الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة الثانية عشرة البخاري ومسلم لم يسلما من النقد
في كثير من العلوم الإسلامية والعربية، قمم شامخة، احتلت تلك القمم مكان الصدارة في مجالاتهم، ففي علوم العربية، يشار إلى سيبويه بالبنان، وفي علوم النقد الأدبي ترى الآمدى صاحب الموازنة، والقاضي الجرجاني صاحب الوساطة منارتين سامقتين، وفيى علوم القرآن والإعجاز تجد الإمامين القاضي أبا بكر الباقلانى، وعبد القاهر الجرحاني فارسين لا يشق لهما غبار، وفي علوم أصول الفقه تجد الإمام الغزالي صاحب المستصفى، والآمدي الإحكام في أصول الأحكام بحرين زاخرين.
أما في علوم الحديث فقد سطع في سمائها الإمام البخاري، والإمام مسلم رضي الله عنهما، وصار لكتابيهما منزلة لا تضارع في هذا المجال.
وهذه القمم الشامخة، والأئمة الأعلام صاروا "حجة" في تخصصاتهم، ورموزاً في تاريخ الحركة العلمية الإسلامية، وخصوم الإسلام المعاصرون، يصوبون سهامهم دائماًً نحو هذه القمم، وتلك الرموز، لأن في النيل منهم نيلاً من المعارف التي برزوا فيها، إنهم أصحاب "العروش"التي تحمي حمى الدين. فكان إسقاطهم عند خصوم الإسلام، وعملاء خصوم الإسلام مطلباً "استراتيجيا" يسعون لتحقيقه بكل ما أوتوا من دهاء ومكر وخديعة.
وجريا على هذا "المنهج" ترى منكري السنة يتخذون منها غرضاً لقذائفهم، لأنهم يعلمون أن الأمة شديدة التقدير لهما الثقة في صحيحيهما، لأنهم يعلمون أن الأمة شديدة التقدير لهما عظيمة الثقة في صحيحيهما، فإذا نجحوا في العصف بهما أصابوا السنة والأمة معاً في مقتل يصعب بعده استمرار الحياة، فقد جعلوا من اسبابهم (شبهاتهم) لإنكار السنة الطعن فيهما، وفي عملهما، لتنهار بعد ذلك صروح السنة في غيرهما من الكتب والمصنفات الأخرى.
هذا هو السر في التركيز على صحيحى البخاري ومسلم في هذه الآونة.
وعلى عادتهم من التهافت في تصيد المعايب والمآخذ، تراهم يرددون كثيراً أن صحيحى البخاري ومسلم لم يسلما من نقد علماء الحديث، الذين جاءوا بعدهما، كالحكام والبيهقي، والدارقطنى وابن الجوزى، وغيرهم.
ثم اتخذوا من نقد العلماء لهما وليجة، لنزع الثقة عنهما وإخضاعهما لغربلة، بغربال واسع "الثقوب" ليسقط كل أوجل ما فيهما من الأحاديث الصحاح (ينظر جريدة الجيل التي تطبع في قبرص وتوزع في مصر [مارس 1999م] .
إنهم يدعون أن في صحيحى البخاري ومسلم مما عدوه صحيحاً من الأحاديث:
ما يخالف القرآن، وما يخالف العقل، وما يخالف الواقع المحسوس وما يقدح في عدالة الله، وما يوافق مكايد للإسلام؟! وما يوافق هوى النصارى، وما هو خرافة خالصة؟!
تفنيد هذه الشبهة ونقضها:
ونعتمد في تفنيد هذه الشبهة - بعد الاعتماد على الله - على ما يأتي:
أولاً: أن صحيحى البخاري ومسلم كتب الله لهما الذيوع، وقد تلقتهما الأمة بالرضا والقبول، وأجمعت على اعتمادهما بعد كتاب الله في العمل للدنيا والآخرة. والأمة لا تجتمع على ضلالة، كما جاء في الحديث الشريف في طرق متعددة.
ثانياً: أن حركة النقد التي دارت حول ما في البخاري ومسلم من أحاديث، أسفرت عن ملاحظات شملت مائتى حديث وعشرة أحاديث من أكثر من أربعة آلاف حديث اتفقا عليها، تفصيلها الآتي:
* ثمانية وسبعون حديثاً في صحيح البخاري.
* مائة واثنان وثلاثون حديثاً في صحيح مسلم.
وهذه الأحاديث التي انتقدت في الصحيحين لم يكن نقدها موضع إجماع عند المحدثين، وليس فيها أحاديث موضوعة، وقد أعلن بعض النقاد من علماء الحديث أن هذا النقد بنى على قواعد أو علل ضعيفة غير قادحة في سلامة الحديث كما أن الأحاديث التي انتقدت عند البخاري ليس لها مساس بأصل الكتاب، بل هي من الأحاديث التي ذكرها البخاري على سبيل الاستئناس [ينظر مقدمة ابن حجر لشرح البخاري، فتح البارى (346) ]
وأيا كان الأمر فإن نقد علماء الحديث لبعض ما في البخاري ومسلم ليس فيه لمنكري السنة حجة، بل هو حجة عليهم، حيث لم ينظر المحدثون إلى هذين الإمامين الجليلين نظرة تقديس ترفعهما إلى درجة العصمة من الخطأ والسهو، وإنما كملوا بنقدهم لبعض ما في الصحيحين الاتقان الذي يبث في النفوس الاطمئنان إلى سلامة السنة المعتمدة لدى الأمة من التزوير والخلل، وهذا ما يريده منكرو السنة من شغبهم وصياحهم الآن.
ثالثاً: إن بعض هذه الأحاديث التي انتقدت عند البخاري ومسلم كان مرجع النقد فيها إلى عدم التزام شروطهما التي التزماها في الرواية، وهذا لا يعني أن هذه الأحاديث ضعيفة أو مكذوبة، ولم يقل بذلك أحد من علماء الحديث الخبراء بأصول الرواية متناً وسنداً، بل قال بعض هؤلاء النقاد إن ما أخذ على الإمامين معتمد عند الحفاظ ووراد من جهات أخرى.
ومنكرو السنة المعاصرون لا يعلمون من اصول هذا الفن إلا صوراً شائهة، ولو أنهم اطلعوا على بعض أمهات كتب الحديث، مثل "توضيح الأفكار" لظهرت لهم قماءة أنفسهم، وجهلهم بفنون السباحة والغوص في هذا الخضم العميق، الذي لا شواطئ له. ولكن علوم الدين - الآن - اصبحت كلاً مباحاً لكل "من فك الخط" من الأميين الجلهة الذين يتركون ما يعرفون، ويهرفون بما لا يعرفون ويدعون أنهم "تنويريون" مجددون.
رابعاً: إننا نحيلهم ليعرفوا لأنفسهم قدرها في مجال الحديث وعلومه، إلى الفصل الضافي الذي عقده العلامة ابن حجر العسقلاني، في دراسة عشرة أحاديث ومائة من الأحاديث التي انتقدت عند البخاري، ومشاركة مسلم في تخريج اثنتين وثلاثين حديثاً منها، ناقشها ودرسها حديثاً حديثاً، مستعملاً في دراسته إياها قواعد نقد الحديث التي لا يعرف منكرو السنة عنها شيئاً.
إننا ندعوهم - ليرحموا أنفسهم بالسكوت - إلى الإطلاع على هذا الفصل ليبين لهم أنهم محرمون تماماً من أدوات السير في هذا الطريق، وإلا فعليهم أن يقدموا للأمة نقداً علمياً دقيقاً لما يرونه موضوعاً للغربلة عند الإمامين البخاري ومسلم. أما هذا التهريج الذي دأبوا على نشره فهو بضاعة المهزومين.
* * *