الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثانية: أن يطلع عليها رجلٌ مِن خصوم الحنفية، فيجتزئ
(1)
بذاك المتن، ويذهب يعيب أبا حنيفة بتلك المقالة، غير مبالٍ أصح ذلك أم لا؟
الثالثة: أن يطلع عليها عاميٌّ لا يميز، فيقع في نفسه أن أئمة السلف كان بعضهم يطعن في بعض، ويكبر ذلك عليه، ويسيء الظنَّ بهم جميعًا.
فإهمال ذِكْر المتن يمنع هذه المفاسد كلّها، ولا يبقى أمام الناظر إلا ما يتعلق بتلك القضايا الخاصة التي ناقشتُ فيها الأستاذ.
والواقع أيضًا أنه لا يلزم من صنيعي تثبيت الذم، ولا يلزمني قَصْد ذلك، ومن تأمَّل عبارات الأستاذ في الجهة الأولى ــ كما قدمتها ــ بان له صحة قولي. وأزيد ذلك إيضاحًا وشرحًا وتتميمًا، فأقول:
عامة مناقشتي للأستاذ إنما هي في الأسانيد، في كلامه في بعض رجال تلك الأسانيد، وقد وافقته
(2)
على ضعف جماعةٍ منهم، ولا يلزم من تثبيتي ثقةَ رجلٍ من رجال السند ثبوت ثقةِ غيره، بل الأمر أبعد من ذلك، فإنَّ المقالةَ المسندة إذا كان ظاهرها الذمّ أو ما يقتضيه
لا يثبت الذمُّ إلا باجتماع عشرة أمور:
الأول: أن يكون هذا الرجل المعيَّن الذي وقع في الإسناد ووقعت فيه المناقشة ثقة.
الثاني: أن يكون بقية رجال الإسناد ثقات.
الثالث: ظهور اتصال السند.
(1)
تحتمل: "فيجترئ".
(2)
غير محررة في الأصل.
الرابع: الأمن من أن يكون هناك عِلّة خفية يتبين بها انقطاع أو خطأ أو نحو ذلك مما يوهن الرواية.
الخامس: الأمن من أن يكون وقع في المتن تصحيف أو تحريف أو تغيير، قد يوقع
(1)
فيه الرواية بالمعنى.
السادس: الأمن من أن يكون المراد بالكلام غير ظاهره.
[ص 12] السابع: الأمن من أن يكون الذامُّ بنى ذمَّه على غير حجة، كأن يبلغه إنسان أنَّ فلانًا قال: كذا، أو فعل كذا، فيحسبه صادقًا وهو كاذب، أو غالط.
الثامن: الأمن من أن يكون الذامُّ بنى ذمَّه على أمرٍ حَمَله على وجه مذموم، وإنما وقع على وجهٍ سائغ.
التاسع: الأمن مِنْ أن يكون للمتكلّم فيه عذر أو تأويل فيما أنكره الذامّ.
العاشر: ظهور أن ذلك المقتضي للذمِّ لم يرجع عنه صاحبه.
وقد يُزاد على هذه العشرة، وفيها كفاية.
فهذه الأمور إذا اختلَّ واحدٌ لم يثبت الذم، وهيهات أن تجتمع على باطل.
والذي تصدّيتُ لمناقشة الأستاذ فيه إنما يتعلق بالأمر الأول، ولا يلزم من تثبيته تثبيت الثاني، فضلًا عن الجميع. وقد يلزم من صنيعي في بعض المواضع تثبيت الثاني، ولا يلزم من ذلك تثبيت الثالث، فضلًا عمّا بعده.
(1)
شبه مطموسة في الأصل، ولعلها ما أثبت.
وما قد يتفق في بعض المواضع من مناقشتي للأستاذ في دعوى الانقطاع أو التصحيف، فالمقصود من ذلك كَشْف مغالطته، ولا يلزم من ذلك تلك الأمور كلها.
وأذكر ههنا مثالًا واحدًا:
قال إبراهيم بن بشار الرمادي: "سمعت سفيان بن عيينة يقول: ما رأيت أحدًا أجرأ على الله من أبي حنيفة، ولقد أتاه رجل من أهل خراسان، فقال: يا أبا حنيفة، قد أتيتك بمائة ألف مسألة، أريد أن أسألك عنها، قال: هاتها. فهل سمعتم أحدًا أجرأ على الله من هذا".
هذه الحكاية أوّل ما ناقشت الأستاذ في سندها في "الطليعة"(ص 12 - 20)
(1)
، فإنه خَبَط في الكلام في سندها إلى الرمادي بما ترى حاله في "الطليعة".
فتكلَّم في الرمادي ــ وستأتي ترجمته
(2)
ــ وزاد الأستاذ في "الترحيب"
(3)
، فتكلّم في ابن أبي خيثمة بما لا يضرّه
(4)
، وذَكَر ما قيل: إن ابن عيينة اختلط بأخَرَة، وهو يعلم ما فيه، وستأتي ترجمتُه
(5)
.
[ص 13] وقد ذكر الأستاذ في "التأنيب" جوابًا معنويًّا جيدًا، ولكنه مزجه
(1)
(ص 6 - 12).
(2)
"التنكيل" رقم (2).
(3)
(ص 322 - مع التأنيب).
(4)
"بما لا يضره" ضرب عليها المؤلف، ثم كتب فوقها علامة التصحيح إشارة إلى إبقائها وعدوله عن الضرب عليها.
(5)
"التنكيل" رقم (99).
بالتخليط، فقال ــ بعد أن تكلّم في السند بما أوضحتُ حاله في "الطليعة"
(1)
ــ: "وابن عيينة بريء من هذا الكلام قطعًا بالنظر إلى السند" كذا قال!
ثم قال بعد ذلك: "وأما من جهة المتن، فتكذِّب شواهدُ الحال الأخلوقةَ تكذيبًا لا مزيد عليه
…
رجلٌ يُبعث من خراسان ليسأل أبا حنيفة عن مائة ألف مسألة بين عشية وضحاها، ويجيب أبو حنيفة عنها بدون تلبُّث ولا تريّث
…
".
كذا قال! وليس في القصة أن الرجل سأل عن مسألة واحدة، فضلًا عن مائة ألف، ولا أن أبا حنيفة أجاب عن مسألةٍ واحدة، فضلًا عن مائة ألف، فضلًا عن أن يكون ذلك كله بين عشية وضحاها.
وكان يمكن الأستاذ أن يجيب بجوابٍ بعيدٍ عن الشَّغَب، كأن يقول: يبعد جدًّا أو يمتنع أن تجمع في ذاك العصر مائةُ ألف مسألة ليأتي بها رجل من خراسان ليسأل عنها أبا حنيفة، وهذا يدل على أحد أمرين: إما أن يكون السائل إنما أراد: أتيتك بمسائل كثيرة، فبالغ. وإما أن يكون بطَّالًا لم يأت ولا بمسألة واحدة، وإنما قصد إظهار التشنيع أو التعجيز، فأجابه أبو حنيفة بذلك الجواب الحكيم.
فإن كان الرجل إنما قصد التشنيع أو التعجيز، ففي ذاك الجواب إرغامه، وإن كان عنده مسائل كثيرة، نَظَر فيها أبو حنيفة بحسب ما يتسع له الوقت، ويجيب عندما يتضح له وجه الجواب.
فأما ابن عيينة، فكان من الفريق الذين يكرهون أن يفتوا (وقد بيَّن
(1)
(ص 6 - 12).
الأستاذ ذلك في "التأنيب"
(1)
) فكأنه كره قولَ أبي حنيفة: "هاتها"، لما يُشْعِر به من الاستعداد لما يكرهه ابن عيينة. وكان أبو حنيفة من الفريق الذين يرون أن على العالِم إذا سُئل عما يتبين له وجه الفتوى فيه أن يفتي؛ للأمر بالتبليغ، والنهي عن كتمان العلم، ولئلّا يبقى الناس حيارى لا يدرون ما حكم الشرع في قضاياهم، فيضطرَّهم ذلك إلى ما فيه فساد العِلْم والدين. ولا ريب أن الصواب مع الفريق الثاني، وإن حَمِدنا الفريق الأول حيث [ص 14] يكفّ أحدهم عن الفتوى مبالغةً في التورع، واتكالًا على غيره حيث يوجد.
فأما الجرأة فمعناها الإقدام، والمقصود هنا ــ كما يوضِّحه السياق وغيره ــ الإقدام على الفتوى، فمعنى "الجرأة على الله" هنا هو الإقدام على الإفتاء في دين الله، وهذا إذا كان عن معرفةٍ موثوقٍ بها فهو محمود، وإن كرهه المبالغون في التورُّع كابن عيينة، وقد جاء عن ابن عمر أنه قال:"لقد كنتُ أقول: ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه أوتي علمًا".
وعنه أيضًا أنه قال: "أكثر أبو هريرة. فقيل له: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا، ولكنه اجترأ وجَبُنَّا. فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: فما ذنبي إن كنتُ حفظتُ ونسوا".
راجع "الإصابة"
(2)
، ترجمة ابن عباس، وترجمة أبي هريرة.
(1)
(ط القديمة ص 97، والجديدة ص 156).
(2)
(4/ 147، 7/ 441 على التوالي).
وإقدام أبي حنيفة كان من الضرب المحمود، وإن كرهه ابن عيينة.
وقد روى الخطيبُ نفسُه
…
(الحكايتين اللتين ذكرهما الأستاذ في "التأنيب"). فهذا وغيره يدلُّ على بُعد أبي حنيفة عن الجرأة المذمومة.
فأمّا إذا علمنا أنّ ابنَ عيينة كان يطيب الثناء على أبي حنيفة، فإن ذلك يرشدنا إلى حَمْل تلك المقالة على معنًى آخر أدنى إلى الصواب، مع ما فيه من الحكمة البالغة التي تهدينا إلى بابٍ عظيم النفع في فهم ما يُنقل عن أهل العلم من كلام بعضهم في بعض.
وحاصله: أن أكثر الناس مُغْرَون بتقليد من يعظم في نفوسهم، والغلو في ذلك، حتى إذا قيل لهم: إنه غير معصوم عن الخطأ، والدليل قائم على خلاف قوله في كذا، فدلَّ ذلك على أنه أخطأ، ولا يحلُّ لكم أن تتبعوه على ما أخطأ فيه= قالوا: هو أعلم منكم بالدليل، وأنتم أولى بالخطأ منه، فالظاهر أنه قد عرف ما يدفع دليلكم هذا.
فإن زاد المنكرون فأظهروا حسنَ الثناء على ذاك المتبوع، كان أشدّ لغلوِّ متبعيه.
خطب عمّار بن ياسر في أهل العراق قبل وقعة الجمل ليكفَّهم عن الخروج مع أم المؤمنين عائشة [ص 15] فقال: "والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم؛ ليعلم إيَّاه تطيعون، أم هي". أخرجه البخاري في "الصحيح"
(1)
من
(1)
(7100).
طريق أبي مريم الأسدي عن عمار، وأخرج
(1)
نحوه من طريق أبي وائل عن عمار.
فلم يؤثِّر هذا في كثير من الناس، بل رُوي أن بعضهم أجاب قائلًا:"فنحن مع من شهدت له بالجنة يا عمار".
فلهذا كان من أهل العلم والفضل من إذا رأى جماعةً اتبعوا بعض الأفاضل في أمر يرى أنه ليس لهم اتباعه فيه، إما لأن حالهم غير حاله، وإما لأنه يراه أخطأ أطلق
(2)
كلمات منفِّرة، يظهر منها الغضّ من ذاك الفاضل، لكي يكفّ الناس عن الغلو فيه، الحاملِ لهم على اتباعه فيما ليس لهم أن يتبعوه فيه.
فمن هذا ما في "المستدرك"(ج 2 ص 329): "
…
عن خيثمة قال: كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه [في نفرٍ]، فذكروا عليًّا فشتموه، فقال سعد: مهلًا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .... فقال بعضهم: فوالله إنه كان يبغضك ويسمّيك الأخنس. فضحك سعدٌ حتى استعلاه الضحك، ثم قال: أليس قد يجد المرء على أخيه في الأمر يكون بينه وبينه، ثم لا يبلغ ذلك أمانته
…
"
(3)
.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وأقره الذهبي.
(1)
(7101).
(2)
غير محررة في الأصل ولعلها ما أثبت.
(3)
وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده ــ كما في المطالب العالية (4273) ــ وقال الحافظ ابن حجر: إسناد صحيح.
وفي "الصحيحين"
(1)
وغيرهما عن علي رضي الله عنه قال: "ما سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع أبويه إلّا لسعد بن مالك (هو سعد بن أبي وقاص) فإنه سمعته يقول يوم أحد: يا سعد? رمِ، فداك أبي وأمي"
ويُرْوى عن عليٍّ كلمات في ذا وذاك.
وكان سعد قد تقاعد عن قتال البغاة، فكان عليّ إذا كان في جماعةٍ يخشى أن يتبعوا سعدًا في القعود ربما أطلق ــ غير كاذبٍ ــ كلماتٍ توهم الغضَّ من سعد، وإذا كان مع من لا يَخْشى منه القعود، فذكر سعدًا، ذَكَر فضله.
ومنه ما يقع في كلام الشافعي في بعض المسائل التي يخالف فيها مالكًا من إطلاق كلمات فيها غضٌّ من مالك، مع ما عُرِف عن الشافعي من تبجيل أستاذه مالك.
وقد روى حرملة عن الشافعي أنه قال: "مالكٌ حجة الله على خلقه بعد التابعين"
(2)
. كما يأتي في ترجمة مالك
(3)
، إن شاء الله تعالى.
ومنه ما تراه في كلام مسلم في "مقدمة صحيحه"
(4)
مما يظهر منه الغضُّ الشديد من مخالفه في مسألة اشتراط العلم باللقاء، والمخالف هو
(1)
البخاري (2905)، ومسلم (2411). وأخرجه الترمذي (2829)، وأحمد (1147).
(2)
انظر "تهذيب التهذيب": (10/ 8).
(3)
في "التنكيل"(رقم 183).
(4)
(1/ 28 - 30).
البخاري، وقد عُرِف عن مسلم تبجيله للبخاري.
وأنت إذا تدبّرتَ تلك الكلمات وجدت لها مخارج مقبولة، وإن كان ظاهرها التشنيع الشديد.
وفي ترجمة الحسن بن صالح بن حيّ من "تهذيب التهذيب"
(1)
كلمات قاسية أطلقها بعضُ الأئمة فيه، مع ما عُرِف من فضله، ومنها
(2)
: "قال أبو صالح الفراء: "ذكرتُ ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئًا من أمر الفتن، فقال: ذاك يشبه أستاذه ــ يعني: الحسن [بن صالح] بن حيّ ــ فقلت ليوسف: أما تخاف أن تكون هذه غيبة؟ قال: لِمَ يا أحمق؟ أنا خيرٌ لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحْدَثوا، فتتبعهم أوزارهم، ومَن أطراهم كان أضرَّ عليهم".
[ص 16] أقول: الأئمة غير معصومين عن الخطأ والغلط، وهم إن شاء الله تعالى معذورون مأجورون فيما أخطؤوا فيه، كما هو الشأن فيمن أخطأ بعد بَذْل الوسع في تحرِّي الحق، لكن لا سبيل إلى القطع بأنه لم يقع منهم في بعض الفروع تقصير يؤاخذون عليه، أو تقصير في زجر أتباعهم عن الغلوِّ في تقليدهم.
على أن الأستاذ إذا أحبَّ أن يسلك هذه الطريق لا يضطر إلى الاعتراف بأنّ ابن عيينة اعتقد أن أبا حنيفة أخطأ في بعض مقالاته، بل يمكنه أن يقول: لعلَّ ابنَ عيينة رأى أناسًا قاصرين عن رتبة أبي حنيفة يتعاطَون مثل ما كان يقع
(1)
(2/ 285).
(2)
تحتمل قراءتها: "وفيها".
منه مِن الإكثار من الفتوى والإسراع بها غير معترفين بقصورهم؛ اغترارًا منهم بكثرة ما جمعوا من الأحاديث والآثار، فاحتاج ابنُ عيينة في رَدْعِهم إلى تلك الكلمة القاطعة لشَغَبِهم. والله أعلم.
* * * *
ــ 4 ــ
فصل
يفرّق الأستاذُ الأمةَ بعد ظهور أبي حنيفة فريقين:
الأول: أبو حنيفة وأصحابه المخلصون.
الثاني: سائر المسلمين.
ثم لا يكاد يعرض له أحدٌ من الفريق الثاني بما يخالفه إلا رماه بمعاداة أبي حنيفة وأصحابه؛ لأجل الاختلاف في بعض العقائد وأصول الفقه، ولازم ذلك أن يكون الفريق الثاني كلهم عنده كذلك، وإن سكت عمن لم يعرض له بما يضطره إلى اتهامه.
ثم يقسِّم مَن يَعْرِض له مِن الفريق الثاني قسمين:
القسم الأول: الذين يحاول الأستاذ إسقاطهم البتة.
القسم الثاني: الذين يحاول إسقاطهم فيما يتعلق بالغضِّ من أبي حنيفة وأصحابه. فيقول: إنهم متهمون في ذلك، فلا يُقبل منهم، ولكنه يقبل منهم ما عداه.
فأما القسم الأول؛ فقد نظرتُ في شأنهم في تراجمهم من "التنكيل"، وأشرتُ إلى بعضهم في "الطليعة".
وأما القسم الثاني؛ فالنظر في شأنهم يتوقَّف على تحرير قاعدة التهمة، وقد كنتُ بسطته في "التنكيل"
(1)
، ثم دعت الحاجةُ إلى تلخيصه هنا. فأستعين الله تبارك وتعالى، وأقول:
(1)
(1/ 60 - 71).