المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الخطبة الخامسة في الحث على التمسك بكتاب الله والتحذير من مخالفته] - الضياء اللامع من الخطب الجوامع - جـ ٢

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌[الخطبة الثامنة في الحث على الجمعة والجماعة]

- ‌[الخطبة التاسعة في صلاة الكسوف]

- ‌[الخطبة العاشرة في أن ذكر الله يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح]

- ‌[الخطبة الحادية عشرة في أذكار معينة وعامة]

- ‌[الخطبة الثانية عشرة في التحذير من بعض الألبسة]

- ‌[الفرع الثالث في الزكاة]

- ‌[الخطبة الأولى في بيان الأموال الزكوية]

- ‌[الخطبة الثانية في بيان زكاة النخيل]

- ‌[الفرع الرابع في الصيام وزكاة الفطر وعيد الفطر]

- ‌[الخطبة الأولى في استقبال شهر رمضان المبارك]

- ‌[الخطبة الثانية في نماذج من نعم الله في شهر رمضان]

- ‌[الخطبة الثالثة في بيان شيء من آداب الصيام ومفطراته]

- ‌[الخطبة الرابعة في فضل قراءة القرآن]

- ‌[الخطبة الخامسة في فضل ليلة القدر وقيام الليل]

- ‌[الخطبة السادسة في أحكام زكاة الفطر]

- ‌[الخطبة الأولى لعيد الفطر المبارك]

- ‌[خطبة أولى لعيد الفطر أيضا]

- ‌[الخطبة الثانية لعيد الفطر المبارك]

- ‌[الفرع الخامس في الحج والأضحية]

- ‌[الخطبة الأولى في شروط وجوب الحج]

- ‌[الخطبة الثانية في صفة الحج والعمرة]

- ‌[الخطبة الثالثة في نماذج من محظورات الإحرام]

- ‌[الخطبة الرابعة في التنبيه على بعض أمور يعتقدها العوام وهي مخالفة للشرع]

- ‌[الخطبة الخامسة في حكم الأضحية وصفاتها]

- ‌[خطبة أولى لعيد الأضحى]

- ‌[الخطبة الثانية لعيد الأضحى]

- ‌[الفرع السادس الجهاد]

- ‌[الخطبة الأولى في وجوب إعداد القوة للأعداء]

- ‌[الخطبة الثانية في بيان أسباب الهزيمة وما قد تؤدي إليه من نتائج]

- ‌[الخطبة الثالثة في بيان خيانة اليهود]

- ‌[القسم الرابع في المعاملات]

- ‌[الفرع الأول النصيحة والأمانة]

- ‌[الخطبة الأولى في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة]

- ‌[الخطبة الثانية في وجوب التناصح بين الرعية والرعاة]

- ‌[الخطبة الثالثة في معنى الأمانة وشمولها لجميع الأعمال]

- ‌[الخطبة الرابعة في المشورة]

- ‌[الخطبة الخامسة في أداء الأمانة]

- ‌[الخطبة السادسة في وجوب سلوك الحكمة في المعاملات وغيرها]

- ‌[الخطبة السابعة في حال الناس بالنسبة لولاتهم وحال أهل الخير]

- ‌[الخطبة الثامنة في استعمال الحكمة في الأمور]

- ‌[الفرع الثاني البيوع واكتساب المال]

- ‌[الخطبة الأولى المال فتنة انقسم الناس فيها]

- ‌[الخطبة الثانية في أحوال السابقين في الورع ونماذج من المعاملات المحرمة]

- ‌[الخطبة الثالثة في بعض شروط البيع]

- ‌[الخطبة الرابعة في حكم التحيل على الربا]

- ‌[الخطبة الخامسة في نماذج من البيع المحرم وعقوبة الربا]

- ‌[الفرع الثالث في الوقف والوصية]

- ‌[الخطبة الأولى في تحريم الوصية لبعض الورثة]

- ‌[الخطبة الثانية في التحذير من الوصية لبعض الورثة]

- ‌[الخطبة الثالثة في حكم التصرف في الوقف]

- ‌[القسم الخامس النكاح]

- ‌[الفرع الأول شروط النكاح]

- ‌[الخطبة الأولى في نماذج من شروط النكاح وكيفية طلاق السنة]

- ‌[الخطبة الثانية في شروط النكاح وكيفية طلاق السنة أيضا]

- ‌[الخطبة الثالثة في تربية الأولاد وتعليمهم أيضا]

- ‌[الفرع الثاني في الصداق]

- ‌[الخطبة الأولى في مشكلة مغالاة المهور ومنع الأولياء]

- ‌[القسم السابع في الحدود والقصاص]

- ‌[الفرع الأول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

- ‌[الخطبة الأولى في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

- ‌[الخطبة الثانية في التحذير من إضاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

- ‌[الخطبة الثالثة في أن الأمر بالمعروف واجب على الجميع]

- ‌[الخطبة الرابعة في أقسام الناس بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

- ‌[الفرع الثاني في القصاص والحدود]

- ‌[الخطبة الأولى في الحكمة في القصاص والحدود]

- ‌[الخطبة الثانية في عقوبة الزنا واللواط]

- ‌[القسم الثامن في النفقات والأطعمة]

- ‌[الخطبة الأولى في تنوع إنفاق المال]

- ‌[الخطبة الثانية في حكم شرب الدخان ومضاره]

- ‌[الخطبة الثالثة في مضار الخمر والتحذير منه]

- ‌[القسم التاسع في مواضيع عامة]

- ‌[الخطبة الأولى في نجاة المتقين]

- ‌[الخطبة الثانية في انهماك الناس في الدنيا وتحصيل المال]

- ‌[الخطبة الثالثة في التحذير من إطلاق اللسان]

- ‌[الخطبة الرابعة في حديث عبد الرحمن بن سمرة في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم عجبا]

- ‌[الخطبة الخامسة في نماذج من أنواع الظلم]

- ‌[الخطبة السادسة في أن ترقي علوم الصناعة من تعليم الله]

- ‌[الخطبة السابعة في حكم استماع آلات اللهو]

- ‌[الخطبة الثامنة في بيان الحكمة في تفاوت الناس في الرزق]

- ‌[الخطبة التاسعة في أن تطبيق الإسلام هو الكفيل للأمة بالنصر]

- ‌[خطبة استسقاء]

- ‌[خطبة ثانية في الاستسقاء]

- ‌[القسم العاشر في خطب لشهور معينة]

- ‌[الخطبة الأولى في شهر محرم ومبدأ التاريخ الإسلامي]

- ‌[الخطبة الثانية في قصة موسى مع فرعون]

- ‌[الخطبة الثالثة في شوال]

- ‌[الخطبة الرابعة في وداع العام]

- ‌[القسم الثاني من الضياء اللامع من الخطب الجوامع]

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌[القسم الأول في العلم والإفتاء]

- ‌[الخطبة الأولى في الحث على طلب العلم]

- ‌[الخطبة الثانية في تحريم الإفتاء بغير علم]

- ‌[القسم الثاني في أصول الدين]

- ‌[الخطبة الأولى في كمال الإسلام ويسره وسهولته]

- ‌[الخطبة الثانية في حماية الإسلام للدين والنفس والعرض والمال]

- ‌[الخطبة الثالثة في وجوب شكر نعمة الإسلام بالعمل به]

- ‌[الخطبة الرابعة في تحقيق التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك]

- ‌[الخطبة الخامسة في شيء من آيات الله تعالى الدالة على قدرته]

- ‌[الخطبة السادسة في شيء من آيات الله الدالة على قدرته أيضا]

- ‌[الخطبة السابعة في شيء من آيات الله تعالى أيضا]

- ‌[الخطبة الثامنة في خلق السماوات والأرض]

- ‌[الخطبة التاسعة فيما سخره الله لبني آدم وأكرمهم به]

- ‌[الخطبة العاشرة في الإيمان بالقدر]

- ‌[الخطبة الحادية عشرة حقيقة الإيمان وعلاماته]

- ‌[الخطبة الثانية عشرة في الحذر من أعداء المسلمين]

- ‌[الخطبة الثالثة عشر اتخاذ الحذر من الأعداء بمقابلتهم بمثل سلاحهم]

- ‌[الخطبة الرابعة عشرة في شيء من أسباب النصر على الأعداء وإبطال كيدهم]

- ‌[الخطبة الخامسة عشرة في تحقيق نصر الله تعالى لمن ينصره]

- ‌[الخطبة السادسة عشرة في تخلف النصر عمن لم يقم بأسبابه]

- ‌[الخطبة السابعة عشرة في ذكر الله تعالى]

- ‌[القسم الثالث في التفسير]

- ‌[الخطبة الأولى في تفسير آيات من سورة ق]

- ‌[الخطبة الثانية في تفسير بعض الآيات من سورة الطور]

- ‌[الخطبة الثالثة في تفسير آيات من سورة الواقعة]

- ‌[الخطبة الرابعة في تفسير سورة العصر]

- ‌[الخطبة الخامسة في الحث على التمسك بكتاب الله والتحذير من مخالفته]

- ‌[القسم الرابع في الفقه]

- ‌[الفرع الأول في الصلاة]

- ‌[الخطبة الأولى في فضل الصلاة وكفر تاركها]

- ‌[الخطبة الثانية في التحذير من إضاعة الصلاة]

- ‌[الخطبة الثالثة فيما يتهاون به بعض الناس من شؤون الصلاة]

- ‌[الخطبة الرابعة في صفة الصلاة]

- ‌[الخطبة الخامسة في الحث على إقامة الصلاة مع الجماعة]

- ‌[الخطبة السادسة في مسؤولية الإمام والمأموم]

- ‌[الخطبة السابعة في صلاة الكسوف]

- ‌[الفرع الثاني في اللباس]

- ‌[الخطبة الأولى فيما يحرم من اللباس]

- ‌[الخطبة الثانية في بعض ما يحرم من اللباس]

- ‌[الخطبة الثالثة في تحريم لبس الذهب على الرجال]

- ‌[الخطبة الرابعة في التحذير من تشبه الرجل بالمرأة]

- ‌[الخطبة الخامسة في وجوب رعاية المرأة ومنعها من التبرج]

الفصل: ‌[الخطبة الخامسة في الحث على التمسك بكتاب الله والتحذير من مخالفته]

[الخطبة الخامسة في الحث على التمسك بكتاب الله والتحذير من مخالفته]

الخطبة الخامسة

في الحث على التمسك بكتاب الله والتحذير من مخالفته الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجا، أنزله قيما يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذي يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا، ماكثين فيها أبدا، وينذر به قوما لدا خصمين حججا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ينال بها مخلصها من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أقوم الناس في عبادة ربه، وأسدهم منهجا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن بهداهم اهتدى، فنجا، وسلم تسليما.

أما بعد: فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ - قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57 - 58] أيها الناس إن هذه الموعظة التي جاءتكم من ربكم هو كتاب الله، وما تضمنه من أخبار صادقة نافعة وأحكام عادلة مصلحة للخلق ليس في دينهم، فحسب ولكن في دينهم ودنياهم إنه موعظة يتعظ بها العبد، فيستقيم على أمر الله، ويسير على نهجه وشريعته. إنه شفاء لما في الصدور، وهي القلوب شفاء لها من مرض الشك والجحود والاستكبار عن الحق أو على الخلق إنه شفاء لما في الصدور من الرياء والنفاق والحسد والغل والحقد والبغضاء والعداوة للمؤمنين. إنه شفاء لما في الصدور من الهم والغم والقلق، فلا عيش أطيب من عيش المتعظين بهذا القرآن المهتدين به، ولا نعيم أتم من نعيمهم، ولهذا قال بعض السلف: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف يعنون ما فيهم من شرح الصدور بالإيمان بالله والسرور بطاعته وعبادته. إن هذا القرآن هدى ومنار للسالكين، يخرجون به من الظلمات إلى النور، ويهتدون به إلى خالقهم، وإلى دار كرامته، فهو هدي علم وتوفيق ورحمة، لكن للمؤمنين به، أما المكذبون به، والمستكبرون عنه، فلا يزيدهم إلا عمى وخسارا:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]

أيها الناس قد تتساءلون كيف يكون الكلام الواحد لقوم هدى وشفاء ورحمة ولقوم

ص: 387

آخرين ضلالا وعمى وخسارا، والجواب على ذلك أن هذا هو ما نطق به القرآن، وهو حق، وها نحن نرى في الأمور الحسية ما يشهد لذلك نرى بعض الطعام يكون لشخص غذاء يزداد به جسمه صحة ونموا، ويكون لشخص آخر داء يزداد به جسمه مرضا وضعفا، فهكذا الأمور المعنوية، فالقرآن إذا أقره المؤمن ازداد به إيمانا لتصديقه بأخباره واعتباره بقصصه وتطبيقه لأحكامه امتثالا لأمر الله واجتنابا لنهيه، فيزداد بذلك علما وهدى وصلاحا. وإذا قرأه ضعيف الإيمان ومن في قلبه مرض ازداد رجسا إلى رجسه لتشككه في صحة أخباره أو غفلته عن الاعتبار بقصصه، فيمر بها كأنها قصص عابرة وأساطير أمم غابرة لا توقظ له ضميرا، ولا تحرك له إرادة. أو استكباره عن تطبيق أحكامه وتهاونه بها، فلا يمتثل أوامره، ولا يجتنب نواهيه تقديما لهواه على طاعة مولاه، فيكون القرآن خسارة له؛ لأن الحق بان له، فخالفه، فكان بذلك خاسرا.

أيها الناس يقول الله تعالى في الآية الأولى مما سقناه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] إن ما يحصل للعبد من فضل الله ورحمته بهذا القرآن العظيم من الهدى والرحمة والموعظة، وشفاء ما في الصدور لهو الجدير بأن يفرح به العبد؛ لأنه سعادة دنياه وأخرته ليس من الجدير بالعبد أن يفرح بحطام من الدنيا يحصله على حساب عمل الآخرة، فليس المال مخلدا لأصحابه، ولا أصحابه بمخلدين له، أما ما يحصل من فضل الله ورحمته بهذا القرآن الكريم فهو الخالد الباقي لأصحابه، وهو خير مما يجمعون من الدنيا كلها؛ لأن غايته الوصول إلى الجنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» . هكذا يقول أعلم الخلق بما عند الله، وهو الناصح الأمين الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، موضع السوط في الجنة وهو مقدار متر فأقل خير من الدنيا كلها وما فيها، ليس للدنيا التي عشت فيها فقط، ولكنها الدنيا من أولها إلى آخرها موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها؛ لأن الدنيا وما فيها متاع زائل كحلم نائم أما ما في الجنة، فباق لا يزول:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 - 17]

أيها الناس إن كثيرا منكم يسمعون ما يتلى من كتاب الله تعالى، وما يؤثر من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأخبار الصادقة والأحكام العادلة يسمعون ذلك من الخطباء والوعاظ في المساجد

ص: 388

وغيرها ولكنهم للأسف الشديد لا يزدادون بذلك إيمانا، ولا قبولا للحق، ولا انقيادا لطاعة، وربما يصرخون بأنهم لا يفعلون ما به يؤمرون، ولا يتركون ما عنه يزجرون، فيصرون على الإثم وهم يعلمون.

فسبحان الله! سبحان الله! أهذه حال من يزعم أنه مؤمن بالله واليوم الآخر، موقن بالثواب والعقاب؟ بل أهذه حال المسلم والإسلام هو الاستسلام لله ظاهرا وباطنا والانقياد لطاعته، أفيريد هؤلاء أن تكون أحكام الله وشرائعه تابعة لأغراضهم، وما يشتهون؟ أم يريدون أن يكونوا ممن قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون، فإن شر الدواب عند الله الصم البكم الذي لا يعقلون، ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهو معرضون. أفيرضى هؤلاء أن يشابهوا من قال الله فيهم:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء: 46] وأن يخرجوا عن طريق المؤمنين الذين قالوا: سمعنا، وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، أفلا يتعظ هؤلاء بقول الله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16] ؟

أيها الناس كثير منكم يسمعون أوامر الله ورسوله في الصلاة، وما يتعلق بها وفي الزكاة وفي الصيام وفي الحج وفي بر الوالدين وفي صلة الأرحام (الأقارب) وفي حسن الجوار وفي العدل في معاملة الناس، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسمعون أوامر الله تعالى في ذلك عليه، ويسمعون التوجيهات الشرعية في البيع والإجارة والنكاح والطلاق والخصومات وغيرها، ويتجاهلون كل ما يسمعون من تلك الأوامر وهذه التوجيهات، ويسيرون على ما تمليه عليه أهواؤهم، فيكونون في ذلك مما اتخذ إلهه هواه. وكثير منكم يسمعون نواهي الله ورسوله عن التهاون بشأن الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويسمعون نهي الله ورسوله عن عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام وإساءة الجوار في معاملة الناس بالكذب والغش وغيرها وعن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن الربا والتحيل عليه وعن الميسر والمكاسب المحرمة بجميع وسائلها يسمعون النهي عن ذلك كله، ويتجاهلون ما يسمعون، ويتجاسرون على فعل ما عنه يزجرون متناسين بذلك عظمة من عصوه وشدة عقابه كأنهم لم يقرؤا قول الله تعالى

ص: 389

: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 13] مغترين بإمهال الله لهم، واستدراجه إياهم بنعمة كأنهم لم يسمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» وتلا قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]

إن هؤلاء الذين يسمعون الحق، ويعرضون عنه محرومون من قوله تعالى:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123] ولهم نصيب من قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى - قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا - قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124 - 126]

فيا أيها الناس يا عباد الله اتقوا ربكم اخضعوا لأوامره، وإن خالفت أهواءكم، واجتنبوا نواهيه، وإن وافقت أهواءكم لا تريدوا أن تجعلوا الحق تابعا لأهوائكم، بل اجعلوا أهواءكم تبعا للحق وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك الخير والبركة والصلاح والرشد:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71] لو اتبع الحق أهواء الناس لصارت أمورهم فوضى، كل واحد يريد أن يستقل برأيه، ويكون متبوعا، ولكن الله تولى بيان ذلك في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]

اللهم اجعلنا ممن اختاروا هداهم على هواهم، ورضوا بشريعتك، واطمأنوا بها، وانشرحت لها صدورهم، فلم يبغوا عنها حولا، ولم يرضوا بها بديلا، اللهم أرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم لا تجعلنا ممن زين له سوء عمله، فرآه حسنا، فأصبح من الخاسرين أعمالا، الضالين طريقا، واهدنا صراطك المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إنك جواد كريم.

ص: 390