الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ص 17]
قاعدة في التهمة
في "المصباح"
(1)
: "والتهمة بسكون الهاء وفتحها: الشكّ والرِّيبة
…
وأتهمته: ظننت به سوءًا
…
واتَّهمتُه بالتثقيل على افتعلت مثله".
والكلام هنا في اتهام المحدِّث والراوي، ويتّصل به اتهام الشاهد.
والأمر المتَّهَم به نوعان:
الأول: ما يكون ــ على فَرْض ثبوته ــ غير مسقطٍ للعدالة، فهذا النوع لا حَجْر على الأستاذ الكوثري فيه، وإن افتقر إلى دليل.
وذلك كنسبة المحدّث أو الراوي أو المخبر إلى الخطأ والغلط، أو إلى التسامح الذي لا يقدح، كأنْ يقال فيمن روى عمن لم يدركه أو لم يصرح بالسماع وهو معروف بالتدليس:"كأنه سمعه من غير ثقة".
أو إلى فلتة اللسان التي تصدر حال الغضب لا يقصد بها ظاهرها، أو لا يقصد بها الحكم، أو إلى إيهام الذمّ بدون إرادته، وذلك في كلمات التنفير التي تقدم بيانها في الفصل الثاني
(2)
، وما يشبه ذلك.
النوع الثاني: ما يكون ــ على فرض ثبوته ــ مسقطًا للعدالة، كتعمّد الكذب في الرواية، ولو لغير الحديث النبوي، أو في الإخبار بجرح أو تعديل أو بما يقتضي الجرح، وكالإقدام على جرح مَن لا يعلمه مجروحًا، وتعديل من لا يراه عدلًا، على ما سلف في القاعدة الأولى
(3)
.
(1)
(ص 30).
(2)
(ص 9).
(3)
كذا في الأصل، والقاعدة ستأتي (ص 45). فلعلّ هذا المبحث كان متأخرًا عنها فقدّمه المؤلف هنا. وسيأتي نظيرها (ص 35).
فاجتناب الكذب في هذه الأمور من أركان العدالة، بل هو ركنها الأعظم
(1)
.
وإذا ثبت في راوٍ أنه قد كذب في روايةٍ، أو ثبت في جارحٍ أنه قد تعمَّد جرحًا يعلم بطلانه، أو ثبت في معدِّل أنه قد تعمَّد تعديلًا يعلم بطلانه، فذلك كما لو ثبت في شاهد أنه قد تعمّد شهادة زور
(2)
.
فإذا نسب الأستاذ إلى إمام أو محدِّث أو راوٍ شيئًا مما ذكر جازمًا بالنسبة، فقد جزم بنفي الركن الأعظم من عدالته، فإن زعم أنه مع ذلك يبقى المنسوب إليه ذلك عدلًا مقبول القول والرواية فيما لم يتَّهِمه فيه فقد زعم أنه غير عدل، فإن اقتصر الأستاذ على الاتهام بما ذكر أو اعترف بأن جزمه بالنِّسْبة لم يكن عن دليل تقوم به الحجة، وإنما هو عن قرينة تورث التهمة، فاتهام المحدِّث أو الراوي بشيء مما ذكر يلزمه ظنُّ أنه ليس بعدل، بل في "النخبة" وشرحها
(3)
ما يفيد أن التهمة بالكذب أشدّ من ثبوت الزنا ونحوه، كما مر في القاعدة الأولى
(4)
.
فقوله مع ذلك: إنه يبقى عدلًا مقبولًا [ص 18] في غير ما يتهمه فيه= حاصله: أنه يظنه عدلًا غير عدل. فإن اكتفى الأستاذ بالاحتمال بدون ترجيحٍ لأحد الطرفين لزمه أن لا يجزم بأن الرجل عدل ولا يظن، فإن قال مع ذلك:
(1)
كتب المؤلف بعدها: "ظاهر ص 20". يقصد أن بقية الكلام هناك.
(2)
كتب المؤلف فوق السطر: "الورقة الرابعة، الصفحة اليمنى".
(3)
"نزهة النظر"(ص 88). وانظر ما سيأتي في التعليق على هذا الموضع.
(4)
(ص 45). وانظر ما سلف (ص 34 حاشية 3).
إنه يكون عدلًا مقبولًا في غير ما يتهمه فيه= فحاصل ذلك أنه يظنه عدلًا ولا يظنه عدلًا! !
ولا أعلم خلافًا أن الرجل إذا ثبت أنه تعمَّد شهادةَ زورٍ لصديقه على عدوه سقطت عدالته ألبتة، فلا يكون عدلًا في شهادة أخرى، ولو كانت لعدوِّه على صديقه. وكذلك لا أعلم خلافًا أن من تظن به ما ينافي العدالة ليس لك أن تعدِّله، ومثله من يحتمل عندك احتمالًا غير راجحٍ ولا مرجوح أنه ارتكب ما ينافي العدالة، وذلك أن التعديل يتضمَّن الجزم بأنه لم يكن ولن يكون منه ما ينافي العدالة، وهذا الوازع هو المَلَكة التي ذكروها في قولهم في تعريف العدالة: "مَلَكة تمنع من اقتراف الكبائر
…
"
(1)
.
فأما أن تتهم أنت رجلًا أو تشك فيه، ويعدِّله غيرُك فلا مانع من ذلك، وإذا ثبت التعديل سقطت التهمة، فضلًا عن الشك، ولا سيما إذا كان الاتهام أو الشك ممن هو دون المعدِّل في الخبرة، فأما إذا كان له هوًى في ردّ الشهادة ونحوها فالأمر أوضح، فإن اتهام المخبِر كثيرًا ما يكون من أماني الهوى، كما قال أبو الطيب
(2)
:
شقَّ الجزيرةَ حتى جاءني نبأ
…
فَزِعتُ منه بآمالي إلى الكذب
وكأنه أخذه من قول الأول
(3)
:
(1)
انظر "التنكيل": (1/ 73 - 74)، ورسالة "الاستبصار في نقد الأخبار"(ص 15 فما بعدها).
(2)
سيأتي تخريجه (ص 144).
(3)
الأبيات من قصيدة لأعشى باهلة يرثي بها أخًا له يقال له: المنتشر. انظر "جمهرة أشعار العرب": (2/ 714)، و"الكامل":(3/ 1431) للمبرد.
إني أتتني لسانٌ ما أُسرُّ بها
…
مِن عُلوَ لا عجبٌ فيها ولا سَخَرُ
جاءت مرجَّمةً قد كنتُ أحذرها
…
لو كان ينفعنى الإشفاقُ والحَذَر
تأتي على الناس لا تلوي على أحدٍ
…
حتى أتتنا وكانت دوننا مُضَر
إذا يُعاد له ذكرٌ أُكذِّبه
…
حتى أتتني بها الأنباءُ والخَبَر
[ص 19] وهناك أمور قد يتشبَّث بها الأستاذ:
منها: ردّ شهادة العدل لنفسه، وكذا لأصله أو فرعه أو زوجه، وعلى عدوِّه في قول جماعةٍ من أهل العلم.
ومنها: رد شهادة صاحب العصبية، فيما ذكره الشافعي.
ومنها: حكاية عن شريك القاضي قد يُؤخذ منها أنه يرى أن الرجل قد يكون عدلًا إذا شهد بمائة دينار مثلًا، ولا يكون عدلًا إذا شهد بمائة ألف دينار.
ومنها: فرعٌ للشافعي في السؤال عن الشاهد، قد يُفْهَم منه نحو ذلك.
ومنها: ما في "لسان الميزان"(1/ 16)
(1)
في جرح المحدِّث لمن يخالفه في الاعتقاد، كجرح الجُوزجاني الناصبي للكوفيين المنسوبين إلى التشيُّع.
ومنها: ما نُقِل عن الجوزجاني هذا أنه لا يؤخَذ عن المبتدع الثقة ما فيه تقوية لبدعته. وصرَّح به ابن قتيبة، ومال إليه بعض المتأخرين.
ومنها: ما ذكروه في جرح المحدِّث لمن هو ساخط عليه، كالنسائي
(1)
(1/ 212).
لأحمد بن صالح، وككلمة مالك في ابن إسحاق.
فلننظر في هذه الأمور
(1)
:
أما الشهادة للنفس، فجاء الشرع بعدم قبولها، وليس ذلك حكمًا بِتَحقُّقِ التهمة في كلّ شاهد لنفسه، أي: أنه حقيق بأن يظن به عارفوه أنه لا يتورَّع عن أن يشهد لنفسه زورًا
(2)
.
ألا ترى في كبار الصحابة وخيار التابعين أن أحدهم لو شهد لنفسه بمالٍ مثلًا لجزمنا بأنه غير مفترٍ، ولاسيما إذا كان غنيًّا، وكان المال نزرًا، والمشهود عليه معروفًا بجَحْد الحقوق. ولو كان العدل حقيقًا بأن يُتّهم بأنه شهد لنفسه زورًا، لكان حقيقًا أن يتهم في شهادته لغيره، إذ كيف تتهمه فيما لو شهد لنفسه بدرهم بأنه شهد زورًا حرصًا على أن يحصل له درهم، ولا تتهمه إذا شهد لغيره بعشرة دراهم بأنه شهد زورًا لتحصل له ثلاثة دراهم مثلًا حيث يحتمل أن يكون المدّعي رشاه. وفي أصحابنا من لا نتهمه، ولو حصل له بسبب شهادته مائة أو أكثر، وذلك كأن يدّعي على فاجر بمائة فيجحده، ثم تجري للفاجر قضية، فيجيء إلى صاحبنا، ويقول له: أنت عارف بالقضية، فاحضر فاشهد بما تعلم، فيقول: نعم أنا عارف بها، ولكنك ظلمتني مائة، فإن دفعت لي المائة شهدت بما أعلم، فيدفع له مائة فيشهد، فإننا لا نتهم صاحبنا في دعواه ولا شهادته.
(1)
كتب المؤلف: "وقد كنت بسطت الجواب عن هذه الأمور في "التنكيل" والآن دعت الحاجة إلى تلخيصه هنا". ثم ضرب عليها.
(2)
كتب المؤلف بعدها هكذا: "ص 20 (
…
) " فنقلناه إلى مكانه.
فإن قيل: إذا كانت العدالة تنافي التهمة، ويغلب على الظن لو شهد العدل لنفسه أنه لم يشهد زورًا. فلماذا لم يقبل الشرع شهادة العدل لنفسه؟
قلت: أكتفي في هذا بأنّ التهمة تجوز في كثير من الناس، فالتهمة هنا منظورٌ إليها غير مبنيٍّ عليها، كالمشقّة في حكم قَصْر الصلاة، ونظائر ذلك مما يكون المعنى المستدعي للحكم خفيًّا أو غير منضبط، فيعدل الشارع عن بناء الحكم عليه إلى بنائه على معنى ظاهر منضبط، يكون مَظنة للأول في الجملة، ثم يكون مدار الحكم على الثاني، ثم لا يلزم من وجود الثاني مع الحكم وجود الأول، ولا من وجود الأول وجود الحكم.
فالمسافر المترفِّه يقصر الصلاة مع عدم المشقَّة التي تستدعي التخفيف، والمقيمون العمَّال في المناجم ونحوها عليهم مشقَّة شديدة ولا يقصرون، فكذلك هنا لا يلزم مِن ردِّ شهادة الرجل لنفسه أن يكون حقيقًا بأن يُتَّهم بشهادة الزور، ولا من وجود التهمة في شهادة لغير النفس أن تردّ بمجرَّد وجود التهمة، وإنما تردّ لعدم ثبوت العدالة الثابت اشتراطها [ص 20] بنص آخر.
فالعدل الثابت العدالة لا تُقبل شهادته لنفسه، لا لأجل أنه حقيق بأن يُتَّهم، فإن العدالة تدفع ذلك، بل العلة كون الشهادة للنفس أو كونها دعوى.
ولهذا لما حاول الشافعي
(1)
قياس الشهادة للفرع والأصل على الشهادة للنفس لم يعرِّج على التهمة، بل عوَّل على أن الفرع من الأصل، فشهادة أحدهما للآخر كأنها شهادة لنفسه، ولم يخفَ عليه ضعف هذا، فعضده
(1)
في "الأم": (8/ 114 - 115).
بقوله: "وهذا مما لا أعرف فيه خلافًا".
ولما عرف أصحابه وجود الخلاف، ذهب بعضُ حُذَّاقهم ــ كالمزني وأبي ثور ــ إلى القبول.
فإن قيل: وما المانع من اتهام العدل؟
قلت: أما أن يتهمه من لا يثق بعدالته، أو من له هوًى في تكذيبه، فلا مانع منه، وإنما الممنوع أن يكون العدل حقيقًا بأن يُتَّهم.
هذا، وللحُكْم المذكور
(1)
حِكَم تُدْرَك بالتدبّر، منها: أن الشهادة للنفس أظهر مظان التهمة، فكأنّ في عدم قبولها تنزيه للعدل عن أن يتهمه أكثر الناس؛ لأن أكثرهم لا يعرفون عدالته حقّ المعرفة.
ومنها: أنها لو كانت الشهادة للنفس تُقَبل من العدل لتهاون أكثر العدول في الإشهاد على معاملاتهم، ثقةً بأن شهادتهم لأنفسهم مقبولة، فيؤدي هذا إلى أن تكثر القضايا التي تكون فيها شهادة المدعي لنفسه، فيرتاب فيها القاضي؛ لأنه لا يعرف عدالة العدول معرفة خبرة، وإذا ارتاب القاضي كان عليه أن يتريّث في فصل القضية، فيؤدّي ذلك إلى أن تتراكم القضايا عند القضاة، ويتأخّر الفصل فيها، وذلك يضرّ بالناس.
ومنها: أن المعدّل قد يخطئ ويتساهل أو يداهن، فيعدّل من ليس بعدل، فلو كانت شهادة العدل لنفسه تُقبل لاغتنم هؤلاء الذين عُدّلوا بغير حقٍّ ذلك، فأكثروا من الدعاوى الباطلة، فقد يضيع بسبب ذلك من الحقوق أكثر
(1)
كتب المؤلف بعدها: "ص 21". يعني أن باقي الكلام هناك، وقد كان ضرب على الكلام هناك، ثم بدا له أن يلحق في هذا الموضع.
مما يضيع بسبب عدم قبول شهادة العدل لنفسه.
هذا، وقد جاء الشرع بعدم قبول شهادة النساء في الحدود ولو كُنّ من ذوات العدالة. ومعلوم أن عدم قبولهن ليس لأجل التهمة، بل له حكمة أخرى لا يضرها أن لا يفهمها بعض الناس بل ولا جميعهم.
أما الشهادة للفرع والأصل والزوج، فمختلف فيها، فإذا بنينا على عدم القبول، فالجواب نحو ما تقدم.
فأما الشهادة على العدوّ، فالقائلون بأنها لا تُقبل يخصّون ذلك بالعدواة الدنيوية التي تبلغ أن يحزن لفرحه، ويفرح لحزنه، فأما العداوة الدينية والدنيوية التي لم تبلغ ذاك المبلغ، فلا تمنع من القبول عندهم.
والمنقول عن أبي حنيفة ــ كما في كتب أصحابه ــ أن العداوة لا تقتضي رد الشهادة إلا أن يبلغ أن تسقط بها العدالة.
أقول: وإذا بلغت ذلك لم تقبل شهادة صاحبها حتى لعدوِّه على صديقه. ويقوِّي هذا القول أن القائلين بعدم القبول يشترطون أن تبلغ أن يحزن لفرحه، ويفرح لحزنه، وهذا يتضمن أن يفرح لذبح أطفاله ظلمًا، وللزنا ببناته [ص 22] وارتداد زوجاته، ونحو ذلك. وقس على ذلك الحزن لفرحه. وهذا مسقط للعدالة حتمًا.
فإن قيل: قد يفرح بذلك من جهة أنه يُحْزِن عدوَّه، ومع ذلك يَحزن من جهة مخالفته للدين.
قلت: إن لم يغلب حزنه فرحه فليس بعدل، وإن غلب فكيف يظن به أن يوقع نفسه في شهادة الزور التي هي من أكبر الكبائر، وفيها أعظم الضرر
على نفسه في دينه، ولا يأمن أن يلحقه لأجلها ضرر شديد في دنياه، كلُّ ذلك ليضرّ المشهود عليه في دنياه ضررًا قد يكون يسيرًا، كعشرة دراهم مثلًا.
وهَبْه صح الردُّ بالعداوة مع بقاء العدالة، فالقائلون بالردِّ يشرطون أن تكون عداوةً دنيوية تبلغ أن يحزن لفرحه، ويفرح لحزنه، وهذا لا يتأتَّى للأستاذ إثباته في أحدٍ ممن يتهمهم؛ لأنه إن ثبت انحرافهم عن أبي حنيفة وأصحابه، وثبت أن ذلك الانحراف عداوة فهي عداوة دينية، وهب أنه ثبت في بعضهم أنها عداوة دنيوية، فلا يتأتَّى للأستاذ إثبات بلوغها ذاك الحدّ، أي: أن يحزن لفرحه، ويفرح لحزنه، وهَبْه بلغ فقد تقدَّم أن الرواية لا تردُّ بالعداوة.
وأما ما ذكره الأستاذ من كلام الشافعي في أصحاب العصبية، فالشافعي إنما عَنَى العصبية لأجل النسب، كما هو صريحٌ في كلامه، وذلك أمر دنيوي، وكلامُه ظاهرٌ في أنها بشرطها تُسقط العدالة، ولا ريب أنه إذا بلغت العصبية أو العداوة إسقاط العدالة لم تقبل لصاحبها شهادةٌ ولا رواية البتة سواء أكانت دنيوية أم مذهبية أم دينية، كمن يُسْرف في الحنق على الكفار، فيتعدّى على أهل الذمة والأمان بالنهب والقتل، ونحو ذلك، بل قد يكفر ..
فقد اتضح بما تقدم الجواب عن بعض ما يمكن أن يُتشبَّث به في ردّ رواية العدول.
وبقي حكاية عن شريك
(1)
ربما يُؤخذ منها أنه قد تقبل شهادة بعض
(1)
أما أثر شريك ففي تاريخ بغداد (13/ 499): عن شريك أن رجلًا قدّم إليه رجلًا فادّعى عليه مائة ألف دينار قال: فأقرّ به قال: فقال شريك: أما إنه لو أنكر لم أقبل عليه شهادةَ أحدٍ بالكوفة إلا شهادة وكيع بن الجراح وعبد الله بن نُمير.
وعلق عليه المصنف في رسالة له في "العدالة" بقوله: "يعني أن المال عظيم، فلا ينبغي تهمة الشاهد فيه حتى يكون عظيم العدالة، ولو كان ألف دينار فقط لكان بالكوفة يومئذٍ ألف عدل أو أكثر من [لا] ينبغي التهمة بشهادة رجلين منهم فيه".
العدول في القليل، ولا تقبل في الكثير، وفرعٌ للشافعي قد يتوهّم منه نحو ذلك، وما يقوله أصحاب الحديث في رواية المبتدع، وما يقوله بعضهم في جَرْح المحدِّث لمن هو ساخط عليه.
فأما الحكاية عن شَريك فمنقطعة، ولو ثبتت لوجب حملها على أن مراده القبول الذي تطمئن إليه نفسه.
[ص 23] فإن القاضي قد لا يكون خبيرًا بعدالةِ الشاهدين وضَبْطِهما وتيقُّظِهما، وإنما عدّلهما غيرُه، فإذا كان المال كثيرًا جدًّا بقي في نفسه ريبة. وقد بَيَّن أهلُ العلم أن مِثل هذا إنما يقتضي التروِّي والتثبُّت، فإذا تروَّى وبقيت الحالُ كما كانت وجب عليه أن يقضي بتلك الشهادة، ويعرض عما في نفسه.
وأما الفرع المذكور عن الشافعي
(1)
، فليس من ذاك القبيل، وإنما هو من باب الاحتياط للتعديل، ومع ذلك فقد ردَّه إمامُ الحرمين، وقال: إن أكثر الأئمة على خلافه
(2)
.
(1)
ذكر الشافعي في "الأم": (6/ 309) أنه ينبغي للقاضي إذا سأل عن الشهود مَن يطلب منه بيان حالهم أن يبين للمسؤول مقدار ما شهدوا فيه، قال: "فإن المسؤول عن الرجل قد يعرف ما لا يعرف الحاكم من أن يكون الشاهد
…
وتطيب نفسه على تعديله في اليسير، ويقف في الكثير".
(2)
في "نهاية المطلب": (18/ 492).
وأما رواية المبتدع وجَرْح المحدِّث لمن هو ساخط عليه، فأفرد كلًا منهما بقاعدة
(1)
.
وأما ما في "لسان الميزان"(1/ 16)
(2)
فمقبول، والجوزجاني ناصبيّ، يرى أنّ التشيُّع ــ وإن خف ــ مذهب رديء، وزيغ عن القصد، فيطلق على من يراه متشيِّعًا ما يعتقده فيه، كأن يقول:"رديء المذهب، زائغ عن القصد". ونحو ذلك.
وقول ابن حجر: إنه إذا جَرَح بعض الكوفيين ممن يراه متشيعًا، وخالفه غيره ممن هو مثله أو فوقه، فوثَّق ذلك الرجل، قُدِّم التوثيق = قولٌ صحيح. لكنه إذا بنى جَرْحَه على دليل وصرَّح به، فلا بدَّ من الاعتداد بدليله؛ لأنه غير متهم بأن يتعمَّد الكذب ونحوه، ولو كان متهمًا بذلك لما قبلنا جرحه البتة، ولو لم يخالفه غيره.
(1)
من قوله: "فأما الشهادة على العدو
…
" إلى هنا سيعيده المؤلف (ص 59 - 62) فأبقيناه على حاله، ولعله ذهل أن يضرب عليه من أحد الموضعين.
(2)
(1/ 212).