الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة الحادية والثلاثون السنة لا تستقل بالتشريع
هذه الشبهة من القسم الثالث، كما أشرنا في المدخل، والقسم الثالث هو الشبهات التي يتعامل بها منكرو السنة مع السنة إذا يئسوا من التشكيك فيها، ومن محوها من الوجود.
في هاتين الحالتين: اليأس من التشكيك، واليأس من المحو، يتعامل هؤلاء الماكرون مع السنة بشبهات لا تمس صحة صدورها على النبي صلى الله عليه وسلم بل يحاولون "تحنيط" السنة ونزع ما فيها من فيوضات روحانية، وهي كالماء في حياة الأمة، الذي لا تحيا بدونه أبداً.
وخلاصة هذه الشبهة أن السنة غير صالحة لتشريع ما لم يرد في القرآن، بل هي بيان للقرآن وكفى. ويعتبرون كل حكم تشريعي كانت السنة هي الدليل عليه، مخالفاً للقرآن، وما يخالف القرآن يكون باطلاً.
وصدور هذه منهم يتطبق عليه القول المأثور: "كلمة حق أريد بها باطل".
وقد بيَّنا في شبهة "مخالفة السنة للقرآن" أن لا مخالفة قط بين السنة والقرآن، سواء كانت بياناً له، أو دليلاً تشريعياً مستقلاً، فليرجع إليه من يريد خشية الإطالة، بذكره مره ثانية.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها:
لا ينكر منصف، ولا عاقل أن أحكام الشريعة حوت كثيراً من الأحكام التي دليلها المباشر هو السنة، أما القرآن فسكت عنها تفصيلاً وإن لم تخل "كلياته" من الإيماء إليها إجمالاً، وهذه هي عقيدة السلف والخلف، وإن جحد الجاحدون، أو جهل الجاهلون، أو أرجف المرجفون، أو نكب عن الصراط القويم الناكبون.
والأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين، التي وردت عن طريق السنة أكثر من أن تّحصى، ومنها على سبيل التمثيل:
* زكاة الفطر، وما يتعلق بها من أحكام، لم يكن لها دليلاً إيجاب إلا ما ورد في السنة، وكذلك الأنواع التي تُخرج منها.
* تحريم الجمع بين البنت وعمتها أو خالتها في عصمة زوج واحد في وقت واحد، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة التشريعية في منع هذا الجمع.
ولم يرد في القرآن إلا تحريم هذا الجمع بين الآختين فحسب.
* أضافت السنة إلى المحرم نكاحهن من "القريبات" عن طريق العلاقة النسبية، ما ماثل تلك العلاقة من الرضاع، فقال:"يحرم من الرضاع ما حرم من النسب".
والذي ورد تحريمه من الرضاع في القرآن هو: الأمهات من الرضاعة، والأخوات من الرضاعة؟ (أنظر الآية [23] من سورة النساء.)
* أضافت السنة إلى المحرم أكله في القرآن من الميتة ولحم الخنزير والدم المسفوح، إلخ تحريم أكل كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي ناب من السباع، وأكل لحوم الحمر الأهلية، وهذه لم يرد تحريمها في القرآن منصوصاً عليه مفصلاً.
* واستقلت السنة بتقرير "الشفعة" للجار، وكونه أحق من غيره بما جاوره من مملوكات عقارية لجاره إذا زهد فيها وعرضها للبيع. ولا نجد في القرآن إلا الأمر والترغيب في الإحسان إلى الجار.
* والقرآن حرم أكل الميتات على الإطلاق، وورد في السنة ميتة البحر فهي حلال، وعليه العمل حتى اليوم، والحديث رواه أبو هريرة "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" جواباً لمن سأل النبي عن الوضوء من البحر.
* بينت السنة ميراث ما زاد على الاثنتين من البنات في قوله تعالى {فَإِنْ
كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] وسكت القرآن عن ميراث البنتين، فبينت السنة أن لهما الثلين إذا لم يكن لهما معصب.
فقد روى جابر رضي الله عنه أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد مات زوجها. فأخذ أخوه كل ماله ولها بنتان منه، فقضى صلى الله عليه وسلم للزوجة بالثمن وللبنتين بالثلثين، لأخي الميت الباقي، ولعله صلى الله عليه وسلم قاس شأن البنتين على شأن الأختين، إذ جعل الله لهما ثلثى ما ترك أخوهما إذا لم يكن له ولد وارث، أنظر الآية رقم [176] من سورة النساء.
* لم يرد في القرآن أن حكم الجنين الذي يوجد في بطن أمه ميتاً بعد ذبحها شرعاً.
هل يحرم أكله لأنه ميت؟ فبينت السنة أن زكاة أمه زكاة له فيجوز أكله. قال صلى الله عليه وسلم: "زكاة الجنين زكاة أمه" والحديث مروي من عدة طرق أنظر الموافقات للشاطبي [جـ 4 ص 39] .
هذا غيض من فيض من الأحكام المتعلقة بأعمال المكلفين استقلت السنة فيها بالتشريع.
ومعنى استقلال السنة بالتشريع أنها كانت دليل الحكم وأمارته، لا أن الرسول هو المشرع من غير إذن من الله فصاحب التشريع هو الله سواء كان دليل الحكم هو القرآن أو الحديث النبوي. لكن منكري السنة يتعامون عن كل هذا مع وضوحه. ولا جرم فإن الغاية عندهم تبرر الوسيلة. ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين.
* * *