الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول: في مطالب متفرقة
ــ 1 ــ
فصل
رسالتي "طليعة التنكيل" قدّمتها بين يدي كتابي "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"، رددتُ به على الأستاذ أشياء تعرَّض لها في كتابه "تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب".
[ص 3] والذي سمّاه "أكاذيب"، ويسميه في كلامه "المثالب" عامته كلمات رُويت عن بعض المتقدمين، يظهر منها غضٌّ من أبي حنيفة، فعَمَد الأستاذ إلى مصحّح "تاريخ الخطيب"، فأنحى عليه، وعلى أبي الفضل بن خيرون ــ أحد رواة التاريخ عن الخطيب ــ، فحطَّ عليه، وعلى الخطيب، فحاول إسقاطه، ثم يقتصّ في كلّ إسنادٍ رجالَ الإسناد، فلا يكاد يدع منهم أحدًا إلا تكلّم فيه، ثم يساور قائل الكلمة، ويتعرَّض في الأثناء لمن يعْلَمه أثنى على واحد من أولئك الذين يتكلم فيهم الأستاذ، وربما يتعدَّى إلى غير هؤلاء، كما فعل في كلامه في ابن أبي حاتم صاحب كتاب "الجرح والتعديل"، فعَرَض لحرب الكرماني صاحب الإمام أحمد بن حنبل بِعِلَّة أن ابن أبي حاتم أخذ عنه في الاعتقاد ــ زعم الأستاذ ــ!
ولا يكاد يترك من هؤلاء إلا من كان حنفيًّا، فإنه يحاول أن يبرِّئه من تلك الرواية.
وأصل المقصود من كتابي "التنكيل" إنما هو تعقُّب كلام الأستاذ في
الرجال، فبينت ثقةَ كثيرٍ ممن حاول جرحهم، وجَرْحَ أفراد حاول توثيقهم، ووافقتُه في مَن رأيت كلامه فيه في محلِّه، ورتبت كتابي كما في الطليعة (ص 10 - 11)
(1)
على أربعة أقسام:
الأول: في تحرير القواعد التي خلط فيها الأستاذ، وعامتها في أحكام الجرح والتعديل.
الثاني: في التراجم مرتبًا على حروف المعجم، وهذا هو أصل المقصود.
الثالث: في الفقهيات، وهذا ليس مما ينكر الأستاذ.
الرابع: في الاعتقاديات. والذي دعا إليه: أن الأستاذ طعن في أئمة الحديث بأنهم مُجَسِّمة.
فالقسم الأول والرابع متمِّمان للثاني، وأما الثالث فليس مما ينكره الأستاذ، ولم يزل أهل العلم ينظرون فيه، وليس في الحقيقة من موضوع الكتاب، لكن تعرَّض الأستاذ في "التأنيب" لمسائل فقهية أيَّدَ فيها مذهبه، فأحببت أن أنظر فيها.
والذي اضطرّني إلى التعقيب: أن السنة النبوية وما تفتقر إليه من معرفة أحوال رواتها، ومعرفة [ص 4] العربية، وآثار الصحابة والتابعين في التفسير، وبيان معاني السنة والأحكام وغيرها، والفقه نفسه= إنما مدارها على النقل، ومدار النقل على أولئك الذين طعن فيهم الأستاذ وأضرابِهم، فالطعن فيهم يؤول إلى الطعن في النقل كلِّه، بل في الدين من أصله.
(1)
(ص 4).
وحسبك أنّ من المقرر عند أهل العلم أنه إذا نُقِل عن جماعة من الصحابة القول بتحريم شيء، ولم ينقل عن أحدٍ منهم أو ممن عاصرهم من علماء التابعين قولٌ بالحلّ عُدّ ذاك الشيء مُجْمَعًا على حُرمته، لا يسوغ لمجتهد أن يذهب إلى حِلّه، فإن ذهب إلى حلّه غافلًا عن الإجماع كان قوله مردودًا، أو عالمًا بالإجماع فمِنْ أهل العلم من يضلِّله، ومنهم من قد يكفِّره.
لكنه لو ثبت عن رجل واحد من الصحابة قولٌ بحلِّ ذلك الشيء= كانت المسألة خلافية، لا يُحْظَر على المجتهد أن يقول فيها بقول ذاك الصحابي، أو بقولٍ مفصّل يوافق هذا في شيء وذاك في شيء.
ولا يحرم على المقلِّد الذي مذهب إمامه الحرمة أن يأخذ بالحل، إما على سبيل الترجيح والاختيار ــ إن كان أهلًا ــ وإما على سبيل التقليد المحض إن احتاج إليه.
وثبوت ذاك القول عن ذاك الصحابي يتوقف على ثقة رجال السند إليه، والعلم بثقتهم يتوقّف على توثيق بعض أئمة الجرح والتعديل لكلّ منهم، والاعتدادُ بتوثيق الموثِّق يتوقف على العلم بثقته في نفسه وأهليته، ثم على صحة سَنَد التوثيق إليه، وثقته في نفسه تتوقف على أن يوثِّقه ثقةٌ عارف، وصحّة سند التوثيق تتوقف على توثيق بعض أهل المعرفة والفقه لرجاله، وهلمّ جرًّا.
والسعيُ في توثيق رجل واحد من أولئك بغير حق، أو في الطعن فيه بغير حق سعيٌ في إفساد الدين بإدخال الباطل فيه، أو إخراج الحق منه.
فإن كان ذاك الرجل واسع الرواية أو كثير البيان لأحوال الرواة، أو جامعًا للأمرين، كان الأمر أشدّ جدًّا، كما يعلمه المتدبِّر.
ولولا أن أُنْسَب إلى التهويل لشرحت ذلك، فما بالك إذا كان الطعن بغير حق في عدد كثير من الأئمة والرواة؟ يترتّب على الطعن فيهم إسقاط رواياتهم، زيادةً على محاولة توثيق جمٍّ غفير ممن جرحوه، وجرح جمٍّ غفير ممن وثقوه؟ !
[ص 5] ففي "التأنيب" الطعن في زُهاء ثلاثمائة رجل، تبيَّن لي أن غالبهم ثقات، وفيهم نحو تسعين حافظًا، وجماعة من الأئمة، فكم ترى يدخل في الدين من الفساد لو مشى للأستاذ ما حاوله من جرحهم بغير حق؟ !
على أنَّ الأمر لا يقف عندهم، فإن الأستاذ يحاول الرد بالاتهام، والتُّهَم غير محصورة، فيمكن كلّ مَن يهوى ردَّ شيءٍ من النقل أن يبدي تهمةً في رواته وموثِّقيهم، فيحاول إسقاطهم بذلك.
بل يعدّ الملحدون الإسلامَ نفسَه ذريعةً لاتهام كلّ من روى من المسلمين ما يثبت النبوةَ والقرآنَ ونحو ذلك، ولا يقنعون بالآحاد، بل يُساورون المتواترات، بزعم إمكان التواطؤ والتتابع لاتفاق الغرض.
ولو كان هذا الطعن من رجل مغمور أو غير مشهور بالعِلْم الديني، لهان الخطب، ولكنه من رجل يَصِف نفسَه أو يصفه بعضُ خواصّه ــ كما في لوح "التأنيب" ــ بقوله: "الإمام الفقيه المحدث والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير
…
".
ومكانته في العلم معروفة، والحنفيةُ ــ وهم السواد الأعظم كما يقول ــ يتلقَّون كلامَه بالقبول، وكذلك كثير من غيرهم ممن يعظم الأستاذ؛ لدفاعه عن جهمية الأشعرية، وعن القبورية.
ــ 2 ــ
فصل
حاول الأستاذ في "الترحيب"
(1)
التبرُّؤ مما نُسِب إليه في "الطليعة" من الطعن في أنس رضي الله عنه، وفي هشام بن عروة
(2)
، وفي الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد.
أما كلام الأستاذ في الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد فسيأتي ــ إن شاء الله تعالى ــ في تراجمهم
(3)
.
ويكفي تدبر العبارة التي قالها في "التأنيب" في معرض الثناء عليهم ــ زعم ــ، ونقلها في "الترحيب" في معرض التبرُّؤ من الطعن فيهم.
وحقيقة الحال أن الأستاذ يرى أو يتراءى أو يعرض على الناس أن يروا أن منازل الأئمة هي كما يتحصَّل من مجموع كلامه في "التأنيب"، ويرى أنه قد تفضَّل على الأئمة الثلاثة، وجامل أتباعَهم بأن أوهمهم في بعض عباراته أنه رفعهم عن تلك المنزلة قليلًا.
فلما رآني لم أعتدّ بذاك الإيهام الفارغ، كان أقصى ما عنده أن يوهم الجهال براءته ــ ومعهم العلماء ــ أن تلك منازلهم عنده، رضوا أم كرهوا.
فأما كلامه في أنس، فتراه وما عليه في "الطليعة"(ص 98 - 106)
(4)
،
(1)
(ص 351 - مع التأنيب".
(2)
"وفي هشام بن عروة" ملحقة بين الأسطر ولعل هذا مكانها.
(3)
يعني من "التنكيل" وهم فيه بالأرقام (183، 189، 32).
(4)
(ص 77 - 83).
ويأتي تمامه في ترجمته
(1)
.
وينبغي أن يُعْلَم أن منزلة أنس رضي الله عنه عندنا غير منزلته التي يجعله الأستاذ فيها، فلسانُ حال الأستاذ يقول: ومَن أنس؟ وما عسى أن تكون قيمة رواية أنس في مقابلة الإمام الأعظم وعقليته الجبارة؟ ! كما أشار إلى ذلك في "الترحيب"(ص 24)
(2)
إذ قال: "وأسماء الصحابة الذين رغب الإمام عما انفردوا به من الروايات مذكورة في "المؤمَّل" لأبي شامة الحافظ. وليس هذا إلا تحريًّا بالغًا في المرويات يدل على عقلية أبي حنفية الجبارة".
فزادنا مع أنس جماعةً من الصحابة رضي الله عنهم، وإلى ما يغالط به من "الترجيح" ــ الذي دفعته في "الطليعة"(ص 105 - 106)
(3)
ــ التصريح بأنه يكفي في تقديم رأي أبي حنيفة على السنة أن ينفرد برواية السنة بعضُ أولئك الصحابة.
هذا مع أن رواية أنسٍ في الرّضْخ تشهد لها أربعُ آيات من كتاب الله عز وجل، بل أكثر من ذلك، كما يأتي في "الفقهيات"
(4)
إن شاء الله تعالى. ومعها القياس الجلي، ولا يعارض ذلك شيء، إلا أن يقال: إنّ عقلية أبي حنيفة الجبارة كافية لأن يقدّم قوله على ذلك كلّه!
وعلى هذا فينبغي للأستاذ أن يتوب [ص 6] من قوله في "التأنيب"(ص 139) عند كلامه على ما رُوي عن الشافعي من قوله: أبو حنيفة يضع
(1)
من "التنكيل" رقم (56).
(2)
(ص 317 - مع التأنيب).
(3)
(ص 82 - 83).
(4)
(2/ 127 وما بعدها).
أوَّلَ المسألة خطأ ثم يقيس الكتاب كلَّه عليها. قال الأستاذ هناك: "ولأبي حنيفة بعض أبواب الفقه من هذا القبيل، ففي كتاب الوقف أخذ بقول شريح القاضي، وجعله أصلًا، ففرَّع عليه المسائل، فأصبحت فروع هذا الباب غير مقبولة، حتى ردَّها صاحباه، وهكذا فعل في كتاب المزارعة، حيث أخذ بقول إبراهيم النخعي فجعله أصلًا، ففرَّع عليه الفروع".
إلا أن يقول الأستاذ: إن أبا حنيفة لم يستعمل عقليته الجبارة في تلك الكتب أو الأبواب، وإنما قلّد فيها بعضَ التابعين، كشريح وإبراهيم. فعلى هذا يختص تقديم العقلية الجبارة بما يقوله من عند نفسه غير متبع فيه لأحد.
فعلى هذا نطالب الأستاذ أن يطبِّق مسألة القَوَد على هذه القاعدة.
أما نحن فلا نَعْتد
(1)
على أبي حنيفة بقول الأستاذ، ولا بحكاية أبي شامة الشافعي الذي بينه وبين أبي حنيفة نحو خمسمائة سنة، بل نقول: لعلّ أبا حنيفة لم يرغب عن انفراد أحدٍ من الصحابة، بل هو موافقٌ لغيره في أن انفراد الصحابي مقبول على كلِّ حال، وإنما لم يأخذ ببعض الأحاديث؛ لأنه لم يبلغه من وجه يثبت، أو لأنه عارضه من الأدلة الشرعية ما رآه أرجح منه.
وإذا كان أبو حنيفة قد يأخذ برأي رجل واحد من التابعين، كشُرَيح في الوقف، وإبراهيم في المزارعة، فكيف يترك سنةً لتفرُّد بعضِ الصحابة بها؟ !
فأما التحرّي البالغ، فإن كان هو الذي يؤدِّي إلى قبول ما حقّه أن يُقْبَل، وردّ ما حقّه أن يُرَدّ، فلا موضع له هنا، وإن كان هو الذي يؤدِّي إلى قبول ما حقّه الرد كرأي شُريح في الوقف، ورأي إبراهيم في المزارعة، وإلى ردّ ما
(1)
تحتمل: "نعقد".
حقّه القبول كما ينفرد به بعض الصحابة، ولا يعارضه من الأدلة الشرعية ما هو أقوى منه، أو كردِّ حديث الرضخ مع شهادة القرآن والقياس الجلي له= فهذا تجرٍّ ــ بالجيم ــ لا تحرٍّ ــ بالحاء ــ، أو قل: تحرٍّ للباطل لا للحق.
فإن كان المقصود التخييل السحري، فيستطيع من يردّ انفراد الصحابي ــ أيّ صحابيٍّ كان ــ أن يقول: إن ذلك تحرٍّ بالغ، بل ومن يردّ السنن كلّها سوى المتواتر، بل ومَن يردّ المتواتر أيضًا فيقول: بل التحرِّي البالغ يقضي أن لا ينسب إلى شرع الله إلّا ما نصَّ عليه كلامه، بل ومن يردّ الدلالة الظنية من القرآن، ويردّ الإجماع قد يقول ذلك، ولم يبق إلا الدلالات اليقينية من القرآن. وشيوخُ الأستاذ من المتكلمين ينفون وجودها، كما يأتي في "الاعتقاديات"
(1)
إن شاء الله تعالى.
فأما القياس فهو بأن يسمى إلغاؤه تحرّيًا واحتياطًا في دين الله أولى من ذلك كله فإنه بالنسبة إلى ذلك كما قيل:
ويذهب بينها المرئيُّ لغوًا
…
كما ألغيتَ في الديةِ الحُوارا
(2)
والمقصود هنا أن منزلة أنس عندنا غير منزلته التي يجعله الأستاذ فيها بلا تحرٍّ، وإن زعم الأستاذ أنه ليس في كلامه ما ينتقد.
وفي "فتح الباري"
(3)
في باب المُصَرَّاة: "قال ابنُ السمعاني في "الاصطلام": التعرُّض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو
(1)
انظر "التنكيل": (2/ 485 وما بعدها).
(2)
البيت لذي الرمة "ديوانه"(2/ 1379) وفيه: "ويهلك بينها
…
".
(3)
(4/ 365 - ط السلفية).
بدعة وضلالة".
ذكر ذلك في صدد ردِّ كلام بعض الحنفية في رواية أبي هريرة حديث المصرَّاة.
وأما هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، فهذه قصته: روى هشام عن أبيه عروة ــ وفي رواية للدارمي (1/ 51)
(1)
: هشام عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة ــ قال: "لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلًا حتى ظهر فيهم المولَّدون أبناء سبايا الأمم، فقالوا فيهم بالرأي، فضلّوا وأضلّوا".
فذكرها الأستاذ في "التأنيب"(ص 98) ثم قال: "وإنما أراد هشام النكاية في ربيعة وصاحبه (مالك) لقول مالك فيه [ص 7] بعد رحيله إلى العراق فيما رواه الساجي، عن أحمد بن محمد البغدادي، عن إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن فُليح قال: قال لي مالك بن أنس: هشام بن عروة كذَّاب. قال: فسألت يحيى بن معين فقال: عسى أراد في الكلام، فأما في الحديث فهو ثقة".
وعلَّق في الحاشية: "هذا من انفرادات الساجي. وأهلُ العلم قد تبدُر منهم بادرة، فيتكلّمون في أقرانهم بما لا يقبل، فلا يُتّخذ ذلك حجة، على أن ما يؤخذ به هشام بعد رحيله إلى العراق أمرٌ يتعلق بالضبط في التحقيق، وإلا فمالك أخرج عنه في الموطأ".
ففهمتُ من قوله: "وإنما أراد هشام النكاية .... " أنه يريد أن هشامًا افترى هذه الحكاية لذاك الغرض، وأنّ ذلك مِن الكذب الذي عُني
(2)
في الكلمة
(1)
(122).
(2)
غير محررة في الأصل، ولعلها ما أثبتّ.
المحكيّة عن مالك: "هشام بن عروة كذاب"، ومِن الكذب في الكلام على ما في الحكاية عن ابن معين، ومن البوادر التي لا تقبل كما ذكره في الحاشية.
وبنيتُ على ذلك ما قلتُه في الكلمة التي كنتُ كتبتها إلى بعض الإخوان، فاتفق أن وقعت بيد المعلِّق أو الطابع، فطبعها كمقدمة للطليعة ــ بدون علمي ــ قلت فيها كما في "الطليعة" المطبوعة (ص 4)
(1)
: "وفي هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، حتى نَسَب إليه الكذب في الرواية".
فتعرَّض الأستاذ لذلك في "الترحيب"(ص 48)
(2)
، وتوهَّم أو أوهم أنني إنما بنيتُ على ما في الحكاية التي نقلها مما نُسِب إلى مالك من قوله:"كذاب"، فأعاد الأستاذ الحكاية هناك ثم قال:"أهذا قولي أم قول مالك، أيها الباهت الآفك".
فأقول: أما قولك، فقد قدمتُ ما فيه من إفهام أن هشامًا افترى تلك الحكاية انتقامًا من مالك، وأما قول مالك فلم يصح، بل هو باطل.
ومن لطائف الأستاذ: أنه اقتصر في ما تظاهر به في صدر
(3)
الحاشية مِن محاولة تليين الحكاية عن مالك على قوله: "وهذا من انفرادات الساجي"، فكأنه لا مَطعن فيها إلا ذلك، وهو يعلم أن زكريا الساجي حافظٌ ثقة ثبت، وإن حاول هو في موضع آخر أن يتكلّم فيه، كما يأتي في ترجمته
(4)
إن شاء الله تعالى.
(1)
(ص 3 - 4) بنحوه ولم أجده بنصه.
(2)
(ص 338 - مع التأنيب).
(3)
غير محررة في الأصل.
(4)
من "التنكيل" رقم (94).
هذا مع جزمه في المتن بقوله: "لقول مالك فيه".
[ص 8] والحكايةُ أخرجها الخطيب في "تاريخ بغداد"(1/ 223) وتعقَّبها بقوله: "فليست بالمحفوظة إلا من الوجه الذي ذكرناه، وراويها عن إبراهيم بن المنذر غير معروف عندنا".
يعني: أحمد بن محمد البغدادي. وبغداديٌّ لا يعرفه الخطيب الذي صرف أكثرَ عمره في تتبُّع الرواة البغداديين لا يكون إلا مجهولًا، فهذا هو المُسْقِط لتلك الحكاية من جهة السند.
ويُسقطها من جهة النظر: أن مالكًا احتجّ بهشام في "الموطأ"، مع أن مالكًا لا يجيز الأخذ عمن جُرِّب عليه كذبٌ في حديث الناس، فكيف الرواية عنه؟ فكيف الاحتجاج به؟
وصحَّ عن مالك أنه قال: "لا تأخذ العلم من أربعة، وخذ ممن سوى ذلك، لا تأخذ من سفيه مُعلنٍ بالسَّفَه وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ عن كذَّاب يكذب في أحاديث الناس إذا جُرِّب ذلك عليه، وإن كان لا يُتّهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .... ".
أسنده الخطيب في "الكفاية"(ص 116)، وذكره ابن عبد البر في "كتاب العلم"
(1)
، كما في مختصره (ص 122)، وقال: "وقد ذكرنا هذا الخبر عن مالك من طرق في كتاب التمهيد
(2)
.... ".
(1)
(2/ 821).
(2)
(1/ 66).
وكأنَّ الأستاذ يحاول إثبات أن الأئمة كمالك وابن معين يوثّقون الرجل إذا رأوا أنه لا يكذب في الحديث النبوي، وإن علموا أنه يكذب في الكلام، ويحاولُ أن يُدْخِل في الكلام ما يرويه الثقات مما فيه غضٌّ من أبي حنيفة، وهكذا ما يرويه أحدهم عن غيره مما فيه غضّ من أبي حنيفة، ولو مِن بُعْد، كرواية هشام المذكورة.
وعلى هذا فيدخل في الكلام الذي لا يمتنع الأئمة من توثيق الكاذب فيه كلُّ كلامٍ إلا ما فيه إسناد خبر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو ــ والعياذ بالله تعالى ــ تم هذا للأستاذ لسقطت المرويات كلها، ويأبى الله ذلك والمؤمنون.
أما السنة فإنها لا تثبت إلا بثقة رواتها، وتوثيقُ الأئمة للرواة كلامٌ ليس فيه إسنادُ خبرٍ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهكذا روايةُ مَن بَعْد الأئمة لكلام الأئمة هي كلام، ويدخل في ذلك سائرُ كلماتِ الجرح والتعديل، والمدح والقدح: قولُها، وروايتُها، وحكايةُ مقتضيها، وروايتُه.
فإذا كانوا يرون أن الكذب في ذلك لا ينافي الثقة لم نأمن من أن يكذبوا فيه، وتوثيق مَن بعدهم لهم لا يدفع أن يكونوا يكذبون مثل هذا الكذب، بل يجوز أن يكون ذاك التوثيق نفسه كذبًا، وإن كان قائله ثقةً.
وأما ما عدا السنة من آثار الصحابة والتابعين ونحو ذلك، فكلّه كلام، والمعروف بين أهل العلم أنّ تعمُّد الكذب يوجب ردَّ رواية صاحبه مطلقًا.
[ص 9] وقد قال الخطيب (ص 117): "باب في أن الكاذب في غير
حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترد روايته. قد ذكرنا آنفًا قولَ مالك بن أنس، ويجب أن يُقبل حديثه إذا ثبتت توبته".
ولم يذكر في ذلك خلافًا، وقد روى ابنُ أبي حاتم عن أبيه: أن يحيى بن المغيرة سأل جريرَ بن عبد الحميد عن أخيه أنس بن عبد الحميد، فقال: قد سمع من هشام بن عروة، ولكنه يكذب في حديث الناس، فلا تكتب عنه".
وفي "النخبة" وشرحها
(1)
ما يفيد أن الكذب في الكلام أشدّ إسقاطًا للراوي من الزنا مثلًا.
فأما القبول بعد ثبوت التوبة فقد خالف فيه الصيرفي ــ فيما قيل ــ وهو من أجلّة النُّظار، فعنه أن الكاذب في غير الحديث النبوي كالكاذب فيه في أن لا تُقبل روايته أبدًا وإن تاب
(2)
.
ويتأكّد هذا في الكذب في الرواية لأقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم من أهل العلم، وما يتصل بذلك مما فيه توثيق راوٍ أو جرحه، أو ذمّ عالمٍ أو مدحه، وقريبٌ من هذا قول تابع التابعي.
وتوثيق الراوي يكون تثبيتًا لمروياته، فإن كان فيها كذب كان التوثيق تثبيتًا للكذب في عدة أحاديث نبوية، فالكذب في ذلك التوثيق أشدّ من الكذب في حديث واحد.
(1)
"نزهة النظر"(ص 88).
(2)
انظر "علوم الحديث"(ص 116) لابن الصلاح فقد نقل ذلك عن الصيرفي فيما فهمه من كتاب شرح رسالة الشافعي. وخالفه العراقي في "التقييد والإيضاح": (1/ 589 - 590) وقال: إنما أراد الصيرفي الكذب في الحديث.
والجرح إسقاط للراوي، فإذا كان في نفس الأمر ثقة، ففي جرحه إسقاط لعدة من الأحاديث النبوية. وليس الكذب المسقط لأحاديث نبوية صحيحة بأخفّ من الكذب المثبت لأحاديث باطلة.
ومدحُ العالمِ تثبيت لمروياته ولأقواله أنها أقوالُ عالمٍ تصيرُ بها المسألةُ خلافية، ويكون للعاميّ الأخذ بها تقليدًا.
وذمُّه على العكس من ذلك، أعني: أنه قد يكون فيه إسقاط المرويات والأقوال، بل قد يقال: الرواية بابٌ واحدٌ، فالكذب في ضربٍ منها يجرُّ إلى الكذب في الضرب الآخر.
هذا، وإطلاقهم أن الكاذب في غير الحديث النبوي لا تُقبل روايته يتناول الكذبة الواحدة [ص 10] في غير الرواية، وإن لم يُخْش منها ضرر.
فأما على القول بأنها مسقطة للعدالة مطلقًا ــ وفي الزواجر (2/ 169): أنه ظاهر الأحاديث أو صريحها ــ فظاهر.
وأما على القول بأنها وحدَها حيث لا ضرر فيها لا تسقط العدالة، فقد يقال: هذا خاصٌّ بما إذا وقعت ممن لا يتعانى الرواية، فأما الراوي فالأمر فيه أشدّ؛ لأنّ عِماد الرواية الصدق، والكذب خلقٌ واحد، فمن كَذَب في غير الرواية لم يُؤمَن أن يجرّه ذلك إلى الكذب في الرواية.
وأيضًا فالشهادة يُحتاج إلى التسمح فيها؛ لأن التشديد في عدالة الشهود قد يؤدِّي إلى ضياع الحقوق بخلاف الرواية، فإنما يتعاناها أفراد من أهل العلم، والغالب فيها بعد زمن الصحابة أن يوجد الحديث عند جماعة. ويشدّ هذا قولُ الحنفية: إنه يجوز القضاء بشهادة فاسِقَين، ولا يجوز قبول
الرواية إلا مِنْ عَدْل. وعلى كلّ حال فالكذب في الرواية قد لا يتأتي أن يقال: إن منه ما لا ضرر فيه ولا مفسدة.
فعلى هذا فلا يكون إلا كبيرةً قطعًا، فيكون مسقطًا لعدالة صاحبه ألبتة، حتى لو فرضنا أنّ من الأئمة من قد يوثِّق مَن يعلم أنه قد كَذَب في كلام الناس كذبةً لا ضرر فيها ولا مفسدة، فلا يلزم من ذلك أن يوثِّق مَن يرى أنه قد يكذب في الرواية لغير الحديث النبوي.
وهكذا ما يتعلّق بالجرح والتعديل، والمدح والقدح، فإن الكذب فيه ضارٌّ، مشتملٌ على المفاسد حتمًا، فلا ينافي أن قال: إنه لا
(1)
يسقط العدالة.
والمقصود هنا إيضاح أنك إذا نسبتَ إلى راوٍ تعمُّدَ الكذب في رواية ــ ولو لغير الحديث النبويّ ــ أو جرح أو تعديل= فقد زعمت أنه فاسق ساقط العدالة، مردود الرواية مطلقًا.
فمحاولة الأستاذ نِسْبة هشام إلى تعمُّد الكذب في تلك الرواية محاولة لإسقاط هشام ألبتة. ولهذا نظائر في كلام الأستاذ ستأتي، ويأتي الكلام على التهمة قريبًا إن شاء الله تعالى
(2)
.
وأما كلام الأستاذ في أئمة الفقه: مالك والشافعي وأحمد، فسيأتي في تراجمهم
(3)
.
(1)
كذا في الأصل، ولعل الصواب حذف "لا".
(2)
انظر (ص 34 فما بعدها).
(3)
في "التنكيل".
ــ 3 ــ
فصل
من أوسع أودية الباطل الغلوّ في الأفاضل، ومن أَمْضى أسلحته أن يرمي الغالي كلَّ من يحاول ردَّه إلى الحق ببغض أولئك الأفاضل ومعاداتهم. يرى بعضُ أهل العلم أن النصارى أول ما غَلَوا في عيسى عليه السلام كان الغلاة يرمون كلَّ من أنكر عليهم بأنه يبغض عيسى ويحقره، ونحو ذلك؛ فكان هذا من أعظم ما ساعد على انتشار الغلو؛ لأن بقايا أهل الحق كانوا يرون أنهم إذا أنكروا على الغلاة نُسِبوا إلى ما هم أشدّ الناس كراهية له مِن بُغْض عيسى وتحقيره. ومَقَتهم الجمهورُ، وأوذوا، فثبَّطَهم هذا عن الإنكار، وخلا الجوُّ للشيطان.
وقريب من هذا حال غلاة الروافض، وحال القبوريين، وحال غلاة المقلدين.
وعلى هذا جرى الأمر في هذه القضية؛ فإن الأستاذ غلا في أبي حنيفة حتى طعن في غيره من أئمة الفقه، وفي أئمة الحديث، وثقات رواته، بل تناول بعض الصحابة والتابعين. وأُسْكِتَ أهلُ العلم [ص 11] في مصر وغيرها برَمْي كلِّ مَن يهمّ أن ينكر عليه ببغض أبي حنيفة ومعاداته، ولما اطّلع الأستاذ على "الطليعة" جرَّد على صاحبها ذلك السلاح.
ومن تصفَّح "الترحيب" عَلِم أن ذلك ــ بعد المغالطة والتهويل ــ هو سلاحه الوحيد، فهو يُبْدئ فيه ويُعيد، ونفسُه تقول له: هل من مزيد!
فمن جهة يقول في "الترحيب"(ص 15): "أخبار الآحاد على فرض ثقة
رواتها لا تناهض العقل ولا النقل المستفيض فضلًا عن المتواتر، وقد ثبتت إمامة أبي حنيفة وأمانته ومناقبه لدى الأُمة بالتواتر".
ويقول بعد ذلك: "خبر الآحاد يكون مردودًا عند مصادمته لما هو أقوى منه من أخبار الآحاد، فضلًا عن مصادمته لما تواتر".
ويقول (ص 17): "وأما الخبر المصادم لذلك من بين أخبار الآحاد، فيردّ حيث لا تمكن مناهضته للعقل والخبر المتواتر على تقدير سلامة رجاله من المآخذ".
ويقول (ص 26): "ومن المقرر عند أهل العلم أن صحة السند بحسب الظاهر لا تستلزم صحة المتن".
ويعد حسناتي ذنوبًا فيقول (ص 19): "وحذفه للمتون لأجل إخفاء مبلغ شناعتها عن نظر القارئ، فلو ذكرها كلها مع كلام الكوثري في موضوع المسألة، لنبذ السامع نقد هذا الناقد في أول نظرة، لما حوت تلك المتون من السخف البالغ الساقط بنفسه من غير حاجة إلى مُسقط، فيكون ذكر المتون قاصمًا لظهره".
ويقول (ص 25): "ولو كان الناقد ذكر في صُلب نقده متن الخبر المتحدّث عنه، كان القارئ يحكم بكذب الخبر بمجرَّد سماعه، لكن عادة الناقد إهمال ذكر المتن إخفاءً لحاله".
ومن جهة أخرى يعود فيقول في "الترحيب"(ص 16): "وعادتي أيضًا في مثل تلك الأخبار تطلُّب ضعفاء بين رجال السند بادئ ذي بدء، ضرورةَ أن الخبر الذي ينبذه العقل أو النقل لا يقع في رواية الثقات".
ويقول (ص 19): "ومن المضحك تظاهره (اليماني) بأنه لا يعادي النعمان مع سعيه سعي المستميت في توثيق رواة الجرح، ولو بالتحاكم إلى الخطيب نفسه المتهم فيما عمله، مع أنه لو ثبتت ثقة حملتها ثبت مقتضاها".
فلأدع الاستنتاج إلى القارئ، وأقول:
أما الباعث لي على تعقّب "التأنيب" فقد ذكرتُه أول "الطليعة"
(1)
، وتقدّم شرحه في الفصل الأول، وهب أنّ غرضي ما زعمه الأستاذ، وأنه يلزم من صنيعي تثبيت مقتضى تلك الحكايات، فلا يخلو أن يكون كلامي مبنيًّا على الأصول المألوفة والقواعد المعروفة، أو يكون خلاف ذلك.
فإن كان الأول، فلازم الحقِّ حقٌّ، وإن كان الثاني، ففي وُسْع الأستاذ أن يوضّح فسادَه بالأدلة المقبولة.
فعلى أهل المعرفة أن يحاكموا بين "الطليعة"، و"الترحيب" حتى يتبين لهم أقام الأستاذ ببعض كلامي بأدلة مقبولة عند أهل العلم، أم أردف ما في "التأنيب" من التهويل والمغالطة والتمحل بمثلها؟ !
ولم يكد يضيف إلى ذلك إلّا رمي اليماني ببغض أبي حنيفة! كأنَّ الأستاذ يرى أن تلك المهاجمة لا تُتَّقى إلا بالهوى، بإثارة ما استطاع في نفوس أتباعه الذين يهمّه شأنهم ليضرب به بينهم وبين "الطليعة" و"التنكيل" حجابًا لا تخرقه حجّة، ولا يزيده الله تعالى بعد استحكامه إلا شدّة.
والواقع أن مقصودي هو ما شرحته في الفصل السابق، ولذلك أهملت ذِكر المتون لأنها خارجة عن مقصودي، ومع ذلك ففي ذكرها مفاسد:
الأولى: ما أشار إليه الأستاذ في الجملة، وهو أن يطلع عليها حنفي متحمِّس، فيحمله ذِكْر المتن على أن يعرض عن كلامي البتة، ولا يستفيد إلَّا بُغْض مَن نُسِب إليه المتن من الأئمة.
(1)
(ص 4).