الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والإلهام هو الإلقاء في القلب. ومعلومٌ أنَّ تصرفاتِ الإنسان كلها تبعٌ لما يقع في قلبه. فإذا كان الله تعالى يلهمه في كلِّ شيء حبَّ الحق والرغبةَ فيه، وبغضَ الباطل والنفرةَ عنه، جرت أعمالُه كلُّها على الحق. وذلك هو غاية
الهداية على الوجه الخامس.
وقد تكون بإلقاء خاطر آخر كخوفٍ من الناس وحياءٍ منهم وتذكيرٍ لأمر آخر، أو بإنساء موعد، أو بإقامة مانعٍ يصرف الله تعالى بذلك عن المعاصي، وقد تكون بغير ذلك؛ فإنَّ التدبير بيده عز وجل، فلا يمكن إحصاءُ الأسباب. التي يهدي بها مَن أحبَّ هدايتَه.
[ل 64/أ]
(1)
و
الصراط المستقيم:
قال ابن جرير
(2)
: "أجمعت الحجة من أهل التأويل جميعًا على أنَّ الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه".
وقد اختلفت عبارات السلف في المراد به هنا
(3)
.
فعن علي وابن مسعود أنه كتاب الله. وجاء هذا مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ورُوي عن جابر وابن عباس وغيرهما، قالوا: هو الإسلام.
وعن أبي العالية والحسن: هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر.
في عبارات أخر لا اختلاف بينها بحمد الله عز وجل، فإنَّ امتثال ما في كتاب الله تعالى هو الإسلام، والذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحباه هو
(1)
اللوحة (63) مكررة.
(2)
في "تفسيره"(1/ 170).
(3)
انظر الأقوال الآتية في "تفسير الطبري"(1/ 171 ــ 176).
الإسلام.
هذا، وقد عُرِفَ أن لكل إنسان سيرة يسيرها في عمره في اعتقاده وأخلاقه
وآدابه وأعماله وأقواله
(1)
، فهي طريقُه. فمن اتبع في ذلك كلِّه كتابَ الله وسنةَ رسوله والسلف الصالح فهو على الصراط المستقيم. ومن أخلَّ في شيء من ذلك كان في طريقه من العِوج بمقدار إخلاله.
ويمكنك أن تتصَّور الصراطَ العامَّ الذي هو الإسلام، وتتصوَّر وسطه طريقًا للتقوى العامة، وتتصوَّر عن يمين طريق التقوى وشمالها طريقين للتقصير في الفضائل دون ما بعده، وعن يمين ذلك وشماله طريقين لارتكاب المكروهات، وعن يمين ذلك وشماله طريقين لارتكاب الصغائر دون ما بعده، وعن يمين ذلك وشماله طريقين لارتكاب الكبائر دون البدع، وعن يمين ذلك وشماله طريقين للبدع. وذلك حدُّ السِّراط
(2)
يَمنةً ويَسرةً، وليس بعده إلا الكفر.
وتمام الكلام على هذا يطول، فله موضع آخر. وعسى أن أبسطه في الفرائد إن شاء الله تعالى
(3)
.
هذا، والدعاءُ نفسه عملٌ ينبغي أن يكون على الصراط المستقيم. وذلك بأن يكون عن يقينٍ صادقٍ وافتقارٍ وخضوعٍ إلى غير ذلك. والذي يجب التنبيه عليه ههنا أن يكون الداعي باذلًا جهدَه في حصول ما يدعو به ساعيًا
(1)
في الأصل: "واقو" لم يكمل كتابة الكلمة.
(2)
كذا كتب بعض الأحيان بالسين.
(3)
لم أجد "الفرائد" المشار إليها في الأصل.
في تحصيل أسبابه العادية جهده. فقارئ الفاتحة إذا كان بغاية الحرص على تعرُّف الصراط المستقيم لازمًا جهدَه ما عرف منه، متباعدًا عن خلافه، مؤثِرًا له على هواه؛
وسلطانُ الهوى شديدٌ، ومسالكُه كثير= فبشِّرُه بالإجابة إذا قال: اهدنا السراط المستقيم.
وأرى أنَّ الله تبارك وتعالى نبَّهنا على هذا، وأجاب هذا الدعاء في الجملة، فهدانا نوعًا عظيمًا من الهداية بقوله سبحانه:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . فإنَّ هذا وإن كان من تتمة الدعاء، ولكن هذه سنَّة معروفة للأذكار والأدعية الواردة في الكتاب والسنة، كما في دعاء الاستغفار الثابت في الصحيح:"سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك"
(1)
. فلابدَّ أن يعرف الإنسان معاني هذه الكلمات، ويتحقق بها؛ وإلا كان كاذبًا. مثلًا إذا لم يعزم التوبة، فكيف يقول:"وأتوب إليك"!
وكذلك في الحديث الآخر في "صحيح البخاري" عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "سيِّدُ الاستغفار أن تقول: اللهمَّ أنتَ ربِّي [لا إله إلا أنت] خلقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ"
(2)
. فإذا كان الداعي لهذا مخِلًّا بما يستطيعه مما عاهد عليه ربَّه، ووعد من نفسه من الطاعة والاتباع؛ فكيف يقول هذا!
وكذلك إذا تلا قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ
(1)
أخرجه الترمذي (3433) عن أبي هريرة، وأبو داود (4859) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والنسائي (1344) عن عائشة.
(2)
أخرجه البخاري (6306) من حديث شدَّاد بن أوس.
رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] أو دعا بها في الافتتاح مع أنَّ الظاهر أن المعنى: لله أصلِّي، ولله أنسُكُ، ولله أحيا، ولله أموت= فمن كان يحيا ليأكل ويشرب ويلهو ويلعب في معصية الربِّ، فكيف يقول هذا! وكذلك من كان يكره أن
يموت في سبيل الله، وله هوى أو عصبية أو غير ذلك، ولا يكره أن يموت في الدفع عنها.
فهذه الأذكار والأدعية وأمثالها، فيها تنبيهٌ للعبد وحملٌ له على أن يُجهد نفسَه أولًا على التحقُّق بما فيها، وعلى الأقلِّ يعقدُ عزمَه وهمتَه، ويُخلِصَ نيتَه للتحقُّقِ بذلك في الحال والتزامِه في الاستقبال، ثم يقولُها.
ففي قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} تنبيهٌ لنا أنَّ على المسلم أن يكون حريصًا على اتِّباعِ المنعَمِ عليهم ومخالفةِ المغضوبِ عليهم والضالِّين. فإذا كان ذلك وتلا الفاتحة، وذكر ما فيها من الدعاء، كان شرطُه ــ وهو بذلُ [ل 64/ب] وسعِه فيما يستطيعه مما دعا به ــ حاصلًا، فيستحقُّ الإجابة. وإلَّا كان بمنزلة من يرى حريقًا في جانب البلد، وهو يقدر على أن يباعدَ نفسه عنه، فلا يفعل، بل يقتصر على الدعاء؛ فكيف إذا كان يسعى إلى الحريق، ويدنو منه، ويقول مع ذلك: اللهمَّ باعِدْني عن الحريق!
وأما ما في قوله: {سِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}
(1)
إلخ من الهداية، فهو الدلالة على أنَّ الصراط المستقيم هو سراطُ هؤلاء دون أولئك. وهذا أصل عظيم، ولاسيما بعد القرن الأول؛ فإنَّ البدع والضلالات انتشرت وأُلصِقت بالدين، وأصبح كثير منها عند كثيرٍ من الناس، أو أكثرِهم، حتى كثيرٍ من
(1)
كذا كتب هنا "سراط" بالسين، وهي قراءة قنبل. انظر:"الإقناع" لابن الباذش (595).
المشهورين بالعلم والولاية= هو من نفس الدين، بل من صلبه! بل عند جماعة منهم هو الدين! وتمييزُ هذا بمجرد العقل والاستحسان، أو بالنظر في كتب المتأخرين، أو بسؤال أكثرهم= لا مطمع فيه. وإنما يتميَّز ذلك بالرجوع إلى صراط المنعَم عليهم. وكذلك مناظرةُ أصحاب البدع لا تكاد تغني شيئًا إلا بالرجوع إلى هذا الأصل.
وبما ذكرته من التنبيه والهداية يندفع إشكالٌ
(1)
ليس بالهيِّن. وهو أن يقال: إن المتبادر إلى الفهم أنَّ مثل هذا التركيب إنما يُقصَد به بيانُ الصراط المستقيم وتمييزُه حتى يتبيَّن للمخاطب ولا يشتبه عليه. وهذا محال هنا
(2)
، لأن الله تبارك وتعالى عالم الغيب والشهادة، فإذا دعاه العبد بقوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فهو سبحانه أعلم به. فما الحاجة إلى البيان والتمييز؟
وقد علمتَ بحمد الله أنَّ الأمر هنا بالعكس، وإنَّما هذا في المعنى بيان من الله عز وجل، أراد أن يُبيِّن للتالي ويُميِّز له ما هو الصراط المستقيم، فتدبَّرْ.
وقد ذكروا في إعراب "صراطَ" أنه بدل من "الصراطَ" قالوا، والعبارة للبيضاوي
(3)
: "وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة. وفائدته: التوكيد والتنصيص على أنَّ طريقَ المسلمين هو المشهودُ عليه
(1)
وقفت بأخرة في مكتبة الحرم المكي الشريف على دفتر صغير ضمن أوراق متفرقة للمؤلف رحمه الله، تكلم فيه (ص 5 - 8) على هذا الإشكال، وأجاب بنحو جوابه هذا.
(2)
في الأصل: "هذا" سبق القلم.
(3)
في "تفسيره"(1/ 73).
بالاستقامة، على آكدِ وجهٍ وأبلَغِه، لأنه جُعِل كالتفسير والبيان له
…
".
قال الشيخ زاده
(1)
: "
…
وأنه علم في الاتصاف بها، لأنه لو لم يكن كذلك لما صحَّ جعلُه كالتفسير والبيان للصراط المستقيم، وكالمزيل لما فيه من
الإجمال والإبهام".
أقول: أما النكتة الأولى، فقد يعارضها ما اشتهر عندهم أن البدل على نية الطرح والرمي. وأما الثانية، فيقال لهم: وما فائدة هذا التنصيص هنا؟
والحاصل أنَّ القوم عرفوا أنَّ الظاهرَ هو التفسير والبيان وإزالةُ الإجمال والإبهام، ولكنهم رأوا أن هذا لا يصح في خطاب الله عز وجل، فتكلَّفوا ما سمعتَ. وقد علمتَ ما عندي، والله يتولَّى هداك!
هذا، وقد اختلفت عبارات السلف
(2)
في بيان مَن هم المنعَم عليهم.
فعن ابن عباس: أنهم الملائكة والنبيُّون والصدِّيقون والشهداء والصالحون.
وهذا مأخوذ من قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 66 ــ 69].
وعن ابن عباس أيضًا: أنهم المؤمنون.
(1)
في "حاشيته" على البيضاوي (1/ 47).
(2)
انظر الأقوال الآتية في "تفسير الطبري"(1/ 178 ــ 179).
وعن الربيع: النبيون.
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومَنْ معه.
وقد مرَّ عن أبي العالية والحسن ما يفيد أنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر.
أقول: لا تخالُفَ بحمد الله بين هذه الأقوال. فأما في مقام الدعاء، فهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وكلُّهم مؤمنون مسلمون لربِّهم عز وجل. ومن قال: النبيون، فلأنهم الأصل.
وأما في مقام التنبيه على الاتباع والبيان، فعلى التالي أن ينظر من يعرف بسيرتهم من المنعَم عليهم قطعًا، فيتأثرها. فإنه إذا علم أنَّ فلانًا من المنعَم عليهم قطعًا، فلابدَّ أن يكون صراطُه هو صراطَ جميعهِم، وهو الصراط المستقيم. [ل 65/أ] فقد سمَّى الله تعالى لنبيِّه جماعةً ممن قبله من الأنبياء، ثم قال:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
وأما أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي عنهم، فقد علموا أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم منعَم عليه قطعًا، وأنَّ صراطَه هو صراطُ المنعَم عليهم، وأنه الصراط المستقيم، فكان التنبيه في حقهم والدلالة على اتباعه.
وهكذا من جاء بعدهم. ويزاد في حقِّهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابُه الذين تحقَّق أنهم منعَم عليهم. فإذا لم يُعرَف الحكم أو السنة أو الأدب أو نحو ذلك من الكتاب والسنة نُظِرَ في إجماع الصحابة. ولذلك خصَّ أبو العالية
(1)
أبا بكر وعمر لِتيسُّر معرفةِ إجماع الصحابة في عهدهما. وإذا لم
(1)
في الأصل: "أبا العالية"، سهو، وقد سبق قوله.