - 23).

(4)

كذا في الأصل من الطبعة الأولى. وفي نشرة الأستاذ عبد العال: فلا يقع خبرًا.

(5)

كذا في الأصل من الطبعة الأولى. وفي نشرة الأستاذ عبد العال: بالمخالفة.

ص: 259

عملت النصب. ورُدَّ بأن المخالفة معنى لا يختص إلا بالأسماء دون الأفعال، فلا يصح أن يكون عامله، لأن العامل اللفظي شرطه أن يكون مختصًّا، فالمعنوي الأضعف أولى.

وعلى الأول يجوز تقدير الكون باسم الفاعل وبالفعل، فالتقدير في زيد عندك أو في الدار: زيد كائن، أو مستقر، أو كان، أو استقر. واختلف في الأولى منهما، فرجح ابن مالك وغيره تقدير اسم الفاعل، لأن الأصل في الخبر الإفراد، والتصريح به في قوله:

فأنْتَ لدَى بُحْبُوحَةِ الهُون كَائنُ

(1)

ولتعينه في بعض المواضع، وهو ما لا يصلح فيه الفعل

(2)

نحو: أمّا عندك فزيد، وخرجت فإذا عندك زيد، لأن (أمّا) و (إذا الفجائية) لا يليهما فعل.

ورجَّح ابن الحاجب تبعًا للزمخشري والفارسي تقدير الفعل، لأنه الأصل في العمل، ولتعيُّنه في الصلة. وأجيب بالفرق، فإنه في الصلة واقع موقع الجملة، وفي الخبر واقع موقع المفرد. ثم إن قدَّرت اسم الفاعل كان من قبيل الخبر المفرد، وإن قدَّرت الفعل كان من قبيل الجملة، فلا يخرج

(1)

صدره:

لك العزُّ إن مولاك عزَّ وإن يَهُنْ

والبيت من شواهد "شرح التسهيل"(1/ 317)، ولم يذكر قائله. وانظر شرح أبيات "المغني"(6/ 342).

(2)

في نشرة عبد العال: فيه خبرا الفعل.

ص: 260

الخبر عن

القسمين. وقيل: هو قِسْم برأسه مطلقًا وعليه ابن السرَّاج.

الثانية: ذهب ابن كيسان إلى أن الخبر في الحقيقة هو العامل المحذوف، وأن تسمية الظرف خبرًا مجاز. وتابعه ابن مالك. هذا هو التحقيق. وذهب الفارسي وابن جني إلى أن الظرف [هو الخبر]

(1)

حقيقة، وأن العامل صار نسيًا منسيًّا. والقولان

(2)

جاريان في عمله الرفع: هل هو له حقيقة أو للمقدَّر؟ وفي تحمله الضمير: هل هو فيه حقيقة أو في المقدر؟ والأكثرون في المسائل الثلاث على أن الحكم للظرف حقيقة.

الثالثة: البصريون على أن الظرف يتحمل ضمير المبتدأ كالمشتق سواء تقدم أم تأخر. وقال الفراء: لا ضمير فيه إلا إذا تأخر، فإن تقدم فلا، وإلا جاز أن يؤكد ويعطف عليه ويبدل منه، كما يفعل ذلك مع التأخير. ومن تأكيده متأخرًا قوله:

فإنّ فؤادي عِنْدكِ الدَّهْرَ أَجْمَعُ

(3)

".

(4)

إذا تأملت ذلك علمت أن {لِلْإِنْسَانِ} جار ومجرور تام، والعامل فيه على الأصح كونٌ مقدَّر. وهو على ترجيح ابن مالك: كائن، أو مستقر. وعلى

(1)

ساقط من الأصل تبعًا للطبعة الأولى.

(2)

في نشرة عبد العال: وأجمعوا أن القولين.

(3)

صدره:

فإن يكُ جُثماني بأرضٍ سواكمُ

والبيت لجميل في "ديوانه"(118). وانظر "الخزانة"(1/ 395).

(4)

انتهى النقل من "همع الهوامع".

ص: 261

ترجيح ابن الحاجب: كان أو استقر. ثم العامل هو الخبر على رأي ابن كيسان ــ قال السيوطي: وهو التحقيق ــ أو نفس الجار والمجرور على رأي الفارسي وابن جني والأكثرين.

ثم في الجار والمجرور أو العامل على الخلاف المذكور ضمير يعود على اسم (ليس) عند البصريين لقولهم: تقدم أو تأخر. ولا ضمير فيه على قول الفراء لتقدمه

(1)

.

ثم اعلم أن الخبر هنا واجب التقديم لأن في الاسم ضميرًا يعود عليه.

{إِلَّا} عبارة "الهمع": "ثم المستثنى منه تارة يكون محذوفًا، وتارة يكون مذكورًا. فالأول يجري على حسب ما يقتضيه العامل قبله من رفع ونصب وجر

(2)

بحرفه، لتفريغه له، ووجود (إلا) كسقوطها"

(3)

إلخ.

فقد علمت أن (إلا) أداة استثناء ملغاة.

{مَا سَعَى} عبارة "جمع الجوامع" في الموصول الحرفي: "و (أن) توصل بمبتدأ وخبر. و (لو) التالية غالبًا مُفْهِمَ تمنٍّ أثبت مصدريتها الفراء والفارسي والتبريزي وأبو البقاء وابن مالك، ومنعه الجمهور. و (ما)، وزعمها قوم اسمًا. ويوصلان بمتصرف غير أمر، والأكثر بماضٍ"

(4)

إلخ.

(1)

في الأصل هنا: "هـ"، ولعله يشير بها إلى انتهاء البحث السابق، لا انتهاء النقل من "الهمع" فإنه انتهى قبل أسطر.

(2)

في نشرة عبد العال: رفع أو نصب أو جر.

(3)

"همع الهوامع"(3/ 250).

(4)

"الهمع"(1/ 279).

ص: 262

فعلمنا أن (ما) مصدرية حرف على الأصح. و (سعى) فعل ماض صلتها، والمصدر المنسبك منها، والفعل في محل رفع، اسم "ليس" مؤخر. وجملة ليس ومعموليها في محل رفع خبر أن. وأن ومعمولاها في محل رفع خبر، أو جرّ على ما مرّ

(1)

.

فإن قلت: أما يقتضي كون خبر (أن) جملةً احتياجَ الخبر إلى رابط يربطه بالمبتدأ؟

قلت: قال في "الهمع": "السابع: ضمير الشأن، فإن مفسره الجملة بعده. قال أبو حيان: وهو ضمير غائب يأتي صدر الجملة الخبرية دالًّا على قصد المتكلم استعظامَ السامع حديثَه. وتسميه البصريون ضمير الشأن والحديث إذا كان مذكرًا، وضمير القصة إذا كان مؤنثًا. قدّروا من معنى الجملة اسمًا جعلوا ذلك الضمير يفسِّره ذلك الاسم المقدر، حتى يصح الإخبار بتلك الجملة عن الضمير. ولا يحتاج فيها إلى رابط به لأنها نفس المبتدأ في المعنى"

(2)

هـ.

(1)

في النسخة المختصرة: "وأن ومعمولاها معطوفة على {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، فمحلها الرفع على وجهيه، أو الجر على وجهيه، كما مرّ".

(2)

"همع الهوامع"(1/ 232).

ص: 263

الرسالة الثانية عشرة

في إعراب قوله تعالى:

{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}

ص: 265

بسم الله الرحمن الرحيم

[ل 14] قولُه سبحانه وتعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [سورة القلم: 10 - 14].

هل (أنْ) هذه المصدريّة، أو المخفّفةُ من الثقيلة؟

أقول: لم يزدْ في "الجلَالَين" على أنْ قال: " أي: لأنْ ". وقال في الجَمَل في حواشيه على قول الجلال بعد ذلك: " وفي قراءةٍ: أَأَنْ بهمزتين مفتوحتين"

(1)

ما لفظُه: "الأولى همزة الاستفهام التقريعي التوبيخي، والثانية همزة أنْ المصدريّة، واللام مقدّرة كما سبق

" إلخ. وفي آخره: هـ شيخنا هـ

(2)

.

وقول العبّاس بن مِرْداس:

أبا خُراشةَ أمَّا أنت ذا نَفَرٍ

فإنَّ قوميَ لم تأكلْهُمُ الضَّبُعُ

(3)

على ما قرَّره س

(4)

والجمهور من أنَّ (أمَّا) أصلها: أنْ ما، (أنْ) المصدرية و (ما) العوضُ عن كان، والأصل: أَلِأنْ كنتَ. حُذِفت همزة

(1)

انظر "الكشف" لمكي (2/ 231)، و"الإقناع"(369).

(2)

"حاشية الجمل"(4/ 385).

(3)

"ديوان العباس بن مرداس"(106). وأبو خراشة كنية خفاف بن ندبة، وكان بينهما مهاجاة.

(4)

"كتاب سيبويه"(1/ 193).

ص: 267

الاستفهام، ولام التعليل، فصار:(أنْ كنتَ) ثم حُذفت (كان)، فانفصل الضميرُ، وعُوّضت

(ما) عنْ (كان) فصار: (أمَّا أنتَ)

(1)

.

وكذا في قوله: أما أنت، من قول الشاعر

(2)

:

إمَّا أقمتَ وأمَّا أنتَ مُرْتحلاً

فاللهُ يكلأُ ما تأتي وما تذرُ

(3)

وأمَّا قول الكوفيين: إنّها شرطيّة، وتقويةُ الرضيِّ وابن هشام له

(4)

، فلا يردُّ دليلنا، لأنّهم لم يقولوه من حيث إنّ المصدريّة لا تدخل على (كان) بل لأدلّةٍ أخرى، وقد ردّها الدمامينيُّ

(5)

. وناقض ابن هشام نفسه في فَصْل (ما)

(6)

.

فإنْ قيل: والمخففة أيضًا مصدريّة فلعله أرادها.

قلنا: ذلك ممنوع، لأنّها لا يطلق عليها ذلك في الاستعمال.

فإنْ قيل: فكيف دخلت (أنْ) المصدريّة على الماضي مع أنّها ناصبةٌ، والأصل اختصاصُ النواصب بالمضارع كـ (لن)؟

قلت: قال في "المغني" في بابها

(7)

: "وتُوصل بالفعل المتصرّف مضارعًا

(1)

"شرح الكافية" للرضي، (1/ 806 - 807).

(2)

كذا في الأصل.

(3)

قال البغدادي في "الخزانة"(4/ 19): "وهذا البيت مع استفاضته في كتب النحو لم أظفر بقائله ولا تتمته".

(4)

انظر: "شرح الرضي"(1/ 807) و"المغني"(53).

(5)

وقال البغدادي في "الخزانة"(4/ 21): "وقد ناقش الدماميني كلام ابن هشام في الأدلة الثلاثة بالتعسف، كما لا يخفى على من تأمله".

(6)

"المغني"(410).

(7)

"المغني"(43 - 44). وقارن المحكي عن سيبويه بالكتاب (3/ 162).

ص: 268

كان ــ كما مرَّ ــ أو ماضيًا نحو: {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [القصص: 82]، {وَلَوْلَا أَنْ

ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء: 74]، أو أمراً كحكاية س: كتبتُ إليه بأنْ قُمْ. هذا هو الصحيح".

ثم ذكر أنَّ ابن طاهر

(1)

خالف في كون الموصولة بالماضي والأمر هي عين الموصولة بالمضارع أي: مدّعيًا أنها غيرها، وذكر دليله، وردَّ عليه.

ثم ذكر أنَّ أبا حيّان خالف في كونها توصل بالأمر، وادّعى أن ما سُمِعَ من ذلك فهي فيه تفسيرية، ثم ردَّ عليه.

وقد ذكر السيوطيُّ أنَّ أبا حيّان ناقضَ نفسه بقوله في البحر: إنَّ (أنْ) مصدريةٌ من قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 49] عطفًا على الكتاب أو الحقّ أو محذوفة الخبر أي: من الواجب حُكْمُكَ

(2)

.

وفي "حاشية الأمير": "قال ابن جنّي: إنّما لم توصل بالحال؛ لأنّه يؤخذ من المصدر الصريح أي: لأنّ الأصل أنّه الحدث الواقعُ في الحال، ولمّا أرادوا الاستقبال أو المضيّ احتاجوا لأن والفعل الدالّ على الزمن المراد.

قال: ونظير ذلك (ذو) تُجلب للوصف بالجواهر؛ إذ لا يمكن الوصف بها نحو: مررتُ برجلٍ ذي مالٍ، فإن كان معنىً لم يحتج لـ (ذي)؛ تقول في الوصف بالصلاح: صالحٌ. وكذلك (الذي) يؤتى به لوصف المعرفة

(1)

أبو بكر محمد بن أحمد بن طاهر الأنصاري الإشبيلي المعروف بالخِدَبّ، شيخ ابن خروف، أبو بكر رئيس النحويين بالمغرب في زمانه. توفي سنة 580 هـ. "الذيل والتكملة" للمراكشي، القسم الخامس (2/ 648)، "بغية الوعاة"(1/ 28).

(2)

"حاشية الأمير"(1/ 28). وانظر "البحر المحيط"(4/ 285).

ص: 269

بالجمل، ولو كان الموصوف نكرةً لم يحتج لـ (الذي)؛ لأنّ النكرة توصف بالجملة. قال: ويناسب

عدم وصلها بالحال أنّها لا تقع بعد اليقين لأنّ شأن الحال التيقّن بالمشاهدة"

(1)

. هـ.

وبه يُعلم ما نقله المحشّي عن الشارح بعد ذلك، وأشرنا إليه في السؤال من أنّ الأصل أنَّ نواصب المضارع لا تدخل على غيره كـ (لن).

فإن قيل: بين مطلق الفعل الماضي وبين (كان) فرقٌ.

قلتُ: إن أريد أنّ (كان) ناقصة لا تدلُّ على الحدث، فهذا الفرقُ لا يؤثّر على هذا الحكم مع ما فيه.

وإن أريد أنّ كان الناقصة لا مصدر لها، كما يقوله آباء عباس وبكر وعلي والفتح

(2)

، فمع ضعفه لورود ذلك كقوله:

ببذلٍ وحلمٍ ساد في قومه الفتى

وكونك إيّاه عليك ثقيلُ

(3)

مع أنّ الأصل في الفعل التصرف، ولاسيّما ما قد سلم أكثر تصرّفه، فقد نقل الأمير في "حاشيته على المغني" عند قوله: (فَصْلٌ في أن المصدرية: وأن

(1)

"حاشية الأمير"(1/ 27 - 28).

(2)

يعني المبرد، وابن السرّاج، والفارسي، وابن جني. وهؤلاء وغيرهم منعوا دلالتها على الحدث كما في "الهمع"(2/ 74).

(3)

كذا في الأصل، والصواب في قافية البيت:"يسير". وقد استشهد به ابن مالك في "شرح التسهيل"(1/ 339) ثم شراح "الألفية". انظر: "أوضح المسالك"(1/ 244)، و"المقاصد الشافية"(2/ 182) و"شرح الأشموني" مع حاشية الصبان (1/ 231). ولم يعرف قائل البيت.

ص: 270

هذه موصول حرفيٌّ وتوصل بالفعل المتصرف) عن ابن الحاجب أنّه قد يدخل المصدريّ على الجامد نحو: {وَأَنْ عَسَى

} [الأعراف: 185]

(1)

فيكون المصدر من المعنى"

(2)

.

ويظهر أنّ مراده بالمصدريّ (أنْ) الخفيفة. فأمّا المخففة فإنها تدخل حتى على الاسميّة كقول الأعشى:

وقد غدوتُ إلى الحانوتِ يَتبَعُني

شاوٍ مِشَلٌّ شَلولٌ شُلْشُلٌ شُلُلُ

(3)

في فتيةٍ كسيوف الهند قد عَلِموا

أنْ هالكٌ كلُّ مَنْ يحفَى وينتعِلُ

(4)

ولكن قد صرّح الرضيُّ وغيره أن الخفيفة لا تدخل إلا على المتصرّف

(5)

، وأنّ (أنْ) من قوله تعالى: {وَأَنْ عَسَى

} [الأعراف: 185] وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ .. } [النجم: 39]

(6)

هي المخففة

(7)

. فلينظر ما مذهبُ آباء

(1)

تمام الآية: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} .

(2)

"حاشية الأمير"(1/ 27).

(3)

"شلل" كذا في الأصل، والرواية شَوِلٌ. ويروى: شُوَل وشَمِلُ.

(4)

البيت من شواهد سيبويه (2/ 137، 3/ 74، 454) ورواية العجز في "الديوان"(109):

أنْ ليس يدفَعُ عن ذي الحيلة الحِيَلُ

وانظر: "الخزانة"(8/ 391 - 392).

(5)

"شرح الرضي"(2/ 1384).

(6)

تمام الآية: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} .

(7)

"شرح الرضي"(2/ 1384). وفيه بدلاً من آية النجم قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا} [الجن: 16].

ص: 271

عباس وبكر وعلي والفتح في (أنْ) الداخلة على الفعل الجامد؟ فإنّهم إن

كانوا موافقين لما صرّح به الرضيُّ وغيره فـ (أن) عندهم في الآية المتكلّم عليها مخففة، ولكن الجمهور على خلافه.

نعم (أنْ) في هذه الآية لم تُسبق بعلمٍ ولا ظنٍّ، وقد قال الرضيُّ ما لفظُه: " فنقول: إنَّ (أنْ) التي ليست بعد العلم ولا ما يؤدي معناه، ولا ما يؤدّي معنى القول ولا بعد الظنّ فهي مصدريّة لا غير، سواءً كانت بعد فِعْل الترقُّب كحسبتُ، وطمعتُ، ورجوت، وأردت، أو بعد غيره من الأفعال

" إلى أن قال: "أو لا بعد فِعْل كقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ

} [الحشر: 3]

(1)

.

هذا، وقد استدلّ ابن هشام على ترجيح مذهب الكوفيين أنَّ الخفيفة قد تجيء شرطيّة بأنّه قد قرئ قوله تعالى:{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] بكسر الهمزة وفتحها

(2)

، واستدلالهم بذلك يشعر أنّ البصريين يجعلونها في حال الفتح مصدرية، كما في بقيّة الأمثلة. وهو ما في التفاسير والأعاريب.

[ل 15] واعلم أنّ الأصل في (أنْ) المفتوحة الهمزة الساكنة النون أن تكون كذلك أصلاً، فمن ادّعى أنها مخففة من الثقيلة فعليه الدليل. ولا يكفي مجرّدُ الاحتمال، ولاسيّما مع أنّ القول بأنّها مخففة يستلزم أنّ اسمها ضمير الشأن محذوفًا، ودعوى الحذف خلافُ الأصل، فمن ادعاها فعليه البرهان،

(1)

"شرح الرضي"(2/ 834 - 835).

(2)

قرأ بكسر الهمزة من السبعة نافع وحمزة والكسائي. "الإقناع" لابن الباذش (760).

ص: 272

ولا يكفي مجرد الاحتمال.

وإذا دار الأمر بين الحذف وعدمه تعيّن عدمُ الحذف، ولله ابنُ المُتْقِنة حيث يقول

(1)

:

وإن تكن من أصلها تصحُّ

فتركُ تطويل الحسابِ ربْحُ

فإن قيل: تعارض بأنَّ الأصل أنّ نواصبَ المضارع تختصُّ به كـ (لنْ).

قلنا: قد سبق نَقْضُه، مع أنَّه إذا دار الأمرُ بين أن يخالف أصلاً، وأن يخالف أصلين، فخلاف الأصل الواحد أولى من خلاف الأصلين كما هو ظاهرٌ.

فائدة: الماضي بعد أنْ المصدرية لا محل له، كما قد يتوهم. قال في "المغني" حاكيًا ما استدلّ به ابنُ طاهرٍ على أنّ الداخلة على الماضي غير الداخلة على المضارع:"والثاني: أنها لو كانت الناصبة لَحُكِمَ على موضعها بالنصب، كما حكم على موضع الماضي بالجزم بعد (إنْ) الشرطية، ولا قائل به". هـ

(2)

.

قال الأمير في "الحاشية": " قوله: (ولا قائل به) منه يُعلم فساد قول الشيخ خالد في شرح الآجرومية: وهي تنصب المضارع لفظًا، والماضي محلاًّ"

(3)

.

(1)

في أرجوزته المشهورة بالرحبية في الفرائض.

(2)

"المغني"(43 - 44).

(3)

"حاشية الأمير"(1/ 28).

ص: 273

الرسالة الثالثة عشرة

في إعراب قوله تعالى:

{الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} ونحوه

ص: 275

بسم الله الرحمن الرحيم

ممَّا اقتطفه كاتبُه من ثمرات المعارفِ الإدريسيّةِ الطيّبة اليانعة الجنيَّة، لا زال جناها دانياً علينا، وبركتها مسوقةً إلينا، آمين.

قوله تعالى: "الواقعةُ ما الواقعة"

(1)

، {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ} ، {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ} ونحوها يقول فيه المعربون:"الواقعةُ" مبتدأٌ، وما: اسمُ استفهام مبتدأٌ، و"الواقعة" الثانية: خبرُ ما، والمبتدأ الثاني وخبره خبرُ الأول، والرابطُ إعادة المبتدأ بلفظه

(2)

.

فقلتُ: ما المانعُ أنْ يقال: "الواقعةُ" مبتدأٌ، وخبرُه محذوفٌ يدلّ عليه ما بعده، والتقديرُ: أمرٌ عظيمٌ، و"ما الواقعةُ" مبتدأٌ وخبرٌ على حاله؟

ويكون في نحو قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ} [الواقعة: 41 - 42]"أصحابُ" الأول مبتدأ و"ما أصحاب الشمال": مبتدأٌ وخبرٌ ــ جملةٌ معترضةٌ بين المبتدأ وخبره ــ وقوله: {فِي سَمُومٍ} : خبرُ "أصحاب" الأول. وبذلك نَسْلمُ من إعادة الظاهر عوضًا عن المضمر الذي هو خلافُ الأصل.

فقال سيِّدُنا: لا بأسَ، ولكنَّ الحذفَ خلافُ الأصل، والخبر الذي تريدُ أنْ تقدِّره قد عُلِمَ مِن (ما)، فإنَّ المقصودَ بها التهويل والتعظيم.

فقلتُ: ففي قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ} لا

(1)

كذا في الأصل، وقد وهم المؤلف رحمه الله. فلم يرد في القرآن "الواقعة ما الواقعة".

(2)

انظر: "التبيان" للعكبري (1203)، و"البحر المحيط"(10/ 254، 532).

ص: 277

حذفَ، بل المعربون يقولون بالحذفِ للمبتدأ؛ لأنهم يجعلون قوله:{فِي سَمُومٍ} خبر مبتدأ محذوف.

قال: إذا سَلِمْتَ من الحذفِ ورد عليك ادّعاءُ الاعتراض بين المبتدأ والخبر، وهو خلاف الأصل.

قلتُ: يَرِدُ عليّ هذا، ويَرِدُ عليهم حذف المبتدأ في قوله:{فِي سَمُومٍ} مع إعادةِ الظاهر مكان المضمر. فواحدةٌ تُقاوِم، وواحدة ترجِّح.

ثم قال سيّدنا: خبرُ المبتدأ إذا كان جملةً، ورابطه

(1)

الإشارة: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، أو إعادتُه لفظًا:"الواقعة ما الواقعة"، أو كونه إيّاه في المعنى:{هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} = فإنَّ خبر المبتدأ الثاني هو خبر المبتدأ الأول في المعنى، وإنّما جُعل خبرًا للثاني صناعةً. وأمَّا المبتدأ الثاني، فلم يُجَأْ به إلّا لإفادة معنىً غير الإسناد.

ألا ترى أنّه لو قيلَ في غير القرآن: "ولباس التقوى خيرٌ"، وقلتَ:"الواقعةُ أمرٌ مَهولٌ"، "وهو أحدٌ"= كان المعنى بحاله. وعلى هذا فقولهم: إنَّ (ما) مبتدأ، و"الواقعة" الثاني خبره، فيه نظرٌ لمَا قررناه؛ إذ المبتدأ الثاني في هذه الثلاثة إنّما هو وُصْلةٌ في المعنى بين المبتدأ الأوّل وخبره.

فقلتُ: ويلزم على قولهم أن يُخْبَرَ بالشيء عن نَفْسه.

قال: نعم، وذلك باطلٌ. وممَّا يرجّحه كون (ما) هاهنا نكرة مسوِّغة لكونها موصوفةً معنى، والواقعة معرفةٌ، وفي مثل ذلك يترجّح للابتداء

(1)

في الأصل: "ربطه".

ص: 278

المعرفةُ.

قلتُ: فإذا قال قائلٌ: إذا جعلتم (ما) خبرًا للواقعةِ الثانية، فما المانعُ أنْ تجعلوها للأولى؟ يُجاب عليه: بأنَّ (ما) اسمُ استفهامٍ لها الصدرُ، فلا يصحُّ الإخبار بها عمَّا قبلها.

قال: نعم.

ثم نظرنا في "تفسير الآلوسيّ"، فإذا هو قال:{الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} : (ما) مبتدأٌ، و (الحاقة) خبر، أو عكسه، ورجح معنىً، والجملة خبر الأوّل

(1)

.

ولله الحمد سبحانه وتعالى.

(1)

"روح المعاني"(29/ 40).

ص: 279

الرسالة الرابعة عشرة

في تفسير آيات خلق الأرض والسماوات

ص: 281

[1/ب] الحمد لله.

* [البقرة: 28]: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} بأن خلقها، وجعل فيها رواسي، وبارك فيها، وقدَّر فيها أقواتها؛ كما تبيِّنه آية حم السجدة

(1)

، وسيأتي تفسيرها إن شاء الله.

{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} أي وهي دخان، فقال لها وللأرض: ائتيا طائعين؛ كما في آية حم السجدة.

{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} هو كقوله في آية [حم] السجدة: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [12]، وكقوله في آية النازعات:{بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [27 - 28].

* [فصلت: 9 - 12]: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)} ظاهره أنَّه سبحانه خلقها قطعة واحدة في هذين اليومين، وأنَّ خلق الجبال هو فيما بعد ذلك لقوله:{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} أي أوجد فيها الجبال بأن أمر بعضها أن يرتفع ويصلب إلى غير ذلك. وهذا وما بعده يستلزم دحوَ الأرض بمعنى بسطها.

{وَبَارَكَ فِيهَا} بأن جعلها صالحة لعيش الحيوانات، وتوليد المعادن، وإنبات النباتات، وغير ذلك.

{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} بأن خصَّ كلَّ قطعة بالصلاحية لتوليد معدن

(1)

يعني سورة فصلت، وكذا تسمى في المصاحف الهندية.

ص: 283

خاصٍّ، وإنبات نبات خاصٍّ، ونحو ذلك، بالقدر الذي اقتضته حكمته. وهذا كلُّه قدَّره في باطن الأرض، لم يبرز منه شيء، وإنما أبرزه تعالى بعد خلق السماوات، كما سيأتي.

{فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} قال المفسرون: أي في تمام أربعة أيام، ليكون اليومان اللذان خلق فيهما السماء تمام ستِّ، فتوافق قوله تعالى في سورة السجدة:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [4].

قال صاحب «الأضداد»

(1)

: «فإن قال قائل: كيف يدخل يومَا الخلق في هذه الأربعة حتى يصيرا بعضَها، وقد فصَل الله اليومين من الأربعة؟

قيل له: لما كان الإرساء من الخلق، وانضمَّ إليه تقدير الأقوات؛ نُسِقَ الشيءُ على الشيء للزيادة الواقعة معه، كما يقول الرجل للرجل: قد بنيتُ لك دارًا في شهر، وأحكمتُ أساساتها، وأعليتُ سقوفها، وأكثرتُ ساجَها، ووصلتُها بمثلها في شهرين؛ فيدخل الشهر الأول في الشهرين، ويعطف الكلام الثاني على الأول لما فيه من معنى الزيادة. أنشد الفرَّاء

(2)

:

فإنَّ رُشَيدًا وابنَ مروان لم يكن

لِيفعلَ حتى يُصدر الأمرَ مُصْدَرا

فرُشَيد هو ابن مروان، نُسِق عليه لما فيه من زيادة المدح.

(1)

يعني محمد بن قاسم الأنباري. انظر كتابه «الأضداد» (ص 109 - 110).

(2)

في «معاني القرآن» (2/ 345) ومنه في «تفسير الطبري» - هجر (19/ 131) و «الضرائر» لابن عصفور (ص 71).

ص: 284

وقال الآخر

(1)

:

يظنُّ سعيدٌ وابنُ عمرو بأنني

إذا سامني ذُلًّا أكون به أرضى

فلستُ براضٍ عنه حتى يُنيلني

كما نال غيري من فوائده خفضا

فسعيد هو ابن عمرو

(2)

، نُسِق عليه لما فيه من زيادة المدح

(3)

» هـ.

قال الشَّرْبيني

(4)

: «فإن قيل: إنَّه تعالى ذكر خلق الأرض في يومين، فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين [آخرين] كان أبعد عن الشبهة وعن الغلط، فلم ترك التصريح بذكر الكلام الجمل؟

أجيبَ بأنَّ قوله تعالى: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً} أي استوت الأربعة استواءً لا يزيد ولا ينقص= فيه فائدة زائدة على ما إذا قال: خلقت هذه الثلاثة في يومين؛ لأنه لو قال تعالى: خلقت هذه الأشياء في يومين لا يفيد هذا الكلام كونَ اليومين مستغرقين بتلك الأعمال، لأنه قد يقال [2/أ]: عملتُ هذا العمل في يومين، مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل، بخلافه لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء، ثم قال:{فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً} = دلَّ على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نقصان» هـ.

وقد يقال: كان يمكن أن يقال عند ذكر اليومين الأولين: «سواء» ، ثم

(1)

نقل ابن الجوزي في «زاد المسير» (4/ 95) البيت الأول.

(2)

في «زاد المسير» أنه سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان.

(3)

في مطبوعة «الأضداد» : «نُسِق عليه لأن فيه زيادة مدح» .

(4)

في «السراج المنير» (3/ 599).

ص: 285

يقال بدل «في أربعة» : «في يومين سواءً» ، فتحصل الفائدتان:

والجواب: أنَّ خلق الأرض كان في اليومين الأولين غير مستغرقين، ثم كان جعلُ الرواسي في بقية اليومين وفيما بعدهما. فلا يصح أن يقال في اليومين الأولين «سواء» لوجود النقص، ولا أن يقال بدل «أربعة أيام»:«يومين سواءً» لوجود الزيادة.

فإن قيل: فلمَ لم يقل بدل {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} : «في يومين» ، ثم يقال:«فتلك أربعة سواء» ؛ كما قال تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]؟

فالجواب: أنَّ هذه العبارة لا تدل على أنَّ خلق الأرض في اليومين الأولين غير مستغرقين، إلى آخر ما مرَّ، فتعيَّن للتعبير عنه ما في الآية فتأمَّلْ.

{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أي سوَّاهن.

{فِي يَوْمَيْنِ} هذان اليومان تمام الستة الأيام المذكورة في سورة السجدة وغيرها.

{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} الظاهر أنَّ هذا كان بعد انتهاء الستة الأيام.

قال في «الجلالين»

(1)

: «{أَمْرَهَا} الذي أمَرَ به مَن فيها من الطاعة والعبادة» .

والظاهر أنَّه أعمُّ من ذلك، وأنَّ المراد: أوحى في كلِّ سماء شأنَها الذي

(1)

(ص 478).

ص: 286

أراد كونه فيها، فيشمل جميع الشؤون التي تتعلَّق بكلِّ سماءٍ من مخلوقات أجرام وملائكة وغيرها، ومن أوامر بعبادات ووظائف

(1)

تتعلَّق بعمارة الكون وغير ذلك. فـ «أمر» هنا عامٌّ، لأنه مفرد مضاف.

{وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} الظاهر أنَّ هذا دخَلَ في قوله تعالى: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} ، ولذلك ــ والله أعلم ــ كان الالتفات. وإنما خصَّه تعالى بالذكر لأنه أعظم ما يشاهده أهل الأرض من أحوال السماء. {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} .

* [النازعات: 27 - 32]{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)} ثم فسَّر البناء بقوله تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)} قال الجلال: «تفسيرٌ لكيفيَّة البناء»

(2)

{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ} أي بعد خلق السماء وما فيها {دَحَاهَا (30)} أي أزال عن وجهها شيئًا كان مانعًا من إخراج مائها ومرعاها. فلذلك فسَّره تعالى بقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)} .

وقال الجلال: «{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} بسطها، وكانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو»

(3)

أي: وبذلك يتبيَّن اتفاق الآيات.

وفي الشَّربيني

(4)

: «قال الرازي: وهذا الجواب مشكل لأن الله تعالى

(1)

رسمها في الأصل بالضاد.

(2)

«تفسير الجلالين» (ص 584).

(3)

المصدر نفسه.

(4)

«السراج المنير» (3/ 598).

ص: 287

خلق الأرض في يومين، ثم إنه في اليوم الثالث جعل فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها، وقدَّر فيها أقواتها. وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض منبسطة. ثم إنه تعالى قال بعد ذلك:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} فهذا يقتضي أنَّ الله تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض، وبعد أن جعلها مدحوَّة؛ وحينئذ يعود السؤال. ثم قال: والمختار عندي أن يقال: خلقُ السماء مقدَّم على خلق الأرض. وتأويل الآية أن يقال: الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد. والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]. فلو كان الخلق عبارة عن الإيجاد لصار تقديرُ الآية: أوجده من تراب، ثم قال له: كن، فيكون؛ وهذا محال. فثبت أنَّ الخلق ليس عبارة عن الإيجاد، والتقدير في حق الله تعالى هو كلمته بأن سيوجده. إذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} معناه أنه قضى بحدوثها في يومين وقضاءُ الله تعالى أنه سيحدث كذا في مدَّة كذا لا يقتضي حدوثَ ذلك الشيء في الحال. فقضاءُ الله تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدَّم على إحداث السماء، وحينئذ يزول السؤال»

(1)

.

[2/ب] أقول: هذا الوجه بعيد جدًّا، لأن الله يقول في سورة البقرة:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}

[29]

. وقال في حم السجدة: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ

وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [9 - 11].

(1)

انظر: «مفاتيح الغيب» (27/ 546، 549).

ص: 288

فالآيتان ظاهرتان في تقدُّم خلق الأرض. وجعلُ «خلَقَ» بمعنى «قضى» ضعيف.

فأما قوله تعالى: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] فالمراد ــ والله أعلم ــ: ثم قال له: كن بشرًا حيًّا سويًّا. وهذا ظاهر.

فإن قلت: إنَّ تقدير الخلق سببٌ له، فلم لا يجوز إطلاقُه عليه مجازًا من إطلاق المسبَّب وإرادة السبب؟

قلت: الأصل الحقيقة، ولا يُعدل عنه إلا بدليل، ولاسيَّما والسياق يؤيد الحقيقة.

فإن قلت: فالدليل آية النازعات.

قلت: لا نسلِّم أنَّها تدلُّ على أنَّ بسط الأرض كان بعد خلق السماء. وذلك أنَّا نقول: إنَّ المراد بالدحو في قوله تعالى: {دَحَاهَا} إزالةُ شيءٍ كان على وجه الأرض يمنع إخراج مائها ومرعاها، بدليل أن الله تعالى فسَّره بذلك. قال تعالى:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} .

وقد أشار في «المدارك»

(1)

إلى هذا. وهو كقوله تعالى قبل: {السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)} وقد مرَّ.

(1)

فسَّر النسفي الدحو بمعنى البسط ثم قال: «وكانت مخلوقة غير مدحوة فدحيت من مكة بعد خلق السماء بألفي عام. ثم فسَّر البسط فقال: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا} بتفجير العيون {وَمَرْعَاهَا} كلأها

». «مدارك التنزيل» (3/ 598 - 599).

ص: 289

فإن قلت: إنَّ اللغة تأبى هذا، فإنَّ الدحو إنما عُرِف في اللغة بمعنى البسط، وأيُّ بسط في إخراج الماء والمرعى؟

قلت: قال في «المختار» : ودحا

(1)

المطرُ الحصى عن وجه الأرض

(2)

.

وقال الشاعر

(3)

:

ينفي الحصَى عن جديد الأرض مُبْتَرِكٌ

كأنَّه فاحصٌ أو لاعبٌ داحي

وهو يدل على صحة ما قلنا: فإن ضاقت الحقيقة فالمجاز واسع.

وهذا القول متعيِّن لأن الله تعالى فسَّره به، وكفى بتفسيره تعالى حجة.

فإن قلت: لا نسلِّم أنَّ قوله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} تفسير

لـ {دَحَاهَا (30)} ، وإنما هو ــ كما قال الجلال

(4)

ــ: «حال بإضمار «قد» أي مُخْرِجًا».

قلت: هذا باطل، لأنَّ قوله:«حال بإضمار قد» يريد أن التقدير عليه: والأرض بعد ذلك دحاها، والحالُ أنه قد أخرج منها ماءها ومرعاها؛ فتكون حالًا محكيَّة، لأنَّ ماضِويَّة الفعل ولاسيَّما مع تقدير «قد» صريحة في أنَّ إخراج الماء والمرعى وقع قبل الدحو، وهذا ظاهر الفساد.

(1)

رسمها في الأصل: «دحى» . والفعل من باب دعا، وعليه اقتصر الجوهري. ومن باب سعى لغة.

(2)

«مختار الصحاح» (ص 84). يعني: نزَعَه كما في «المحكم» (3/ 275).

(3)

هو أوس بن حجر، من قصيدة تعزى إلى عبيد بن الأبرص أيضًا. انظر:«ديوان أوس» (16) و «ديوان عبيد» (35). والمؤلف صادر عن «أضداد ابن الأنباري» (111).

(4)

«تفسير الجلالين» (ص 584).

ص: 290

وإن حاول التفصِّي منه بقوله: أي مُخرِجًا. ومراده الاعتذار بأن الحال تكون مقدَّرة، أي والأرض بعد ذلك دحاها مقدَّرًا أنه سيُخرج منها ماءها ومرعاها. وهذا

(1)

باطل لما مرَّ، فإنَّ أول الكلام صريح في أنَّ التقدير: والأرضَ بعد ذلك دحاها، والحالُ أنه قد أخرج منها ماءها ومرعاها. وهذا صريح في تقدُّم الإخراج، فمن أين تصحُّ دعوى جعلها حالًا مقدَّرة؟ وكيف يصحُّ أن تكون الحال محكيَّةً مقدَّرةً باعتبار واحد؟ هذا خُلْف.

[3/أ] فالحقُّ ــ إن شاء الله تعالى ــ ما قلناه: أنَّ معنى {دَحَاهَا} : أزال عن وجهها شيئًا كان مانعًا لها عن إخراج مائها ومرعاها.

وقد قال في «الأضداد»

(2)

في {بَعْدَ} : «ويكون بمعنى (قبل)، قال الله عز وجل:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 105] فمعناه عند بعض الناس: من قَبل الذكر، لأنَّ الذكر:

القرآن. وقال أبو خِراش

(3)

:

حمِدتُ إلهي بعدَ عروةَ إذ نجا

خِراشٌ وبعضُ الشرِّ أهَونُ من بعض

أراد: قبل عروة، لأنَّهم زعموا أنَّ خِراشًا نجا قبل عروة

(4)

.

وقال الله عز وجل: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} » إلى أن قال: «ويجوز أن

(1)

كذا في الأصل بدلًا من «فهذا» لأنه جواب الشرط.

(2)

(ص 108).

(3)

انظر: «شرح أشعار الهذليين» (1230) و «حماسة أبي تمام» (1/ 385).

(4)

وكذا في «تفسير الطبري» - هجر (24/ 93). وفي قتل خراش روايتان: إحداهما في «الكامل» للمبرد (712) والأخرى في «الأغاني» (21/ 242) والثانية صريحة في أن عروة قُتِل قبل خراش، وليس في الأولى ما يخالف ذلك.

ص: 291

يكون معنى الآية: والأرض مع ذلك دحاها

(1)

، كما قال عز وجل:{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] أراد: مع ذلك.

وقال الشاعر

(2)

:

فقلتُ لها فِيئي إليكِ فإنَّني

حرامٌ وإنِّي بعد ذاك لبيبُ

أراد: مع ذلك».

وتأوَّلها بعضهم بأنَّ (ثم) ليست للترتيب

(3)

.

وهذه الأوجه كلُّها بعيدة. ولا ضرورة إليها بحمد الله.

{وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)} أي ثبَّتها، فلا ينافي أنه قد سبق إيجادُها. وهذا أولى من إنكار الترتيب، والله أعلم.

(1)

روى ذلك عن مجاهد وغيره. انظر: «تفسير الطبري» - هجر (24/ 94).

(2)

هو المضرَّب بن كعب بن زهير. أنشده له أبو عبيدة في «مجاز القرآن» (2/ 300). وأنشده أيضًا في (1/ 145) دون عزو.

(3)

انظر «مفاتيح الغيب» (2/ 143).

ص: 292

الرسالة الخامسة عشرة

في معنى: {أَغْنَى عَنْهُ}

ص: 293

بسم الله الرحمن الرحيم

[ص 29] الغنى: عدم الحاجة، والإغناء: إعدام الحاجة، ثم من الأشياء ما يحتاج الإنسان إلى حصوله كالمال، ومنها ما يحتاج إلى دفعه كالعذاب.

فإذا نظرنا إلى حالك مع المال، وجدناك طالبًا، والمال مطلوبًا، فأنت محتاج، والمال محتاج إليه.

وإذا نظرنا إلى حالك مع العذاب حين يُخشى أن ينالك، وجدنا الأمر كأنه عكس ما مضى، كأن العذاب هو الطالب المحتاج، وكأنك أنت المطلوب المحتاج إليك.

على هذا الأساس جرى استعمال كلمة "أغنى" ومشتقاتها في الكلام. يأتي الطالب مفعولاً به منصوبًا، والمطلوب مجرورًا بـ"عن"، فانقسمت إلى ضربين:

الأول: ما كان على ظاهره، كالإنسان والمال. يأتي الإنسان منصوبًا، والمال مجرورًا بـ"عن"، كقولك لأخيك: قد أغناني الله عن مالك.

وقال تبارك وتعالى (9/ 82): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .

قال ابن إسحاق: "قالوا لَتُقطَعنّ عنا الأسواقُ، ولَتهلكنّ التجارة، ولَيذهبنّ عنا ما كنا نصيب فيها من المرافق"

(1)

. فكأنه قال: فسوف يغنيكم

(1)

"سيرة ابن هشام"(2/ 547)، "تفسير الطبري"(شاكر 14/ 197).

ص: 295

الله

عن الأموال التي كانت تحصل لكم من التجارة مع المشركين.

الضرب الثاني: ما جاء على الاعتبار الآخر، كالإنسان والعذاب الواقع، أو المتوقع. يأتي العذاب منصوبًا، والإنسان مجرورًا بـ"عن". قال الله تبارك وتعالى (40/ 47):{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} .

وغالب ما في القرآن من كلمة "أغنى" أو مشتقاتها وارد على هذا الضرب الثاني، [ص 30] ولكنه قد يترك المنصوب، وقد يترك المجرور بـ"عن"، وقد يتركان معًا؛ ويقع الاختلاف في التفسير.

وقد فصلت العرب بين الضربين، فجعلت مصدر "أغنى" من الضرب الثاني "الغَناء" بالفتح والمد.

وفي "لسان العرب"

(1)

: "قال ابن بري: الغَناء: مصدر أغنى عنك أي كفاك". ثم قال بعد: "أغْنِها عنَّا أي اصرِفْها وكُفَّها". ثم قال: " يقال: أغْنِ عنّي شرَّك، أي اصرِفْه وكُفَّه. ومنه قوله تعالى:{لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 19].

وأرى أنه إذا فُهِمَ ما تقدّم، ورُوعي في الفهم والتقدير كان أجدر بالإصابة.

ولا ريب أنه إذا حذف المفعول المنصوب، كما في قوله تعالى:{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ} [المسد: 2] صح تفسير {أَغْنَى عَنْهُ} بقولك: نفعه، ولذلك

(1)

(15/ 138 - 139 غني).

ص: 296

يفسّر

كثير منهم المصدر وهو "الغناء" بالنفع.

وكأنهم لهذا يستغربون نصب الكلمة للمفعول به، فيجعلون {شَيْئًا} في الآية السابقة مفعولاً مطلقًا، يقولون: أي شيئًا من الإغناء، أو نحو ذلك. وهذه ــ فيما أرى ــ غفلة عن الأساس الذي تقدم بيانه.

فنرى الزمخشري يقدرها في بعض المواضع بما يقتضيه السياق، فيقول:"من عذاب الله" كما في "تفسيره"(58/ 17)

(1)

و (66/ 10)

(2)

. مع أنه أولَ ما وقعت (3: 10){إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} ، قال:" (من) في قوله: {مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} مثله في قوله: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله، أو من طاعة الله {شَيْئًا} أي بدل رحمة الله وطاعته، وبدل الحق"

(3)

.

وهذا تعسّف وغفلة عن السياق وعن الأساس الذي مرّ بيانُه.

(1)

يعني تفسير قوله تعالى في سورة المجادلة (17): {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} . قال في "الكشاف"(4/ 495): " {مِنَ اللَّهِ} من عذاب الله {شَيْئًا} قليلاً من الإغناء".

(2)

وذلك قوله تعالى في سورة التحريم (10): {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} . قال الزمخشري: "لم يغن الرسولان عنهما

إغناءً ما من عذاب الله". "الكشاف" (4/ 571).

(3)

"الكشاف"(1/ 339).

ص: 297

وذكر الآلوسي

(1)

في الآية [ص 31] أوجهًا، أولاها بالصواب أن أصل الكلام: شيئًا من عذاب الله، فقوله:"من عذاب الله" في الأصل نعت لقوله: {شَيْئًا} ، ولكن تقدم النعت فكان حالاً

(2)

.

هذا، وقد تُفسَّر "أغنى" في الضرب الثاني بقولهم: دفع، كفّ، صرف، أبعد؛ تُحْمل؛ بحسب اختلاف المواضع. وهذه كلُّها تُبقي الكلام على نظمه.

وقد تفسر بقولهم: "كفى"، وهذه تغيّر نظم الكلام. وكذلك "نفع".

وأرى أن كلمة "دفع" تصلح في جميع المواضع، وهي الموافقة لما قدمت في الأساس، وإن كان غيرها في بعض المواضع أنسب منها.

وكذلك كلمة "كفى" تصلح، ولكنها تُغيِّر نظم الكلام، وتُوقع في اشتباه المعنى.

فأما قوله تعالى (10/ 31): {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} إلى قوله (10/ 36): {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}

(3)

فقد تقدّم عن الكشاف أن المعنى: إن الظن لا يغني بدلَ الحقِّ إغناءً ما. ويفسر الحقّ

(1)

"روح المعاني"(3/ 93).

(2)

انظر: "البحر المحيط"(3/ 35). و"شيئًا" في هذا الوجه مفعول به، و"من" للتبعيض.

(3)

وانظر الكلام على الآية في "الأنوار الكاشفة" للمؤلف (ص 336).

ص: 298

بالعلم. وحاصله: أن الظن لا يغني بدل العلم إغناءً ما، أي أنه إنما يُعتدُّ بالعلم، وأما

الظن فلا اعتداد به.

وبهذا قال كثيرون، أو الأكثرون، ثم يخصصون الآية بمعرفة الله، وما وليها من العقائد. ويقولون: المعتبر فيها العلم القطعي، ولا يفيد الظن فيها شيئًا، فأما ما عدا ذلك كالأحكام الفقهية فهي مخصوصة من هذا، فإن الظن معتبر فيها.

ومنهم من يقول: الظن الذي ثبت شرعًا الاعتداد به يرجع إلى أصول قطعية، فمن قضى بشهادة عدلين [ص 32] فإنما قضى بالدليل القطعي الذي يوجب القضاء بشهادة عدلين. وكذا من اعتدَّ بدلالة ظنية من القرآن، إنما عمل بالدليل القطعي القاضي بوجوب الأخذ بمثل ذلك. وهكذا من أخذ بحديث صحيح، إنما عمل بالدليل القاطع الموجب العملَ بمثل ذلك.

وأنت ترى أن هذا التفسير يخالف الأساس في كلمة "يغني" ويخالف مواقعها الكثيرة في القرآن.

ومشى ابن جرير على ذلك المعنى

(1)

.

واقتصر ابن كثير على قوله: "لا يغني عنهم شيئًا"

(2)

.

وقال البغوي: "لا يدفع عنهم من عذاب الله شيئًا، وقيل: لا تقوم مقام العلم"

(3)

.

(1)

"تفسير ابن جرير"(شاكر 15/ 89).

(2)

"تفسير ابن كثير"(2/ 399).

(3)

"معالم التنزيل"(2/ 363).

ص: 299

وقوله: "لا تقوم مقام العلم" هو المعنى المتقدم، فأما قوله:"لا يدفع عنهم من عذاب الله شيئًا"، فهو في الجملة المعنى الذي يقتضيه الأساس المتقدم، ومواقع الكلمة في القرآن، إلا أن قوله:"من عذاب الله" لا يخلو من بعد؛ لأن كلمة "الحق" إما أن يكون حملها على أنها اسم الله عز وجل، ثم قدر كلمة "عذاب"؛ وإما أن يكون حملها على أن المراد بها العذاب.

والذي يقتضيه السياق أن تكون كلمة "الحق" هنا هي ما تقدم في الآيات في قوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] فالحق هو الأمر الثابت قطعًا. فتوحُّد الله تعالى باستحقاق العبادة أمر ثابت قطعًا، كما تقتضيه الآيات السابقة، وهو حق يُطالَب العباد ليعترفوا به، ويعملوا بحسبه. والمشركون يحاولون دفع هذا الحق بتخرُّصاتهم التي غايتها في نفسها أن تفيد ظنًّا ما، والظنُّ لا يدفع شيئًا من الحق اليقيني، فيتحصَّل من هذا أن الظن لا يعارض القطع.

وهذا المعنى ــ مع كونه موافقًا لأساس كلمة "يغني" ولمواقعها في أكثر الآيات ولمقتضى السياق ــ حق في نفسه، لا يرد عليه شيء مما تقدم، ولا ما يورد على ذلك من إنكار بعض أئمة العربية مجيء كلمة "من" للبدلية، ولا غير ذلك.

ولكن يبقى علينا أن هذه الجملة: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36][ص 33] وردت في موضع آخر من القرآن، قد لا يحتمل هذا المعنى، بل قد يتعين فيها المعنى الذي قاله الجمهور، فلننظر في ذلك.

قال الله تبارك وتعالى (53/ 20): {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا

ص: 300

قِسْمَةٌ

ضِيزَى} إلى أن قال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} إلى قوله: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} .

جرى الجمهور هنا على ذلك المعنى: أن الظن لا يغني بدل العلم، أي لا يقوم مقامه. وذكر البغوي ما يوافقه، ثم قال:"وقيل: الحق بمعنى العذاب، أي إن ظنهم لا ينقذهم من العذاب"

(1)

.

وقد يقال: إن السياق يعيِّن قول الجمهور دون القول الذي قدمناه: أنّ الظنّ لا يدفع شيئًا من الحق.

والصواب: أنّ السياق يوافق هذا المعنى، فكلمة "الهدى" من قوله:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} مثل كلمة الحق في قوله تعالى هناك: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} فالهدى هو الحق الثابت قطعًا، فهو المراد في قوله:{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} .

وكأنه قيل: وجاءهم من ربهم الحق الثابت اليقيني في أنه لم يلد ولم يولد، وأن الملائكة عباد من عباده، ليسوا بنات له ولا إناثًا، وهم في زعمهم أن الملائكة بنات الله ليس لهم علم يستندون إليه سوى الظن، وهوى النفوس. فيتبعون الظن، ويحاولون أن يدفعوا به ذلك الحق اليقيني؛ وإن الظن لا يدفع شيئًا من اليقين، فالظن لا يعارض القطع.

(1)

"معالم التنزيل"(4/ 259).

ص: 301

فقد بان أنه ليس في هذا الموضع ما يدفع المعنى المختار المطابق لأساس كلمة "يغني" في العربية، ولمواقعها الكثيرة في القرآن مع موافقته للسياق، وأنه لا يرد عليه شيء، كما تقدم.

ص: 302

الرسالة السادسة عشرة

حول تفسير الفخر الرازي وتكملته

ص: 303

[ق 1/أ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أفادني فضيلة العلامة الجليل الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع

(1)

ــ حفظه الله ــ أن صاحب "كشف الظنون" ذكر أن تفسير الفخر الرازي المسمى بـ"مفاتيح الغيب" لم يكمله الفخر، وأنه أكمله نجم الدين أحمد بن محمد القَمُولي، وأن في ترجمة القمولي من "طبقات ابن السبكي" ومن "الدرر الكامنة" أن له تكملة لتفسير الفخر الرازي. وكأن فضيلة الشيخ ــ حفظه الله ــ ندبني لتحقيق هذه القضية، لأن هذا التفسير مطبوع بكماله منسوبًا إلى الفخر الرازي، وليس فيه تمييز بين أصل وتكملة، وآخره جارٍ على طريقة أوله.

هذا ولم تكن سبقت لي مطالعة التفسير ولا مراجعة، ولي عنه صوارف، فرجوت أن أجد في كتب التاريخ والتراجم والفهارس ما يغني عن تصفح التفسير، فلم أجد ما يفيد التحديد إلا في بعض الفهارس الحديثة أنه وجد بخط السيد مرتضى الزبيدي عن "شرح الشفاء" للخفاجي أن الرازي وصل إلى سورة الأنبياء، فأحببت أن أقف على عبارة الخفاجي، وشرحه للشفاء مطبوع في أربعة مجلدات كبار، ولم تسبق لي مطالعة له أيضًا، فنظرت أولًا في فهارس مجلداته الأربعة، وراجعت ما رأيت أنه مظنة للعبارة المذكورة، فلم أجد.

فتجشمت تصفح ذاك الشرح من أوله، ولم يكلفني ذلك كبير تعب؛

(1)

من كبار علماء نجد. ولد سنة 1300 في عنيزة، وتوفي سنة 1385 في بيروت، ودفن في قطر. انظر ترجمته في:"علماء نجد خلال ثمانية قرون"(6/ 100 - 113).

ص: 305

لأنني وجدت العبارة في ص 267 من المجلد الأول طبع القسطنطينية سنة 1267 هـ ــ وسيأتي نصها ــ فرابني قوله: "الثابت في كتب المؤرخين"، فإني قد تتبعت ما وجدته من كتبهم، فلم أجد فيها ذلك التحديد، ولو كان ظاهرًا لنبَّه عليه بعضهم.

ثم كيف خفي ذلك على صاحب "كشف الظنون" مع سعة اطلاعه وكثرة تتبعه؟ وكيف خفي على الزبيدي حتى احتاج إلى تعليقه عن كتاب الخفاجي، ثم خفي على من بعده حتى لم يجدوا إلا النقل عن خط الزبيدي عن كتاب الخفاجي؟

إذن لابد من النظر في التفسير نفسه، في تفسير سورة الأنبياء وما قبلها وما بعدها. فزادني ارتيابًا بقول الخفاجي أنني وجدت الروح واحدة والأسلوب واحدًا، حتى إنني كدت أجزم أو جزمت بأن تفسير سورة الأنبياء وسورٍ بعدها من هذا التفسير هو تصنيف مفسر سورة الكهف وسورة مريم وسورة طه منه. وراجعت مواضع من تفسير البقرة وآل عمران، ونظرت نظرة في أواخر التفسير، فوجدته أيضًا موافقًا لذلك.

وعثرت على إحالة في تفسير سورة الإخلاص لفظها: "وقد استقصينا في تقرير دلائل الوحدانية في تفسير قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] "، وهذه الآية في سورة الأنبياء، فخطر لي احتمال أن يكون قائل:"إن الرازي وصل إلى سورة الأنبياء" إنما أخذ ذلك من هذه العبارة مضمومةً إلى نصوص المؤرخين أن الرازي لم يكمل التفسير، وإنما أكمله غيره؛ فإن العادة في تصنيف التفاسير أن يبدأ المفسر من أول القرآن ثم يجري على الترتيب. والظاهر أن الرازي هكذا صنع، وقد نصُّوا على أنه لم

ص: 306

يكمل التفسير، إذن فلا

بد [2/أ]

(1)

أن يكون هناك موضع انتهى إليه الأصل، وشرعت منه التكملة. وعباراتهم تعطي أنه بقي على الرازي مقدار له شأن، فتفسير الإخلاص لن يكون إلا من التكملة، فكلمة "وقد استقصينا

" من كلام المكمل، فتفسير الآية المحال عليها من كلامه.

دع هذا، ودع مناقشته، فالمقصود أن الريبة في قول الخفاجي استحكمت، بل اتضح بطلانه، كما سيأتي.

واصلت النظر في تفسير سورة الحج والمؤمنين والنور والفرقان والشعراء والقصص متفهمًا تارة، متصفحًا أخرى، وأنا لا أنكر شيئًا من الروح والأسلوب، مع وجود شواهد تدل أن الكلام كلام الرازي، لكن لم أكد أشرع في النظر في تفسير العنكبوت حتى شعرت بأن هذه روح أخرى، وأسلوب يحاول محاكاة السابق وليس به، فأنعمت النظر، فتأكد ذلك وتأيد بوجود عدة فوارق، فقفزت إلى تفسير سورة الروم، ثم إلى تفسير سورة لقمان، فالسجدة، فأجد الطريقة الثانية مستمرة. فرأيت أني قد اكتشفت الحقيقة، وأن الرازي بلغ إلى آخر تفسير القصص، فما بعد ذلك هو التكملة.

لكنني تابعت تصفحي لأوائل تفسير سورة سورة، فلما بلغت تفسير الصافات إذا بالطريقة الأولى ماثلة أمامي. فجاوزتها إلى السورة الخامسة أو السادسة بعدها، فوجدت الطريقة الأولى باقية، فجاوزت ذلك إلى السابعة والثامنة فإذا بالطريقة الثانية. وهكذا أجد كلتا الطريقتين تغيب ثم تعود، فعلمت أنه لابد من استقصاء النظر على الترتيب.

وسألخص البحث من أوله مرتبًا على أسئلة، كل منها مع جوابه.

(1)

الكتابة في الأصل في وجه واحد من الورقة.

ص: 307